الملأ..آفة الأمم في كل عصر ومصر
خالد سعد النجار
جبلت النفس على حب النعيم، والخضوع لمن يغدق عليها، فيد السخي قادرة على محو كل عيب، وعلى غض الطرف عن كل هفوة، وقديما قالوا: «من جاد ساد» فكان شيخ القبيلة العربية من السخاء بالمكان الذي يمكنه من الاستحواذ على القلوب، بل إن شئت قلت: إنه من المحال أن تجد رئيس قبيلة بخيل.
ورغم أن الجود من الوجاهة الأخلاقية التي لا ينكرها أحد، إلا أن الطغاة استخدموا مفرداته في تسخير النفوس لخدمة باطلهم والسكوت عن إفكهم، حتى صار للجود وجها قبيحا كالحا تراه كل عين مظلومة في كل أزمنة الطغيان.
فتجد في بعض الأقطار في نفس الوقت الذي يعاني فيها نبهاء المجتمع شظف العيش، تجد -مثلاً- قاضياً يصل راتبه لعشرة آلاف جنيهاً شهرياً مع العديد من الامتيازات -التي لا تعطى حتى للعظماء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن- كسهولة تملك الأراضي والعقارات، والتمتع بالحصانة القضائية، والعلاج على نفقة الدولة في أرقى المستشفيات وبإشراف أمهر الأطباء.. والكثير الكثير.
رغم أن الحقيقة التي يعرفها الجميع أن اختيار هؤلاء يعتمد على المحسوبية، وأنهم ليسوا بأوائل دفعاتهم، بل إن غالبية منسوبي كلية الحقوق في تلك البلاد لا يملكون ميزة علمية متفردة ولا ملكة فكرية خاصة، وإن شئت قل أن كلية الحقوق تمثل آخر ملاذ طالب البكالوريا ضعيف المجموع لكي يلحق بالسلم الجامعي.
هذا في ذات الوقت الذي يعطى فيه مثلاً نفس خريج كليه الطب -ذات المجاميع المرموقة- راتب لا يكفي لإطعام كلب! أعزكم الله-، وحدث ولا حرج عن خريجي كلية الهندسة والتربية والعلوم (قطاع الخدمات).. هذا على فرض أنه تم تعينهم في وظيفة حكومية أصلاً، وماذا عن الكليات المرموقة التي مجالها في التعين الوظيفي ضيق جداً جداً، مثل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام والألسن.
ويرى المغالطون أن مهنة القضاء من الهيبة والمكانة التي تستحق معها كل تقدير وعناية، وهذا ابتداء حق لا ريب فيه فبالعدل تقوم السماوات والأرض، لكن من العدل أيضاً أن لا تسبح فئة إلا من رحم الله- في خضم الترف والنعيم والامتيازات على حساب فئات أخرى، لا لغرض إلا شراء الذمم، وتزيين الإفك، والسكوت عن الفظائع، وما كل ما يعلم يقال.
وهل تربية المواطن دينياً وعلمياً وبدنياً أهم، أم حل مشاكلهم التي تنشأ أصلاً عن سوء تربيتهم.
وهل الخباز الذي يعد الخبز، والمزارع الذي يحرث الأرض، والصانع الذي يسهل الحياة.. هل هؤلاء أقل شأناً من قاض يفصل في الخصومات؟!!
والعجيب أن هذه الظاهرة التدجينية الشاذة تغطي قطاعات كبيرة من الصفوة إلا من رحم الله- من أمثال: أساتذة الجامعات والعسكر ورجال المخابرات والقطاعات الاقتصادية الحساسة كوزارة البترول، فضلاً عن القطاعات السياسية كالسلك الدبلوماسي، والإعلامية كصحفي الأنظمة.
ويحرص أفراد كل طائفة من هؤلاء إلا من رحم الله- على التفاني في خدمة الكبراء بكل جدارة؛ إثباتًا للولاء، ودعمًا لنفوذهم، وسعيًا لمزيدٍ من المكاسب والامتيازات الشخصية، ومع إغداق النخب على هؤلاء الصفوة لا يرضون منهم بمقابل سوى التبعية المطلقة، وغض الطرف عن التجاوزات، بل واللهج صبح مساء بمدح الكبير، والثناء عليه في كل محفل.. فهو الحكيم الذي تنبثق عنه كل القرارات الصائبة، وهو العلامة في كل فن والفهامة في كل شيء، وهو الكريم الذي نعيش في خيره، وهو الفذ الذي يشيد الكل بريادته، وهو المعصوم الذي لا يأتي منه هفوة ولا ذلل.. وأما من حوله من الصفوة فمهمتهم أن يؤمنوا إذا دعا، وأن يصدقوا إذا تكلم، وكيف لا وهم يتقلبون في نعمه غدوة وعشية، لا لألمعية خاصة ولا لموهبة متفردة، بل كل ما في الأمر أنهم أختيروا بعناية ليكونوا في فلك أصحاب الحظوة الذين يتغاضى الكبار عن المجرم والمنحرف منهم فهم يظلونهم ويسترونهم، فإذا انكشفوا حموهم ودافعوا عنهم، ليعلم أتباعهم دوما أن ظهرهم مسنود وأن ذنبهم مغفور.
لذلك فليس بغريب ولا عجيب أن ترى ولاء تلك الصفوة مطلق لا حدود له، خاصة وأنهم يرون بعين رأسهم أقرانهم في مجاهل الحياة، يعانون شظف العيش، ولوعة الحرمان، والاحتقار والضيم، رغم نفس الشهادة الجامعية والمؤهلات الدراسية أو الجسمية.
ومن الغريب والعجيب أن هذه القطاعات في تمددها وانتقائها لكوادرها انغلقت على نفسها في ظاهرة يصفها أحد المحللين بظاهرة «التوريث الفئوي» حيث يقول: ابن العمدة عمدة.. وابن ضابط الشرطة ضابط شرطة.. وابن الصحفي صحفي.. وابن أستاذ الجامعة أستاذ جامعة، وهكذا.. وبالطبع هذا التوريث مبني على اعتبارات غير موضوعية.. اعتبارات تعلي من قيمة الحسب والنسب والمحسوبية والمدفوعات وتلقى بالكفاءات على الأرض؛ لتحاصرها تفاصيل الفقر حتى تموت هماً وكمداً أو تنتبذ في الصحراء مكاناً قصياً.
يقول د. محمد العبدة: نحن لسنا متخلفين في التصنيع وغيره من التقدم المادي وحسب، فربما يكون هذا أسهل الأمور، فتعلم التقنية الحديثة ليس بالأمر العسير، ولكننا متخلفون في الفكر السياسي عندما تختلط علينا الأمور ولا ندري عن الصالح والأصلح والسيئ والأسوأ، وعندما نفضل الاستبداد الذي يرعى مصالحنا الخاصة وأنانيتنا المفرطة، وعندما لم يعد باستطاعتنا التفريق بين الثوابت والمتغيرات فننساق إلى الجمود الذي يفقدنا الحيوية المطلوبة لمعالجة مشاكلنا [خواطر في السياسة، د. محمد العبدة، دار الصفوة ص63]
معايير الاختيار
والواقع يؤكد أن المعايير التي يتم على أساسها اختيار النخب لقطاعات الصفوة تقوم على حساسية المركز ومدى تأثيره وخطورته بالنسبة لكيانهم، وهذا واضح جدا في شتى القطاعات التي ذكرناها، وإلا فما عسى طبيب أو مدرس أو صانع بسيط أن يؤثر في كيان صاحب نفوذ، أو تكون له شوكة في إزالة منكره أو دفع مظلمته.
الملأ والأدوار المشبوهة
إن هؤلاء الصفوة أو الحاشية هم مشكلة كل عصور الطغيان في القديم والحديث، وهم أقرب ما يكونون إلى وصف «الملأ» الذين حدثنا القرآن الكريم -في أكثر من آية- عن صفاتهم وخطورة دورهم الخبيث في كافة الأزمان.
قال المفسرون: «الملأ»: الأشراف من الناس، وهو اسم جمع، ويجمع على أملاء، وسموا بذلك؛ لأنهم يملؤون العيون هيبة، أو المكان إذا حضروه، أو لأنهم مليئون بما يحتاج إليه.
قال الشعراوي: الملأ كما نعلم هم وجوه القوم، وهم السادة الذين يملأون العيون مهابة، ويتصدرون أي مجلس، وهناك مثل شعبي في بلادنا يوضح ذلك المعنى حين نقول: «فلان يملأ العين» أي: أن العين حين تنظر إليه لا تكون فارغة، فلا جزء في العين يرى غيره، ويقال أيضاً: «فلان قَيْد النواظر» أي: أنه إذا ظهر تقيَّدت به كل النواظر، فلا تلتفت إلى سواه، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كانت فيه مزايا تجذب العيون إليه بحيث لا تتحول عنه.
والمراد بذلك هو الحاشية المقربة، أو الدائرة الأولى التي حول المركز، فَحَوْل كل مركز هناك دوائر، والملأ هم الدائرة الأولى، ثم تليهم دائرة ثانية، ثم ثالثة وهكذا، والارتباك إنما ينشأ حين يكون للدائرة أكثر من مركز، فتتشتت الدوائر. [تفسير الشعراوي: 1/4176]
وعن صفاتهم ودورهم الخطير يحدثنا القرآن الكريم عن الكثير من المظاهر:
قال - تعالى -: (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)[الأعراف: 60]
ولم يجبه من قومه إلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرّسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلوّ فيهما. [البحر المحيط: 4/324] قال ابن كثير: وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة، كقوله: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ).
يقول سيد قطب - رحمه الله -: " كما قال مشركوا العرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم! وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر!.. هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل.
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول!.. أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه!
وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما «رجعية» وتخلفاً وجموداً وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه!
وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة؛ وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه: إنه «جامد». ومغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته.. إن الجاهلية هي الجاهلية.. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف!
وقال - تعالى -: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [الأعراف: 66]
أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا في وهدتهم، ومُنُوا بمثل حالتهم، فلا خيرَ فيمن آثر هواه على رضاءِ الله، ولا رَبحَ مَنْ قَدَّم هواه على حقِّ الله. [تفسير القشيري: 2/391].. إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول. هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة: حرية التدبر والنظر، وحرية التفكير والاعتقاد. ويدعه عبداً للعادة والتقليد، وعبداً للعرف والمألوف، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور.
وقال - تعالى -: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 75]
عَدَل الملأُ الّذين استكبروا عن مجادلة صالح - عليه السلام - إلى اختبار تصلّب الذين آمنوا به في إيمانهم، ومحاولة إلقاء الشكّ في نفوسهم، ولما كان خطابهم للمؤمنين مقصوداً به إفساد دعوة صالح - عليه السلام - كان خطابهم بمنزلة المحاورة مع صالح - عليه السلام -، فلذلك فصلت جملة حكاية قولهم على طريقة فصْل جُمل حكاية المحاورات.
ووَصْفُهم بالذين استكبروا هنا؛ لتفظيع كبرهم وتعاظمهم على عامة قومهم واستذلالهم إياهم، وللتّنبيه على أنّ الذين آمنوا بما جاءهم به صالح - عليه السلام - هم ضعفاء قومه.
واختيار طريق الموصولية في وصفهم ووصففِ الآخرين بالذين استضعفوا لما تومئ إليه الصّلة من وجه صدور هذا الكلام منهم، أي أن استكبارهم هو صارفهم عن طاعة نبيهم، وأنّ احتقارهم المؤمنين هو الذي لم يُسغ عندهم سبقَهم إياهم إلى الخير والهدى، كما حكى عن قوم نوح قولهم: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ)[هود: 27] وكما حكى عن كفّار قريش بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف: 11]، ولهذا لم يوصفوا بالكفر كما وصف به قوم هود.
والذين استُضعفوا هم عامّة النّاس الذين أذلّهم عظماؤهم واستعبدوهم؛ لأنّ زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السّيادة الدّنيوية الخلية عن خلال الفضيلة، من العَدل والرأفة وحبّ الإصلاح، فلذلك وصف الملأُ بالّذين استكبروا، وأطلق على العامة وصف الذين استُضعفوا. [التحرير والتنوير: 8/223]
قد جرت سنة اللّه أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل، وإلى كل دعوة لإصلاح، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون، إذ يشق عليهم أن يكونوا مرءوسين لسواهم، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف فى الشهوات، والوقوف عند حدود الاعتدال. [تفسير المراغي: 1/1801]
وقال - تعالى -: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ)[الأعراف: 88]
كان جوابهم عن حجّة شعيب جوابَ المفحَم عن الحجّة، الصائر إلى الشدّة، المزدهي بالقوة، المتوقّعِ أن يكثر معاندوه، فلذلك عدلوا إلى إقصاء شعيب وأتباعه عن بلادهم خشية ظهور دعوته بين قومهم، وبث أتباعه دعوته بين الناس، فلذلك قالوا: (لَنُخْرِجَنَّك يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا)[التحرير والتنوير: 9/5]
استعملوا قوتهم السبعية، في مقابلة الحق، ولم يراعوا دينا ولا ذمة ولا حقا، وإنما راعوا واتبعوا أهواءهم وعقولهم السفيهة التي دلتهم على هذا القول الفاسد، فقالوا: إما أن ترجع أنت ومن معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا. [تفسير السعدي: 1/296]
وفيه إشارة إلى أن من شأن المتكبرين ودأب المتجبرين الاستعلاء، وأن يخرج الأعز الأذل، وذلك لما فيهم من بطر النعم وطغيان الاستغناء وعمه الاستبداد، ولمَّا كان حب الدنيا رأس كل خطيئة وفتنتها أعظم من كل بلية جعل الله - تعالى -أهلها في البلاد سبباً للهلاك والفساد، كما قال الله - تعالى -: (وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) [تفسير روح الييان: 3/152]
وقال - تعالى -: (وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ) [الأعراف: 90]
اعلم أنه - تعالى -بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب، ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك، حتى أضلوا غيرهم، ولاموهم على متابعته فقالوا: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ) واختلفوا فقال بعضهم: خاسرون في الدين. وقال آخرون: خاسرون في الدنيا، لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس، وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولاً وفي الإضلال ثانياً [التفسير الكبير للرازي: 14/148]
وماذا سيخسرون؟ سيخسرون لأنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون الميزان، والقوي يأخذ من الضعيف؛ فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج. وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف. [تفسير الشعراوي: 1/2962]
إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير.. إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة، فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل.. تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب.. إنهم لا يملكون حجة على باطلهم، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب؛ ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم - وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل - ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان، الذي أخلصوا الدينونة لله فأخلصوا له السلطان".
وقال - تعالى -: (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)[الأعراف: 109]
وفي الشعراء (قَالَ لِلْمَلأ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ) والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام، فحكى هنا قولهم وهناك قوله، أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة. [البحر المحيط: 4/289]
(قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)، قيل: هو وأشرافُ قومه، على سبيل المشاورة في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء، وعنهم هنا، أو قاله هو ووافقوه عليه، كعادة جلساء الملوك مع أتباعهم. [البحر المديد: 2/525]
وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد بغية، وإنما كانوا أشرافاً، ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل، وقالوا أن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة [تفسير الثعالبي: 2/43]
يتبع