الحاسد والمحسود والوقاية من الحسد والعين
فتوح عبدالمقصود حماد

للحسد معان كثيرة كما جاء في الآيتين في كل من سورة البقرة (الآية 109) وسورة النساء (الآية 54)، وقال تعالى في سورة الفلق: (ومن شر حاسد إذا حسد) وجاء أيضاً في الحديث الشريف: (لا تحاسدوا···· وفي الحديث: )لا حسد إلا في····)·

وللحسد أيضاً تعريفات كثيرة سواء في المعاجم اللغوية أو عند رجال التفسير وما يهمنا هو:
أولاً: الحسد المذموم: نوعان:
النوع الأول: هو تمني زوال النعمة من عند الآخرين، سواءً انتقلت إلى الحاسد أو فنيت، ويتضح ذلك في قوله سبحانه وتعالى في الآية 109 من سورة البقرة(: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم).
وقال الله تعالى في سورة النساء: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) الآية 54·
النوع الثاني: هو تمني أن يكون لك مثل ما لغيرك من مال أو سلطان، علماً أن المرء لا يعلم الخير أين يكون، وربما كان المال أو السلطان وبالاً على صاحبه، فإن نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر·
قال سبحانه وتعالى: (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) القصص: 79·
وقال تعالى: (ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض) النساء: 23·
قال المهلب: بين الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها·
وقال الضحاك: لا يحل لأحد أن يتمنى مال أحد، ألم تسمع الذين قالوا: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) القصص: 79 إلى أن قال: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس( القصص: 82حين خسف به وبداره وبأمواله (لولا أن من الله علينا لخسف بنا) القصص: 82·
وقال الكلبي: لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا أمرأته ولا خادمه ولا دابته، ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله·
وقال ابن عباس: نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأمر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله·
وكذلك قوله في القرآن (واسألوا الله من فضله) تفسير القرطبي·
وجاء أيضاً في الصحيحين في الحديث الشريف (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة···· وذكر الطفل الذي قال لأمه لا عندما تمنت له ما لدى الغير من هيبة وجاه···)·
وفي الحديث الشريف: >لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً·
ثانياً: الحسد المحمود: هو الذي جاء في الحديث الشريف (قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) ـ رواه البخاري ومسلم ـ وقد رواه البخاري في سبعة أبواب وهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازاً، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه ـ (فليتنافس المتنافسون)· وإن كان في المعصية فهو مذموم، ومنه: (ولا تنافسوا)·
فمعنى قوله: (لا حسد)أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين·
وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث بوب على هذا الحديث (باب الاغتباط في العلم والحكمة)·
ثالثاً: حسد العين: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر أن يسترقي من العين) رواه البخاري·
وفي صحيح البخاري في باب رقية العين وتفسير فتح الباري بشرح صحيح البخاري·
في معنى الذي يصاب بالعين، تقول عنت الرجل أصبته بعينك، فهو معين ومعيون ورجل عائن ومعيان وعيون· والعين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر· وقال المازري: زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي· وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه· وأن الذي يتماشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة·
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: (استرقوا لها فإن بها النظرة) رواه البخاري·
قوله: (في وجهها سفعة( هو سواد في الوجه ومنه سفعة الفرس سواد ناصيته، وعن الأصمعي: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر، وقال ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة·
قوله: (فإن بها النظرة( وفي رواية مسلم (فقال إن بها نظرة فاسترقوا لها)· واختلف في المراد بالنظرة فقيل: عين من نظر الجن، وقيل من الإنس وبه جزم أبو عبيد الهروي، والأولى أنه أعم من ذلك وأنها أصيبت بالعين فلذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الاسترقاء لها، وهو دال على مشروعية الرقية من العين وفق الترجمة المذكورة آنفاً·
عن معاوية بن هشام عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد تدخل الرجل العين في القبر وتدخل الجمل القدر)·
وقال الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر: الحسد بالعين حقيقة ملموسة لا ينكرها أحد· وهي ظاهرة موجودة من قديم الزمان· وأن عجز بعض الناس عن تفسيرها تفسيراً علمياً، روى مالك أن عامر بن ربيعة رأى سهل بن حنيف يغتسل، فقال: والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة· قال: فلبط سهل، فأتى رسول الله عامراً فتغيظ عليه وقال: (علام يقتل أحدكم أخاه، إلا بركت، اغتسل له) فغسل له عامر وجهه ويده ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه داخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح مع الناس، وقد ذكره ابن القيم في كتابه (زاد المعاد)·
وموضوع حديثنا هو: الحسد الذي يكون سببه العين أو الإصابة بالعين، ويحدث أيضاً دون الرؤية بالعين·
قال الله تعالى في سورة الفلق: (ومن شر حاسد إذا حسد)··· كل أنواع الحسد·
فالحسد أو الإصابة بالعين هو تأثير أشعة تصدر من عين (أو جسم) الإنسان الحاسد وتصيب الآخر وهو المحسود بأذى أو هلاك سواء بالنظر أو عند سماع شيء يعجبه·
ويقول ابن القيم تفاعل الروح أو تأثير الأرواح في الأجسام ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين·
وفي وقتنا الحاضر وفي ضوء التقدم العلمي، رأينا بأم أعيننا أثر الأشعة غير المرئية ـ والتي هي من صنع الإنسان ـ تحرك أطناناً من الحديد على بعد آلاف الأميال من مصدر انبعاثها، وللأشعة الغير مرئية كل الأثر في توجيه سفن الفضاء يميناً وشمالاً، وبها يفتحون ويغلقون أبواباً من حديد تزن أطناناً من الكيلوغرامات، كما يفتتون بها أطناناً من الفولاذ والصخر على بعد ملايين الكيلو مترات وفوق القمر وما هو أبعد من القمر، فلا غرابة إذاً من أثر الأشعة غير المرئية التي تصدر من عين الإنسان أو من الجسم ذاته، كما تصدر من الأعمى أيضاً، ولا يشترط استقامة الأشعة من المصدر إلى الجسم·
ويختلف الضرر أو التلف أو الهلاك الذي يحدث للمحسود حسب طبيعة الحاسد وحاله النفسية، فقد لا يزيد ضرر العين عن ألم بسيط ما يلبث أن يزول أو ضياع حذاء، أو كسر فرع شجرة، وقد يصل إلى الهلاك الكلي، حيث تدخل الجمل القدر· كما أنه يقع عند النظر للمحسود أو عند ذكره من دون رؤية العين·
ولكن المناعة هي الأخرى تزداد وتنقص من إنسان لآخر، فقد تتصدى وتقاوم أشعة عين ما، وتضعف أمام أخرى أكثر لهيبا ودماراً·
كما تضعف المناعة عندما يكثر الحاسدون وتكثر الأشعة وتأتي من كل جانب، مثلها في ذلك مثل المناعة ضد الأمراض، فمن المعروف أن كل إنسان لديه مناعة ضد الأمراض، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يمرض أبداً أو لا تضعف مناعته عندما تكثر الأوبئة، بل تضعف وتزيد قوتها من وقت لآخر·