السؤال:
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، أنا أعاني من وسواس الكفر، وأحاول أن أتخلَّص منه، وأريد أن أسألكم سؤالًا، وهو أنه خطر في بالي جملة من الإنجيل المحرَّف هي: (وكانت الكلمة هي الله)، وقد قلتُها بلساني، لكني أعتقد أنها مجرد سبق لسان، وأيضًا عندما خطرتْ على عقلي، قلتُ بلساني: "حسنًا"، وسؤالي: هل قولي: "حسنًا" يُعَدُّ رضًا بهذه الجملة وكفرًا؟ جُزيتم خيرًا.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:
أولًا: اعلَم أخي الكريم أن هذا الوسواس مرض من الأمراض، وأنه ابتلاء من الله تعالى، وأن لك بالصبر عليه أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلًا، فالصبر على البلاء جزاؤه الجنة إن شاء الله، وقد جاءت امرأة مبتلاة بالصرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه مرضها، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها لو صبرت كان جزاؤها الجنة.
ففي «الصحيحين» عن عَطَاءُ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ»، قَالَتْ: أَصْبِرُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا[1].
ثانيًا: اعلم أخي الكريم أنه لا يضرك ما تجد في نفسك من هذه الوساوس، بل أنت مسلم باق على إيمانك مهما كثُرت هذه الوساوس؛ لأنها وساوس من الشيطان لا حقيقة لها، بل قد يكون هذا علامة على قوة إيمانك؛ ففي «صحيح مسلم» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»[2]. وعند مسلم أيضًا عَنْ عَبْدِاللهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوَسْوَسَةِ، قَالَ: «تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ»[3].
قال الإمام النووي رحمه الله: «فقوله صلى الله عليه وسلم: «ذلك صريح الإيمان»، و«محض الإيمان» معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به - فضلًا عن اعتقاده - إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا، وانتفت عنه الرِّيبة والشكوك، وقيل: معناه: أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكِّد عليه بالوسوسة؛ لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة مَحض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان»؛ ا .هـ[4].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ذاك صريح الإيمان؛ أي: حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان؛ كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظمُ الجهاد، والصريح الخالص كاللبن الصريح، وإنما صار صريحًا لَمَّا كرِهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها، فخلص الإيمان فصار صريحًا؛ لأن الشيطان يكثر تعرُّضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه، والتقرب إليه، والاتصال به، فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة، ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشُّبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأن غيرهم لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوُّهم يطلب صدهم عن الله»؛ ا .هـ[5].
ثالثًا: عليك بأن تشغل نفسك بشيء نافع؛ كتحصيل العلم الشرعي، وذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، وغير ذلك من الأمور النافعة؛ حتى لا تترك وقت فراغ تفكر فيه في مثل هذه الأمور، وأن تدعو الله تعالى بأن يصرف عنك تلك الوساوس.
رابعًا: إذا جاءك شيء من هذه الوساوس، فعليك بفعل أمرين:
الأمر الأول: أن تدفعها عنك، ولا تسترسل فيها.
الأمر الثاني: أن تستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، ثم تقول: آمنت بالله.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ، وَلْيَنْتَهِ»[6].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ»[7].
فقوله: «وليَنتهِ» أمر منه صلى الله عليه وسلم بدفع الوساوس، وعدم الاسترسال فيها.
قال الإمام النووي رحمه الله: «قوله صلى الله عليه وسلم: «فليستعذْ بالله، ولينته»؛ معناه: إذا عرض له هذا الوسواس، فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها؛ والله أعلم»؛ ا .هـ[8].
خامسًا: الكلمة التي نطقت بها من الإنجيل لا تضرك، ولا تؤدي إلى الكفر، حتى ولو كانت هذه الكلمة كفرًا؛ لأن حكاية أقوال الكفار ليست كفرًا، وقد حكى الله تعالى، وحكى النبي صلى الله عليه وسلم أقوال الكفار، ولا يزال علماء المسلمين يحكونها.
ونُطقُك بها لا يدل على رضاك بها بدليل حزنك على مجرد النطق بها، وهذا صريح الإيمان، وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحْبه وسلم.
______________________
[1] متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5652)، ومسلم (2576).
[2] أخرجه مسلم (132).
[3] أخرجه مسلم (133).
[4] «شرح صحيح مسلم» (2/ 154).
[5] «مجموع الفتاوى» (7/ 283).
[6] متفق عليه؛ أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).
[7] أخرجه مسلم (134).
[8] «شرح صحيح مسلم» (2/ 155، 156).
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz63H535ueB