قال الشيخ سليمان بن عبدالله -قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبحَانَ اللهِ ومَا أنَا مِنَ المُشرِكِينَ} لَمَّا بَيَّنَ الامام محمد بن عبد الوهاب رَحِمَهُ اللهُ الأَمْرَ الَّذي خُلِقَتْ لهُ الخَلِيقَةُ، وفَضْلَهُ، وهوَ التَّوحيدُ، وذَكَرَ الخَوْفَ مِنْ ضِدِّهِ الَّذي هوَ الشِّرْكُ، وأَنَّهُ يُوجِبُ لصَاحِبِهِ الخُلُودَ في النَّارِ، نَبَّهَ عَلَى أنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا يَظُنُّ الجُهَّالُ ويَقُولُونَ: (اعْمَلْ بالحَقِّ واتْرُكِ النَّاسَ) وَمَا يَعْنِيكَ مِن النَّاسِ، بلْ يَدْعُو إلى اللهِ:
-بالحِكْمَةِ، والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ.
-والمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هيَ أَحْسَنُ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ المُرْسَلِينَ وأَتْبَاعِهِم إلى يَوْمِ الدِّينِ، وَكَمَا جَرَى للمُصَنِّفِ وأَشْبَاهِهِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، والدِّينِ، والصَّبْرِ، واليَقِينِ.
وإِذَا أَرَادَ الدَّعْوَةَ إلى ذَلِكَ:
-فَلْيَبْدَأْ بالدَّعْوَةِ إلى التَّوحيدِ الَّذي هوَ مَعْنَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ إِذْ لاَ تَصِحُّ الأَعْمَالُ إِلاَّ بهِ فهوَ أَصْلُهَا الَّذي تُبْنَى عَلَيْهِ، وَمَتَى لمْ يُوجَدْ لَمْ يَنْفَع العَمَلُ، بلْ هوَ حَابِطٌ؛ إِذْ لاَ تَصِحُّ العِبَادَةُ مَعَ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}[التوبة:18].
ولأَِنَّ مَعْرِفَةَ مَعْنَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ هوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى العِبَادِ، فَكَانَ أوَّلَ ما يُبْدَأُ بهِ في الدَّعوَةِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (يَقُولُ تَعَالَى لرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِرًا لهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أنَّ هذهِ سَبِيلُهُ؛ أيْ: طَرِيقَتُهُ وسُنَّتُهُ، وهيَ الدَّعْوَةُ إلى شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَدْعُو إِلَى اللهِ بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ ويَقِينٍ وبُرْهَانٍ، هوَ وَكُلُّ مَن اتَّبَعَهُ يَدْعُو إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَصِيرَةٍ وبُرْهانٍ عَقْلِيٍّ شَرْعِيٍّ).
وقَوْلُهُ: {سُبْحَانَ اللهِ} أيْ: وأُنَزِّهُ اللهَ وأُجِلُّهُ وأُعَظِّمُهُ مِنْ أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ ونَدِيدٌ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً.
قُلْتُ: فَتَبَيَّنَ وَجْهُ المُطَابَقَةِ بَيْنَ الآيَةِ والتَّرْجَمَةِ.
قِيلَ: ويَظْهَرُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قولُهُ: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي}عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ في {أَدْعُو إِلَى اللهِ} فهوَ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ أتْبَاعَهُ هم الدُّعاةُ إلى اللهِ تَعَالَى.
وإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ، فهوَ صَرِيحٌ في أَنَّ أَتْبَاعَهُ هم أَهْلُ البَصِيرَةِ فيما جَاءَ بِهِ دُونَ مَنْ عَدَاهُم.
والتَّحْقِيقُ أَنَّ العَطْفَ يَتَضَمَّنُ المَعْنَيَيْنِ، فَأَتْبَاعُهُ همْ أَهْلُ البَصِيرَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللهِ.
وفي الآيَةِ مَسَائِلُ نَبَّهَ عَلَيْهَا المُصَنِّفُ:
منها: (التَّنْبِيهُ عَلَى الإِخْلاَصِ؛ لأَِنَّ كَثِيرًا وَلَوْ دَعَا إلى الحَقِّ فهوَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ)
ومنها: (أَنَّ البَصِيرَةَ مِن الفَرَائِضِ)
ووَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ اتِّبَاعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجِبٌ، وَلَيْسَ أَتْبَاعُهُ حقًّا إِلاَّ أَهْلَ البَصِيرَةِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ منهم فَلَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ البَصِيرَةَ مِن الفَرَائِضِ.
ومنها: (أنَّ مِنْ دَلاَئِلِ حُسْنِ التَّوحِيدِ أنَّهُ تَنْزِيهٌ للهِ عزَّ وَجَلَّ عن المَسَبَّةِ)
وَمِنْها: (أَنَّ مِنْ أَقْبَحِ الشِّرْكِ كَوْنَهُ مَسَبَّةً للهِ)
ومِنْهَا: (إِبْعَادُ المُسْلِمِ عن المُشْرِكِينَ لاَ يَصِيرُ مَعَهُم وَلَوْ لَمْ يُشْرِكْ)
وكُلُّ هذهِ الثَّلاَثِ في قَوْلِهِ: {سُبْحَانَ اللهِ} الآيَةَ.
...........
قَوْلُهُ: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ) قَالَ القُرْطُبِيُّ: (يَعْنِي بِهِ اليَهُودَ والنَّصَارَى؛ لأَِنَّهُم كَانُوا في اليَمَنِ أَكْثَرَ مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ أوْ أَغْلَبَ).
وَإِنَّمَا نَبَّهَه عَلَى هَذَا؛ ليَتَهَيَّأَ لمُنَاظَرَتِهِم ، ويُعِدَّ الأَدِلَّةَ لامْتِحَانِهِم؛ لأَِنَّهُم أَهْلُ عِلْمٍ سَابِقٍ، بِخِلاَفِ المُشْرِكِينَ وَعَبَدةِ الأَوْثَانِ.
وَقَالَ الحَافِظُ: (هوَ كَالتَّوْطِئَةِ للوَصِيَّةِ؛ ليَجْمَعَ هِمَّتَهُ عَلَيْهَا) ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى كَلاَمِ القُرْطُبِيِّ.
قُلْتُ: وفيهِ: أَنَّ مُخَاطَبَةَ العَالِمِ لَيْسَتْ كمُخَاطَبَةِ الجَاهِلِ.
-والتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي للإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ في دِينِهِ؛ لِئَلاَّ يُبْتَلَى بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِ شُبْهَةً مِنْ عُلَمَاءِ المُشْرِكِينَ.
فَفِيهِ: التَّنْبِيهُ عَلَى الاحْتِرَازِ مِن الشُّبَهِ، والحِرْصُ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ.
قولُهُ: (فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ شَهَادَةُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) يَجُوزُ رَفْعُ ((أَوَّلَ)) مَعَ نَصْبِ ((شَهَادَةُ)) وبالعَكْسِ.
قولُهُ: (وفي رِوَايَةٍ: ((إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ))) هذهِ الرِّوايَةُ في التَّوحيدِ مِنْ (صَحِيحِ البُخَارِيِّ).
وفي بَعْضِ الرِّواياتِ: ((فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ)).
وفي بعضِهَا: ((وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).
وأَكْثَرُ الرِّواياتِ فيها ذِكْرُ الدَّعْوةِ إلى الشَّهَادَتَيْن ِ.
وَأَشَارَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بإِيرَادِ هذهِ الرِّوايَةِ إلى التَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ إِذْ مَعْنَاهَا تَوْحِيدُ اللهِ بالعِبَادَةِ، وتَرْكُ عِبَادَةِ ما سِوَاهُ؛ فَلِذَلِكَ جَاءَ الحَدِيثُ:
-مَرَّةً بلَفْظِ ((شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)).
-وَمَرَّةً ((إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)).
-ومرَّةً ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ)) وذلكَ هوَ الكُفْرُ بالطَّاغوتِ، والإِيمَانُ باللهِ الَّذي قَالَ اللهُ فيهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا
ومَعْنَى الكُفْرِ بالطَّاغوتِ:
هوَ خَلْعُ الأنْدَادِ والآلِهَةِ الَّتي تُدْعَى مِنْ دونِ اللهِ مِن القَلْبِ، وتَرْكُ الشِّرْكِ بها رَأْسًا، وبُغْضُهُ وعَدَاوتُهُ.
ومَعْنَى الإِيمَانِ باللهِ: هوَ إِفْرَادُهُ بالعِبَادَةِ التي تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ والانْقِيَادِ لأَِمْرِهِ، وَهَذَا هوَ الإِيمَانُ باللهِ المُسْتَلْزِمُ للإِيمَانِ بالرُّسُلِ عَلَيهِم السَّلامُ، المُسْتَلْزِمُ لإخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ تَعَالَى، وذلكَ هوَ تَوْحيدُ اللهِ تَعَالَى ودِينُهُ الحَقُّ المُسْتَلْزِمُ للعِلْمِ النَّافعِ والعَمَلِ الصَّالِحِ:
-وهوَ حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
-وحَقِيقَةُ المَعْرِفَةِ باللهِ.
-وحَقِيقَةُ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.
فَلِلَّهِ مَا أَفْقَهَ مَنْ رَوَى هذا الحديثَ بهذهِ الأَلْفَاظِ المُخْتَلِفَةِ لَفْظًا المتَّفِقَةِ مَعْنًى، فَعَرَفُوا أَنَّ المُرَادَ مِنْ شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ هوَ الإِقْرَارُ بِهَا عِلْمًا، ونُطْقًا، وعَمَلاً، خِلاَفًا لِمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الجُهَّالِ أَنَّ المُرَادَ مِنْ هذهِ الكَلِمَةِ هوَ مُجَرَّدُ النُّطْقِ بِهَا، أو الإِقْرَارُ بوُجُودِ اللهِ، أوْ مُلْكِهِ لكُلِّ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ؛ فَإِنَّ هَذَا القَدْرَ قدْ عَرَفَهُ عُبَّادُ الأَوْثَانِ وأَقَرُّوا بهِ، فَضْلاً عنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَلَوْ كَانَ كذلِكَ لَمْ يَحْتَاجُوا إلى الدَّعْوَةِ إليهِ.
وفيهِ: دَلِيلٌ عَلَى أنَّ التَّوحيدَ الَّذي هوَ إِخْلاَصُ العِبَادَةِ للهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وتَرْكُ عِبَادَةِ ما سِوَاهُ هوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ أوَّلَ مَا دَعَتْ إليهِ الرُّسلُ عليهِم السَّلاَمُ كمَا قالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25]. وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36].
قَال َشَيْخُ الإِسْلاَمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ عُلِمَ بِالاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتَّفَقَتْ عليهِ الأُمَّةُ أَنَّ أَصْلَ الإِسْلاَمِ، وأوَّلَ ما يُؤْمَرُ بهِ الخَلْقُ، شَهَادَةُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. فبذلكَ يَصِيرُ الكَافِرُ مُسْلِمًا، والعَدُوُّ وليًّا، والمُبَاحُ دَمُهُ ومالُهُ مَعْصُومَ الدَّمِ والمَالِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ فَقَدْ دَخَلَ في الإِيمَانِ، وإنْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ دونَ قَلْبِهِ فهوَ في ظَاهِرِ الإِسْلاَمِ دونَ باطِنِ الإِيمَانِ).
وفيهِ: البَدَاءةُ في الدَّعْوَةِ والتَّعليمِ بالأَهَمِّ فالأَهَمِّ.
.....[تيسير العزيز الحميد]