حقيقة التوكل على الله جل جلاله:
أنَّ العبد يعلم أنَّ هذا الملكوت إنما هو بيد الله جل وعلا، يُصَرِّفه كيف يشاء، فيفوض الأمر إليه، ويلتجئ بقلبه في تحقيق مطلوبه، وفي الهرب مما يسوؤه، يلتجئ في ذلك ويعتصم بالله جل جلاله وحده؛ فينـزل حاجته بالله، ويفوض أمره إلى الله، ثم يعملُ السببَ الذي أمر الله به.
فحقيقة التوكل في الشرع:
تجمع تفويض الأمر إلى الله -جل وعلا- وفعل الأسباب.
- بل إن نفس الإيمان سبب من الأسباب التي يفعلها المتوكلون على الله.
بل إن نفس التوكل على الله -جل وعلا- سبب من الأسباب.
فالتوكل حقيقته في الشرع تجمع عبادة قلبية عظيمة، وهي:
تفويض الأمر إليه.
والالتجاء إليه
والعلم بأنه لا أمر إلا أمره، ولا شيء إلا بما قدره وأذن به كوناً.
ثم فعلُ السبب الذي أوجب الله -جل وعلا- فعله أو أمر بفعله، فترك فعل الأسباب ينافي حقيقة التوكل الشرعية، كما أن الاعتماد على السبب، وترك تفويض الأمر إلى الله -جل وعلا- ينافي حقيقة التوكل الشرعية؛ فالمتوكل في الشرع هو:
من عمل السبب وفوض الأمر إلى الله -جل وعلا- في الانتفاع بالسبب وفي حدوث المسبب من ذلك السبب، وفي توفيق الله وإعانته؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به جل وعلا.
والتوكل كما قال الإمام
أحمد: (عمل القلب).
فالتوكل عبادة قلبية محضة، ولهذا صار إفراد الله -جل وعلا- بها واجباً، وصار صرفها لغير الله -جل وعلا- شركاً.
والتوكل على غير الله -جل وعلا- له حالان:
الحال الأولى: أن يكون شركاً أكبر، وهو أن يتوكل على أحد من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله
يتوكل على المخلوق في مغفرة الذنب.
يتوكل على المخلوق في تحصيل الخيرات الأخروية.
أو يتوكل على المخلوق في تحصيل ولد له، أو في تحصيل وظيفة له.
- يتوكل عليه بقلبه؛ وهو لا يقدر على ذلك الشيء، وهذا يكثر عند عباد القبور وعباد الأولياء، فإنهم يتوجهون إلى الموتى بقلوبهم يتوكلون عليهم، بمعنى: يفوضون أمر صلاحهم فيما يريدون في الدنيا والآخرة، على أولئك الموتى، وعلى تلك الآلهة، والأوثان التي لا تقدر من ذلك على شيء، فهذا عبادة صرفت لغير الله جل وعلا، وهو شرك أكبر بالله -جل وعلا- منافٍ لأصل التوحيد.
والنوع الثاني
أن يتوكل على المخلوق فيما أقدره الله -جل وعلا- عليه،
وهذا نوع شرك، بل هو شرك خفي وشرك أصغر.
ولهذا قال طائفة من أهل العلم، إذا قال: (توكلت على الله وعليك) فإن هذا شركٌ أصغر)
ولهذا قالوا: (لا يجوز أن يقول: (توكلت على الله ثم عليك) لأن المخلوق ليس له نصيب من التوكل، فإن التوكل إنما هو تفويض الأمر والالتجاء بالقلب إلى من بيده الأمر وهو الله جل وعلا، والمخلوق لا يستحق شيئاً من ذلك فإذاً التوكل على المخلوق فيما يقدر عليه، هذا شرك خفي ونوع شرك أصغر).
والتوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق -وهذا يكثر عند عُبَّاد القبور والمتوجهون إلى الأولياء والموتى- هذا شرك مخرج من الملة، وحقيقة التوكل الذي ذكرناه لا يصلح إلا لله جل وعلا؛ لأنه تفويض الأمر إلي من بيده الأمر، والمخلوق ليس بيده الأمر، التجاء القلب، وطمع القلب، ورغب القلب في تحصيل المطلوب، إنما يكون ذلك ممن يملكه؛ وهو الله جل وعلا.
أما المخلوق فلا يقدر على شيء استقلالاً وإنما هو سبب،
فإذا كان سبباً فإنه لا يجوز التوكل عليه؛ لأن التوكل عمل القلب، وإنما يجعله سبباً؛ بأن يجعله شفيعاً، يجعله واسطة، ونحو ذلك؛ فهذا لا يعني أنه متوكل عليه، فيجعل المخلوق سبباً فيما أقدره الله عليه، ولكن يفوض أمر النفع بهذا السبب إلى الله جل وعلا، فيتوكل على الله، ويأتي بالسبب الذي هو الانتفاع من هذا المخلوق بما جعل الله -جل وعلا- له من الانتفاع، أو من القدرة؛ ونحو ذلك.
قال الإمام رحمه الله: (باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}) هذه الآية فيها الأمر بالتوكل، ولما أمر به علمنا أنه من العبادة، ولما قدّم (الجار والمجرور) في قوله: (وعلى الله) قدَّمه على ما يتعلق به وهو الفعل (توكلوا) دلَّ على وجوب إفراد الله -جل وعلا- بالتوكل، وأنَّ التوكل عبادة يجب أن تُحصر وتقصر في الله جل وعلا، هذا وجه الدلالة من الآية، ودليل آخر في هذه الآية، وهو قوله: {إن كنتم مؤمنين} جعل الإيمان لا يصح إلا بالتوكل.
قال: {وعلى الله فتوكلوا}يعني أفردوا الله بالتوكل وحده {إن كنتم مؤمنين} فجعل الشرط إن كنتم مؤمنين فأفردوا الله بالتوكل، فجزاء الشرط هو إفراد الله بالتوكل، فصارت دلالة الآية من جهتين.
وكذلك قوله -جل وعلا- في آية سورة يونس: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} قال: {فعليه توكلوا} أفرد التوكل به -جل وعلا- وأمر به، فقدَّم (الجار والمجرور) بما يفيد الحصر والقصر والاختصاص بالله جل وعلا، ثم جعل إفراد التوكل به -جل وعلا- شرطاً في صحة الإسلام، فقال: {إن كنتم مسلمين}فهذه الآيتان دلتا على:
أنَّ التوكل عبادة.
وأن إفراد الله به -جل وعلا- واجب.
وأنه شرط في صحة الإسلام.
وشرط في صحة الإيمان.
وهذا كله يدل على أنَّ انتفاءه مُذهب لأصل التوحيد، ومنافٍ لأصله إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله.
قال: (وقوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون}) وجه الدلالة من الآية: أنَّه وصف المؤمنين بهذه الصفات الخمس، وآخرها قوله: {وعلى ربهم يتوكلون} وظاهر من دلالة الآية، حيث قدم (الجار والمجرور) على أنهم أفردوا التوكل بالله جل وعلا؛ فوصف المؤمنين بهذه الصفات، فدلَّ على أن هذه هي أعظم مقامات أهل الإيمان، وأنَّ هذه العبادات الخمس هي أعظم المقامات، وهذا عظيمٌ التنبُّه له، إذ كل أمور الدين، والعبادات، والفروع العملية التي يعملها العبد: إنما هي فرعٌ عن تحقيق هذه الخمس؛ التي جاءت في هذه الآية: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} وهذه الصفة تجمع الكلمات الشرعية، وتجمع الدين جميعاً؛ لأن ذكر الله فيه القرآن وفيه السنة.
قال: (وقوله: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}).
قوله: {يا أيها النبي حسبك الله} يعني: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين؛ لأن الْحَسْب هو الكافي، والكلمة المشابهة لها حَسَب، تقول: (هذا بِحَسبِ كذا) يعني: بناءً على كذا.
وأما الكافي فهو (الْحَسْب) بسكون السين{يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} يعني: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين.
وجه مناسبة هذه الآية لهذا الباب:
أنَّ الله حسْبُ من توكل عليه، قال جل وعلا: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} فالله حسب من توكل عليه، فدل على أن الله -جل وعلا- أمر عباده بالتوكل عليه حتى:
- يكون كافيهم من أعدائهم.
- وحتى يكون -جل وعلا- كافي المؤمنين من المشركين.
قال جل وعلا: {يا أيها النبي حسبك الله} يعني: كافيك الله، ولهذا أعقبها بالآية الأخرى؛ وهي قوله جل وعلا: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} والتوكل على الله -جل وعلا- كما ذكرنا لك يرجع إلى فهم توحيد الربوبية، وإلى عِظم الإيمان بتوحيد الربوبية، فإن بعض المشركين قد يكون عنده من التوكل على الله الشيء العظيم.
والتوكل على الله من العبادات التي تُطلب من المؤمن، ومن العبادات الواجبة، والعبادات العظيمة، لهذا نقول: (إن إحداث التوكل في القلب يرجع إلى الـتأمل في آثار الربوبية) فكلما كان العبد أكثر تأملاً في ملكوت الله، وفي السماوات، والأرض، وفي الأنفس، وفي الآفاق، كان علمه بأن الله هو ذو الملكوت، وأنه هو المتصرف، وأن نصره لعبده شيء يسير جداً بالنسبة إلى ما يجريه الله -جل وعلا- في ملكوته.
- فيُعظمُ المؤمن بهذا التدبر الله جل وعلا.
ويُعْظِم التوكل عليه.
ويُعْظِّم أمره ونهيه، وينظر أن الله -جل جلاله- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.
قال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} رتَّب الحَسْب وهو الكفاية بالتوكل عليه، وهذا فضيلة التوكل، وفضيلة المتوكلين عليه.
قال: (وعن ابن عباس قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم -عليه السلام- حين أُلقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: {إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}) هذا يبين عظم هذه الكلمة، وهي قول المؤمن: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فإذا تحقق العبد التوكل على الله، وحققه في القلب، معناه أنه حقق هذا النوع من التوحيد: توحيد التوكل في النفس، فإن العبد إذا أعظم رجاءه في الله وتوكله على الله؛ فإنه وإن كادته السماوات والأرض ومن فيهن؛ فإن الله سيجعل له من أمره يُسراً.
وسيجعل له من بينها مخرجاً {حسبنا الله} يعني: كافينا الله {ونعم الوكيل} يعني: ونعم الوكيل ربنا.
هذه كلمة عظيمة قالها إبراهيم -عليه السلام- في الكرب، وقالها النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه في الكرب لما قال لهم الناس: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا} وذلك لعظم توكلهم على الربِّ جل وعلا.[التمهيد]