تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: صفات إبراهيم عليه السلام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي صفات إبراهيم عليه السلام

    بعض صفات إبراهيم عليه السلام فمن هذه الصفات أنه كان قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ-
    أمة: هنا بمعنى إمام يعلم الناس التوحيد والخير، وقد وردت أمة بمعنى: الملة كما في [الزخرف 23]، وبمعنى الزمن: كما في [يوسف 45] وبمعنى: الطائفة كما في [النحل 36]، وهذه هي معانيها الأربعة الواردة في القرآن .
    والقنوت لله: الطاعة، والقانت: الخاشع المطيع .
    والحنيف: هو المائل أو المنحرف قصدًا عن الشرك وأهله المحقق للتوحيد، وأكد ذلك بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ -
    ومن هذه الصفات التي ذكرها الله في نفس السياق واجتباه من أجلها أي اصطفاه: أنه كان ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
    شاكرًا لأنعمه: جمع النعمة هنا جمع قلة (أَنْعُم)، بينما جمعها في سورة [لقمان آية 20] جمع كثرة (نِعَمَه)؛ وذلك لأن السياق في سورة لقمان والمقام مقام تعداد نعم الله وفضله على الناس فذكرها بجمع الكثرة: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، وأما السياق في ذكر إبراهيم ففي مقام ذكر صفاته التي خولته ليجتبيه الله بها ويجعله إمامًا للناس ومنها شكر أنعم لله، ولما كان الإنسان لا يقدر على شكر نعم الله الكثيرة عليه ولا يطيق توفيتها شكرها، ولكنه قد يشكر بعضها مهما كان عابدًا قانتًا كإبراهيم؛ لذلك ذكرها سبحانه في هذا السياق بصيغة التقليل، فحين كان السياق في تعداد نعم الله على الخلق كثَّرها، ولما كانت النعمة المذكورة هنا هي المشكورة قلَّلها، وتأمل كيف أن هذا الشكر الخالص من هذا النبي الكريم الذي اجتباه الله واصطفاه وصيَّره أمة بسببه لا يوفي نعم الله كلها بل بالكاد يوفي بعض نعمه، ومع ذلك فإن الله أكرمه هذه الكرامة العظيمة فجعله إمامًا للناس، فالكريم يعطي الكثير على القليل، وشكر إبراهيم العملي والقولي كثير بالنسبة للعباد قليل في جنب نِعَم المعبود.
    ومن أعظم ما ابتُلي ابراهيم به من المطالب فصبر عليه وبادر إليه؛ ما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾، والمقصود قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ-
    فقد رزقه الله الغلام على الكِبَر، وابتلاه بهذا البلاء العظيم في أشد أوقات حاجته إليه ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾؛ أي بلغ مبلغ أن يعينه ويسعى معه، عندها جاءه الأمر بذبحه في المنام .
    والمنام أدنى طرق الوحي كما هو معلوم ومع ذلك سارع الخليل إلى تلبية طلب أدنى طرق الوحي لأمر جلل عظيم وهو ذبح ابنه بوحي منام، وكم من الناس يتلون ويسمعون الآيات المحكمات القطعيات المتواترات تأمرهم وتنهاهم فيترددون في الاستجابة ويتلكَّؤون، ثم يتطلّعون للإمامة ويتشوَّفون لها ودون ذلك خرط القتاد.
    وقد قال تعالى عن إبراهيم: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ--فمسارعته للتسليم لأمر الله واستجابته له أهَّلته لإمامة الناس .
    وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اختتن إبراهيم -عليه السلام- وهو ابن ثمانين سنة بالقَدُّوم).
    تأمل؛ أُمر بالختان في هذه السن ابن ثمانين سنة فبادر لتنفيذ الأمر. وقد اختُلف بمعنى (القدوم) فقيل هو اسم مكان، والراجح أنه اسم آلة الحطّاب أو النجار، فقد روى أبو يعلى من طريق علي بن رباح قال: "أُمر إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم فاشتدَّ عليه، فأوحى الله إليه أن عجلت قبل أن نأمرك بآلته، فقال: يا رب كرهت أن أؤخِّر أمرك".
    فمبادرته للختان في هذه السن ومسارعته لفعله بالآلة المذكورة حتى لا يؤخِّر أمرًا لله تُعرّفك ببعض أوصاف امام الحنفاء ابراهيم عليه السلام
    وأما قول إبراهيم لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ فليس تأخيرًا أو مشورة في تنفيذ أمر الله فهو مستسلم منفّذ للأمر لا محالة، ولكنه بحكمته وعلمه أراد أن يُشرك ابنه في هذا الشرف العظيم اختيارًا واستسلامًا، ولذلك قال تعالى عنهما: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ فأشركهما في هذه الكرامة والاستسلام لله في هذا البلاء العظيم، وهذا بخلاف قصتهما في كتب اليهود والنصارى المحرفة اليوم حيث تحكي أن إبراهيم أخفى على ابنه الأمر وأوهمه بأنه سيذبح قربانًا ولم يُعلمه أن القربان هو وأنه ربطه حتى تمكن منه!!
    ومن صفات ابراهيم عليه السلام التى ذكرت فى القرآن،دعاؤه سبحانه ليقبل الطاعة؛ إظهارًا للافتقار؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.[127 البقرة].
    تأمل إلى هذا؛ الله -جل جلاله- هو الذي أمرهما بالقيام بهذا العمل (﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ..﴾ ومع أنهما قاما بعمل قد أمرهما الله به؛ أي أنه عمل محبوب مرضيٌّ من الله، مع ذلك يدعوان الله أثناء قيامهما به أن يتقبله الله منهما ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾؛ لأنهما يعلمان أن أداء العمل لا يلزم منه القبول إلا بتوفيق من الله .
    وإظهار الافتقار إلى الله تعالى والانكسار له من صفاة الأنبياء عموما مع أنهم مؤيَّدون من الله ومن المصطفين الأخيار؛ فوالدانا: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
    ونوح: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
    ويوسف: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
    ومن صفاته أيضًا التضحية في سبيل الله بالنفس والولد والوالد والأهل والعشيرة .. وتجلى ذلك كله في سيرة إبراهيم ودعوته، وقد قص الله علينا قصته في تحطيم أصنام قومه وهو فتى، وتصدّيه لمناظرتهم وبذله النفس في ذلك حين ألقوه في النار فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وأما التضحية بالولد فقد تقدم استجابته لرؤيا الوحي لذبح ابنه، ومثل ذلك لما أمره الله أن يُسكن هاجر وابنه اسماعيل في واد غير ذي زرع، فعل ذلك استجابة لأمر الله وتوكلًا عليه ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾. وكذلك الوطن فقد غادره مهاجرًا إلى الله ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، والوالد والعشيرة والقوم في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾، وقوله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾، فاستعلى على هذه المحبوبات الطبيعية كلها في سبيل الله وقدم طاعة الله عليها .
    ومن صفاته موالاة المؤمنين والاهتمام بأمرهم والدعاء والاستغفار لهم ونصرتهم يظهر اهتمام إبراهيم بالمؤمنين بدعائه لهم أن يُعلّمهم الله ويهديهم ويزكيهم ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، وفي استغفاره لهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾، وفي جداله لرسل ربه لما علم أنهم متوجهون لإهلاك قوم لوط يظهر جليًا حرصه على المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾.
    قال سعيد بن جبير: "لما جاءه جبريل ومن معه، قالوا له: ﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾، قال لهم إبراهيم: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتُهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا: لا. قال: ثلاثون؟ قالوا لا حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم -عليه السلام- عند ذلك:﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه ُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ- فسكت عنهم واطمأنت نفسه" .
    وقد مدح الله إبراهيم عند هذه المجادلة عن لوط فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾.
    قال الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾.
    فالحليم: المتأني البطيء الغضب الذي لا يعجل بالعقوبة، وقيل أنه وُصف بذلك لأن قومه آذوه وألقوه في النار ومع ذلك لم يدْعُ عليهم، فللدعاة أسوة حسنة في هذا النبي الكريم أن يصبروا على الأذى ويَحلِموا على الناس ويصبروا على دعوتهم.
    والأوَّاه: هو التوَّاب أو الذي يعاتب نفسه على الذنب ويتأوَّه له، فهو كثير التوبة والأوبة إلى ربه، وقيل هو الداعي المتضرع الخاشع المتذلل لله والذي تظهر منه خشية الله .
    والمنيب: الرجَّاع إلى الطاعة .
    ومن صفاته أنه رشيد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾، هداه الله وأرشده وألهمه الحجة في نصرة الحق ووهبه العقل المتزن والكامل في الحجاج انظر كيف لا تضره مراوغة النمرود في المناظرة ولا تستفزه، ولا يضيع الوقت مع سفاسفه عندما يدّعي أنه يحيي ويميت فيخلط الشرعي بالكوني، بل يترك مماراته ومجاراته في ذلك وينقله فورًا إلى الكوني البحت فيقول له: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾.
    ومن صفاته أنه كان ثابت القلب، امتلأ قلبه من خشية الله فلم يبقَ فيه مكان لخوف غيره؛ فلم يكن يخاف المشركين أو طواغيتهم التي يخوِّفونه بها: ﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
    ومن صفاته أنه كما جاد بنفسه وولده وقومه ووطنه لله، فكذلك كان جوادًا يجود بأغلى ما عنده للضيفان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾.
    والحنيذ: هو المشوي في حرّ الأرض بالرضف وهي الحجارة المحمَّاة، وهو من أفضل ما يكرم به الضيف وقد انتقاه سمينًا زيادة في إكرامهم.
    كما قال تعالى في الذاريات: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾، وقوله: "فراغ"؛ أي انسلّ خفية ليجهّز لهم قِراهم دون أن يُشعرهم أو يُحرجهم، وهذا من أدبه. وقوله: "فقربه إليهم" أيضًا من تحبُّبه للضيفين وحرصه على إكرامهم وعدم تكليفهم.
    وقوله تعالى: ﴿فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ فقولهم: سلاما؛ بالنصب تقديره نسلّم سلامًا أي بتقدير فعل، وقوله: سلامٌ بالرفع تقدير سلام عليكم، أي بتقدير جملة اسمية، والاسم أثبت وأقوى من الفعل، فدلَّ هذا على أن إبراهيم -عليه السلام- رد تحية الملائكة بأحسن منها؛ لأن الجملة الاسمية أدلُّ في الثبوت والدوام والاستمرار.
    ومن صفاته أنه كان صاحب قلب سليم، قال تعالى: ﴿إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ وهو القلب الخالي من الشرك والشك، ويلزم من سلامة القلب من الشرك والشك اتصافه بأضدادها، من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله، وهواه تابعًا لرضى الله.
    وفي الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
    وقال ابن القيم عن القلب السليم: "هو الذي قد سَلِم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره ".
    ومن صفات إبراهيم أدبه في دعوة أبيه وإظهاره الحرص على هدايته والخوف عليه من إضلال الشيطان وعذاب النار ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ [سورة مريم].
    تأمل تكراره مُستعطِفًا متأدِّبًا ﴿يَا أَبَتِ﴾ وإظهاره الخوف عليه من العذاب ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ﴾.
    وتأمل قوله جوابًا على توعُّد أبيه له بالرَّجم: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾، وهو سلام المتاركة عن مقابلة السيئة بالسيئة؛ واستُدل به على جواز استعمال هذه اللفظة بالتنكير دون الألف واللام للكافر إن كان يُرجى تأليف قلبه، وكنحو سلام الإعراض ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾.
    ومن صفاته ما قاله تعالى عنه وعن وآله: - وجعلناهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [سورة الأنبياء].
    فمن صفاته التي صيَّرته هو وآله أئمة يُقتدى بهم أنهم لا يهدون إلا بأمر الله ووحيه، فلا يقتبسون نورهم ولا هديهم ولا سيرتهم ولا خلقهم ولا نهجهم ودعوتهم وأمرهم ونهيم إلا من أمر الله، ويقومون بفعل الخيرات والمحافظة على الصلوات على أكمل وجوهها، ويزُكَّون أنفسهم وأموالهم وطعامهم ويتصفون بالعبادة لله والخشوع له.
    ومن صفاته قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾.
    "أولي الأيدي": أي أولي قوة في العبادة وطاعة الله، و"أولي الأبصار": أهل فقه وبصر في الدين .
    و"المصطفين الأخيار": هم المخلَصين الذين أخلصهم الله بتذكر الرجوع إلى الله بتذكر الدار الآخرة، ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾، فمن أراد أن يكون من عباد الله المخلصين فليجعل ذكرى الدار الآخرة نصب عينيه ولن تضره فتنة إن شاء الله، فقد صرف الله تعالى الفتنة عن يوسف وعللها بذلك حين قال: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين - اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين .
    ومن صفاته ما حكاه الله من دعائه وتوسله إلى الله بصفاته سبحانه وتوسله بخالص أعماله وبتوحيده، حيث قال قبل دعائه: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، ثم دعا بقوله: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
    فقوله: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ يدل على صدق توكله على الله وإخلاصه لأن تقديم مفعولي (توكلنا) و(أنبنا) يفيد الاختصاص، فالمقصود: وعليك وحدك توكلنا وإليك وحدك أنبنا .
    فشرع بالتوسل إليه تعالى بخالص أعماله، وعبوديته له تعالى، بين يدي سؤاله ودعائه ليكون أرجى في الإجابة والقبول.
    ﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ أي وإليك وحدك رجعنا بالاعتراف لك بكل ذنوبنا دون غيرك. وهذا الاعتراف لله والانكسار بين يديه من أعظم ما يُجاب به الدعاء.
    وقوله: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾: إليك وحدك مصيرنا ومرجعنا يوم تبعثنا من قبورنا، وفي تقديم الجار والمجرور (إليك) دلالة على الحصر والقصر في المصير، كما في التوكل والإنابة، وهذا كله دلالة على كمال توحيده، وإيمانه هو والذين معه .
    وقوله ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: لا تُظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيُفتنوا، أو: لا تُعذّبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك ..
    وفي تكرار النداء بقوله: ﴿رَبَّنَا﴾ إظهار للمبالغة في التضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث، وهذا يدلّ على شدّة إخلاصه في دينه، وكثرة توسّله إلى اللَّه تعالى في مطلوبه.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: صفات إبراهيم عليه السلام

    لم يختص إبراهيم عليه السلام بخُلَّة الرحمن سبحانه وتعالى ، بل شاركه فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
    فعن جُنْدَب بنِ عَبْدِ الله البَجَلي رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ : (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا ، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) رواه مسلم (532) .
    قال ابن القيم رحمه الله :
    مرتبة الخلة التي انفرد بها الخليلان : إبراهيم ، ومحمد ، صلى الله عليهما وسلم ، كما صح عنه أنه قال : (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقال : (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل الرحمن) ، والحديثان في الصحيح ، وهما يبطلان قول من قال : "الخلة لإبراهيم ، والمحبة لمحمد ، فإبراهيم خليله ومحمد حبيبه" .
    "مدارج السالكين" (3/30) .
    وقد استحق كلا النبيين عليهما الصلاة والسلام هذه المنزلة لما لهما من الصفات ، والأفعال العظيمة الجميلة .
    وبخصوص النبي إبراهيم عليه السلام : فإن الله تعالى قد أثنى عليه في القرآن ثناء عظيماً ، وذكر له من الصفات والأفعال ما استحق بها أن يكون خليلاً لربه تعالى ، وأعظم تلك الصفات والأفعال : تحقيقه للتوحيد ، وبراءته من الشرك والمشركين ، حتى نسب الدين والملَّة إليه عليه السلام ، ولذا فلا عجب إِنْ عَلِمْنَا أن الله تعالى أمر نبيَّه محمَّداً صلى الله عليه وسلم أن يتبع هذه الملَّة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل/ 123 ، وأمر سبحانه عبادَه جميعهم بذلك الاتباع لتلك الملَّة إتباعه في قوله: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران/ 95 .

    ومن عظيم صفات وأفعال إبراهيم عليه السلام :

    1 –قال الله تعالى : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ) النحل/ 120، 122 .
    والأمّة هو الإمام الجامع لخصال الخير الذي يُقتدى به .

    والقانت هو الخاشع المطيع لربه دائماً .

    والحنيف هو المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال : (وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) و (شَاكِراً لأَنْعُمِهِ) أي : قائماً بشكر نعمة ربه عليه .

    فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن (اجْتَبَاهُ) ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه ، وخيار عباده المقربين .
    انظر : تفسير ابن كثير ، وتفسير السعدي .
    2 – قال الله تعالى : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) النجم/37 .

    أي : قام بجميع ما أمره الله به .

    3- قال الله تعالى : (إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) هود/ 75 .
    و(حَلِيمٌ) "أي : ذو رحمةٍ ، وصفحٍ عما يصدر منهم إليه من الزلات ، لا يستفزه جهل الجاهلية ، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه" .

    تفسير السعدي .

    و(أَوَّاهٌ) أي : كثير التضرع والذكر والدعاء والاستغفار .

    و(مُّنِيبٌ) "أي : راجع إلى الله بمعرفته ومحبته والإقبال عليه والإعراض عما سواه" .

    تفسير السعدي .

    4- كرمه وسخاؤه ، قال الله تعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ . إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ . فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) الذاريات/ 24 – 27 .

    5- عظم صبره ، قال الله تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف/ 35 ، وإبراهيم عليه السلام من أولي العزم من الرسل ، فهم المذكورون في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الشورى/13 .

    6- البراءة من الشرك والمشركين ، وإعلانه ذلك ، قال الله تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وممَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ ...) الممتحنة/ 4 .

    7- قيامه بجميع ما أمره الله به على أتم وجه ، قال الله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة/124 .

    وغير ذلك من الصفات والأفعال ، التي بمجموعها استحق عليه السلام أن يكون خليلاً لله تعالى.
    قال ابن كثير رحمه الله :
    وإنما سمي خليل الله : لشدة محبة ربه عَزَّ وجَلَّ له ؛ لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها.

    "تفسير ابن كثير" (2/423) .
    ،قال ابن القيم رحمه الله ذلك ، فقال : "والخُلة هي : المحبة التي تخللت روح المحب ، وقلبه ، حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب كما قيل :
    قد تخللتِ مسلك الروح منِّي ... ولذا سمي الخليل خليلاً
    وهذا هو السر الذي لأجله - والله أعلم - أُمر الخليل بذبح ولده ، وثمرة فؤاده ، وفلذة كبده ؛ لأنه لما سأل الولدَ فأعطيه : تعلقت به شعبة من قلبه ، والخلة منصب لا يقبل الشِّركة ، والقسمة ، فغار الخليلُ على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره ، فأمره بذبح الولد ؛ ليُخرج المزاحم من قلبه ، فلما وطن نفسه على ذلك ، وعزم عليه عزماً جازماً : حصل مقصود الأمر ، فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة ، فحال بينه وبينه ، وفداه بالذبح العظيم ، وقيل له : (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) ، أي : عملت عمل المصدق .
    (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نجزي من بادر إلى طاعتنا ، فنقر عينه ، كما أقررنا عينك بامتثال أوامرنا ، وإبقاء الولد ، وسلامته .
    (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) وهو اختبار المحبوب لمحبه ، وامتحانه إياه ليؤثر مرضاته ، فيتم عليه نعمَه ، فهو بلاء ، محنة ومنحة عليه معاً" انتهى .
    "مدارج السالكين" (3/30 ، 31) .
    المصدر: الإسلام سؤال وجواب

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: صفات إبراهيم عليه السلام

    إن إبراهيم كان أمة -- لما لم يستجب قوم إبراهيم له عندما دعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده و بين لهم بالحجة الواضحة ضلالهم.. أراد أن يثبت لهم مرة أخرى بالحجة أن العبادة لله وحده وأنه لا معبود بحق الا الله؛ قال تعالى فى وصف ابراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]. وقد مدح الله سبحانه إبراهيم عليه السلام حيث إنه قد امتن عليه بالرشد والرسالة والخلة والاصطفاء في الدنيا والآخرة؛ لعلمه سبحانه أن إبراهيم عليه السلام كفء لهذا الأمر - فدعا ابراهيم قومه مرة أخرى وأثبت لهم بالبراهين العقلية الملموسة سفه ما يعتقدون، فقد انكر عليهم ما يعبدون من تماثيل لا تنفع ولا تضر بل هم من يصنعونها.. فكيف بعاقل أن يعبد ما يصنعه وينحته بيديه؟! {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، وما كان جوابهم إلا أن قالوا أن هذا من فعل آبائهم وهم يسيرون على خطى السابقين في عبادتهم لتلك التماثيل.. ويا لها من حجة واهية... فرد عليهم إبراهيم عليه السلام بأن هذا ضلال بين وشرك صريح بالله الواحد الأحد؛ {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:53، 54]. فلما رأوا ذلك منه استهزؤوا به وقالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] أي: الذين لا يعقلون ما يقولون. فمضى إبراهيم عليه السلام في كلامه ودعوته لهم وقال إن الله هو الذي خلق السموات والأرض وجميع المخلوقات وهذا هو الدليل العقلي على وجود الله سبحانه وتعالى، والدليل النقلي: بأنه سبحانه بعث إبراهيم رسولًا داعيًا إليه والرسل لا يكذبون ولا يخبرون على الله غير الحق، فهل يُعقل بعد كل هذا أن يشرك بالله مخلوق؟! {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56]. فلما أن رآهم ما زالوا يصرون على الكفر والعناد أقسم أن يهدم أصنامهم تلك حتى يكون ذلك حجة أكبر لهم على ضعف تلك الأصنام وأنها لا تملك لنفسها شيئًا ولا تستطيع الدفاع عن نفسها.. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]. وانتظر حتى تحين الفرصة المناسبة لذلك.. وجاء يوم عيدٍ لهم كانوا يخرجون للاحتفال به خارج البلدة.. فانتهز إبراهيم عليه السلام الفرصة ولم يخرج معهم لهذا العيد فلما كلموه وأرادوا أن يجبروه على الخروج معهم أخذ يفكر فيما يقوله لهم وفي النهاية تحجج لهم بأنه مريض ليتركوه وبالفعل تركوه وذهبوا لعيدهم.. قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:88- 90]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل. قوله: {إني سقيم}، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}...» (رواه البخاري ومسلم). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزًا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»". ا.هـ. فهو عليه السلام لم يكن يقصد أنه مريض بدنيًا وإنما أراد أنه مريض القلب من عبادتهم الأوثان من دون الله عز وجل. فلما ذهبوا وتركوه أسرع عليه السلام إلى المعبد الذي فيه أصنامهم ووجد هناك بعض الطعام الذي وضعوه لتباركه لهم آلهتهم المزعومة.. فخاطب إبراهيم عليه السلام هذه الأصنام متهكمًا لِمَ لا يأكلون؟! بل لِمَ لا ينطقون؟! هذا إن كانوا آلهة كما يزعم قومه، قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات:91، 92]. ثم قام عليه السلام بتكسير هذه الأصنام جميعًا وترك أكبر صنمٍ لهم ولم يكسره وذلك حتى يقيم عليهم الحجة؛ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]. وهنا لطيفة جميلة ذكرها الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره فقال: "وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله، لا يُطلَق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: "إلى عظيم الفرس"، "إلى عظيم الروم" ونحو ذلك، ولم يقل "إلى العظيم" وهنا قال تعالى: {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} ولم يقل: "كبيرا من أصنامهم"؛ فهذا ينبغي التنبيه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظَّمه". ا.هـ. فلما عادوا ووجدوا أن آلهتهم المزعومة قد تكسرت ذُهِلوا ودهشوا وأخذوا يتساءلون يا ترى من تجرأ على هذا الفعل الشنيع! وتذكروا أن إبراهيم عليه السلام هو الذي يُبغض هذه الأصنام وهو الذي يدعوهم لترك عبادتها وتوحيد الله سبحانه فقالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]. واتفقوا على أن يجمعوا كل أهل المدينة ويأتوا بإبراهيم عليه السلام ليؤنبوه ويوبخوه ويحكموا عليه بأشد أنواع العقاب لما فعله بآلهتهم، قال تعالى: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:61، 62] وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها إبراهيم عليه السلام ليقيم عليهم الدليل الواضح والحجة البينة أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا، فقال لهم إن هذا الصنم الكبير هو الذي كسر باقي الأصنام الصغيرة لأنه أنِف وتغيظ من أن تُعبَد هذه الأصنام الصغيرة معه فكسرها ليتفرد هو بالعبادة، وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه.. وطلب منهم أن يسألوا تلك الأصنام التي تحطمت ليعلموا الحقيقة.. وهنا نظر بعضهم إلى بعض باستغراب وقالوا وكيف نسأل تلك الأصنام ؟! إنها لا تتكلم أتستهزئ بنا يا إبراهيم؟! فما أضلكم إذًا وأسفه عقولكم وأحقر بصيرتكم تلك التي اتخذت آلهة من دون الله! فلما لم يجدوا سبيلًا معه استخدموا منطق القوي المتغطرس في كل زمانٍ ومكان وحكموا عليه أن يُلقى في النار جزاء ما فعل بأصنامهم قال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:63- 68]. ولكن الله سبحانه وتعالى انتصر لخليله إبراهيم عليه السلام وأنقذه من هذه النار العظيمة التي جعلوها له وأخرجه سالمًا منها لم يُصبه أذى ولا مكروه.. وخرج عليه السلام من النار أمام مرأى جميع أهل البلدة في معجزة واضحة تدل على أنه نبي مرسل من الله تعالى. ومع هذا لم يتحرك لهؤلاء الكفار قلب ولم يتبينوا عظمة الله وقدرته ووحدانيته بل ظلوا في طغيانهم يعمهون.. وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم.. فمن يهدِ من أضل الله. {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69، 70]. ونجى الله سبحانه وتعالى نبيه الخليل إبراهيم عليه السلام ولم يؤمن من قومه أحد إلا امرأته سارة وابن أخيه لوط عليه السلام.. وأخزى الله الكافرين وجعلهم الأخسرين في الدنيا والآخرة

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: صفات إبراهيم عليه السلام

    أثنى الله على نبيه إبراهيم ووصفه بوصف عظيم (إذ جاء ربه بقلب سليم) من الشبهات والشهوات خالصا لله قصدا وإرادة وعملا ، وهذا من عناية الله بنبيه .. وفيها بيان لقوة إبراهيم في ذات الله وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم ، حيث أنكر على قومه بقوله (ماذا تعبدون) وهذا استفهام للتوبيخ ، كما وبخهم بقوله (فما ظنكم برب العالمين) إذا عبدتم غيره .. هل تظنونه ناقصا لا يستحق أن يعبد وحده ، أو غافلا عن عملكم فيدعكم بدون عقوبة ، أو أنه يرضى بأن يعبد معه غيره ؟! .. فظنكم ظن خاطئ .. وهذا من سفه هؤلاء القوم وجهلهم .. ثم نظر نظرة في النجوم من أجل محاجة قومه وإظهار عجزهم .. ولأن قومه كانوا يعبدون النجوم ويضعون لها الهياكل في الأرض وأصل العبادة للنجوم ، وإنما نظر فيها وهو لا يعتقدها من باب التورية بالفعل ، فلما نظر فيها قال إني سقيم أي سأسقم وهذه أيضا تورية قولية لأن سقيم اسم فاعل وهو صالح للزمان الحاضر والمستقبل .. فتولى قومه عنه وتركوه إلا حراس الأصنام فمال وانطلق في خفية إلى أصنامهم وكان عندها طعام .. فقال لها (ألا تأكلون) على سبيل الاستهزاء والسخرية فهي لا تعقل ولا تعلم فلا يمكن أن تكون معبودة ، ووضع الطعام عندها من قبلهم دليل على أنها ليست صالحة للألوهية لأن الإله مستغن عن غيره .. فقال لها (مالكم لا تنطقون) استفهام للتحقير وقد خاطبها مخاطبة العاقل فأتى بميم الجمع .. وفيه دلالة على أن عابديها لم ينصرفوا عنها كلهم بل عندها من الحراس ما يقتضي أن يتكلم إبراهيم على هذه الأصنام بمثل هذا الكلام وإلا لو لم يكن عندها أحد لكان كلامه هذا لغوا لا فائدة منه ... (فراغ عليهم ضربا باليمين) كسرها بقوة بيده اليمنى لأنها هي آلة العمل غالبا وهي أقوى من اليسرىفي الغالب .. فجاؤوا ينتصرون لأصنامهم .. ولكن إبراهيم كان قويا في ذات الله فقال لهم موبخا (أتعبدون ما تنحتون) استفهام للتوبيخ والانكار والاستهزاء بهم .. هل يليق عقلا أن يكون المعبود مصنوعا لعابده ؟!.. لايفعل هذا إلا أسفه السفهاء .. ولكن والعياذ بالله إذا أعمى الله بصيرة الإنسان لا يغنيه بصر العين .. فقد أقام عليهم الحجة والبينة بأنها لاتصلح أن تكون آلهة لأنها : لا تعقل ، لا تنطق ، لا تعرف ما ينفعها ، لا تجلب لنفسها نفعا فلغيرها من باب أولى .. (فأقبلوا) الفاء للترتيب والتعقيب والسببية أي بسبب ما عمل إبراهيم بالآلهة أقبلوا إليه وهذا من شدة انتصارهم لآلهتهم !!.. ثم أنكر على أهل الباطل باطلهم عن طريق العقل (أتعبدون ما تنحتون) كيف تصنعونه ثم تعبدونه ؟! .. أليس الأولى ومن الناحية العقلية أن يكون هذا المنحوت هو الذي يعبدكم ؟! .. لكن عقولهم منتكسة فصار الأمر بالعكس .. ثم أقام عليهم الدليل على أن الله وحده هو الذي يعبد لأنه الخالق عزوجل (والله خلقكم وما تعملون) .. (فقالوا ابنوا له بنيانا) أي لأجله وليست اللام للتمليك فبنوا بنيانا وملؤوه حطبا (فألقوه) الفاء للمبادرة فأوقدوا لاحراقه نارا عظيمة ورموه بالمنجنيق لبعدهم عنها بسبب شدة حرارتها .. فألقوه في النار ولكن خالق النار قال للنار (كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فلم تكن بردا شديدة البرودة فيهلك ولا حارة .. بل عكس ما أراد أعداؤه فكانت باردة مسلمة .. وما ذكر من أن النار في جميع أقطار الدنيا كانت في تلك اللحظة باردة فضعيف جدا مخالف للقرآن فقوله (يا نار) موجه للمقصود .. نكرة مقصودة أي تلك النار التي خوطبت فقط ، فجعلهم الله الأسفلين وكان العلو لإبراهيم عليهم فخرج منها سالما وأكرمه الله بشيء لم يكن معهودا عند البشر وهو سلامته من النار التي ظنوا أنها ستحرقه !!..--

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: صفات إبراهيم عليه السلام

    -الدروس المستفادة - ----------------عدم تأثر إبراهيم عليه السلام ببيئته الكافرة فقد بصره الله بالحق وهداه إلى التوحيد (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل)-------------------لم ترهبه كثرة المبطلين بل كان امة وحده و بقي مستعليا عليهم وهذا بدا في قصة تكسير الأصنام ومحاجة قومه .ـ
    لما لم ينفع جدال إبراهيم مع قومه ولم يؤثر فيهم قوله المدعوم بالحجة والبرهان تحول إلى وسيلة أخرى وهي تكسير الأصنام وباشرها بنفسه مع علمه بما قد يلحقه من أذى وضرر فقام بتكسيرها ليبين لهم بطلان وسخافة ما يقومون به من عبادة هذه الأصنام التي لم تستطع أن تمنع عن نفسها التحطيم والتكسير ،----------
    البَدْء بدعوة أبيه؛ لأنه أقرب الأقربين إليه، ولأنه كان صانعًا للأصنام،
    دعوته لقومه، وعلى رأسهم النمرود، وكان هذا في بابل محل نشأته الأولى، وهكذا يكون البَدْء.
    دعوته لأهل حران بعد تركه بابل؛ حيث كانوا يعبدون الكواكب.
    قرار العزلة الذى اتخذه بعد حواره مع أبيه.
    قرار الهجرة بعد محاجَّته للنمرود ونجاته من النار.
    قرار تكسير الأصنام من باب تغيير المنكر باليد وإزالته بالقوة، وإعطاء درس عملي لعَبَدة الأصنام؛ لبيان أن هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق، ولا تغني عن عابديها شيئًا؛ فهي ليست أهلاً للعبادة؛ إنما الأحق بالعبادة هو الله ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 78 -
    بذل الجهد فى جميع مراحل الدعوة
    في قصة إبراهيم مع أبيه كان الابن مؤمنًا والأب كافرًا، وفي قصة نوح عليه السلام كان الأب مؤمنًا والابن كافرًا، وبذَل إبراهيم عليه السلام جهده في دعوة أبيه كما بذل نوح عليه السلام جهده في دعوة ولده: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، ولكن لَمَّا تبيَّن لإبراهيم عليه السلام أن أباه عدوٌّ لله تبرَّأ منه، ولما تبيَّن لنوح عليه السلام أن ولده لن يؤمن وأنه عملٌ غيرُ صالح تبرَّأ منه، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، لنعلم أن الأمر بيد الله وحده، ولكن على الداعي أن يبذل وقته وجهده في الدعوة، وأن يبدأ بأقرب الأقربين إليه، ولا يمل دعوتهم، وأن يحرص على ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، ولكن التوفيق للإيمان لا يملكه إلا الله - فعلي الداعي أن يدعو، والنتائج على الله عز وجل.
    قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ أن إبراهيم عليه السلام رتَّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان، ثم أمره باتِّباعه في النظر والاستدلال، وترك التقليد بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي".
    التلطف والرفق والتودد في دعوته لأبيه، كما يظهر واضحًا جليًّا الأدب والاحترام للوالد، وخفض الجناح في قوله: (يا أبت، يا أبت، يا أبت، يا أبت).
    خوفه على أبيه أن يناله عذاب الله؛ باتباعه للشيطان، أو عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل.
    أن أباه كان صانعًا للأصنام، فإذا وجَّه إليه الدعوة، واعتقد بطلانها، ترك صناعة الأصنام، فيكون بذلك قد قضى على مصدر الشر في عقر داره
    التدرجً؛ حيث كان البَدْء بالأهم وبالاقتراب، وهو يتمثل في دعوته لأبيه.
    ثم الآيات: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، واجه الأبُ وعْظَ ولده بالشدة والغلظة؛ حيث هدَّده بالضرب والشتم، وقابل رفق ولده (يا أبت) بالعنف؛ حيث لم يقل له: يا بُني، بل قال: يا إبراهيم، وأمره بالبعد عنه؛ كي لا يرى وجهه ولا يسمع كلامه، عند ذلك قال إبراهيم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾.
    "وهذا دليل على جواز متاركة الموضوع إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسُن مقابلة الإساءة بالإحسان"
    إن السلام هنا سلام متاركة، لا سلام تحية؛ بدليل قوله بعد ذلك وفعله: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 48]، ومن هنا تشرع العزلة والهجرة فرارًا من الأذى، أو فرارًا بالدين، وهكذا تتضح لنا سنة التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام؛ حيث بدأ بالأهم والأقرب ، ثم استعمال الرفق واللين، والصبر على ذلك ومقابلة الإساءة بالإحسان، ثم العزلة أو الهجرة عند اشتداد الأذى أو التهديد به.
    إن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، هو ما يجب أن يلتزم به الداعي، ويُلزِم به نفسه قدرَ طاقته واستطاعته،
    لقد سجَّل القرآن الكريم هذا الحوار بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه وقومه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 52 - 58].
    وصورة أخرى من الحوار: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 69 - 77].وفي تصوير آخر: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 83 - 93].لقد بات واضحًا أن الأمر له حدود، ولا بد له من نهاية، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يضع حدًّا لهذا اللجاج والفساد العقائدي، حطَّم تلك الأصنام المنحوتة المصنوعة، التي صنعها البشر بأيديهم؛ ليردَّهم إلى صوابهم، فعل ذلك موطِّنًا نفسه على تحمل الأذى في سبيل الله
    يقول القرطبي - رحمه الله -:"إنه لم يكتفِ بالمحاجَّة باللسان، بل كسَّر أصنامهم فعلَ واثقٍ بالله تعالى، موطِّنٍ نفسَه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين
    ولَمَّا كسر إبراهيم عليه السلام تلك الأصنام، ثارت ثائرتهم، وغضبوا لآلهتهم، وتحرَّكت أجهزة النمرود للقبض على إبراهيم، وعقدت محاكمةً علنية لإبراهيم؛ ليكون عبرة لغيره - هكذا أرادوا - ولكن الأمر كان عكس ما أرادوا: ﴿ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 61]، صدر قرار النمرود بالقبض على إبراهيم وإحالته إلى محاكمة عاجلة وعلنية.يقول ابن كثير - رحمه الله -:"أي في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد؛ لعلهم يشهدون مقالته، ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه، وكان هذا أكبر مقاصدِ إبراهيم عليه السلام؛ أن يجتمع الناس كلهم، فيقيم على عبَّاد الأصنام الحجَّة على بطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾
    وكان الحكم مُعدًّا وجاهزًا، والمحاكمة سريعة وعاجلة، وأحكامها رادعة لإبراهيم ولأمثاله؛ الإعدام حرقًا، ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68].ويقول القرطبي: "لَمَّا انقطعوا بالحجة، أخذتهم عزةٌ بإثم، وانصرفوا إلى طريقة الغشم والغلبة، وقالوا: حرِّقوه
    ولتقف الدنيا كلها للداعية بالكيد والمكر؛ مكر الليل والنهار، لكن الله معه ولن يخذُلَه، ولن يضيعه، صدر الأمر الإلهي للنار، إن النار تحرق ولكنها في هذه اللحظة لن تحرق، وإن النار تحرق كل شيء، ولكنها لن تحرق إبراهيم الأُمَّة، ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].
    يقول القرطبي - رحمه الله تعالى -:"وهذه عادة الجبابرة، فإنهم إذا عُورضوا بشيء، وعجزوا عن الحجة، اشتغلوا بالعقوبة
    وحدَث ما لم يكونوا يحتسبون، ورأَوا آية عظيمة، ومعجزة محيرة، ولكنهم لم يؤمنوا، ولم تهتز قلوبهم، وبعدها قرَّر إبراهيم عليه السلام الهجرة، لقد أصر القوم على الكفر والعداء، فما فائدة البقاء؟!إن في المناظرة تدرُّجًا من دليل إلى دليل أوضح وأكثر إلجامًا للخصم، كما أنه كذلك استدراج للخصم؛ ليقيم عليه الحجة، ويلزمه الإقرار بالحقيقة التي لا مفر منها ولا محيد عنها، "﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي: فبقي مغلوبًا لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جوابًا" ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [وبيانًا لسنة التدريج؛ نجد أن إبراهيم بدأ بأبيه وقومه ودعاهم بالحجة واللين، ثم بالتهديد، ثم تكسير الأصنام، ثم تحمُّل الأذى والاضطهاد في سبيل الله عز وجل، ثم في النهاية كان قرار الهجرة وترك موطن الكفر وأرض الباطل؛ للبحث عن منطلق جديد للدعوة، وبداية مرحلة جديدة.إن الهدف من التدرُّج هو حصول اليقين، أو الانتقال من الشك إلى اليقين، واليقين علمٌ يحصل بعد زوال الشبهة؛ بسبب التأمل وكثرة الدلائل وتنوُّعها وتدرجها، وإبراهيم عليه السلام آتاه الله الحُجة على قومه، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾
    "إن العبد كلما كان تدبُّره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى، إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالَم، أن شمس العالَم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حدٌّ معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود، وأما شمس المعرفة والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها، ولا غاية لازديادها، فقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 75]، إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات، وقوله تعالى: ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد[الرازى]
    يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
    العِبرَ من المناظرة و المنهجَ الدعوي من خلالها؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]:
    إن مَن دعا غيره إلى الله تعالى، فإنه يُقدِّم الرفق على العنف، واللين على الغلظة، ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام، وهكذا فعل إبراهيم عليه السلام في بداية دعوته لأبيه وقومه، حتى عنَّفهم بعد ذلك وكسر آلهتهم. وكذلك فعل موسى عليه السلام مع فرعون فقد امره الله فى البداية بان يقولا له قولا لينا ثم بعد العناد قال له - وانى لاراك يا فرعون مثبورا
    إن المناظرة إنما هي مناظرة استدراجية، فإنه لو صرَّح بالدعوة إلى الله أولاً، لم يقبلوا منه، ولو اصطدم بأفكارهم ومعتقدهم من أول الأمر، ما استطاع أن يحاورهم استدرجهم إلى استماع حجته، وليتمكن من ذكر الأدلة على بطلان ما هم عليه،
    أرد إبراهيم عليه السلام بدايةً أن يُزحزِحَهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، وشكَّكهم أولاً فيما يعتقدونه، ثم ينقلُهم بعد ذلك إلى ما يريدُه منهم، وهو الإيمان بالله والكفر بالكواكب، لكنه يتمهل معهم؛ كي يصلوا هم بأنفسِهم إلى النتيجة والحقيقة، إنه أراد أن يقول لهم ويفهمهم
    • إن أفولَ الكواكب يدل على كونها عاجزةً عن الخلق والإيجاد، وبالتالي فإنه يكون محتاجًا إلى غيره، ومَن كان محتاجًا إلى غيره يستحيل أن يكون إلهًا معبودًا.
    • وفي قوله: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾ قصد إبراهيم عليه السلام حكاية قول الخصم، وافتراض الباطل؛ استدراجًا للخصم لا اعتقادًا أو إقرارًا بقوله، ونجده ذكر عقيبه ما يدل على فساده، وهو قوله: ﴿ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾.
    • وفي قوله: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾؛ أي: في زعمكم،، فهل نعبد إلهًا يغيب ويأفل؟
    • والقول في الكواكب هو القول في القمر، وهو القول في الشمس، كل ذلك يغيب ويأفل، وربنا الأحق بالعبادة لا يغيب -
    الدين إنما يكون مبنيًّا على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة ألبتة، كما تدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالاستدلال في أحوال مخلوقاته؛ إذ لو أمكن تحصليها بطريق آخر، لَمَا عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة"
    المناظرة الاستدراجية، يستدرج القوم ويزحزحهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، ويترقَّى بهم في الأدلة، كما قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "فبيَّن لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب للعبادة، فبدأ بالزهرة، ثم ترقَّى منها إلى القمر، الذي هو أضوأ منها وأبقى من حسنها، ثم ترقَّى إلى الشمس، التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبيَّن أنها مُسخَّرة مسيَّرة مقدَّرة، مربوبة
    - البَدْء بالأهم، وهو الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، وكان ذلك بالبراهين والأدلة، والمناظرات العقلية، ومجادلة الخصم واستدراجه؛ لتظهر له الأدلة واضحة جلية فيقف في حيرة من أمره، لا يجد حجة،.
    - البَدْء بالأقربين، وقد تمثَّل ذلك في البدء بدعوة أبيه، وقد كان صانعًا للتماثيل، وبهذا يستطيع إبراهيم عليه السلام أن يجتثَّ جذور الشرك، بالقضاء عليه من منابعه، ثم كانت دعوته لقومه.
    - الترقي في استعمال الأدلة كما حدث في مناظرة عبدة الكواكب؛ حيث بدأ بالكواكب ثم القمر ثم الشمس.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •