شرع من قبلنا
عبد الجليل مبرور
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فهذا بحثٌ حولَ مسألةِ (شرع من قبلنا)، وقد رمتُ من خلالِه تحقيقَ القول في مسألة: ما صحَّ من شرع من قبلنا من طريق الوحي؛ من كتابٍ أو سنة، وليس من كتبِهم المحرَّفة من غير إنكارٍ ولا إقرار لها، فهل هذا شرعٌ لنا أم لا؟
لنطرح السؤال: هل كان الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - وأمتُه متعبدين بعد البعثةِ بشرع أحدٍ من الأنبياء السابقين؟
هذا وليُعلم أنَّ الخلافَ هنا إنما بين القائلين بالتعبدِ قبل البعثة، وأمَّا من نفاه فقد نفاه ها هنا من بابِ أولى تحرير محل النزاع:
ما ثبت أنَّه شرعُ من قبلَنا بطريقٍ صحيح، وثبتَ أنَّه شرعٌ لنا - فهو شرعٌ لنا إجماعًا، وما نسخته شريعتُنا فليس شرعًا لنا إجماعًا، وما لم يردْ به كتاب ولا سنة فليس شرعًا لنا أيضًا بالإجماع، بقي إذًا محلُّ الخلافِ بين العلماء، وهو ما صحَّ من شرعِ مَنْ قبلنا من طريقِ الوحي من كتابٍ أو سنة، وليس من كتبِهم المحرَّفة من غير إنكارٍ ولا إقرارٍ لها، فهل هذا شرعٌ لنا أم لا؟ هذا ما نحاولُ بحثَه.
عرضُ خلافِ العلماء في ذلك:
اختلف العلماءُ في ذلك على ثلاثة أقوال[1]:
القول الأول: أنَّ شرعَ من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يُنسخ، ووردَ من طريقِ وحيٍ لا من طريقِ كتبِهم المحرَّفة، وهو قولُ جمهورِ العلماء من الأحنافِ والمالكيةِ وبعضِ الشَّافعية، وأصحِّ الرِّوايتين عن الإمام أحمد، وعليه أكثرُ أصحابه، وهو الرَّاجح.
واستدلوا بأدلة منها:
• الأول: قوله - عز وجل -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[2]، ودلالتُها من وجهين: أحدهما: أنَّه جعلَها مستندًا للمسلمين في الحكمِ، وهو نصٌّ في المسألة.
الوجه الثاني: قوله - عز وجل - في آخرها: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[المائدة: 44]، وهو عامٌّ في المسلمين وغيرِهم.
• الثاني: قوله - سبحانه وتعالى - مخاطبًا نبينا - عليه السلام -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[3]؛ يعني أنبياءَ بني إسرائيل، وأمرُهُ له بالاقتداءِ بهم يقتضي أنَّ شرعَهم شرعٌ له قطعًا.
• الثالث: قوله - تعالى -: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[4]، أمره باتباعِ ملةِ إبراهيم، وهي من شرعِ مَنْ قبلَه، ثم أمره - سبحانه وتعالى - بالإخبارِ بذلك بقولِه: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام: 161]، وذلك يدلُّ على أنه متعبد بشرع من قبله.
• الرابع: قوله - سبحانه وتعالى -: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشورى: 13]، وهي تدلُّ على أنَّ الشرعين سواء، وهو المراد بترجمةِ المسألة.
• وقد أُجيب عن هذه الآياتِ بأنَّ المُرادَ بها التوحيد، بدليل: أنَّه أمره باتباعِ هدى جميعِهم، وما وصَّى به جملتَهم، وشرائعهم مختلفة، وناسخة ومنسوخة، فيدل على أنَّه أراد الهدى المشترك.
والملة: عبارةٌ عن أصلِ الدين؛ بدليل: أنه قال: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[البقرة: 130]، ولا يجوز تسفيه الأنبياءِ الذين خالفوا شريعةَ إبراهيم - عليه السلام -.
والهدى والنُّور: أصلُ الدين والتوحيد؛ حيث إنَّ المراد بذلك إنما هو وجوبُ المتابعة في الأشياء التي لم تختلفْ باختلاف الشَّرائع، وتلك أصول الديانات وكلياتها؛ كقواعدِ العقائد المتعلِّقة بذات الله - تعالى - وصفاته، والقواعد العملية المشتركة بين جميعِ الشَّرائع لحفظِ العقول والنفوس والأموال والأنساب والأعراض.
• وقد رد هذا الإشكال: بأن الشريعة من جملة الهدى، فتدخلُ في عمومِ قوله - تعالى -: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90]، وهي من جملةِ ما أوصى الله به الأنبياءَ - عليهم السلام - وإنما يتبع النَّاسخ دون المنسوخِ، كما في الشَّريعةِ الواحدة.
• الخامس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في قصةِ الربيع بالقصاص في السنِّ، وقال: ((كتاب الله القصاص))، وليس في القرآنِ: السنُّ بالسنِّ، إلا ما حُكي فيه عن التوراة بقوله - عز وجل -: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)[المائدة: 45]، فدلَّ على أنه - عليه السلام - قضى بحكمِ التوراة، ولم يكن شرعًا له لَمَّا قضى به.
• وأجيب: بأنَّه ثبت ذلك من قوله - جل وعلا -: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)[5]، وقوله - جل وعلا -: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)[6]، فدخل السِّن تحت عمومِه.
• السادس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: راجعَ التوراةَ في رجمِ الزانيين من اليهود، فلمَّا وجد فيها أنهما يرجمان، رجمهما، وذلك يدلُّ على ما قلناه.
• وأجيب: بأنَّ مراجعتَه التوراةَ في رجم الزانيين فليس على جهةِ استفادة الحكمِ منها، بل تحقيقًا لكذب اليهود، فإنَّه رآهم سودوا وجوهَهما، وطافوا بهما بين النَّاس، فأنكرَ أنْ يكون ذلك من حكمِ الله - تعالى - في الزَّاني، فاستدعى التوراة، فاستخرجَ منها الحكمَ بالرَّجمِ تحقيقًا لكذبِهم على الله - تعالى - وتحريفهم الكتب المنزلة عليهم، كما في موضع: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[7]، وإنَّما حكمَ بالقرآن بقولِه - تعالى -: "الشيخُ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة"، وقد سبق أنَّ هذا مما نُسِخ خطُّه، وبقِيَ حكمُه.
• السابع: أنَّه - عليه السلام - استدلَّ على وجوبِ قضاءِ المنسيَّةِ عند ذكرها بقولِه - سبحانه وتعالى -: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[8]، وإنَّما الخطابُ فيها لموسى - عليه السلام - على ما دلَّ عليه سياقُ القرآن، وذلك لما نزل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منزلاً فنام فيه وأصحابُه، حتَّى فات وقت صلاةِ الصُّبح، أمرهم فخرجوا عن الوادي، ثُمَّ صلَّى بهم الصُّبحَ، واستدلَّ بالآية.
• وأجيب: بأنَّ استدلالَه - عليه الصلاة والسلام - بقوله - سبحانه وتعالى -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[9]، فهو إمَّا قياسٌ لنفسِه على موسى في إقامةِ الصلاة لذكر الله - عز وجل - أي: عند ذكره، أو تأكيدٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لدليلِه على قضاءِ الصَّلاةِ بالآية المذكورةِ خطابًا لموسى - عليه السلام - أو أنَّه - عليه السلام - علم عمومَ الآية له، لا أنَّه حكمَ بشرعِ موسى - عليه السلام -.
• الثامن: ما أخرجه مسلم عن عبدالله بن سخبرة قال: "مُرَّ على عليٍّ بجنازةٍ فذهبَ أصحابُه يقومون، فقال لهم علي: ما يحملُكم على هذا؟ قالوا: إنَّ أبا موسى أخبرنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مرَّت به جنازةٌ قام حتَّى تجاوزه، قال: فقال: إنَّ أبا موسى لا يقولُ شيئًا، لعلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك مرة، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحبُّ أن يتشبَّهَ بأهلِ الكتاب فيما لم ينزلْ عليه شيء، فإذا أنزل عليه تركه".
• التاسع: ما رواه البخاري عن مجاهدٍ، قال: "سألتُ ابنَ عباسٍ - رضي الله عنهما -: من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ)[الأنعام: 84] (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90]، فكان داود ممن أُمِر نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتديَ به، فسجدَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -".
القول الثاني: أنَّ شرعَ من قبلنا ليس شرعًا لنا، وهو مذهبُ أكثرِ الشَّافعية وأحمد في روايةٍ عنه، والأشاعرةِ والمعتزلة، ثم افترقوا فأحالتْهُ المعتزلةُ عقلاً وشرعًا، وأجازه الآخرون عقلاً ومنعوه شرعًا؛ منهم: (ابنُ حزمٍ والغزالي والآمدي، والرَّازيُّ والشيرازي في آخرِ قولَيْه، وابنُ السمعاني والخوارزمي والصيرفي، والقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي[10].
واستدلوا بأدلة:
• الأول: "أنَّ النبي - عليه السلام - لما بعث معاذًا إلى اليمنِ قاضيًا قال له: ((بم تحكم؟)) قال: بكتابِ الله، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: بسنةِ رسول الله، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: أجتهدُ رأيي"، ولم يذكرْ شيئًا من كتبِ الأنبياء الأوَّلينَ وسننهم، والنبيُّ - عليه السلام - أقرَّهُ على ذلك ودعا له، وقال: ((الحمدُ لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يحبُّه اللهُ ورسولُه))، ولو كانت من مداركِ الأحكام الشَّرعيةِ لجرتْ مجرى الكتابِ والسنة في وجوبِ الرُّجوع إليها، ولم يَجُز العدول عنها إلى اجتهادِ الرَّأي، إلاَّ بعدَ البحثِ عنها واليأس من معرفتِها.
• وأجيب عنه: بقولِهم: إنما لم يتعرَّضْ معاذٌ لذكرِ التوراة والإنجيل؛ اكتفاءًَ منه بآياتٍ في الكتابِ تدلُّ على اتباعهما على ما يأتي، ولأنَّ اسمَ الكتاب يدخلُ تحته التوراةُ والإنجيل لكونِهما من الكتب المنزَّلة.
• الثاني: أنَّه لو كان النبي - عليه السلام - متعبدًا بشريعةِ مَن قبلَه، وكذلك أمته، لكان تعلُّمُها من فروضِ الكفايات كالقرآنِ والأخبار، ولوجب على النبي - عليه السلام - مراجعتها - وألا يتوقفَ على نزولِ الوحي في أحكامِ الوقائع التي لا خلوَّ للشَّرائعِ الماضية عنها، ولوجب أيضًا على الصحابةِ بعد النبي - عليه الصلاة والسلام - مراجعتُها، والبحثُ عنها والسؤالُ لناقليها عند حدوثِ الوقائع المختلف فيها فيما بينهم؛ كمسألةِ الجدِّ والعول وبيعِ أمِّ الولد والمفوضة وحدِّ الشُّربِ وغيرِ ذلك، على نحو بحثهم عن الأخبارِ النبوية في ذلك، وحيثُ لم يُنقلْ شيءٌ من ذلك عُلِم أنَّ شريعةَ من تقدَّمَ غيرُ متعبَّدٍ بها لهم.
• وأجيب عنه: بقولِهم: لا نسلِّمُ أن تعلُّم ما قيل بالتعبدِ به من الشَّرائع ليس من فروضِ الكفايات، ولا نسلِّمُ عدم مراجعةِ النبي - عليه السلام - لها، ولهذا نُقِل عنه مراجعةُ التوارةِ في مسألةِ الرَّجمِ، وما لم يراجع فيه شرع من تقدم، إمَّا لأنَّ تلك الشَّرائعَ لم تكن مبينة له، أو لأنَّه ما كان متعبدًا باتباعِ الشَّريعةِ السَّالفةِ إلاَّ بطريقِ الوحي ولم يوحَ إليه به.
وأمَّا عدمُ بحثِ الصَّحابةِ عنها، فإنَّما كان لأنَّ ما تواترَ منها كان معلومًا لهم وغير محتاجٍ إلى بحثٍ عنه، وما كان منها منقولاً على لسانِ الآحاد من الكفَّار لم يكونوا متعبَّدِين به.
يتبع