الأشاعرة
ناصر بن محمد الأحمد
إن الحمد لله
مقدمة:
الأشاعرة: هم أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.
وأبي الحسن الأشعري هو: العلامة أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أمير البصرة، بلال بن أبي برده بن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي موسى الأشعري.
ولد سنه 260هـ وكان عجباً في الذكاء وقوة الفهم.
كان في أول أمره معتزلياً ومنهجه هو منهج المعتزلة، وهو تقديم العقل على النقل ثم بعد ذلك أخذ يعيد النظر في معتقدات المعتزلة ويخطط لنفسه منهجاً مستقلاً جديداً يلجأ فيه إلى تأويل النصوص، ومنهجه الفكري كان قريباً من منهج أهل السنة لكن يعيبه أنه يفضل التأويل في أغلب آرائه، وبعدما ترك الاعتزال أخذ يرد عليهم ويهتك عوارهم.
قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: " كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم".
وفي أواخر حياته تبين له - رحمه الله - خطأ ما كان عليه فرجع إلى مذهب السلف المتمثل في منهج الإمام أحمد - رحمه الله - وهو تقديم النقل على العقل فكتب كتاب "الإبانة" وصرح فيه بإتباعه لمذهب السلف حيث قال بعد أن أكد تمسكه بالكتاب والسنة وبما روي عن الصحابة والتابعين قال: " ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول أبو عبد الله - يقصد الإمام أحمد - قائلون ولمن خالف قوله مخالفون...".
وبهذا يتبين أن الأشعري كان في أول أمره معتزلياً ثم تحول من الاعتزال إلى المذهب الجديد الذي خطه لنفسه والذي عرف فيما بعد بمذهب الأشاعرة، ثم انتهى في آخر حياته واستقر على مذهب أهل السنة والجماعة، وقد بقى في الاعتزال أربعين سنة مما جعله وبعد رجوعه إلى مذهب السلف لا يسلم من الوقوع في بعض الأخطاء مثل قوله: بالكسب والتكليف بما لا يطاق كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وتوفي - رحمه الله - سنة 324هـ في بغداد.
وقد تابع الأشعري - رحمه الله - وقال بقوله قبل رجوعه إلى عقيدة السلف أئمة أفذاذ، كان لهم الأثر الكبير في تقعيد هذا المذهب وتأصيله ووضع مناهجه بل وفي انتشاره كالباقلاني، والبغدادي، والجويني، والغزالي، والشهرستاني، والرازي، والإيجي ولم ينتشر مذهب الأشاعرة إلا في القرن الخامس إثر انتشار كتب الباقلاني.
وأيضا لا بد أن يعلم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقعّد أصوله هو الفخر الرازي، ثم خلفه الآمدي، والآرموي فنشرا فكره في الشام ومصر، وجاء بعدهم الإيجي صاحب كتاب (المواقف) الذي هو تقنين وتنظيم لفكر الرازي ومدرسته، وهذا الكتاب هو عمدة المذهب الأشعري قديماً وحديثاً، وقد كان الإيجي معاصراً لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فأصبح بعد ذلك للأشاعرة مدرسة مستقلة لها، مناهجها وأصولها مخالفة تماماً لمذهب أهل السنة والجماعة كما سيأتي تفصيله بعد قليل - إن شاء الله - وسيتضح خطأ من قال بأن الأشاعرة من أهل السنة، فهم كما سيأتي ليسوا من أهل السنة، أمّا ماذا يكونون؟ فسيتضح جوابه في آخر الدرس.
كان الأشاعره في بداية منشأهم أقرب الناس إلى أهل السنة والجماعة، ولم يخالفوهم إلا في مسائل يسيره أغلبها في الاعتقاد وبخاصة فيما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، لكن بعد مرور الزمن تطور المذهب وتعّقد وتأثر بآراء كثيرة من اعتقادات الفرق الأخرى وأصبح المذهب الأشعري خليطاً من المذاهب قال شيخ الإسلام: " والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام، جبرية في باب القدر، وأما في الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم ". (6/55).
ومن حسنات الأشاعرة أنهم بينوا عوار المعتزلة وتناقضاتهم؛ وذلك لبقاء الأشعري في المعتزلة 40 سنة، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " فإن الأشعري كان من المعتزلة وبقي على مذهبهم أربعين سنة يقرأ على أبي علي الجبائي، فلما انتقل عن مذهبهم كان خبيراً بأصولهم وبالرد عليهم وبيان تناقضهم وأما ما يقي عليه من السنة فليس هو من خصائص المعتزلة، بل هو من القدر المشترك بينهم وبين الجهمية، وأما خصائص المعتزلة فلم يوالهم الأشعري في شيء منها، بل ناقضهم في جميع أصولهم، ومال في مسائل العدل والأسماء والأحكام إلى مذهب جهم ونحوه". (13/99).
1- مصدر التلقي:
مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل، وقد صرح أئمة المذهب بذلك كالجويني، والرازي، والبغدادي، والغزالي، والآمدي، والسنوسي، يقول السنوسي: " وأما من زعم أن الطريق بدأ إلى معرفة الحق الكتاب والسنة، ويحرم ما سواهما فالرد عليه أن حجيتهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضا فقد وقعت فيهما ظواهر - يقصد أي: في ظاهر الكتاب والسنة - من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع"، ويقول أيضا: " أصول الكفر ستة... قال في خامسها: " التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية".
أما السنة خاصة عند الأشاعرة فلا تثبت بها عقيدة، المتواتر يجب أن يأوّل، والآحاد لا يجب الاشتغال به، حتى على سبيل التأويل، حتى إن إمامهم الرازي قطع بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة، بالنسبة لعدالتهم وحفظهم سواء، وقال بأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة.
ثم إنك تقرأ في كتب العقائد من كتب الأشاعرة المائة صفحة بل وأكثر لا تجد فيها آية ولا حديث، لكنك تجد في كل فقرة "قال الحكماء"، أو "قالت الفلاسفة"، مثل كتاب الإرشاد للجويني، هذا إذا كان الأشعري لم تخالطه لوثة التصوف فإن كان فيه صوفية كالغزالي، فإن مصدر التلقي يكون تقديم الكشف والذوق على النص، وتأويل النص ليوافق الذوق، وقد يصححون بعض الأحاديث ويضعونها حسب هذا الذوق. وقد أطال النفس شيخ الإسلام في الرد على مصدرهم العقلي في كتابه الفذ - درء تعارض العقل والنقل - فهو كله تقريبا رد عليهم.
2- إثبات وجود الله:
وجود الله - تعالى - أمر فطري معلوم بالضرورة، لا داعي للتكلف في إثبات وجوده - عز وجل - والأدلة عليه من الكون والنفس والوعي والآثار والآفاق أجل من الحصر.
أما الأشاعرة فطريقتهم غريبة في إثبات وجود الله والذي يسمونه دليل " الحدوث والقدم".
يقولون: بأن الكون حادث وكل حادث فلا بد له من محدث قديم، وأخص صفات هذا القديم مخالفته للحوادث، ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً، ولا في جهةً ولا مكان... إلى آخر ما أطالوا في تقرير هذه القضايا، والذي قد ترتب على أصولهم الفاسدة إنكار كثير من صفاته - عز وجل - كالرضا والغضب، والاستواء بشبهة نفي حلول الحوادث في القديم ولو أنهم اختصروا هذا الدليل الطويل العريض، وقالوا الكون مخلوق وكل مخلوق لا بد له من خالق لكان أيسر وأخصر وأقرب للصواب، لكنه إعطاء العقل أحياناً أكبر من حجمه الطبيعي يورد هذه الموارد.
3- التوحيد:
التوحيد عند أهل السنة معروف بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والتوحيد عند أهل السنة هو أول واجب على المكلف.
أما الأشاعرة فالتوحيد عندهم هو: نفي التثنية أو التعدد، ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة، وحسب تعبيرهم نفي الكمية المتصلة والكمية المنفصلة، ومن هذا المعنى فسروا الإله بأنه الخالق أو القادر على الاختراع، أما التوحيد الحقيقي وما يقابله من الشرك والتحذير منه فلا ذكر له في كتبهم إطلاقاً.
وأول واجب على المكلف عند الأشاعرة ليس التوحيد بل النظر، فإذا بلغ الإنسان سن التكليف وجب عليه النظر ثم الإيمان.
وينكر الأشاعرة المعرفة الفطرية ويقولون أن من آمن بالله بغير طريق النظر فإنما هو مقلد، ورجح بعض الأشاعرة كفره، يقول الجويني في الإرشاد ص25: " أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم والنظر في اصطلاح الموحدين هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو غلبة ظن"
4- الإيمان:
الأشاعرة في باب الإيمان مرجئة جهمية، يقولون بأن الإيمان هو التصديق القلبي وهذا بإجماع الأشاعرة، واختلفوا في النطق بالشهادتين أيكفي عند تصديق القلب أم لا بد من النطق بهما، وقد ذهب بعضهم إلى أن المصدق بقلبه ناج عند الله وإن لم ينطق بهما -، قال بهذا من المعاصرين حسن أيوب والبوطي - فعلى كلامهم لا داعي لحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول عمه أبو طالب لا إله إلا الله، وبناء على كلامهم الفاسد هذا أولوا كل نص ورد في زيادة الإيمان.
5- الصفات:
متقدمي الأشاعرة كالأشعري والباقلاني على مذهب أهل السنة في إثبات الصفات، أما متأخريهم كالرازي والغزالي ومن بعدهم فقد اقتصروا على إثبات سبع صفات وأولوا الباقي وسموها صفات الذات وهي: "العلم، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، والحياة"، وأما الصفات الأخرى كالاستواء، والعلو، والنـزول وغيرها، فكلها أولوها ووافقوا المعتزلة فيها.
بل حتى هذه الصفات السبع التي أثبتوها لم يثبتوها على طريقة السلف من خلال نصوص الكتاب والسنة، ولكن أثبتوها عن طريق العقل:
فقالوا: وجدنا أن الأحداث التي تحدث من وقت لآخر، أفعال حديثة تتجدد، وهذا يدل على القدرة فبذلك أثبتوا صفة القدرة، فقالوا: نثبت صفة القدرة بالأفعال التي تتجدد من إحياء وإماتة ورفع وخفض وغير ذلك؛ لأن من يفعل مثل هذه الأفعال لا بد أن يكون قديراً، فأثبتوا صفة القدرة، قالوا ثم التخصيص: بمعنى جعل هذا عالماً وذاك جاهلاً وهذا غنياً وذاك فقيراً، هذه التخصيصات تدل على الإرادة؛ لأنه لا يخصص هذا التخصيص إلا من له إرادة، فأثبتوا صفة الإرادة، ثم الإتقان والإحكام: فهذا الإحكام البديع وهذا الإتقان في المخلوقات يدل على العلم، فأثبتوا صفة العلم، ثم قالوا: الذي يتصف بالقدرة والإرادة والعلم لا بد أن يكون حياً، فأثبتوا صفة الحياة، ثم قالوا: الحي لا بد أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً فأثبتوا صفة السمع والبصر والكلام، فأثبتوا هذه الصفات السبع عن طريق العقل.
وقد أطال النفس العلامة ابن القيم في الصواعق المرسلة، في الرد عليهم في إثبات بعض الصفات ونفي البعض الآخر في مناقشة علمية هادئة فيقول - رحمه الله -: " فما الذي سوغ تأويل بعضها دون بعض؟ وما الفرق بين ما أثبتها وما أولتها من جهة السمع أو العقل؟ ودلالة النصوص على أنه له سمعاً وبصراً وعلماً وقدرةً وإرادةً وحياةً وكلاماً، كدلالتها على أن له محبةً ورحمةً ووجهاً ويدين، فدلالة النصوص على ذلك سواء فإن قلت:
إن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيهاً وتجسيماً، وإثبات حقائق ما أولته يستلزم التشبيه والتجسيم، فإن الرحمة رقة في القلب تعتري طبيعة الحيوان، قيل لك: وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها، ومثلها جميع ما أثبتته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟، فإن قلت: أنا أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشبهها، قيل لك: فهلاّ أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين؟ فإن قلت: هذا لا يعقل، قيل لك: فكيف عقلت سمعاً وبصراً ليست من جنس صفات المخلوقين؟ فإن قلت: أنا أفرق بين ما يتأول وما لا يتأول بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة وما لا يدل عليه العقل يجب أو يسوغ تأويله كاليد والوجه فإن الفعل المحكم دل على قدرة الفاعل قيل لك:
أولاً: العقل قد دل على ما أولته كدلالته على ما أثبته فمثلا: الإنعام والإحسان، وكشف الضر، وتفريج الكربات، دليل على الرحمة ومثلها بقية الصفات التي أولتها.
ثانياً: هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها فإنه لا ينفيها والسمع دليل مستقل بنفسه بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل فما الذي سوغ لك نفي مدلوله.
ثالثاً: يقال له إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيهاً وتجسيماً فهو يقتضيه في الجميع فأول الجميع وإن كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه.... "، إلى آخر رده الرصين - رحمه الله -.
6- القرآن:
مذهب أهل السنة والجماعة في القرآن واضح وهو أنه كلام الله غير مخلوق، وأنه - تعالى - يتكلم بكلام مسموع، تسمعه الملائكة وسمعه جبريل وسمعه موسى - عليه السلام - ويسمعه الخلائق يوم القيامة.
ومذهب المعتزلة أيضاً واضح: أنه مخلوق، فجاء الأشاعرة وأرادوا التوفيق بين القولين، فجاء توفيقهم تلفيقاً، فهم أولاً فرقوا بين المعنى واللفظ، فالكلام الذي يثبتونه لله - تعالى - هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس، ليس بحرف ولا صوت، ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء، واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالقرآن عند الأشاعرة: عبارة عن كلام الله النفسي والكلام النفسي -على حد زعمهم- شيء واحد في ذاته لكن إذا جاء التعبير عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن جاء التعبير عنه بالسريانية فهو إنجيل وإن جاء بالعربية فهو قرآن فهذه الكتب عندهم كلها مخلوقة، ووصفها بأنها كلام الله مجازاً؛ لأنها تعبير عنه.
ثم اختلف الأشاعرة فيما بينهم فقال بعضهم: إن الله خلق القرآن أولاً في اللوح المحفوظ، ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق ويبلغه لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقال آخرون: إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي، وأفهمه جبريل لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فالنـزول نزول إعلام وإفهام، لا نزول حركة وانتقال؛ لأن الأشاعرة ينكرون علو الله وهذا من طامّاتهم التي تدركها حتى البهائم، ثم اختلفوا في الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي، من هو؟ فقال بعض الأشاعرة: هو جبريل، وقال آخرون: بل هو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وعلى القول بأن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق سار الأشاعرة المعاصرون، وصرحوا بذلك، وهناك رسالة قيمة لشيخ الإسلام - رحمه الله - تسمى: "التسعينية" استغرق موضوع الرد عليهم في القرآن أكثر مباحثها.
7- نظرية الكسب:
وهذا في الحقيقة من عجائب الأشاعرة والتي لم يفهموها هم فكيف بغيرهم ولهذا قيل:
مما يقال ولا حقيقة تحته *** معقولة تدنو إلى الإفهام
الكسب عند الأشعري والحال *** عند البهشمي وطفرة النظام
وخلاصة هذه النظرية: أن أفعال العباد خلق لله، وكسب للعباد، بمعنى: أن العبد إذا توجهت إرادته نحو عمل ما، خلق الله قدرة العبد وخلق معها الفعل، فقدرة العبد مهمتها كسب الفعل، وقدرة الله مهمتها خلق الفعل، ومناط التكليف والثواب والعقاب على الكسب.
يقول الشهرستاني: "... الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمى هذا الفعل كسباً فيكون خلقاً من الله - تعالى - إبداعاً، وإحداثاً وكسباً من العبد حصولاً تحت قدرته".
وكما ترون كلام - كما قلت - لم يفهموه هم حتى أن الرازي نفسه عجز عن فهمه فقال: " إن الإنسان مجبور في صورة مختار"، فكيف يكون مجبوراً ويكون مختاراً؟
وقد أراد البغدادي أن يوضح هذه النظرية لأحد أصحابه فأتى بمثال لكي يشبه اقتران قدرة الله بقدرة العبد مع نسبة الكسب إلى العبد فقال: لو أن هناك حجز كبير، وقد عجز عن حمله رجل، وهناك رجل آخر يستطيع حمل الحجر لوحده، فإذا اجتمعا كليهما على حمل الحجر، كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملاً.
ولاشك في فساد هذا المثال لمن تأمله.
فالأشاعرة بهذه النظرية خرجوا عن المنقول والمعقول وقد رد عليهم العلامة ابن القيم - رحمه الله - في شفاء العليل فقال: " إذا كان الإنسان ليس بفاعل حقيقة، والفاعل هو الله - سبحانه وتعالى - وأفعال الإنسان قائمة لم تقم بالله فإذا لم يكن الإنسان فاعلها مع قيامها به فكيف يكون الله هو فاعلها؟ ولو كان الله فاعلها لعادت أحكامها إليه واشتقت له منها أسماء وذلك مستحيل إذ يتعالى - سبحانه وتعالى - عن ذلك فيلزم إذاً أن تكون أفعالاً لا فاعل لها، وهو باطل فما يؤدي إليه مثله.
خلاصة قول أهل السنة: أن العبد يفعل الفعل حقيقة، والله خالقه وخالق أفعاله.
ترتب على قول الأشاعرة بنظرية الكسب النقطة التي تليها:
8- التكليف بما لا يطاق:
تقول الأشاعرة بأنه يجوز أن الله يكلف عباده ما لا يطيقونه؛ لأن مشيئته مطلقة ولا يقبح منه شيء البتة.
يقول الشهرستاني في الملل والنحل وهو يحكي آراء الأشعري: " وتكليف ما لا يطاق جائز على مذهبه".
غير أن الأشاعرة يفرقون بين نوعين من التكليف:
الأول: ما يعجز عنه العبد لعدم القدرة عليه أصلاً كتكليف الأعمى أن يبصر، قالوا وهذا ما لا يكلف الله به.
الثاني: ما لا يستطيعه العبد لأنه صرف الجهد عنه وهذا جائز عندهم، واستدلوا على ذلك بقوله - تعالى -: (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [سورة البقرة:286]، قالوا: لو لم يكن التكليف بما لا يطاق جائزاً لما دعوا الله أن لا يحملهم إياه.
والرد عليهم: بأن أول الآية صريح في عدم التكليف بما لا يطاق قال الله - تعالى -: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [سورة البقرة:286]، وكلام الله يحمل على ظاهره ولا يخرج من العموم إلى الخصوص إلا بحجة ظاهرة، أما القصد من الدعاء في قوله: (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، فيحتمل أن يراد به لا تحملنا من العذاب العاجل والآجل ما لا طاقة لنا به أو لا تشدد علينا كما شددت على بني إسرائيل.
والعلامة ابن القيم في كتابة عدة الصابرين له رد نفيس على الأشاعرة في بدعتهم هذه فيقول - رحمه الله -: " وتأمل قوله - تعالى -: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [سورة النساء:147]، كيف تجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره - تعالى - يأبى تعذيب عباده بغير جرم كما يأبى إضاعة سعيهم... إلى أن قال: وفي هذا رد لقول من زعم أنه - سبحانه - يكلف ما لا يطيقه ثم يعذبه على ما لا يدخل تحت قدرته - تعالى - عند هذا الظن الكاذب والحسبان الباطل علوا كبيراً" [ص280].
9- الحسن والقبح:
مر معنا بأن الأشاعرة يغلبون جانب العقل في كثير من معتقداتهم ومن عجائبهم بل ومتناقضاتهم أنهم في مسألة التحسين والتقبيح ألغوا جانب العقل تماماً بل وحتى الفطرة، وقالوا بأن مرد الحسن والقبح هو الشرع وحده، وكأنهم بفعلهم وقولهم هذا رد فعل لقول المعتزلة الذين يقولون بأن الحسن والقبح يعرف بالعقل.
وترتب على أصلهم الفاسد هذا قولهم: بأن الشرع قد يأتي بما هو قبيح في العقل، فإلغاء دور العقل تماماً أسلم من نسبة القبح إلى الشرع، ومثلوا لذلك بذبح الحيوان، قالوا بأنه في ذبحه إيلام له بلا ذنب وهو قبيح في العقل ومع ذلك أباحه الشرع وهذا في الحقيقة هو قول البراهمة الذين يحرمون أكل الحيوان، ولابن القيم - رحمه الله - تعالى- رد على الأشاعرة في مسألة التحسين والتقبيح في كتابه مفتاح دار السعادة وقد وساق آيات كثيرة كلها تدل على إثبات الحسن والقبح عقلاً مثل قوله - تعالى -: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ) [سورة الأعراف:157]، فلو كان لا معنى للمعروف إلا ما أمر به ولا المنكر إلا ما نهى عنه كما تزعمه الأشاعرة لكان معنى الآية: يأمرهم بما يأمرهم به وينهاهم عما ينهاهم عنه، وهذا كلام ينـزه عنه آحاد العقلاء فضلاً عن كلام رب العالمين، وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنه الفطر ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول، وأيضاً قوله - تعالى -: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [سورة الأعراف:157]، فهذا صريح في أن الحلال كان طيباً قبل حله وأن الخبيث كان قبل تحريمه ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم إلى غير ذلك من الآيات.
وخلاصة رأي أهل السنة والجماعة في الحسن والقبح: أنه يثبت بالعقل ويمكن للعقل أن يدرك حسن وقبح الأشياء لكن لا يترتب على هذا الإدراك أو هذه المعرفة ثواب ولا عقاب إلا بالشرع.
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كلام ابن القيم في مفتاح دار السعادة فقد رد عليهم من 63 وجهاً. وأيضاً له كلام في شفاء العليل.
وكذلك رد عليهم في مدارج السالكين ج1 ص 230-236، ج3 ص 488-492
10- تأثير الأسباب في حصول المسببات:
الأشاعرة ينفون الاقتران الضروري بين الأسباب والمسببات ويقولون: بأن الأسباب لا تأثير لها في حصول المسببات وأن التلازم الظاهر بين الأسباب والمسببات إنما يرجع إلى جريان العادة بحصول المسبب عند وجود السبب، وإلا فالمسبب حاصل سواء وجد السبب أو لم يوجد ولو وجد فإنه لا تأثير له في حصول المسبب.
فمثلاً: النار عند الأشاعرة لا تحرق وأيضاً هي ليست سبباً في الإحراق، ولكن عند التقاء الخشب بالنار يخلق الله - تعالى – الاحتراق، فيقولون: بأن الخشب احترق عند النار لا بالنار، والرجل إذا كسر الزجاجة يقولون ما انكسرت بكسره وإنما انكسرت عند كسره، والإنسان إذا أكل حتى شبع، يقولون: ما شبع بالأكل، وإنما شبع عند الأكل.
ومن قال بأن النار تحرق بطبعها أو هي علة الاحتراق، فهو كافر مشرك عند الأشاعرة؛ لأنه لا فاعل عندهم إلا الله مطلقاً، فلا ارتباط عندهم بين سبب ومسبب أصلاً، وإنما المسألة عندهم اقتران كاقتران الزميلين من الأصدقاء في ذهابهما وإيابهما، ومن متونهم في العقيدة:
والفعل في التأثير ليس إلا *** للواحد القهار - جل وعلا -
ومن يقل بالطبع أو بالعلة *** فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعة *** فذاك بدعي فلا تلتفت
يقول الباقلاني: " ولو كانت هذه الطبائع موجبة لمسبباتها لكانت كلما تكررت وكثرت تكررت مسبباتها... إلى أن قال: ومن ثم فقد فسد أن تكون الطبائع موجبة لهذه الأمور وفقاً لمبدأ السببية".
ويقول الغزالي: "ا لاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وبين ما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا".
والصواب في المسألة: أن الله - جل وتعالى - ربط الأسباب بالمسببات، إذا عملت الأسباب وقعت المسببات، والأسباب من قدر الله - تعالى - إذا أتى بها العبد وقع المقدور، ومتى لم يأتي بها انتفى المقدور. فالله - جل وعز- قدر الشبع بالأكل وقدر الري بالشرب وقدر الولد بالنكاح والوطء فمن لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهذا لا ينافي قضاء الله وقدره.
11- الحكمة في أفعال الله:
أنكرت الأشاعرة أن يكون شيء من أفعال الله له حكمة تقتضي إيجاد الفعل أو عدمه، وهو تقريباً رد فعل لقول المعتزلة الذين يوجبون الفعل على الله، حتى أنكرت الأشاعرة كل لام للتعليل في القرآن.
وقالوا: إن كونه يفعل شيئاً لعلة ينافي كونه مختاراً مريداً وجعلوا أفعال الله كلها راجعة إلى محض المشيئة ولا تعليق لحكمه، ولهذا لم يثبت الأشاعرة صفة الحكمة لله، وبناء على أصلهم الفاسد هذا قالوا: بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه ويخلد في الجنة أفجر الكفار، وقالوا: بجواز تكليف ما لا يطاق ونحوها لأنه لا يستلزم حكمة لأفعاله.
تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
12- النبوات:
تقول الأشاعرة بأن إرسال الرسل راجع للمشيئة المحضة كما في الفقرة السابقة، ثم يقولون بأنه لا دليل على صدق النبي إلا بالمعجزة، ثم يقولون: بأن أفعال السحرة والكهان من جنس المعجزة لكنها لا تكون مقرونة بإدعاء النبوة والتحدي، ثم قالوا ولو ادعى الساحر أو الكاهن النبوة لسلبه الله معرفة السحر رأساً وإلا كان هذا إضلالاً من الله وهو يمتنع عليه الإضلال.
وهذا كما تلاحظون كلام غريب ومخالف تماماً لما عليه أهل السنة بل وفيه إضعاف القوة اعتقاد المسلم في الأنبياء والرسل.
وعندما نال أعداء الإسلام واستطالوا طعناً في الأنبياء، لم يتكلم الأشاعرة ويدافعوا وينافحوا عن معتقدهم، لأنها أصلا مهزوزة عندهم.
بل أن بعض الأشاعرة قال كلاماً خطيراً في هذا الباب لو أخذ فقط على ظاهره لصار حاله لا يحسد عليه.
يقول الغزالي: وهو يفسر الوحي " بأنه انتقاش العلم الفائض من العقل الكلي في العقل الجزئي"، وهذا هو عين كلام القرامطة نسأل الله العافية.
13- السمعيات:
يقسم الأشاعرة أصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم مصدره العقل وحده وهو معظم الأبواب ومنه باب الصفات.
2- قسم مصدره العقل والنقل معاً كالرؤية على خلاف بينهم.
3- قسم مصدره النقل وحده وهو السمعيات، أي: المغيبات من أمور الآخرة كعذاب القبر والصراط والميزان وهو عندهم ما لا يحكم العقل باستحالته، لكن لو لم يرد به الوحي لم يستطع العقل إدراكه منفرداً.
والحاصل أنهم في صفات الله جعلوا العقل حاكماً.
14- التكفير:
الأشاعرة مضطربون اضطراباً كبيراً في هذا الباب، فتارة يقولون نحن لا نكفر أحداً، وتارة يقولون نحن لا نكفر إلا من كفرنا، وتارة يكفرون بأمور لا تستوجب أكثر من التفسيق أو التبديع، وتارة يكفرون بأمور لا توجب مجرد التفسيق، وتارة يكفرون بأمور هي نفسها شرعية ويجب على كل مسلم أن يعتقدها، فأما قولهم لا نكفر أحداً فباطل قطعاً؛ لأن الذي لا يدين بالإسلام فهو كافر بلا شك.
وأما قولهم لا نكفر إلا من كفرنا فباطل أيضاً، إذ ليس تكفير أحد لنا بمسبوغ أن نكفره إلا إذا كان يستحق ذلك شرعاً.
وأما تكفير من لا يستحق سوى التبديع مثل تصريحهم في أغلب كتبهم من قال: إن الله جسم لا كالأجسام فهو كافر، وهذا ليس بكفر بل هو ضال مبتدع لأنه أتى بلفظ لم يرد به الشرع.
وأما تكفير من لا يستحق حتى مجرد الفسق أو المعصية كتكفيرهم من قال: أن النار سبب للاحتراق.
وأما تكفيرهم بما هو حق في نفسه يجب اعتقاده فنحو تكفيرهم لمن يثبت علو الله.
يتبين لنا بعد هذا العرض السريع كيف أن الأشاعرة وقعوا في تناقضات عجيبة، والسبب هو أنهم لم يُسلموا للوحي وضخموا جانب العقل ولم يعرفوا حدوده.
وللموضوع تتمة