المعاجم الحديثة بين الفن والصناعة
عدنان الخطيب


المعاجم الحديثة بين الفن والصناعة
ورد في كلمة التصدير التي قدم بها "المعجم الوسيط" للناس أن: "للمعاجم فن يسير بسير الزمن، وقد خطا خطوات فسيحة في القرنين الأخيرين، وكانت له آثار واضحة في "المعاجم الغربية"، بين إنكليزية، وفرنسية، وألمانية، وروسية"[1].
وجاء في دراسة عن "المعجم العربي في القرن العشرين" ألقيت في مؤتمر للمستشرقين ما يلي: "والآن نستطيع أن نقرر أن فن المعجم العربي نما وتطور في القرن العشرين، وأخذ يحاكي نظيره في اللغات الأوربية الكبرى أو يزيد عليه، وطرحت تلك النظرية التي كانت تقول بأن العربية لغة لا تقبل التجديد ولا التطور، وأصبحنا نسلم بعربية معاصرة إلى جانب العربية القديمة، وبكلاسيكية وكلاسيكية محدثة، وفتح باب القياس على مصراعيه في اللغة كما فتح في الفقه والتشريع، ومن حقنا أن نبتكر ألفاظًا وعبارات كما ابتكر أجدادنا"[2].
إن الفن - في رأينا - مظهر، لإرادة الكمال في أمر من الأمور، فإذا تغيب إنسان في عمل يؤديه، تصوير ما يشعر به من عاطفة، أو تسجيل ما يعتلج في صدره من أحاسيس، أو إبراز ما يتوخاه من دقة، أو تحقيق ما يستلزمه العمل من إتقان، فإنَّما هو يمارس فنًّا من الفنون، وكلما اقترب الإنسان من عمله من الكمال، زاد فنه سموًّا، ومن طبيعة هذا الكمال ومظهره، أخذت بعض الفنون وصفها بالجمال.
ونحن نحب أن نتساءل عن حظ المعاجم، عربية كانت أو أجنبية من "الفن المتطور" بالمقاييس التي أشرنا إليها؟
إن فن المعاجم في هذا العصر على نموه وتطوره، إنما يتمثل بالدقة في ترتيب المواد وتنسيقها وضبطها، كما يتمثل بالجهد في توضيح مواده بالأمثلة الدقيقة وبالرسوم المعبرة، ويتمثل فن المعاجم أخيرًا في إتقان الإخراج الذي يشمل جودة الطباعة، وحسن المظهر، فهل هذا هو كل ما يجب أن يستهدفه واضعو المعاجم العربية اليوم؟
إن العرب في حاجة إلى معاجم جديدة، تمتاز بالإضافة إلى مقتضيات "الفن المتطور" التي ذكرناها، إلى مواد جديدة تفي بمتطلبات مختلف العلوم والفنون، على أن يتوصل إليها باتباع قواعد سليمة يمكن معها - بقدر ما تدعو إليه الضرورة - التوسع في قياسية صيغ الزوائد والمصادر، وبذلك تغنَى العربيةُ بالاشتقاق في يسر وسهولة، مع ضبط هذا الأمر حفاظًا على سلامة اللغة وصحتها.
كما يجب أن تمتاز المعاجم الحديثة، بما تحويه من تعريفات علمية صحيحة يستبعد معها جميع ما ورد في المعجمات القديمة من أخطاء وأوهام وتصحيف ومجانبة الدقة في التعريف.
إن معجمًا بالصفات المذكورة، إذا أريد له أن يفي بحاجات العصر، لا يمكن أن يكتفى فيه بمسايرة "فن المعاجم الحديث"، إنما يجب أن يكون وضعه في مستوى "الصناعة"، ولسنا نعني بالصناعة هنا المعنى الشائع لهذه الكلمة؛ أي مجرد العمل الذي يمارسه الإنسان، وقد يحترفه، مستندًا فيه إلى جهد عضلي، أو نظام آلي، أو إلى قواعد رتيبة؛ لأن الصناعة بهذا المعنى، تكاد تكون منبتة الصلة بالفن، حيث يجري الإنسان فيه وراء الجمال مدفوعًا بمشاعره وأحاسيسه غير متقيد بنظام أو قاعدة؛ إنما نقصد بالصناعة ذلك العمل الذي يشعر القائم به رغبة في إجادته وإتقانه، فيخطط له ثم يوفيه حقه من الدراسة والإعداد له، يعرف الغاية منه، فيسلك إليها أوضح نهج وأقوم سبيل، ثم يجعله بالفن المتطور مع الزمن، المصقول بالمران، المهذب بالارتقاء، حقيقة واقعة في أجمل صورها، وأسمى معانيها، إن مثل هذا العمل الجيد هو "الصناعة"؛ كما يدل عليها جوهر اللفظة في متن العربية، وكفى "الصناعة" بهذا المعنى ورودها في قوله - عز وجل - (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[3]، وقوله - عز وعلا-: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) [4].
إنَّ معاجم اللغات الحية اجتازت اليوم مرحلة الفنون، وأصبحت صناعة تحشد للعمل فيها طوائف عديدة من العلماء الأعلام، ومن رجال الفن الجهابذة، كل واحد منهم يعمل في نطاق اختصاص معلوم، والمعجم اللغوي أو العلمي الذي نريده للعربية لا يكفيه تأليف لجنة من كبار علماء اللغة للإشراف على إخراجه؛ بل لا بد له من علماء في اللغة إلى جانب مختصين بمختلف العلوم الأخرى، يتوزعون مواده، ويسهمون في الإشراف على مختلف أقسامه، كما لا بد له من رجال يتقن الواحد منهم فنًّا من الفنون اللازمة لإخراج معجم حديث، يعملون جميعًا في تنسيقه وتبويبه، وتزيينه، وطباعته؛ حتى يخرج للناس المعجم العربي المنشود.
----------------------------------------
[1] كلمة التصدير هذه بقلم الدكتور/ إبراهيم مدكور، الأمين العام لمجمع اللغة العربية.
[2] بحث ألقاه بالفرنسية الدكتور/ إبراهيم مدكور في مؤتمر المستشرقين بموسكو سنة 1962، ونشر بالعربية ملخصًا في الجزء 16 من مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1963.
[3] سورة النمل:88
[4] سورة هود: 37