قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله لَمَّا كانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بهِ؛ ولِهَذَا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوباتِ الدُّنيَا والآخِرَةِ ما لَمْ يُرَتِّبْهُ عَلَى ذَنْبٍ سِوَاهُ؛ مِنْ إِبَاحَةِ دِمَاءِ أَهْلِهِ وأَمْوَالِهِم، وسَبْيِ نِسَائِهِم وأَوْلاَدِهِم، وعَدَمِ مَغْفِرَتِهِ مِنْ بَيْنِ الذُّنوبِ إِلاَّ بالتَّوبةِ منهُ، نَبَّهَ المُصَنِّفُ بهذهِ التَّرجمةِ عَلَى أنَّهُ يَنْبَغِي للمُؤْمِنِ أنْ يَخَافَ منهُ ويَحْذَرَهُ، ويَعْرِفَ أَسْبَابَهُ ومَبَادِئَهُ وأَنْوَاعَهُ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ فيهِ.
-ولِهَذَا قالَ حُذَيْفَةُ: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَن الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ أَقَعَ فيهِ) رواهُ البُخَارِيُّ.
وذلكَ أنَّ مَنْ لمْ يَعْرِفْ إِلاَّ الخَيْرَ قَدْ يَأْتِيهِ الشَّرُّ وَلاَ يَعْرِفُ أنَّهُ شَرٌّ؛ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فيهِ، وإمَّا أَنْ لاَ يُنْكِرَهُ كمَا يُنْكِرُهُ الَّذي عَرَفَهُ؛ ولِهَذَا قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إنَّما تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوةً، إِذَا نَشَأَ في الإِسْلاَمِ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الجَاهِلِيَّةَ).
-قالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (وهوَ كَمَا قَالَ عُمَرُ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الإِسْلاَمِ هوَ الأَمْرُ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عن المُنْكَرِ، وتَمَامُ ذَلِكَ بالجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ، ومَنْ نَشَأَ في المَعْرُوفِ فَلَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ، فَقَدْ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ مِن العِلْمِ بالمُنْكرِ وضَرَرِهِ ما عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهِ بالمَعْرُوفِ، ولاَ يَكُونُ عندَهُ مِن الجهادِ لأهْلِهِ مَا عندَ الخَبِيرِ بِهِم؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الخَبِيرُ بالشَّرِّ وأَسْبَابِهِ إِذَا كَانَ حَسَنَ القَصْدِ عندَهُ مِن الاحْتِرَازِ عنهُ والجِهَادِ لَهُم مَا لَيْسَ عندَ غَيْرِهِ).
ولِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ أَعْظَمَ إِيمانًا وجهادًا مِمَّنْ بعدَهُم؛ لكمَالِ مَعْرِفَتِهِم بالخَيْرِ والشَّرِّ، وكمَالِ مَحَبَّتِهِم للخَيْرِ وبُغْضِهِم للشَّرِّ؛ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، وقُبْحِ حَالِ الكُفْرِ والمَعَاصِي.
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ: (أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بهِ؛ أيْ: لاَ يَغْفِرُ لعَبْدٍ لَقِيَهُ وهوَ مُشْرِكٌ بِهِ، ويَغْفِرُ ما دونَ ذلكَ؛ أيْ: مِن الذُّنوبِ، لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
قُلْتُ: فَتَبيَّنَ بِهَذَا أنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الذُّنوبِ؛ لأَِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أنَّهُ لاَ يَغْفِرُهُ؛ أيْ: إِلاَّ بالتَّوْبةِ منهُ، وما عَدَاهُ فهوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ إنْ شَاءَ غَفَرَهُ بلا توبةٍ، وإنْ شاءَ عَذَّبَ بهِ، وهذا يُوجِبُ للعبدِ شدَّةَ الخوفِ مِنْ هذا الذَّنبِ الَّذي هذا شَأْنُهُ عندَ اللهِ، وإنَّما كانَ كذلِكَ لأنَّهُ أَقْبَحُ القُبْحِ وأظْلَمُ الظُّلْمِ؛ إذْ مَضْمُونُهُ تَنْقِيصُ رَبِّ العَالَمِينَ، وصَرْفُ خَالِصِ حَقِّهِ لغَيْرِهِ، وعَدْلُ غيرِهِ بهِ، كمَا قالَ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]؛ ولأنَّهُ مُنَاقِضٌ للمَقْصُودِ بالخَلْقِ والأَمْرِ، مُنَافٍ لهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وذَلِكَ غَايَةُ المُعَانَدَةِ لرَبِّ العَالَمِينَ، والاسْتِكْبَارِ عنْ طَاعَتِهِ والذُّلِّ لهُ، والانْقِيادِ لأَِوَامِرِهِ الَّذي لا صَلاَحَ للعَالَمِ إِلاَّ بذلكَ، فمتى خَلاَ منهُ خَرِبَ وقَامت القيامةُ، كمَا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللهُ اللهُ)) رَوَاه مُسْلِمٌ.
وَلأَِنَّ الشِّرْكَ تَشْبِيهٌ للمَخْلُوقِ بالخَالِقِ -تَعَالَى وتَقَدَّسَ- في خَصَائِصِهِ الإِلَهيَّةِ مِنْ مِلْكِ الضُّرِّ والنَّفْعِ، والعَطَاءِ والمَنْعِ؛ الَّذي يُوجِبُ تَعَلُّقَ الدُّعاءِ، والخَوْفِ، والرَّجاءِ، والتَّوكُّلِ وأنواعِ العِبَادَةِ كلِّهَا باللهِ وحدَهُ.
فَمَنْ عَلَّقَ ذلكَ لمَخْلُوقٍ فَقَدْ شَبَّهَهُ بالخَالِقِ،وَجَ عَلَ مَنْ لاَ يَمْلِكُ لنفسِهِ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا، وَلاَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً ولا نُشُورًا، فَضْلاً عنْ غيرِهِ، شَبِيهًا بِمَنْ لَهُ الخَلْقُ كلُّهُ، ولهُ المُلْكُ كلُّهُ، وبيدِهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليهِ يُرجَعُ الأمرُ كلُّهُ، فأَزِمَّةُ الأُمُورِ كلِّهَا بيَدَيْهِ سبحانَهُ ومَرْجِعُهَا إليهِ، فمَا شاءَ كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، الَّذي إذا فَتَحَ للنَّاسِ رَحْمَةً فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا، وما يُمْسِكُ فَلاَ مُرْسِلَ لهُ مِنْ بَعْدِهِ، وهوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
فَأَقْبَحُ التَّشْبِيهِ، تَشْبِيهُ العاجِزِ الفَقِيرِ بالذَّاتِ، بالقَادِرِ الغَنِيِّ بالذَّاتِ.
ومِنْ خَصَائِصِ الإِلَهِيَّةِ، الكَمَالُ المُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ، الَّذي لاَ نَقْصَ فيهِ بوجهٍ من الوُجُوهِ، وذلكَ يُوجِبُ:
-أنْ تَكُونَ العِبَادَةُ كلُّهَا لهُ وحدَهُ.
-والتَّعظيمُ والإجلالُ، والخَشْيَةُ، والدُّعاءُ، والرَّجاءُ والإِنَابَةُ، والتَّوَكُّلُ، والتَّوْبَةُ، والاسْتِغَاثَةُ ، وغَايَةُ الحُبِّ معَ غايَةِ الذُّلِّ، كلُّ ذلكَ يَجِبُ عَقْلاً، وشَرْعًا، وفِطْرَةً أن يَكُونَ للهِ وحدَهُ.
ويَمْتَنِعُ عَقْلاً، وشَرْعًا، وفِطْرَةً أنْ يَكُونَ لغَيْرِهِ، فمَنْ فَعَلَ شيئًا مِنْ ذلكَ لِغَيْرِهِ فقدْ شَبَّهَ ذلكَ الغَيْرَ بِمَنْ لاَ شَبِيهَ لهُ، وَلاَ مِثْلَ لهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ، وذلكَ أَقْبَحُ التَّشْبِيهِ وأَبْطَلُهُ.
فَلِهَذِهِ الأُمُورِ وغَيْرِهَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أنَّهُ لا يَغْفِرُهُ مَعَ أنَّهُ كَتَبَ عَلَى نفسِهِ الرَّحمةَ، هذا مَعْنَى كَلاَمِ ابنِ القيِّمِ.
وفي الآيَةِ ردٌّ عَلَى الخَوَارجِ المُكَفِّرِينَ بالذُّنُوبِ، وعَلَى المُعْتَزِلَةِ القَائِلِينَ بأنَّ أَصْحَابَ الكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَلاَ بُدَّ، ولا يَخْرُجُونَ منها، وَهُمْ أَصْحَابُ المَنْزِلَةِ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْن ِ.
ووجْهُ ذلكَ: أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ مَغْفِرَةَ ما دونَ الشِّركِ مُعَلَّقَةً بالمَشِيئَةِ، ولا يَجُوزُ أن يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّأكِيدِ؛ فإنَّ التَّائِبَ لا فرْقَ في حَقِّهِ بينَ الشِّركِ وغيرِهِ، كمَا قالَ تَعَالَى في الآيَةِ الأُخْرَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53].
(فهنا عَمَّمَ وأَطْلَقَ؛ لأََنَّ المُرَادَ بِهِ التَّائِبُ، وهناكَ خَصَّ وعَلَّقَ؛ لأَِنَّ المُرَادَ بِهِ مَا لَمْ يَتُبْ) قالَهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ.
وقولُهُ: {واجْنُبْنِي} أي: اجْعَلْنِي وبَنِيَّ في جَانِبٍ عنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وبَاعِدْ بَيْنِي وبَيْنَها....
وَقَد اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَجَعَلَ بَنِيهِ أَنْبِيَاءَ، وَجَنَّبَهُم عِبَادَةَ الأَصْنَامِ، وإنَّما دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بذلِكَ؛ لأَِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ افْتَتَنُوا بهَا، كَمَا قَالَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}[إبراهيم:36]، فَخَافَ مِنْ ذَلِكَ ودَعَا اللهَ أَنْ يُعَافِيَهُ وبَنِيهِ مِنْ عِبَادَتِها.
فَإِذَا كَانَ إِبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُجَنِّبَهُ ويُجَنِّبَ بَنِيهِ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ؟
كمَا قالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: (وَمَنْ يَأْمَنُ مِن البَلاَءِ بعدَ إِبْرَاهِيمَ؟!) رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وهَذَا يُوجِبُ للقَلْبِ الحَيِّ أَنْ يَخَافَ مِن الشِّرْكِ، لاَ كَمَا يَقُولُ الجُهَّالُ: إنَّ الشِّرْكَ لاَ يَقَعُ في هذهِ الأُمَّةِ، وَلِهَذَا أَمِنُوا الشِّرْكَ فَوقَعُوا فيهِ، .[تيسير العزيز الحميد]