شبهات حول اتخاذ القبور مساجد وحكم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم


أولاً: قوله تعالى في سورة الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، وجه دلالة الآية على ذلك: أنّ الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى، على ما هو مذكور في كتب التفسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله تعالى، ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة.
ثانياً: كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف، ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه صلى الله عليه وسلم في مسجده!
ثالثاً: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف مع أن فيه قُبِر سبعين نبياً كما قال صلى الله عليه وسلم (1) !
رابعاً: ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجد يتحرى المصلي فيه.
خامساً: بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (2) .
سادساً: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبور مساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور، زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين، فزال المنع!
الجواب عن الشبهة الأولى:
أما الشبهة الأولى فالجواب عنها من ثلاثة وجوه:
الأول: أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبلي... (فذكرها، وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)) (3)
فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا!
الثاني: هب أن الصواب قول من قال: (شريعة من قبلنا شريعة لنا) فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا، لأن الأحاديث تواترت في النهي عن البناء المذكور كما سبق، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا.
الثالث: لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسكين بشريعة نبيٍ مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك، قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري في شرح البخاري)..: حديث: ((لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (4) .
وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى (5) .
وقال الشيخ علي بن عروة في (مختصر الكوكب).. تبعاً للحافظ ابن كثير في (تفسيره): حكى ابن جرير (6) في القائلين ذلك قولين (7) :
أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أهل الشرك منهم.
فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هم محمودون أم لا؟ فيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذِّر ما فعلوا (8) ، وقد رُوِّينا عن عمر بن الخطاب: أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها (9) .
إذا عرفت هذا، فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه، وقال العلامة المحقق الألوسي في (روح المعاني): واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك! وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في (حواشيه على البيضاوي)، وهو قول باطل عاطل، فاسد كاسد...) (10) .
ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة، وأتبعها بكلام الهيتمي في (الزواجر) مقراً له عليه، ... ثم نقل عنه في كتابه (شرح المنهاج) ما نصه: وقد أفتى جمعٌ بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة، التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام آخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح.اهـ.
ثم قال الإمام الألوسي: لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا، وقد استُدِلَّ بها، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من نام عن صلاة أو نسيها)) (11) ، الحديث ثم تلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وهو مقول لموسى عليه السلام، وسياقه الاستدلال، واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ [المائدة: 45]، والكرخي على جريه بين الحر والعبد، والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل، إلى غير ذلك، لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا، لكن لا مطلقاً، بل إنْ قصّ الله تعالى علينا بلا إنكار فإنكار رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل (12) . وقد سَمِعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاجُ الأئمة بها، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده.
ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم: الأمراء والسلاطين، كما روي عن قتادة.
وعلى هذا لقائلٍ أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور، فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسدّه، وكفّ التعرض لأصحابه، فلم يقبل الأمراء منهم، وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد.
وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه، الملعون فاعله، وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريباً من كهفهم، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب، ومثل هذا الاتخاذ ليس محذوراً إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه، كنسبة النبوي إلى المرقد ... صلى الله تعالى على من فيه وسلم، ويكون قوله: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ [الكهف:21] على هذه الشاكلة قول الطائفة: (ابنوا عليهم).
وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على كهفٍ فوق الجبل الذي هم فيه، وفيه خبر مجاهد: أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجداً، وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم، وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولاً فلا يحتاج إليه على ما قيل (13) .
وبالجملة: لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة، معولاً على الاستدلال بهذه الآية، فإن ذلك في الغواية غاية، وفي قلة النُهى نهاية! ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها، وبنائها بالجص والآجرّ، وتعليق القناديل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، والاجتماع عندها، في أوقات مخصوصة، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج، ومقيساً لبعض على بعض! وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وابتداع دين لم يأذن به الله عز وجل.
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام - وهو أفضل قبر على وجه الأرض - والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له، والسلام عليه، فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك، والله سبحانه يتولى هداك.
... وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم، بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين لكن من وجهٍ آخرٍ مبتدعٍ مغايرٍ بعض الشيء لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه: والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا، وعدم رده عليهم!
... هذا الاستدلال باطل من وجهين:
الأول: أنه لا يصحّ أن يعتبر عدم الرد عليهم إقراراً لهم، إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك، بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك، وهذا هو الأقرب؛ أنهم كانوا كفاراً أو فجاراً، كما ... -نقل عن- ابن رجب وابن كثير وغيرهما، وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقراراً بل إنكاراً، لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم! فلا يعتبر السكوت عليه إقراراً كما لا يخفى، ويؤيده الوجه الآتي:
الثاني: أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين، الذين يكتفون بالقرآن فقط ديناً، ولا يقيمون للسنة وزناً، وأما طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين، مصدقين بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) وفي رواية: ((ألا إنّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)) (14) .
فهذا الاستدلال عندهم والمستدل يزعم أنه منهم! باطل ظاهر البطلان، لأن الرد الذي نفاه، قد وقع في السنة المتواترة كما سبق، فكيف يقول: إن الله أقرهم ولم يرد عليهم، مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فأي ردٍّ أوضح وأبين من هذا؟!
وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة؛ إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13] يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير! وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى، وهي الاستدلال بآية الكهف والجواب عنها وعن ما تفرع منها.
الجواب عن الشبهة الثانية:
وأما الشبهة الثانية وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده كما هو مشاهد اليوم، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه*!
والجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه صلى الله عليه وسلم في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً، كما ... في حديث عائشة وغيره (15) ، ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبدالملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد (16) ، ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لما توهم بعضهم، قال العلامة الحافظ محمد بن عبدالهادي في (الصارم المنكي): وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان آخرهم موتاً جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وتوفي في خلافة عبدالملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك (17) ، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري، في كتاب (أخبار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم) عن أشياخه وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه (18) .
يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما أدخل إلى المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة وإن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة، لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها ... وهو مخالف أيضاً لصنيع عمر وعثمان حين وسّعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبدالملك عفا الله عنه، ولئن كان مضطراً إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسّعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو رضي الله عنه بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة، بل قال: (إنه لا سبيل إليها) (19) فأشار رضي الله عنه إلى المحذور الذي يترقب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد.
ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين، فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئاً ما، فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم، قال النووي: ولما احتاجت الصحابة (20) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعةً مستديرةً حوله، لئلا يظهر في المسجد (21) ، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر (22) .
ونقل الحافظ ابن رجب في (الفتح) نحوه عن القرطبي كما في (الكوكب) (65/91/1)، وذكر ابن تيمية في (الجواب الباهر) (ق9/2): أن الحجرة لما أُدخلت إلى المسجد سُدَّ بابها، وبُني عليها حائط آخر، صيانةً له صلى الله عليه وسلم أن يُتخذ بيته عيداً، وقبره وثناً. (63)
الجواب عن الشبهة الثالثة:
وأما الشبهة الثالثة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قَبر سبعين نبيًّا!
فالجواب: أننا لا نشك في صلاته صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد، ولكننا نقول: إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبياً لا حجة فيه من وجهين:
الأول: أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح، ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين، ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه، فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به، قال الطبراني في (معجمه الكبير): حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان، نا أبو همام الدلال، نا إبراهيم بن طمهان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: ((في مسجد الخيف قَبرُ سبعين نبياً)) (23) .
وأورده الهيثمي (المجمع) بلفظ: ((... قُبِرَ سبعون نبياً)) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.
وهذا قصور منه في التخريج، فقد أخرجه الطبراني أيضاً كما رأيت.
وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرّف على أحدهما فقال: (قُبِر) بدل (صلى) لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث، فقد أخرج الطبراني في (الكبير) بإسنادٍ رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً: ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً...)) الحديث (24) ...
وجملة القول: أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته، فإن صح فالجواب عنه من الوجه الآتي وهو:
الثاني: أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف، وقد عقد الأزرقي في (تاريخ مكة) (25) عدة فصول في وصف مسجد الخيف، فلم يذكر أن فيه قبوراً بارزةً، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تُبنى أحكامها على الظاهر، فإذاً ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة، فلا محظور في الصلاة فيه ألبتة، لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد، بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبراً! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشرفة!.
الجواب عن الشبهة الرابعة:
وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه.
فالجواب: لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة (26) ، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه، ومن زعم خلاف ذلك، فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً، وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به.
فإن قيل: لا شك فيما ذكرت، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك، ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
فالجواب: كلا ثم كلا، وهاك البيان من وجوه:
الأول: أنه لم يثبت في حديثٍ مرفوعٍ أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتابٍ من كتب السنة المعتمدة كـ(الكتب الستة)، و(مسند أحمد)، و(معاجم الطبراني الثلاثة) وغيرها، ضعيفاً بل موضوعاً عند بعض المحققين (27) ، وغاية ما روي في ذلك من آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في (أخبار مكة)، فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات (28) . ونحو ذلك ما أورد السيوطي في (الجامع) من رواية الحاكم في (الكنى) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: ((إن قبر إسماعيل في الحجر)) (29) .
الوجه الثاني: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة و لا بارزة، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد، فلا يصح حينئذٍ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين، وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله تعالى، فقال في (مرقاة المفاتيح): ... وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قَبْرُ سبعين نبيًّا (30) .
قال القاري: وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة فلا يصلح الاستدلال (31) .
وهذا جواب عالم نحرير، وفقيه خريت، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفاً، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة، وأن ما في بطن الأرض من القبور، فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم، لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء، كما قال تعالى:أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات: 25-26]
قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم (32) .
ومنه قول الشاعر:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطأ ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت في الهواء رويداً
لا اختيالا على رفات العباد

ومن البيّن الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهراً غير معروفاً مكانه، فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد، حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة، حتى ولو كانت مزورة! لا عند القبور المندرسة، ولو كانت حقيقية، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة كما بيّنا سابقاً، فلا يجوز التسوية بينهما، والله المستعان.
الجواب عن الشبهة الخامسة:
أما بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فشبهة لا تساوي حكايتها! ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسوّد الصفحات في سبيل الجواب عنها وبيان بطلانها! والكلام عليها من وجهين:
الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله، لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به، ولم يروه أصحاب (الصحاح) و(السنن) و(المسانيد) وغيرهم، وإنما أورده ابن عبدالبر في ترجمة أبي بصير من (الاستيعاب) مرسلاً، فقال: وله قصة في المغازي عجيبة، ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية، قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان! فاستلّه الآخر، وقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال له أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد بعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعراً))، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير، فقال: يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك: قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويل أُمه مِسْعَر حرب، لو كان معه أحد)) فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير... وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتمّ ألفاظٍ وأكمل سياقٍ قال:. .. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجداً (33) .
... فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار أنه تابعي صغير، سمع من أنس بن مالك رضي الله عنه، وإلا فهي معضلة، وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة، على أن موضع الشاهد منها وهو قوله: (وبنى على قبره مسجداً) لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري، ولا من رواية عبدالرزاق عن معمر عنه، بل هو من رواية موسى بن عقبة، كما صرح به ابن عبد البر، لم يجاوزه، وابن عقبة لم يسمع أحداً من الصحابة، فهذه الزيادة ... قوله: (وبنى على قبره مسجداً) معضلة (34) ، بل هي عنده منكرة، لأن القصة رواها البخاري في (صحيحه) (35) موصولة من طريق عبدالرزاق عن معمر قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة، وكذلك أوردها ابن إسحاق في (السيرة) عن الزهري مرسلاً كما في (مختصر السيرة) لابن هشام (36) ، ووصله أحمد في (مسنده) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة (37) ، وكذلك رواه ابن جرير في (تاريخه) (38) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة؛ لإعضالها، عدم رواية الثقات لها. والله الموفق.
الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين:
أولاً: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره.
ثانياً: أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره، فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم، لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق، فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم - على فرض صحته - عند التعارض وهذا بيّن لا يخفى، نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتباع الهوى!
الجواب عن الشبهة السادسة
وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلةٍ، وهي خشية الافتتان بالمقبور، وقد زالت، فزال المنع!!
لا أعلم أحداً من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة، إلا مؤلف (إحياء المقبور) فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الأحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها، فقال ما نصه: وأما النهي عن بناء المساجد على القبور، فاتفقوا على تعليله بعلتين: إحداهما: أن يؤدي إلى تنجيس المسجد (39) ... وثانيهما: وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة بالقبر، لأنه إذا وقع بالمسجد، وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح، لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه، ويؤدي بهم إلى فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه، إذا كان في قبلة المسجد، فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك (40) .
ثم ساق شيئاً من النقول في العلة المذكورة عن بعض العلماء منهم الإمام الشافعي، ثم قال المؤلف المشار إليه: والعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، ونشأهم على التوحيد الخالص، واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتصريف(!) وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين (41) !
... والجواب: أن يقال: أثبت العرش ثم انقش!
أثبت أولاً أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي، ثم أثبت أنها قد انتفت، ودون ذلك خرط القتاد.
أما الأول: فإنه لا دليل مطلقاً على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط، نعم من الممكن أن يقال: إنها بعض العلة، وأما حصولها بها فباطل، لأن من الممكن أيضاً أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى، وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعاً، وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد.
وأما زعمه أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين إلخ. فهو زعم باطل أيضاً وبيانه من وجوه:
الأول: أن الزعم بُني على أصل باطل، وهو أن الإيمان بأن الله هو المنفرد بالخلق، والإيجاد كاف في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى، وليس كذلك، فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئاً، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة، وأنكروه على النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، بقولهم فيما حكاه الله عنهم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله، وترك الدعاء والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاص بالله تعالى من العبادات، فمن جعل شيئاً من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به، وجعل له نداً وإن شهد له بتوحيد الربوبية، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بذلك، وهذا مفصّل في غير هذا الموضوع ...
الوجه الثاني:
علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته، فمتى زالت العلة التي ذكرها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه صلى الله عليه وسلم، لأن القول بذلك يستلزم بناء على ما سبق من كلامه أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعد في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وإنما رسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم، وهذا مما لا أتصور أحداً يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك في آخر نَفَسٍ من حياته؟! ويؤيده:
الوجه الثالث: أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة ...
الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم إنما دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم خشية أن يتخذ قبره مسجداً، عن عائشة رضي الله عنها في الحديث (42) ، فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت مُنصبة على الصحابة أنفسهم، أو على من بعدهم، فإن قيل بالأول، قلنا: فالخشية على من بعدهم أولى، وإن قيل بالثاني، وهو الصواب عندنا، فهو دليل قاطع على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم، لا في عصرهم ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بيّن. ويؤيده:
الوجه الخامس: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه، مما يستلزم بقاء العلة السابقة، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها، وهذا بيّن لا يخفى والحمد لله، وإليك بعض الأمثلة على ما ذكرنا:
1- عن عبدالله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور، فقيل له: هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوّي (43) .
2- عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)) (44) ...
3- عن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: ((إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي ولا يتبعني مجمر، ولا تجعلوا في لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلوا على قبري بناء وأشهدكم أني بريء من كل حالقةٍ، أو سالقةٍ، أو خارقةٍ))، قالوا: أو سمعت فيها شيئاً؟ قال: نعم، من رسول الله صلى الله عليه وسلم (45) .
4- عن أنس: كان يكره أن يُبنى مسجد بين القبور (46) .
5- عن إبراهيم أنه: كان يكره أن يجعل على القبر مسجداً (47) .
وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الثقة الإمام، وهو تابعي صغير مات سنة 96هـ، فقد تلقى هذا الحكم بلا شك من بعض كبار التابعين من الصحابة، ففيه دليل قاطع على أنهم كانوا يرون بقاء هذا الحكم واستمراره بعده صلى الله عليه وسلم، فمتى نسخ؟**!
6- عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] ولإيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون، فقال: ما هذا؟ فقال: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً! من عرضت له منكم فيها الصلاة، فليصل، ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل (48) .
7- عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت (49) .
8- عن قزعة قال: سألت ابن عمر: آتي الطور؟ فقال: دع الطور ولا تأتها، وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (50) .
9- عن علي بن حسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه، (كذا الأصل) فيدخل فيها فيدعو، فدعاه فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي، فإن صلاتكم وتسليمكم تبلغني حيثما كنتم)) (51) .
ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً، وابن خزيمة في حديث علي ابن حجر وابن عساكر من طريقين عن سهيل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالتزمه ومسح، قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، (وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) (52)
10- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني (53) حيثما كنتم)) (54) .
11- ورأى ابن عمر فسطاطاً على قبر عبدالرحمن فقال: انزعه يا غلام فإنما يظله عمله (55) .
12- عن أبي هريرة: أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطاً (56) .
13- وروى ابن أبي شيبة وابن عساكر مثله عن أبي سعيد الخدري (57) .
14- عن محمد بن كعب قال: هذه الفساطيط التي على القبور محدثة (58) .
15- سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إذا ما مت، فلا تضربوا على قبري فسطاطاً (59) .
16- عن سالم مولى عبدالله بن علي بن حسين قال: أوصى محمد بن علي أبو جعفر قال: لا ترفعوا قبري على الأرض (60) .
17- عن عمرو بن شرحبيل قال: لا ترفعوا جدثي - يعني القبر - فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك (61) .
واعلم أن هذه الآثار وإن اختلفت دلالاتها، فهي متفقة على النهي في الجملة عن كل ما يُنبئ عن تعظيم القبور تعظيماً يخشى منه الوقوع في الفتنة والضلال، مثل بناء المساجد والقباب على القبور، وضرب الخيام عليها، ورفعها أكثر من الحديث المشروع، والسفر والاختلاف إليها (62) ، والتمسح بها، ومثل التبرك بآثار الأنبياء ونحو ذلك، فهذه الأمور كلها غير مشروعة عند السلف الذين سميناهم من الصحابة وغيرهم، وذلك يدل على أنهم كانوا جميعاً يرون بقاء علة النهي عن بناء المساجد على القبور وتعظيمها بما لم يشرع، ألا وهي خشية الإضلال والافتتان بالموتى كما نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله، بدليل استمرارهم على القول بالحكم المعلول بهذه العلة، فإن بقاء أحدهم يستلزم بقاء الآخر، كما لا يخفى، وهذا بالنسبة لمن نص منهم على كراهية بناء المساجد على القبور ظاهراً، أما الذين صرحوا بالنهي عن غير ذلك، مثل: رفع القبر وضرب الخيمة عليه ونحوه مما أجملنا الكلام عليه آنفاً، فهم يقولون ببقاء الحكم المذكور من باب أولى، وذلك لوجهين:
الأول: أن بناء المساجد على القبور أشد جرماً من رفع القبور وضرب الخيام عليها، لما ورد من اللعن على البناء، دون الرفع والضرب المذكور.
الثاني: أن المفروض في أولئك السلف الفهم والعلم، فإذا ثبت عن أحد منهم النهي عن شيء هو دون ما نهى عنه الشارع، ولم ينقل هذا النهي عن أحدهم، فنحن نقطع بأنه ينهى عنه أيضاً، حتى ولو فرض عدم بلوغ النهي إليه لأن نهيه عما هو دون هذا يستلزم النهي عنه من باب أولى، كما لا يخفى.
فثبت أن القول بانتفاء العلة المذكورة وما بني عليه كله باطل، لمخالفته نهج السلف الصالح رضي الله عنهم، مع مصادمته للأحاديث الصحيحة، والله المستعان. (64)

https://dorar.net/aqadia/1626/%D8%AB...B3%D9%84%D9%85