بعض صفات إبراهيم عليه السلام فمن هذه الصفات أنه كان قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ-
أمة: هنا بمعنى إمام يعلم الناس التوحيد والخير، وقد وردت أمة بمعنى: الملة كما في [الزخرف 23]، وبمعنى الزمن: كما في [يوسف 45] وبمعنى: الطائفة كما في [النحل 36]، وهذه هي معانيها الأربعة الواردة في القرآن .
والقنوت لله: الطاعة، والقانت: الخاشع المطيع .
والحنيف: هو المائل أو المنحرف قصدًا عن الشرك وأهله المحقق للتوحيد، وأكد ذلك بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ -
ومن هذه الصفات التي ذكرها الله في نفس السياق واجتباه من أجلها أي اصطفاه: أنه كان ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
شاكرًا لأنعمه: جمع النعمة هنا جمع قلة (أَنْعُم)، بينما جمعها في سورة [لقمان آية 20] جمع كثرة (نِعَمَه)؛ وذلك لأن السياق في سورة لقمان والمقام مقام تعداد نعم الله وفضله على الناس فذكرها بجمع الكثرة: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، وأما السياق في ذكر إبراهيم ففي مقام ذكر صفاته التي خولته ليجتبيه الله بها ويجعله إمامًا للناس ومنها شكر أنعم لله، ولما كان الإنسان لا يقدر على شكر نعم الله الكثيرة عليه ولا يطيق توفيتها شكرها، ولكنه قد يشكر بعضها مهما كان عابدًا قانتًا كإبراهيم؛ لذلك ذكرها سبحانه في هذا السياق بصيغة التقليل، فحين كان السياق في تعداد نعم الله على الخلق كثَّرها، ولما كانت النعمة المذكورة هنا هي المشكورة قلَّلها، وتأمل كيف أن هذا الشكر الخالص من هذا النبي الكريم الذي اجتباه الله واصطفاه وصيَّره أمة بسببه لا يوفي نعم الله كلها بل بالكاد يوفي بعض نعمه، ومع ذلك فإن الله أكرمه هذه الكرامة العظيمة فجعله إمامًا للناس، فالكريم يعطي الكثير على القليل، وشكر إبراهيم العملي والقولي كثير بالنسبة للعباد قليل في جنب نِعَم المعبود.
ومن أعظم ما ابتُلي ابراهيم به من المطالب فصبر عليه وبادر إليه؛ ما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾، والمقصود قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ-
فقد رزقه الله الغلام على الكِبَر، وابتلاه بهذا البلاء العظيم في أشد أوقات حاجته إليه ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾؛ أي بلغ مبلغ أن يعينه ويسعى معه، عندها جاءه الأمر بذبحه في المنام .
والمنام أدنى طرق الوحي كما هو معلوم ومع ذلك سارع الخليل إلى تلبية طلب أدنى طرق الوحي لأمر جلل عظيم وهو ذبح ابنه بوحي منام، وكم من الناس يتلون ويسمعون الآيات المحكمات القطعيات المتواترات تأمرهم وتنهاهم فيترددون في الاستجابة ويتلكَّؤون، ثم يتطلّعون للإمامة ويتشوَّفون لها ودون ذلك خرط القتاد.
وقد قال تعالى عن إبراهيم: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ--فمسارعته للتسليم لأمر الله واستجابته له أهَّلته لإمامة الناس .
وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اختتن إبراهيم -عليه السلام- وهو ابن ثمانين سنة بالقَدُّوم).
تأمل؛ أُمر بالختان في هذه السن ابن ثمانين سنة فبادر لتنفيذ الأمر. وقد اختُلف بمعنى (القدوم) فقيل هو اسم مكان، والراجح أنه اسم آلة الحطّاب أو النجار، فقد روى أبو يعلى من طريق علي بن رباح قال: "أُمر إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم فاشتدَّ عليه، فأوحى الله إليه أن عجلت قبل أن نأمرك بآلته، فقال: يا رب كرهت أن أؤخِّر أمرك".
فمبادرته للختان في هذه السن ومسارعته لفعله بالآلة المذكورة حتى لا يؤخِّر أمرًا لله تُعرّفك ببعض أوصاف امام الحنفاء ابراهيم عليه السلام
وأما قول إبراهيم لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ فليس تأخيرًا أو مشورة في تنفيذ أمر الله فهو مستسلم منفّذ للأمر لا محالة، ولكنه بحكمته وعلمه أراد أن يُشرك ابنه في هذا الشرف العظيم اختيارًا واستسلامًا، ولذلك قال تعالى عنهما: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ فأشركهما في هذه الكرامة والاستسلام لله في هذا البلاء العظيم، وهذا بخلاف قصتهما في كتب اليهود والنصارى المحرفة اليوم حيث تحكي أن إبراهيم أخفى على ابنه الأمر وأوهمه بأنه سيذبح قربانًا ولم يُعلمه أن القربان هو وأنه ربطه حتى تمكن منه!!
ومن صفات ابراهيم عليه السلام التى ذكرت فى القرآن،دعاؤه سبحانه ليقبل الطاعة؛ إظهارًا للافتقار؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.[127 البقرة].
تأمل إلى هذا؛ الله -جل جلاله- هو الذي أمرهما بالقيام بهذا العمل (﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ..﴾ ومع أنهما قاما بعمل قد أمرهما الله به؛ أي أنه عمل محبوب مرضيٌّ من الله، مع ذلك يدعوان الله أثناء قيامهما به أن يتقبله الله منهما ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾؛ لأنهما يعلمان أن أداء العمل لا يلزم منه القبول إلا بتوفيق من الله .
وإظهار الافتقار إلى الله تعالى والانكسار له من صفاة الأنبياء عموما مع أنهم مؤيَّدون من الله ومن المصطفين الأخيار؛ فوالدانا: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
ونوح: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
ويوسف: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
ومن صفاته أيضًا التضحية في سبيل الله بالنفس والولد والوالد والأهل والعشيرة .. وتجلى ذلك كله في سيرة إبراهيم ودعوته، وقد قص الله علينا قصته في تحطيم أصنام قومه وهو فتى، وتصدّيه لمناظرتهم وبذله النفس في ذلك حين ألقوه في النار فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وأما التضحية بالولد فقد تقدم استجابته لرؤيا الوحي لذبح ابنه، ومثل ذلك لما أمره الله أن يُسكن هاجر وابنه اسماعيل في واد غير ذي زرع، فعل ذلك استجابة لأمر الله وتوكلًا عليه ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾. وكذلك الوطن فقد غادره مهاجرًا إلى الله ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، والوالد والعشيرة والقوم في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾، وقوله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾، فاستعلى على هذه المحبوبات الطبيعية كلها في سبيل الله وقدم طاعة الله عليها .
ومن صفاته موالاة المؤمنين والاهتمام بأمرهم والدعاء والاستغفار لهم ونصرتهم يظهر اهتمام إبراهيم بالمؤمنين بدعائه لهم أن يُعلّمهم الله ويهديهم ويزكيهم ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، وفي استغفاره لهم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾، وفي جداله لرسل ربه لما علم أنهم متوجهون لإهلاك قوم لوط يظهر جليًا حرصه على المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾.
قال سعيد بن جبير: "لما جاءه جبريل ومن معه، قالوا له: ﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾، قال لهم إبراهيم: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتُهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا: لا. قال: ثلاثون؟ قالوا لا حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم -عليه السلام- عند ذلك:﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه ُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ- فسكت عنهم واطمأنت نفسه" .
وقد مدح الله إبراهيم عند هذه المجادلة عن لوط فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾.
فالحليم: المتأني البطيء الغضب الذي لا يعجل بالعقوبة، وقيل أنه وُصف بذلك لأن قومه آذوه وألقوه في النار ومع ذلك لم يدْعُ عليهم، فللدعاة أسوة حسنة في هذا النبي الكريم أن يصبروا على الأذى ويَحلِموا على الناس ويصبروا على دعوتهم.
والأوَّاه: هو التوَّاب أو الذي يعاتب نفسه على الذنب ويتأوَّه له، فهو كثير التوبة والأوبة إلى ربه، وقيل هو الداعي المتضرع الخاشع المتذلل لله والذي تظهر منه خشية الله .
والمنيب: الرجَّاع إلى الطاعة .
ومن صفاته أنه رشيد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾، هداه الله وأرشده وألهمه الحجة في نصرة الحق ووهبه العقل المتزن والكامل في الحجاج انظر كيف لا تضره مراوغة النمرود في المناظرة ولا تستفزه، ولا يضيع الوقت مع سفاسفه عندما يدّعي أنه يحيي ويميت فيخلط الشرعي بالكوني، بل يترك مماراته ومجاراته في ذلك وينقله فورًا إلى الكوني البحت فيقول له: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾.
ومن صفاته أنه كان ثابت القلب، امتلأ قلبه من خشية الله فلم يبقَ فيه مكان لخوف غيره؛ فلم يكن يخاف المشركين أو طواغيتهم التي يخوِّفونه بها: ﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
ومن صفاته أنه كما جاد بنفسه وولده وقومه ووطنه لله، فكذلك كان جوادًا يجود بأغلى ما عنده للضيفان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾.
والحنيذ: هو المشوي في حرّ الأرض بالرضف وهي الحجارة المحمَّاة، وهو من أفضل ما يكرم به الضيف وقد انتقاه سمينًا زيادة في إكرامهم.
كما قال تعالى في الذاريات: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾، وقوله: "فراغ"؛ أي انسلّ خفية ليجهّز لهم قِراهم دون أن يُشعرهم أو يُحرجهم، وهذا من أدبه. وقوله: "فقربه إليهم" أيضًا من تحبُّبه للضيفين وحرصه على إكرامهم وعدم تكليفهم.
وقوله تعالى: ﴿فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ فقولهم: سلاما؛ بالنصب تقديره نسلّم سلامًا أي بتقدير فعل، وقوله: سلامٌ بالرفع تقدير سلام عليكم، أي بتقدير جملة اسمية، والاسم أثبت وأقوى من الفعل، فدلَّ هذا على أن إبراهيم -عليه السلام- رد تحية الملائكة بأحسن منها؛ لأن الجملة الاسمية أدلُّ في الثبوت والدوام والاستمرار.
ومن صفاته أنه كان صاحب قلب سليم، قال تعالى: ﴿إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ وهو القلب الخالي من الشرك والشك، ويلزم من سلامة القلب من الشرك والشك اتصافه بأضدادها، من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله، وهواه تابعًا لرضى الله.
وفي الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
وقال ابن القيم عن القلب السليم: "هو الذي قد سَلِم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره ".
ومن صفات إبراهيم أدبه في دعوة أبيه وإظهاره الحرص على هدايته والخوف عليه من إضلال الشيطان وعذاب النار ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ [سورة مريم].
تأمل تكراره مُستعطِفًا متأدِّبًا ﴿يَا أَبَتِ﴾ وإظهاره الخوف عليه من العذاب ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ﴾.
وتأمل قوله جوابًا على توعُّد أبيه له بالرَّجم: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾، وهو سلام المتاركة عن مقابلة السيئة بالسيئة؛ واستُدل به على جواز استعمال هذه اللفظة بالتنكير دون الألف واللام للكافر إن كان يُرجى تأليف قلبه، وكنحو سلام الإعراض ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾.
ومن صفاته ما قاله تعالى عنه وعن وآله: - وجعلناهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [سورة الأنبياء].
فمن صفاته التي صيَّرته هو وآله أئمة يُقتدى بهم أنهم لا يهدون إلا بأمر الله ووحيه، فلا يقتبسون نورهم ولا هديهم ولا سيرتهم ولا خلقهم ولا نهجهم ودعوتهم وأمرهم ونهيم إلا من أمر الله، ويقومون بفعل الخيرات والمحافظة على الصلوات على أكمل وجوهها، ويزُكَّون أنفسهم وأموالهم وطعامهم ويتصفون بالعبادة لله والخشوع له.
ومن صفاته قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾.
"أولي الأيدي": أي أولي قوة في العبادة وطاعة الله، و"أولي الأبصار": أهل فقه وبصر في الدين .
و"المصطفين الأخيار": هم المخلَصين الذين أخلصهم الله بتذكر الرجوع إلى الله بتذكر الدار الآخرة، ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾، فمن أراد أن يكون من عباد الله المخلصين فليجعل ذكرى الدار الآخرة نصب عينيه ولن تضره فتنة إن شاء الله، فقد صرف الله تعالى الفتنة عن يوسف وعللها بذلك حين قال: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين - اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين .
ومن صفاته ما حكاه الله من دعائه وتوسله إلى الله بصفاته سبحانه وتوسله بخالص أعماله وبتوحيده، حيث قال قبل دعائه: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، ثم دعا بقوله: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
فقوله: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ يدل على صدق توكله على الله وإخلاصه لأن تقديم مفعولي (توكلنا) و(أنبنا) يفيد الاختصاص، فالمقصود: وعليك وحدك توكلنا وإليك وحدك أنبنا .
فشرع بالتوسل إليه تعالى بخالص أعماله، وعبوديته له تعالى، بين يدي سؤاله ودعائه ليكون أرجى في الإجابة والقبول.
﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ أي وإليك وحدك رجعنا بالاعتراف لك بكل ذنوبنا دون غيرك. وهذا الاعتراف لله والانكسار بين يديه من أعظم ما يُجاب به الدعاء.
وقوله: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾: إليك وحدك مصيرنا ومرجعنا يوم تبعثنا من قبورنا، وفي تقديم الجار والمجرور (إليك) دلالة على الحصر والقصر في المصير، كما في التوكل والإنابة، وهذا كله دلالة على كمال توحيده، وإيمانه هو والذين معه .
وقوله ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: لا تُظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيُفتنوا، أو: لا تُعذّبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك ..
وفي تكرار النداء بقوله: ﴿رَبَّنَا﴾ إظهار للمبالغة في التضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث، وهذا يدلّ على شدّة إخلاصه في دينه، وكثرة توسّله إلى اللَّه تعالى في مطلوبه.