تغير الفتوى بين سوء الفهم وسوء القصد !
سعد بن مطر العتيبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه.. أما بعد..
فإنَّ من الموضوعات السهلة الممتنعة أن تجيب على سؤال ظاهره الوجاهة وباطنه قلّة المعرفة.. ومن ذلك أن يسألك مثقّف! لماذا تختلف فتوى العالم الفلاني في المسألة ذاتها إذا كان اجتهاده لم يتغيّر؟ فتجيبه:
هناك صور كثيرة لهذه المسألة، تكلّم عنها العلماء في القديم والحديث، فحدِّد سؤالك؟
عندئذ يجيبك بطرح أمثلة مُدْرَكَة؛ وحينها تتنفّس الصَّعداء، لأنَّ المسألة صارت أهون بكثير من أن تشرح له أسس فنَّ الفتوى وأصول الاستدلال، ولا سيما أنّ كثيراً من موضوعات أصول الفقه تستعصي على بعض طلبة العلم؛ بلْه مدَّعي الثقافة، ومعظِّمِي الروم، ممن لا يعرفون مراتب الدِّين، ولا يحسنون وصف الوضوء لغير المسلمين، ولا يخجلون من خدمة أطروحات العدو المتربِّص، حتى لكأنَّك أمام مقطع حيّ، لمشهد بعنوان: حشفاً وسوء كيلة رغم أنف الوطنية!
ولأهمية هذا الموضوع، واستشكال بعض العامة له، وتشويش بعض الكتَّاب به، وغضب بعض الشباب منه، فقد اجتهدت في محاولة كشفه بأسلوب تطبيقي، يوضِّح المراد - بعون الله - تعالى - وذلك بياناً لفضل العلم على أهله، وفضل أهله على الأمة؛ وتوضيحاً لسببٍ من أسباب سوء الفهم لدى بعض الخيِّرين من طلبة العلم، فضلاً عن غيرهم، وتظهر أهمية ذلك بجلاء، حين يفرز هذا الاستشكال، فرقةً بين بقية الأمة، وخلخلة لثقة جيل الشباب بجيل الشيوخ؛ كما آمل أن يكشف هذا المقال شيئاً من فقد الموضوعية - قصداً أو تغريراً - لدى عدد من الكتاب، ممن جعلوا همهم الأول نقد العلم وأهله.
من الأمور المقرّرة في الشريعة أنَّ الحكم الشرعي ذاته ثابت لا يتغيّر متى اتفقت الصور المسائل واتحد مناطها؛ وإنَّما قد يتغير مناط الحكم تبعاً لتغير الصور أو دخول العوارض المعتبرة في الشرع، ومن ثمَّ تتغيّر الفتاوى والأحكام عند تنزيلها على المسائل والوقائع، تبعاً لذلك. وهذا أمر معقول، ومعمول به حتى عند أهل القانون - الذين يستشهد به بعض الكتّاب - فتجد القاضي البريطاني مثلا - وهو يعتمد السوابق القضائية وفق المدرسة الأنجلوسكسونية - يحكم في قضية بحكم، بينما يحكم هو أو قاضٍ آخر في صورة مماثلة بحكم مختلف، لسبب يرى أهمية مراعاته في الصورة الجديدة عند تطبيق المبدأ القضائي الذي يستند إليه في حكمه! وحينئذ فعدم تغيّر الحكم مع تغير صور المسائل و مناطاتها - عند التأمّل - هو الأمر المُشكِل الذي يحتاج إلى جواب.
ولكي تتضح المسألة أكثر، أبيِّنها بالتعريج على شيءٍ مما يضربه بعض الناس - مثلاً - في المجال العام والتنبيه على سببٍ للتفريق بين الفتوى في أمرٍ، وما يظنّ خلافاً لها فيه، مثل: تعليم المرأة، والموقف من دمج تعليم البنين والبنات إداريا، وفتح بنوك إسلامية، ومنع أطباق البث الفضائي، ومنع الاستكتاب في شركة ما ثم إجازته، ونحو ذلك مما يفتي فيه علماء معروفون بالعلم والفقه واليقظة وحسن الدِّيانة، مهما اختلف معه غيرهم ممن لا يُعرف بما يعرفون به.
أ) فتعليم المرأة في المملكة العربية السعودية، لم يحرمه أحد من العلماء المعتبرين - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السِّمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي مُنِع فيها، ولذلك استنكره - حينها - كثير من المواطنين حميَّة وغيرة من غير فتوى؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم - رحمه الله -، فلمّا رأى النّاس ذلك اطمئنوا إلى التعليم الحكومي وسلامته من الاختلاط وتوابعه، فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس، وانتشرت في البلاد حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ولله الحمد والمنة؛ فكان المنع في حينه مستنداً إلى سبب وجيه لا يتعلق بالتعليم ذاته، بل إلى آليته، وسلامته من المحظور، وكان الإذن به وتنفيذه مستنداً إلى ضمان خلوه من المحظور؛ فلكلٍ علّته وحكمه؛ ومن يرجع إلى فتاوى الشيخ - رحمه الله - يجد ذلك واضحا غاية الوضوح، فقد صرح بالعلة - كعادته - تصريحا لا لبس فيه.
فتأمّل أخي - المبارك - كيف يحاول بعض المستغربين خطف شرف رفع شأن المرأة في بلادنا، بمثل هذه الأساليب التي يفضحها التاريخ.
ب) وأمَّا دمج تعليم البنات مع تعليم البنين فشغّب به بعض الكتّاب؛ والحق أنَّه لم يستنكره من استنكره من العلماء والدعاة المخلصين الغيورين لمجرد كونه دمجاً إدارياً، ومن الظلم أنَّ نظنَّ بأنَّهم بهذا المستوى من النظر، ولا سيما أنَّ كثيراً ممن نعرف حالهم من أولئك ليسوا أهل طيش، ولا دعاة خروج على أولي الأمر ولله الحمد. بل أجزم أنَّ من أعرفه منهم لا ينفك في الأمور العامة عن رأي العلماء الكبار... ثم إنَّ من أعضاء هيئة كبار العلماء من أفصح عن تخوفه من قرار الدَّمج، وعلَّل ذلك بعدد من الأسباب والظروف المحيطة، والزخم الإعلامي المريب الذي سبق الحدث وصاحبه، وما تضمنه من مطالبات تغريبية تزيد الموضوع توتراً، وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على من عاش الحدث وتابعه.
فالموقف المعروف حينها يمكن إيجازه في التخوف من الحال التي يخشى النَّاسُ أن يؤول إليها الأمر، من مثل الاختلاط في المدارس بين البنين والبنات، والمعلمين والمعلمات، ولو تدرجا بالبدء من دمج الجنسين في الصفوف الدنيا.
وقد كان هذا التخوف ظاهراً وجلياً، وواضحاً لدى ولاة الأمر، فبادر ولي العهد حينها بالتعهد للأمة أنّ ما يخشونه من قرار الدمج لن يقع بإذن الله؛ وعبّر عن ذلك بتعبيرات أوجدت ارتياحا عاما لدى النَّاس، وهذا ما آل إليه الأمر بحمد الله - تعالى - وظهر جلياً في المدّة الأخيرة بعد أن اتخذت القرارات الضابطة لذلك، نسأل الله - عز وجل - أن يديم علينا نعمته، ويوفق ولاة الأمر لما فيه خير العباد والبلاد.
ج) وأمَّا ما يقال حول الفتوى بمشروعية فتح البنوك الإسلامية، فيقال: يجب أن يُعلم أنَّ العلماء لم يُحرِّموا التعامل مع بعض البنوك لكونها بنوكاً، وإنَّما لقيامها في الجملة على النسق الغربي الربوي، فلمَّا وُجِد البديل الإسلامي، وأمكن فتح بنوك ومصارف وبيوت تمويل تتحرّى التعامل الشرعي، كان الدعم لها من أهل العلم ولاسيما ممن بذلوا جهداً عظيماً وسنين عديدة في إيجاد البديل الإسلامي، حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه من تقدّم في المصارف والبنوك ذات المعاملات الإسلامية، وهي بحاجة إلى مزيد من الفطنة والورع ومراقبة تنفيذ قرارات اللجان الشرعية كما هي.
د) وهكذا الشأن في منع أطباق البث الفضائي، فلم يمنعها من منعها من العلماء لمجرد كونها أطباقاً توضع على أسطح المنازل أو يُستجلب بها المفيد! وإنَّما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه، لانحصار استعمالها في الشرّ في وقتٍ، وغلبته فيما بعد؛ ثم لمَّا ظهرت القنوات النافعة، لم نجد الفتوى التي تأذن فحسب، بل وجدنا الفتوى التي تحض على الاشتراك في القنوات الصادرة عن لجان شرعية، كقناة المجد مثلاً، التي يكرر شكرها والحثّ على مشاهداتها قمة الهرم الشرعي الرسمي سماحة المفتي العام - حفظه الله -، وهذا كلّه من حرص أهل العلم على فتح الذرائع المشروعة، وتشجيع البَدَل المشروع، ونشر الخير نشراً آمناً من الخلط والمزج بالشرّ ما أمكن ذلك.
هـ) ومن الفتاوى التي فهمت في غير إطارها فتوى شيخنا العلامة / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في الصلح مع اليهود، فقد نال منه بها قومٌ، ظنّاً منهم أنَّ الشيخ قد أخطأ، مع أنَّ فتواه - رحمه الله - جاءت على الأصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى (الهدنة)؛ وشغّب بها آخرون بإيعاز صهيوني ليسوِّغوا مالم يقصده الشيخ - رحمه الله - فأوهموا بعض النّاس أنَّ الشيخ يرى مشروعية وجود الكيان الصهيوني والاستسلام لشروطه، وهو مالم يَدر بخلد الشيخ - رحمه الله -، بل إنَّ فتاواه الصريحة بعكس ذلك في غاية القوّة والوضوح.
والشيخ - رحمه الله - قد بيّن حرمة الصلح الدائم مع اليهود، وأكَّده في الفتوى ذاتها، وفي بيانه لمراده - رحمه الله- في فتاوى لاحقة، ولعلّ من أسباب سوء فهم بعض طلبة العلم، عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في الشريعة الإسلامية، وفي القانون الدولي، وبيانه:
أنَّ المراد بـ (الصلح) بالمعنى القانوني الدولي، هو: عقد اتفاق دائم بين الأطراف المتصالحة. بخلاف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي الإسلامي وفي القانون الدولي. وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان الصهيوني نشر في موقع المسلم في العام الماضي.
وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسة، ولذلك نجد اللجان الشرعية في حركة حماس الإسلامية، تبني موقفها الحالي من الامتناع عن الصلح على موقف الكيان الصهيوني من عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة المسلمة، وهو ما يفسِّر عدم جنوح قيادات الكيان الصهيوني للسلم؛ بينما لو فعل ذلك، فلن تجد حركة حماس ما يمنعها شرعا من الصلح (الهدنة) مع هذا الكيان.
و) ويمكن تقريب مسألة تغيّر الفتوى لمن قد لا يستوعبها جيداً، بالمثال السادس في مسألة فقهية لا ترتبط بالولاية، ولكن يكثر الحديث عنها، و يتردّد فيها ذات السؤال، فتجد من يقول:
لماذا منع الشيخ فلان الاستكتاب في الشركة الفلانية، ثم أباحه بعد ذلك؟
فتجيبه: فلان منعها من أجل الربا، فلما تخلصت من الربا - في نظره - أجازها. فمدار الحكم على وجود الربا، من عدمه، ففتواه لم تتغير، بل تغير وضع الشركة! ولذلك لو عادت الشركة إلى ما كانت عليه لعاد لما أفتى به فيها من قبل.. وهكذا.. وليس عسيرا على الباحث عن الحق بسؤال صاحب الفتوى: لم منعت الاستكتاب في الشركة ثم أجزته؟ ليجد الجواب المنضبط في الحالين كما أسلفت.
وإنَّك لتعجب ممن ينتسب للثقافة! ثم يسود صفحته وصحيفته بالنيل من أهل العلم دون أن يكلف نفسه عناء الأمانة التي تحمّلها ليسأل صاحب الفتوى: لم أفتيت بالمنع ثم بالجواز أو العكس؟ ويُلحظ في هذه الصور وأمثالها أنَّ العالِم لم يتغير في منهجه أو يتراجع عن فتواه؛ وغاية ما في الأمر أنَّ مناط الحكم قد تغيّر لتغيّر الحال، فوجدت حال جديدة لها حكم مختلف، وإن كانت الصورة مشابهة في الظاهر، لكن الفتوى لا زالت ثابتة في الحال الممنوعة؛ وهنا ظنّ من لا علم عنده بفنّ الفتوى وأصول الاستدلال: أنَّ الحكم تغيّر، ومن ثمّ تساءل - لجهله أو تجاهله -: كيف يحرم العلماء كذا وكذا، ثم يحللونه بعد ذلك مع مرور الزمن؟!
والخلاصة: أنَّ العلماء هم الذين ردَّ الله المسلم إليهم عند عدم العلم، فهم ضمان الشرعية في الطرح والنصح والتعامل، فعلى المسلم الصالح، أن يرتبط بأهل العلم والديانة، وعلى رأسهم في بلادنا أعضاء هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وغيرهم ممن عرفتهم الأمة وشهدت لهم بالعلم والفضل والتوسط، من العلماء الناصحين والدعاة المخلصين في جميع البلاد.
ولو رجعنا إلى أهل العلم وكانت صلتنا بهم صلة قوية، لدفعنا الكثير من الخلط الذي قد يفتن بعض النّاس عن الحق، ويزهدهم في العلماء الربانيين، ولما احتجنا في معرفة الحقيقة إلى التاريخ، ليثبت لنا صحة نهج من أحالنا الله إليهم، فكم ضاعت من أوقات، ونيل من شخصيات، في غير حقٍّ، وربما تبيّن زلل طالب العلم في نقده لفتاوى الأكابر، ولكن بعد عسر الرفع، مهما حاول تداركه.
ومن هنا أجد أنَّ من النصح لنفسي، ولشبابنا الكرام، ولزملائنا الأفاضل من طلبة العلم بخاصة، ولغيرهم من أهل الكتابة عامّة: التمهلَ في تقييم فتاوى العلماء المصلحين، وعدم الاعتراض المتعجِّل على جهود الناصحين، دون دراسة جادة متعمِّقة ندرك بها الدوافع، ونعرف تفاصيل بنائها في أرض الواقع، مع الحرص على التقاء من يُستَغرب قوله من أهل العلم والديانة أو الاتصال به، ومناقشة صاحب الرأي على سنن أهل الأناة والحكمة، حتى لا ننال من مجتهد قد بذل وسعه فنال - برحمة الله - أجراً إن أخطأ وأجرين إن أصاب، أو نؤذي مؤمناً حكم الله على من آذاه بأنَّه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبينا، في قوله - سبحانه -: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً.
هذا ما جال في الخاطر حول هذا المعنى في ظلّ نقدٍ عاطفي يصل إلى درجة التسفيه الممقوت، ورأيت في تدوينه ونشره خيراً لمن أراد لنفسه النجاة، وحفظها من شرِّ حظوظها، والله - تعالى -أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله "