جهاد وتضحيات على طريق الدعوة
مجلة التوحيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الدعوة إلى الله هي مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن الأنبياء والمرسلين بعثوا من أجل الدعوة إلى الله - عز وجل -، الدعوة إلى الله بتقواه، الدعوة إلى الله بتوحيده، الدعوة إلى الله باتباع رسوله، الدعوة إلى الله بأن تطلب مرضاة الله، وأن تبتعد عن مساخطه، ولهذا حرص الأنبياء والمرسلون جميعًا من لدن آدم وهو أول الأنبياء ونوح وهو أول الرسل، إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله، - عليه الصلاة والسلام -، على البذل والتضحية في سبيل هذه الدعوة؛ امتثالاً وحضًا على نشر ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال التي هي سبيل الدعوة، ولهذا قال - تعالى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت].
قال الحسن البصري - رحمه الله - في هذه الآية لما تلاها هذا حبيب الله، هذا ولي الله أجاب الله في دعوته ودعى الناس إلى ما أجاب الله إليه من دعوته، هذا ولي الله، هذا صفي الله..
وقال الإمام أحمد: «وددت أن الخلق أطاعوا الله وأن جسمي قرض بالمقاريض».
هذا يبين لك عظمة فقه أئمة الدين بالقرآن وسنة النبي الأمين وحرصهم الشديد على نشر الدعوة والبذل في سبيلها وأن يطيع الخلق ربهم - جل وعلا -، فالدعوة إلى الله - عز وجل - مقام عظيم وشرف كبير ومنزلة رفيعة اختص الله بها الأنبياء والمرسلين ومن سار على نهجهم في هذا السبيل، ولهذا قص الله - تعالى - علينا في القرآن الكريم سيرهم، منبهًا على أنهم كانوا دعاة إلى الله - عز وجل -.
الأنبياء في موكب الدعوة
هذا نوح - عليه الصلاة والسلام - أول الرسل لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله - عز وجل -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا)[نوح]،، فدعاهم ولم ييأس، ولم يتواكل، بل كان مقبلاً على هذا السبيل ليلاً ونهارًا، وكانت النتيجة: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا)، وكان الملأ يسخرون منه ويستهزئون به وبدعوته، قال - تعالى -: (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ)[هود]، ولكن نوحًا - عليه السلام - كان على ثقة من نصر الله وتأييده إياه، فقال لقومه الذين سخروا منه: (إِنْ تـَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[هود]،، فقالوا له متحدين: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وقالوا مهددين له: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) أي من المقتولين رجمًا بالحجارة، فما ترك دعوته وما زال يدعو إلى الله - عز وجل -، وما زاده ذلك إلا ثباتًا على الطريق حتى فتح الله بينه وبين قومه، قال - تعالى -: (فَأَنْجَيْنَاه وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ).
وهذا إبراهيم - عليه السلام - دعا قومه إلى الله - عز وجل -، فناظرهم كما قال الله - تعالى - في سورة الأنعام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً)[الأنعام]، حيث قال فيها مناظرًا لقومه: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام]، قال أهل العلم كان إبراهيم - عليه السلام - مناظرًا للمشركين بما ذكر لا ناظرًا في الملكوت أو في الدلائل، لهذا قال أهل العلم إن إبراهيم كان في هذه الآيات وما قاله داعيًا إلى الله - عز وجل - بالمناظرة والمحاجة، لهذا قال في آخرها: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)[الأنعام].
فإبراهيم - عليه السلام - دعا إلى الله - عز وجل - بالمناظرة والمجادلة، وبذل في سبيل ذلك ما بذل، فدعا أباه وقومه، فآمن به من آمن، وكان من أعظم من آمن لوط، - عليه السلام -: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ)[العنكبوت].
فماذا صنع قوم إبراهيم وهو يأمرهم وينهاهم ويدعوهم إلى الله - عز وجل -، قال - تعالى -: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ)، فمضى في سبيل دعوته لم يثنه ذلك عن عزمه، بل أزال منكرهم بيده، فغدا إلى أصنامهم فكسرها: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا)، فلما رجعوا إلى أصنامهم ورأوا ما حدث لها، طلبوا أن يُؤتى بإبراهيم على أعين الناس، وجاء إبراهيم - عليه السلام -، وقال لهم موبخًا: (أَفَتَعْبُدُون مِنْ دُونِ اللَّـهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ)[الأنبياء].
فعزموا على تنفيذ ما هددوه به: (قَالُوا حَرِّقُوهُ)، فأضرموا نارًا عظيمة، وألقوه فيها، ولكن الله - عز وجل - خالقها والذي بيده ملكوت كل شيء قال لها: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، فكانت بردًا لا حر فيها، وسلامًا لا أذى فيها، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا من نبي الله شيئًا.
وموسى - عليه السلام - دعا فرعون المتكبر الجبار إلى الله - عز وجل -، فقال له: (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فقال فرعون ساخرًا منه ومن دعوته: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال لملئه: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)، ثم توعد موسى قائلاً: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ )، فهل خاف موسى من ذلك، وهل وهنت عزيمته عن دعوته إلى الله - عز وجل -؟ كلا، بل مضى يبين لفرعون من الآيات ما يهتدي به أُولو الألباب، ومع ذلك استمر فرعون في غيه واستكباره، وقال مهددًا موسى بالقتل متحديًا له: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)، وقال لوزيره «هامان» ساخرًا بالله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا)[غافر]،، ولكن موسى - عليه الصلاة والسلام - صبر على كل ما لاقاه من فرعون وقومه، فكانت النتيجة أن أغرق الله - عز وجل - فرعون وقومه، قال - تعالى -: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان].
وهذا عيسى - عليه السلام - أوذي من جانب اليهود فكذبوه، ورموا أمه بالبغاء أي الزنا، فقالوا عن مريم وحاشاها مما قالوا زانية، وعزموا على قتل عيسى - عليه الصلاة والسلام -، واجتمعوا عليه، فألقى الله شبهه على رجل، فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّـهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).
وكذلك نبي الله يوسف - عليه السلام - في جميع أحواله التي تقلب فيها منذ أن كان في بيت العزيز وما حصل له فيه، إلى أن مكنه الله - عز وجل - وقدم عليه أبوه وأمه وإخوانه، كان في كل هذه المقامات جميعًا داعيًا إلى الله - عز وجل -، ولهذا تستطيع أن تسمى سورة يوسف - عليه السلام - سورة الدعوة، أو تقول موضوعها الدعوة إلى الله - جل وعلا -، فهذا يوسف - عليه السلام - في السجن كان داعيًا إلى الله جلا وعلا: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[يوسف]، ولما وصل إلى الملك وقربه كان داعيًا إلى الله - جل وعلا -، ولما أتاه إخوته كان كذلك، حتى صارت هذه السورة فيها كل ما يتعلق بالدعوة والداعية؛ ففيها خلق الداعية وما يكابده من القيل والقال والكيد، وفيها أيضًا صبر الداعية وتحمله وما يأتيه من البلاء في ذلك، فهي محل للاعتبار والتدبر.
لهذا جاء آخرها يؤكد موضوع السورة، يقول الحق جلا وعلا: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[يوسف]، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي)، هذه الإشارة إلى ما ذكر في السورة، (هَذِهِ سَبِيلِي)، يعني ما قص في السورة من أحكام ومن سيرة ليوسف - عليه السلام - من الدعوة إلى التوحيد والصبر على الأذى وبذل النفع والندى والعفو عمن ظلمك، والتعاون مع الناس على البر والتقوى، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ) وحده، لا إلى النفس، ولا إلى طريقة، ولا إلى حزب، ولا إلى جماعة، وإنما الدعوة إلى الله وحدة خالصة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) يعني على علم وبينة وبرهان وحجة، (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، فكل من أتبع محمدًا هو على هذا السبيل؛ إنه دعا إلى الله - جل وعلا -.
النبي -صلى الله عليه وسلم- يصدع بالدعوة وحملات الإيذاء تتصاعد
وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم، أعظم الخلق جاهًا عند الله، هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ لا، بل ناله في سبيل ذلك من الأذى القولي والفعلي ما لا يصبر عليه إلا من كان مثله ولم يثنه ذلك عن دعوته إلى الله - عز وجل -، دعاهم النبي إلى عبادة الإله الواحد، فـ (قَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)[ص].
ولما نزل قول الله - عز وجل -: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء]، خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا فهتف «يا صباحاه»، فاجتمعت إليه قريش، فقال «يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ » قالوا ما جربنا عليك كذبًا، قال «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فقال أبو لهب تبًا لك، أما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام، فنزلت هذه السورة: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المسد [سنن أبي داود].
وصدع الرسول –صلى الله عليه وسلم- بالدعوة، وسفَّه أحلام المشركين، وعاب آلهتهم، فثارت عليه قريش ثورة رجل واحد، ولقي وأصحابه من الأذى صنوفًا وألوانًا..
وعندما رأت قريش أن عدد المسلمين يتزايد، وجدت في ذلك خطرًا على كيانها، فصعَّدت من عمليات الإيذاء؛ فقد روي من طريق ابن مسعود - رضي الله عنه - أن أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله، وأبو بكر، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس [الحاكم في المستدرك، وابن سعد في الطبقات].
ولقد عانى الصحابة -رضوان الله عليهم- أشد المعاناة، وما تعذيب بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك، بل إن الأذى ليصل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- نفسه وإلى أشراف القوم من أمثال الصديق -رضي الله عنه-.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: لقد ضربوا رسول الله حتى غشي عليه، فقام أبو بكر -رضي الله عنه- فجعل ينادي، ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ فقالوا من هذا؟ فقالوا أبو بكر المجنون، فتركوه وأقبلوا على أبي بكر [مجمع الزوائد].
وسأل عروة بن الزبير عبد الله بن عمرو بن العاص: "أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: بينا رسول الله بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله، وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟"[أخرجه البخاري].
ولم يقتصر الأذى على التعذيب البدني، بل جاوز غصب أموال المضطهدين والاستهزاء بهم؛ فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه– قال: "كان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال فقلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث، قال وإني لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، قال وكيع كذا قال الأعمش قال فنزلت: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا)[مريم [رواه مسلم].
صور من الأذى المادي والمعنوي
وقد اتخذ الأذى الذي لحق بالنبي صورًا شتى؛ حيث كانت السخرية والاستهزاء أحد الأسباب التي اتبعها المشركون لصرف الناس عن دعوته؛ فمن حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابه له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، قال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم سُمِّي عقبة بن أبي معيط فأخذه، فلما سجد النبي وضعه على كتفيه، قال فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله، والنبي ساجد، ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت تلعنهم، فلما قضى النبي صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وإذا سأل الله، سأل ثلاثًا، ثم قال «اللهم عليك بقريش»، ثلاث مرات [أخرجه البخاري].
ومن صور استهزاء المشركين بالنبي ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: إن العاص بن وائل أخذ عظمًا من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله: أَيُحيي الله هذا بعد ما أرم؟ فقال رسول الله: ((نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم))، قال: ونزلت الآيات من سورة يس [الحاكم في المستدرك].
واتخذ الأذى أشكالاً أخرى المراء الباطل، حيث سلكوا مع النبي طريق الجدال لرد الحق، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمشركين: ((يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير))، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا من عباد الله صالحًا، فلئن كنت صادقًا فإن آلهتهم لكما تقولون، فأنزل الله جل ذكره: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)[الزخرف][أحمد في المسند].
وكذلك سلك المشركون أساليب ملتوية لتشكيك المسلمين في دينهم، من ذلك ما حكاه الله عنهم: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[آل عمران]، فمن مكرهم وكيدهم للإسلام وأهله أنهم يظهرون أن الرسول حق وما جاء به صدق أول النهار ثم يرجعون آخر النهار قائلين نظرنا في كتبنا فوجدناه باطلاً ونحن أهل إنصاف، ومن الدليل على إنصافنا كوننا قبلناه أول النهار ولكن بتحرينا وتتبعنا وجدناه باطلاً، فيشككون الناس بذلك فيه، وقال آخرون منهم بل نجعل الدين ألعوبة نؤمن ثم نكفر فيتبعنا الناس على ذلك.
كما ذكر القرآن الكريم افتراءهم الكذب عليه، ونبزه بألقاب الزور، واتهامهم إياه بأوصاف هو بريء منها، كقولهم «ساحرٌ»، أو «شاعرٌ» أو «مجنون»، أو يتلقى الوحي عن بعض الأعجمين، أو اكتتبه من أساطير الأولين، وهو بلا شك أشد وقعًا على النفوس البريئة من ضرب السيوف
ولهذا طمأنه ربه وسلاه: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ)[فصلت].
وبعدُ فهذا موكب النور، وهؤلاء هم كوكبة مباركة من الأنبياء والمرسلين كانوا أكثر الخلق بذلاً وتضحية وجهادًا في سبيل هذه الدعوة العظيمة التي كلفهم الله - عز وجل - وشرفهم بها الجميع مأمورون بتبليغ رسالات الله وإرشاد الخلق إلى دين الله، وهذا هو سبيل الأنبياء وهديهم الواجب الذي أوجبه الله - عز وجل - عليهم، فهم القدوة والأسوة في الدعوة إلى الله - عز وجل - ونحن مأمورون أن نقتدي بهم، قال - تعالى - في حقهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)[الأنعام].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين