قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله فى شرح الواسطية
((الإيمانُ باللَّهِ)): الإيمانُ فِي اللُّغةِ: يقولُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهُ التَّصديقُ، فصدَّقْتُ وآمنْتُ معناهُمَا لغةً واحدٌ، وقد سَبقَ لنَا فِي التَّفسيرِ أنَّ هَذَا القولَ لاَ يَصِحُّ، بلِ الإيمانُ فِي اللُّغةِ: الإقرارُ بالشَّيءِ عن تصديقٍ بِهِ، بدليلِ أنَّكَ تقولُ: آمنتُ بكذا، وأقررْتُ بكذا، وصدَّقتُ فلاناً. ولاَ تقولُ: آمنتُ فلاناً.
إذاً، فالإيمانُ يتضمَّنُ معنىً زائداً عَلَى مجرَّدِ التَّصديقِ، وَهُوَ الإقرارُ والاعترافُ المستلْزِمُ للقَبولِ للأخبارِ والإذعانِ للأحكامِ، هَذَا الإيمانُ، أمَّا مجرَّدُ أنْ تُؤمنَ بأنَّ اللَّهَ موجودٌ، فهَذَا ليسَ بإيمانٍ، حَتَّى يكونَ هَذَا الإيمانُ مستلْزِماً للقَبولِ فِي الأخبارِ والإذعانِ فِي الأحكامِ، وإلاَّ فليسَ إيماناً.
والإيمانُ باللَّهِ يتضمَّنُ أربعةَ أُمورٍ:
1- الإيمانُ بوجودِهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
2- الإيمانُ بربوبيَّتِهِ، أيْ: الانفرادُ بالرُّبوبِيَّةِ .
3- الإيمانُ بانفرادِهِ بالألوهِيَّةِ.
4- الإيمانُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ.
لاَ يمكنُ أنْ يتحقَّقَ الإيمانُ إِلاَّ بذلِكَ.
فمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بوجودِ اللَّهِ، فليس بمؤمنٍ، ومَن آمَنَ بوجودِ اللَّهِ لاَ بانفرادِهِ بالرُّبوبِيَّةِ ، فَلَيْسَ بمؤمنٍ، ومَن آَمَن باللَّهِ وانفرادِهِ بالرُّبوبِيَّةِ لاَ بالأُلوهِيَّةِ، فَلَيْسَ بمؤمنٍ، ومَن آمَنَ باللَّهِ وانفرادِهِ بالرُّبوبِيَّةِ وبالأُلوهِيَّةِ ، لكنْ لَمْ يؤمنْ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، فليسَ بمؤمنٍ، وإنْ كَانَ الأخيرُ فِيهِ مَن يَسْلُبُ عَنْهُ الإيمانَ بالكُلِّيَّةِ،و فيِهِ مَن يَسلُبُ عَنْهُ كمالَ الإيمانِ.
الإيمانُ بوجودِهِ:
إِذَا قَالَ قائلٌ: مَا الدَّليلُ عَلَى وجودِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -؟
قُلْنا: الدَّليلُ عَلَى وجودِ اللَّهِ: العقلُ، والحِسُّ، والشَّرْعُ، ثلاثةٌ كلُّها تَدلُّ عَلَى وجودِ اللَّهِ، وإنْ شِئْتَ، فَزِدْ: الفِطْرةَ، فتكونُ الدَّلائلُ عَلَى وجودِ اللَّهِ أربعةً: العقلُ، والحِسُّ، والفِطْرةُ، والشَّرْعُ، وأخَّرْنَا الشَّرْعَ، لاَ لأنَّهُ لاَ يستحِقُّ التَّقديمَ، لكنْ لأنَّنا نخاطِبُ مَنْ لاَ يُؤمِنُ بالشَّرْعِ.
-فأمَّا دلالةُ العقلِ، فنقولُ: هل وجودُ هذِهِ الكائناتِ بنْفِسِها، أوْ وُجِدتْ هكذا صُدْفةً؟
فإنْ قُلْتَ: وُجِدتْ بنَفْسِها، فمستحيلٌ عَقْلاً، مَا دامتْ هِيَ معدومةً، كَيْفَ تكونُ موجودةً وهِيَ معدومةٌ؟! المعدومُ لَيْسَ بشيءٍ حَتَّى يوجِدَ، إذاً لاَ يمكنُ أنْ تُوجِدَ نَفْسَها بنَفْسِها! وإنْ قُلْتَ: وُجِدَتْ صُدفةً، فنَقولُ: هَذَا يستحيلُ أيضاً، فأنتَ أيُّها الجاحِدُ، هَلْ مَا أُنْتِجَ مِن الطَّائراتِ والصَّواريخِ والسَّياراتِ والآلاتِ بأنواعِها، هل وُجِدَ هَذَا صُدفةً؟! فيقولُ: لاَ يمكنُ أنْ يكونَ، فكذلِكَ هذِهِ الأطيارُ، والجبالُ، والشَّمسُ، والقمرُ، والنُّجومُ، والشَّجرُ، والجَمْرُ، والرِّمالُ، والبِحارُ، وغيرُ ذلِكَ، لاَ يمكنُ أنْ تُوجدَ صُدفةً أبداً.
ويُقالُ: إنَّ طائفةً من السُّمنيَّةِ جَاءُوا إِلَى أبي حنِيفةَ -رحمَهُ اللَّهُ- وهُمْ مِنْ أهلِ الهندِ، فناظَرُوهُ فِي إثباتِ الخالقِ - عزَّ وجلَّ -، وكَانَ أبو حَنِيفةَ مِن أَذْكَى العُلماءِ، فوَعدَهُم أنْ يأْتُوا بعدَ يومٍ أوْ يَوْمَيْنِ، فجاءوا، قالوا: مَاذَا قُلْتَ؟ قالَ: أنا أُفكِّرُ فِي سفينةٍ مملوءةٍ مِن البَضائعِ والأرزاقِ، جاءتْ تشُقُّ عُبابَ الماءِ حَتَّى أَرْسَتْ فِي الميناءِ، ونزَلَتِ الحُمولةُ، وذَهَبْتْ وليسَ فِيهَا قائدٌ ولاَ حمَّالونَ، قالوا: تُفَكِّرُ بهَذَا؟! قال: نعمْ، قالوا: إذاً لَيْسَ لَكَ عقلٌ! هل يُعْقَلُ أنَّ سفينةً تأْتِي بدونِ قائدٍ وتَنْزِلُ وَتَنْصَرِفُ؟! هَذَا ليسَ مَعقولاً! قالَ: كَيْفَ لاَ تَعقِلونَ هَذَا، وتعقلونَ أنَّ هذِهِ السَّماواتِ، والشَّمسَ، والقمرَ، والنُّجومَ، والجِبالَ، والشَّجرَ، والدوابَّ، والنَّاسَ كلَّها بِدُونِ صانعٍ؟! فعَرَفوا أنَّ الرَّجلَ خاطبَهُم بعقولِهم، وعَجَزُوا عن جوابِهِ هَذَا أوْ معناهُ.
وقِيلَ: لأعرابيٍّ مِن البادِيَةِ: بِمَ عَرفتَ ربَّكَ؟ فَقَالَ: الأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى المسيرِ، والبَعْرةُ تدلُّ عَلَى البعيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ، وبحارٌ ذاتُ أمواجٍ، ألاَ تدلُّ عَلَى السَّميعِ البصيرِ؟
وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ) [الطورُ: 35].
فحينئذٍ يكونُ العقلُ دالاًّ دلالةً قطعيَّةً عَلَى وجودِ اللَّهِ.
-وأمَّا دلالةُ الحسِّ عَلَى وجودِ اللَّهِ، فإنَّ الإنسانَ يَدْعُو اللَّهَ - عزَّ وجلَّ -، يقولُ: يا ربِّ! ويَدْعُو بالشَّيءِ، ثُمَّ يُسْتَجابُ لَهُ فِيهِ، وهذِهِ دلالةٌ حِسِّيَّةٌ، هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يدْعُ إِلاَّ اللَّهَ، واستجابَ اللَّهُ لَهُ، رأى ذلِكَ رَأْيَ العَيْنِ، وكذلِكَ نحنُ نَسمعُ عمَّنْ سَبقَ وعمَّنْ فِي عَصْرِنا، أنَّ اللَّهَ استجابَ لَهُ.
فالأعرابيُّ الَّذِي دَخلَ والرَّسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخطُبُ النَّاسَ يومَ الجمعةِ قالَ: هَلَكَت الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَت السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ، مَا فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزْعَةٍ (أَي: قِطْعَةِ سَحَابٍ)، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ (جَبَلٍ فِي المَدينةِ تَأْتِي مِنْ جِهَتِهِ السُّحُبُ) مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ… وَبَعْدَ دُعاءِ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْراً خَرَجَتْ سَحَابةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، وَارْتَفَعَتْ فِي السَّمَاءِ وَانْتَشَرَتْ وَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ وَنَزَلَ المَطَرُ، فَمَا نَزَلَ الرَّسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ وَالمَطَرُ يَتَحَادَرُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وَهَذَا أمرٌ واقعٌ يدلُّ عَلَى وجودِ الخالقِ دلالةً حِسِّيَّةً.
وفِي القرآنِ كثيرٌ مِن هَذَا، مِثلُ: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياءُ: 83-84]، وغيرُ ذلِكَ مِن الآياتِ.
-وأمَّا دلالةُ الفِطْرةِ، فإنَّ كثيراً مِن النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ تَنْحَرِفْ فِطَرُهُمْ يؤمنونَ بوجودِ اللَّهِ، حَتَّى البهائمُ العُجْمُ تُؤمِنُ بوجودِ اللَّهِ، وقِصَّةُ النَّملةِ الَّتِي رُوِيتْ عن سليمانَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، خَرَجَ يَستسْقِي فوَجدَ نَملةً مُستلْقِيةً عَلَى ظَهْرِهَا، رافِعةً قوائمَها نحوَ السَّماءِ، تقولُ: اللَّهُمَّ، أَنَا خَلْقٌ مِن خَلْقِكَ، فلاَ تَمْنَعْ عَنَّا سُقْياكَ، فَقَالَ: ارْجِعوا، فَقَدْ سُقيتُمْ بدَعْوةِ غيرِكُمْ.
فالفِطَرُ مجبولةٌ عَلَى معرفةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - وتوحيدِهِ.
وقدْ أشارَ اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَى ذلِكَ فِي قولِهِ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ) [الأعرافُ: 172-173]، فهذِهِ الآيةُ تدلُّ عَلَى أنَّ الإنسانَ مجبولٌ بفِطرَتِهِ عَلَى شَهادتِهِ بوجودِ اللَّهِ وربوبيتَّهِ، وسواءٌ أقلْنا: إنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِن ظَهرِ آدمَ واستشهَدَهُم، أوْ قُلْنا: إنَّ هَذَا هُوَ مَا ركَّبَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي فِطَرِهِمْ مِن الإقرارِ بِهِ، فإنَّ الآيةَ تدلُّ عَلَى أنَّ الإنسانَ يَعْرِفُ ربَّهُ بفطرَتِهِ.
هذِهِ أدلَّةٌ أربعةٌ تدلُّ عَلَى وجودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
-وأمَّا دلالةُ الشَّرعِ؛ فلأنَّ مَا جاءتْ بِهِ الرُّسلُ مِن شرائعِ اللَّهِ - تَعَالَى - المتضمِّنةِ لجميعِ مَا يُصْلحُ الخَلقَ، يدلُّ عَلَى أنَّ الَّذِي أَرْسَلَ بها ربٌّ رحيمٌ حكيمٌ، ولاَ سِيَّمَا هَذَا الْقُرْآنِ المجيدُ، الَّذِي أَعْجَزَ البَشرَ والجِنَّ أنْ يَأْتُوا بمثْلِه.