قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه :" قف حيث وقف القوم ، فإنهم عن علم وقفوا ، وببصر نافذ كفوا ، ولهم على كشفها كانوا أقوى ، وبالفضل لو كان فيها أحرى ، فلئن قلتم : حدث بعدهم ، فما أحدثه إلا من خالف هديهم ، ورغب عن سنّتهم ، ولقد وصفوا منه ما يشفي ، وتكلموا منه بما يكفي . فما فوقهم محسّر ، وما دونهم مقصّر . لقد قصر عنهم قوم فجفوا ، وتجاوزهم آخرون فغلوا ، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم ."

قال الشيخ صالح آل الشيخ :

رضي الله عن عمر بن عبد العزيز، فلقد نصحنا بنصيحة شافية كافية ـ لوكان في القلوب حياة ـ قال : عليك بآثار من سبق ، ثم وصف من سبق ، ـ وهم الصحابة رضي الله عنهم ـ بأنهم :" عن علم وقفوا وببصر نافذ كفّوا " ، فقسّم حال الصحابة إلى قسمين :

الأول : أنهم وقفوا على علم ، فهم أعلم الناس ، أعلم هذه الأمة هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أحرى بالعلم من غيرهم ، ومن بعدهم ينقص فيهم العلم ، فالصحابة هم أهل العلم ، وأهل الإدراك ، وأهل العقول المستقيمة ، وأهل الأفهام المستنيرة ، هم أهل فهم الكتاب والسنّة . وتفسير الكتاب والسنّة إنما يؤخذ من مشكاة الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وصفهم عمر بن عبد العزيز بقوله :" فإنهم عن علم وقفوا " وقفوا على علم ، العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو على علم علموه من الكتاب والسنّة بما فهموه بما تقتضيه لغة العرب أو بما علّمه بعضهم بعضا ، فما ذكروه من المسائل ذكروه على علم وعلى بصيرة .

القسم الثاني : ما كفّوا عنه وسكتوا عنه ، قال :" وببصر نافذ كفّوا " ببصر نافذ كفّوا عما كفّوا عنه ، فلم يدخلوا في مسائل مما دخل فيها من بعدهم ، هل هذا لأجل عجزهم ؟ الجواب : لا ، ولكن لأجل نفوذ بصرهم ،وبصيرتهم ، وفهمهم ، وإدراكهم وعلمهم ، فإنهم تكلموا فيما تكلموا فيه عن علم وقفوا عليه . وما سكتوا عنه ، أو لم يدخلوا فيه فإنهم كفّوا عنه ببصر وبصيرة .
وهذا هو الذي يجب ، فإنه يجب علينا أن ننبذ الآراء والعقول والأفهام التي تخالف ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الإعتقاد جميعا ، بل في أمور الدين جميعا ، فكلّ ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الميزان المستقيم الذي تزن به فهمك ، وتزن به الأحوال والأمور والفئات والناس ؛ لأننا أُمِرْنا بالإتباع .
وعمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أوصانا بهذه الوصية الكافية الشافية ، بأننا نتبع الصحابة ، لأنهم تكلموا فيما تكلموا فيه على علم ، فهدي الصحابة واجب الإتباع ، سواء كان ذلك في الأمور الإعتقادية ، أو كان ذلك في الأمور العملية ، أو كان ذلك في الأمور السلوكية ـ يعني : في أمور الأخلاق ، والعبادات ، والزهد ،ونحو ذلك ـ فما جاوز طريقتهم فهو غلوّ ، وما قصر عن طريقتهم فهم تحسير ، " فما فوقهم محسّر وما دونهم مقصّر " ومن زاد على ما أتوا به فهو من الغلاة ، والذين سيكون مآلهم إلى التقصير والحسرة
فهذا كلام عمر بن عبد العزيز كمنهج عام ، وهو الذي اتبعه الأئمة في أبواب الإعتقاد والعمل والسلوك ... إلى آخره .
قال : ما جاء عن الصحابة نأخذه ، فمنهاج الصحابة هو الميزان ، وفهم الصحابة هو الميزان ،وطريقة الصحابة هي الميزان ، فهم أهل العلوم ،وأهل العقول ، وأهل الأفهام ، وما حدث بعدهم فإنه حدث بالرأي .
هذا مثل ما أوصاك به أبو عمرو الأوزاعي الإمام المشهور ،إمام أهل الشام البيروتي ، حيث قال : " إياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول " . أي : وإن زخرفوا الآراء بالأقوال ونمّقوا القول ، وزخرفوه ،وجملوه ، فإياك إياك أن ترغب عن السنّة لأجل تحسين من حسّن رأيه بألفاظ ، وخذ بالسنّة وبما جاء عن أهلها وإن كان أهلها لا يحسنون اللفظ ولا تجميله ، لأن الميزان هو الاتباع ، فمن اتبع فهو الناجي ، ومن ابتدع فهو الهالك .

المصدر :
شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
للشيخ صالح آل الشيخ ) .