بسم الله الرحمن الرحيم
مدرسة التجويد (استمدادها- واقعها- المآخذ عليها)

مقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وهب الوجود لكل موجود ثم هدى كل شيء إلى وظيفته, مانحاً للإنسان دون غيره ميزة العقل الذي به يدرك حقائق الأشياء, ويميز الصواب من الخطأ ويعرف الطريق المستقيم غير ذي العوج.
والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف الهداة الأتقياء وأعظم الرسل والأنبياء.
الذي ألح على ربه أن ييسر القرآن على أمته ويهون تلاوته عليهم حتى لا يجد الحرج إليهم سبيلاً.

أما بعد:
فهذا بحث يتعلق بما يعرف بالتجويد أردت به أن يقف القارئ على أصل التجويد ومنشئه والواقع الذي تعيشه مدرسة التجويد المعاصرة.
والغرض منه المطالبة بتوسيع دائرة الحرية المنضبطة في شأن القراءة, فإني أزعم أن هذا هو مراد الله ورسوله وطريقة سلف الأمة من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة والقراء العشرة وغيرهم.
لا سيما فيما يتعلق بمخارج الحروف وتحديد زمان المد والغنة والدقائق المتعلقة بالأحكام كالإدغام والإخفاء وغيرها وصفات الحروف والقلقلة والروم والإشمام وغير ذلك كثير.

فإن القراء المتأخرين صاروا يكبلون القارئ بأنواع من القيود شديدة الإحكام, لا يقدر القارئ بسببها من الحصول على مقدار يسير من الحرية والارتياح في التلاوة, فتراه مشدود الأعصاب مثبت النظرات كأن على رأسه الطير مراعياً تلك القيود الدقيقة حتى لا تزل به القدم, وكأنه يسير على حبل معلق في الجو.

وكم رأت عيناك من قارئ قراءته تأخذ بالألباب وتشتاق إليه الأسماع, يقرأ وقد أطلق العنان لطبيعته وسجيته, فما هو إلا أن يتقيد ببعض القيود في القراءة ويبدأ بمراعتها حتى تتحول قراءته إلى مادة مصنوعة قد فقدت بريقها وجاذبيتها وحريتها وطعمها.

والكلام في التجويد وما يتعلق به موضوع كبير وواسع ومتشعب وذو شجون لكن سأسلط الضوء على بعض الزوايا منه, فسأقف مع مسائل محددة كما يلي.

المسألة الأولى: أصل التجويد واستمداده.
وفيه مبحثان:
الأول: تسرب اللحن مبكراً إلى ألسنة الناس منذ الصدر الأول.
الثاني: وضع أئمة اللغة في كتبهم مباحث كثيرة تتعلق بكلام العرب, لأجل تقويم الألسنة ومدافعة اللحن الطارئ عليها, واعتماد القراء في كتبهم النتائج التي توصل إليها علماء اللغة.

المسألة الثانية: الأصل الأصيل التيسير والتسهيل في شأن القراءة.
وفيه مبحثان:
الأول: مراد الله ورسوله التسهيل في قراءة القرآن.
الثاني: نقول عن أئمة الإسلام فيها التأكيد على تسهيل أمر القراءة.

المسألة الثالثة:
مخالفة مدرسة التجويد عند المتأخرين لهذا الأصل الأصيل.
وفيه مبحثان:
الأول: مخالفة الأصل الأصيل في التحديدات الدقيقة لطريقة أداء التلاوة في مخارج الحروف, وفي صفاتها, وفي المدود, والغنة, والقلقلة, وغير ذلك.
ودخول الأجهزة الإلكترونية.

الثاني: مخالفة الأصل الأصيل في الغلو في أمر القراءات والتجويد.

المسألة الرابعة:
اختلال كثير من قواعد التجويد وهدمها من قبل القراء المتأخرين ومشايخ التجويد أنفسهم.
وفيه مبحثان:
الأول: تحطم كثير من القواعد بالاختلاف العريض فيها وتخطئة القراء بعضهم لبعض.
الثاني: جعل هذه المسائل الدقيقة المتنازع عليها مادة للشقاق والشحناء والاختلاف, فالقرآن جاء ليجمع ويوحد, فصار بذلك سبباً في الفرقة والاختلاف.

المسألة الخامسة:
حكم التجويد.
وفيه مبحثان:
الأول: الأدلة التي يستدل بها على أن الأداء والتجويد له كيفية معينة وصفة محددة متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم بالإسناد.
والجواب عنها.

الثاني: تحسين التلاوة مطلوب وقد حث عليه القراء والسلف لكن دون حدود وقيود.

والآن إلى تفاصيل البحث:

المسألة الأولى: أصل التجويد واستمداده.
المبحث الأول:
تسرب اللحن مبكراً إلى ألسنة الناس منذ الصدر الأول.

إن مما هو معلوم ومشهور أن اللحن قد بدأ يتسرب مبكراً إلى ألسنة الناس منذ الصدر الأول, وذلك حين بدأت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه, واستمرت في عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه, ففتحت الشام والعراق, واختلط العرب بالعجم.
وذلك أن كثيراً من أولئك الأعاجم بعد أن استوطن الإسلام بلادهم دخلوا في دين الله, وكان من لوازم ذلك أنهم صاروا يتعلمون اللغة العربية لغة القرآن ويتحدثون بها, وبسبب عجمتهم صار في كلامهم كثير من اللحن والخطأ, ومع اختلاطهم بالعرب بدأ اللحن يدب إلى أبناء العرب, ثم شاع بعد ذلك اللحن وظهر, خاصة أن العرب بسبب الفتوحات الواسعة في تلك البلاد صار بعضهم ينتقل إلى تلك البلاد ويستوطنها, كما أن كثيراً من أولئك العجم قد انتقلوا إلى أمصار العرب واستوطنوها.

قال المبرد المتوفى سنة (285) هـ في كتابه "الفاضل" ص (4) : "كان الصدر الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعربون طبعاً, حتى خالطهم العجم ففسدت ألسنتهم وتغيرت لغاتهم".

وقال أبو بكر الزبيدي المتوفى سنة (379) هـ في كتابه "لحن العوام" ص (59) : "ولم تزل العرب العاربة في جاهليتها وصدر من إسلامها تنزع في نطقها بالسجية وتتكلم على السليقية حتى فتحت المدائن ومصرت الأمصار ودونت الدواوين, فاختلط العربي بالنبطي والنقي الحجازي بالفارسي, ودخل الدين أخلاط الأمم وسواقط البلدان, فوقع الخلل في الكلام وبدأ اللحن في ألسنة العوام".

بل إن اللحن كان يوجد في ألسنة المتعربين الذين وفدوا إلى الجزيرة وأصلهم من العجم, كسلمان الفارسي رضي الله عنه, وكان في لسان عجمة, وقد ورد عن أبي عثمان النهدي أنه قال: (كنا لا نفقه كلامه من شدة عجمته). أخرجه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (1/224) .

وكذلك صهيب الرومي رضي الله عنه, وقد كان فيه لكنة, وقد ورد أن عمر رضي الله عنه عابه بقوله: (وادعائك إلى النمر بن ساقط وأنت رجل ألكن). أخرجه الإمام أحمد (31/271)

ومن الأدلة على وجود اللحن مبكراً ما رواه ابن أبي عتيق قال: (تحدثت أنا والقاسم عند عائشة رضي الله عنها حديثاً, وكان القاسم رجلاً لحانة, وكان لأم ولد, فقالت له عائشة: مالك لا تحدث كما يتحدث ابن أخي هذا؟ أما إني قد علمت من أين أتيت, هذا أدبته أمه وأنت أدبتك أمك, قال: فغضب القاسم وأضب عليها, فلما رأى مائدة عائشة قد أتي بها قام, قالت: أين؟ قال: أصلي, قالت: اجلس. قال: إني أصلي. قالت: اجلس غدر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة الطعام, ولا هو يدافعه الأخبثان). أخرجه مسلم (560)

ولما سأل معاوية بن أبي سفيان الناس عن عبيد الله بن زياد قالوا: ظريف على أنه يلحن. أخرجه ابن عساكر في "التاريخ" (37/438)

وروى طارق بن شهاب قال: (قدَّم مروان الخطبة قبل الصلاة, فقام رجل فقال: خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة, قال: ترك ذلك يا أبو فلان. قال شعبة: وكان لحاناً, فقام أبو سعيد فقال: من هذا المتكلم قد قضى ما عليه... ) الحديث. أخرجه الطيالسي في "مسنده" (2196) .

وكان عبد العزيز بن مروان بن الحكم يلحن في الحديث وفي كلامه. انظر: "البداية والنهاية" (9/57)
وروي له في ذلك قصة ذكرها ابن كثير, والمزي في "تهذيب الكمال" (18/198)

وحتى الحجاج بن يوسف على فصاحته لم يسلم من اللحن, وانظر قصته في ذلك في "تاريخ دمشق" (12/151) .

وكان الوليد بن عبد الملك لُحَنَة. أي: يلحن كثيراً, انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/347)
وكذلك عبد الله بن يزيد بن معاوية. انظر "تاريخ دمشق" (33/388)

ولم يسلم من اللحن بعض العلماء والمحدثين والفقهاء, ومنهم إبراهيم النخعي, ونافع مولى ابن عمر, وإياس بن معاوية المزني, وربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك, ومالك بن أنس, وإسماعيل بن أبي خالد, وأبو حنيفة, ووكيع بن الجراح, وغيرهم.

وذكر في روايات عديدة أن أبا الأسود الدؤلي المتوفى سنة (69) هـ وضع كتاباً فيه مبادئ النحو وأصولاً لإصلاح الألسنة من اللحن.
ومما ورد في ذلك ما ذكره عباد بن عباد المهلبي قال: سمع أبو الأسود رجلاً يقرأ ( إن الله بريء من المشركين ورسوله) بالجر, فقال: لا أظنني يسعني إلا أن أضع شيئاً أصلح به اللحن.
أخرجه ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (60)

قال عبد الوهاب القرطبي في "الموضح في التجويد" ص (63) : "فلما اتسعت ممالك العرب ونزعوا إلى الأرياف واستوطنوا القرى والأمصار ومازجوا غيرهم من النبط والأعاجم بدا في اللغة الفساد, وصار إلى لسان القريب العهد بالولادة بينهم أسرع وبطبعه أعلق, حتى احتيج من أجله إلى نقط المصاحف بعد الإنكار لذلك والتوقف عن الإقدام عليه, وخبر أبي الأسود الديلي في ذلك مشهور".

ولذلك ورد عن بعض السلف الحض والحث على تعلم العربية, وعلى إعراب القرآن, ويرغبون فيه, وينكرون القراءة باللحن أو بغير إعراب.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (اقرؤوا ولا تلحنوا) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/151)
وكتب عمر إلى أبي موسى: (أما بعد فتفقهوا في السنة, وتفقهوا في العربية, وأعربوا القرآن فإنه عربي, وتمعددوا فإنكم معديون). أخرجه ابن أبي شيبة (7/150)
وفي لفظ: (تعلموا قراءة القرآن بالعربية).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أعربوا القرآن فإنه عربي) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (348), وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/150), وغيرهما.
وكذلك جاء عن ابن عمر رضي الله عنه كما عند ابن أبي شيبة (7/150), وغيره.
وكذلك جاء عن إبراهيم النخعي, كما عند الدولابي في "الكنى" (2024)
وعن عمر رضي الله عنه قال: (تعلموا إعراب القرآن كما تعلمون حفظه) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (349)
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (تعلموا العربية في القرآن كما تعلمون حفظه) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (349), وابن أبي شيبة (7/150), وغيرهما.
وكذلك قال أبو ذر رضي الله عنه كما عند ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (23)
وقال عمر رضي الله عنه: (تعلموا اللحن كما تعلمون القرآن). أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص (349), وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/325), وغيرهما.
وكذلك قال أبي بن كعب رضي الله عنه, كما عند ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (24), وابن عدي في "الكامل" (1/210), وغيرهما.
وقال أبو بكر وعمر: رضي الله عنهما: (لبعض إعراب القرآن أعجب إلينا من حفظ بعض حروفه) كما عند ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" (16)
وعن أم الدرداء قالت: (إني لاحب أن أقرأه كما أنزل. يعني إعراب القرآن). أخرجه ابن أبي شيبة (7/151)
وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لان أقرأ آية بإعراب أحب إلى من أن أقرأ كذا وكذا آية بغير إعراب). أخرجه ابن أبي شيبة (7/150)

المبحث الثاني:
وضع أئمة اللغة مباحث كثيرة تتعلق بكلام العرب, لأجل مدافعة اللحن الطارئ, واعتماد القراء في كتبهم النتائج التي توصل إليها علماء اللغة.

تبين في المبحث السابق أن اللحن قد بدأ مبكراً حين اختلط العرب بالعجم إثر الفتوحات الإسلامية للشام والعراق.
وفي هذا المبحث أذكر ما قام به أئمة اللغة في القرن الثاني لمدافعة هذا اللحن المتزايد والتصدي له.
ففي القرن الثاني ذكر أئمة اللغة في كتبهم مباحث كثيرة تتعلق بكلام العرب, لأجل تقويم الألسنة ومدافعة اللحن الطارئ عليها, وردها إلى اللفظ العربي الصحيح من ذكر عدد الحروف, ومخارجها, وصفاتها, والمدود, والغنن, والإمالة, والروم, والإشمام, والإدغام, والإظهار, والإبدال, والقلب, وتحقيق الهمز, وتخفيفه وغير ذلك.

فقد ذكر الخليل بن أحمد المتوفى سنة (170) هـ مخارج الحروف وحددها وذكر كثيراً من صفاتها, ثم هذب تلميذه سيبويه كلام شيخه وحدد المخارج والصفات تحديداً كاملاً هو الباقي إلى اليوم.
وكل من تكلم في المخارج والصفات وما يترتب عليهما من الأحكام كالإدغام وغيره فهم عالة عليه.
ومن أمثلة ذلك قول سيبويه في "كتابه" (4/433) : ولحروف العربية ستة عشر مخرجاً.
فللحلق منها ثلاثة, فأقصاها مخرجاً: الهمزة والهاء والألف.
ومن أوسط الحلق مخرج العين والحاء.
وأدناها مخرجاً من الفم: الغين والخاء.
ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف..." الخ.

وقوله في بيان صفات الحروف (4/434) : "فأما المجهورة فالهمزة، والألف، والعين، والغين، والقاف، والجيم...
وأما المهموسة فالهاء، والحاء، والخاء...
فالمجهورة: حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت.

وقد ذكر سيبويه ما يتعلق بإدغام الحروف وإظهارها, وذكر في مباحث كثيرة بيان ما يجب فيه الإدغام وما يمتنع, وما هو منه حسن وما هو قبيح ورديء, وذكر قواعده وعلله.
وذكر ما يتعلق بالمد وحروفه, والإبدال, والإمالة وضوابطها وقوانينها, وما يتعلق بالهمز وتخفيفه, والوقف على أواخر الكلم في العربية, وغير ذلك كثير.
وما عليك إلا أن تنظر في فهرس كتاب سيبويه لترى ذلك وتتيقن منه.

وقد اعتمد القراء في كتبهم النتائج التي توصل إليها علماء اللغة, ونقلت تلك المباحث اللغوية إلى الكتب التي ألفت في تجويد التلاوة على يد علماء القراءات والتجويد, فكثير من المباحث التجويدية إنما هي مباحث لغوية, وهي مستقاة ومستمدة من كتب اللغة تلك.

فهذا إمام القراء أبو عمرو الداني يقول في كتابه "التحديد في الإتقان والتجويد" ص (101) : "اعلموا أن قطب التجويد وملاك التحقيق معرفة مخارج الحروف وصفاتها التي بها ينفصل بعضها من بعض وإن اشترك في المخرج, وأنا أذكر ذلك على مذهب سيبويه خاصة، إذ هو الصحيح المعول عليه إن شاء الله تعالى"اهـ

فعلى سبيل المثال قال سيبويه في "الكتاب" (4/174) : "واعلم أن من الحروف حروفاً مشربة ضغطت من مواضعها, فإذا وقفت خرج معها من الفم صويت, ونبا اللسان عن موضعه, وهي حروف القلقلة..."اهـ

وهذا النص نفسه ذكره أبو عمرو الداني في "التحديد" ص (108) فقال: "ومن الحروف حروف مشربة ضغطت من مواضعها، فإذا وقف عليها خرج معها من الفم صويت ونبا اللسان عن مواضعه، وهي خمسة أحرف، يجمعها قولك (جد بطق)".

قال البقاعي المتوفى سنة (885) هـ: "هذا مع أن أهل هذا الفن أحالوا على علم العربية في كثير من أبوابه", كما في كتاب "اللحن" للغامدي ص (117) .

وقال الدكتور خالد مسعود خليل في كتابه "دراسات في اللغة والقراءات" ص (79): "برز فريق من العلماء جعلوا جل اهتمامهم منصباً على دراسة الصوت اللغوي العربي من خلال النص القرآني خاصة, وأقصد بهذا الفريق علماء التجويد الذين استطاعوا أن يخلصوا الدرس الصوتي من غيره من علوم العربية, ذلك أن مادة هذا النوع من الدراسة كانت مبثوثة في كتب اللغة والنحو والصرف"

وقد وضع علماء اللغة كالخليل وسيبويه هذه القواعد والمباحث المطولة لتعين كل متعلم للغة العربية من الأعاجم, فإن كل أعجمي يدخل في الإسلام يضطر لمعرفة اللغة العربية, فإنها لغة القرآن والسنة, وكم دخل في دين الله من الأعاجم.
فالأصل أن ذلك لا يحتاجه إلا الأعجمي الذي لم يتعود لسانه على الكلام العربي, ولذا تراه ينطق الحاء هاءاً, والعين همزة, والسين صاداً, وغير ذلك.

فتجلى لنا من خلال هذا المبحث إذاً مسألتان:
الأولى : أن هذه المباحث اللغوية وضعت في الأصل لمدافعة اللحن الطارئ بسبب اختلاط العجمة بالعربية.
الثانية : أن كثيراً من المباحث المبثوثة في مؤلفات التجويد إنما هي مستمدة من كتب اللغة.

إذاًَ الذين كتبوا في التجويد إنما أخذوا هذه المباحث من كتب اللغة, وهذا هو أصل التجويد.
كمكي بن أبي طالب المتوفى سنة (437) هـ في كتابه "الرعاية لتجويد القراءة".
وأبي عمرو الداني المتوفى سنة (444) هـ في كتابه "التحديد في الإتقان والتجويد"
وعبد الوهاب القرطبي المتوفى سنة (461) هـ في "الموضح"
وأبي العلا الهمذاني المتوفى سنة (569) هـ في "التمهيد في معرفة التجويد"
والسخاوي المتوفى سنة (643) هـ في "عمدة المفيد"
وابن الجزري المتوفى سنة (833) هـ في "التمهيد"
وغيرهم.

المسألة الثانية:
الأصل الأصيل التيسير والتسهيل في شأن القراءة.

المبحث الأول:
بيان أن مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم التسهيل في قراءة القرآن.
سأذكر في هذه المسألة أصلاً يجب أن يكون واضحاً ومستقراً في نفس كل مسلم
وهو أن مراد الله ورسوله إنما هو التسهيل والتيسير في شأن قراءة القرآن, فكل أمر يتعارض مع هذا الأصل الراسخ العظيم فهو مناف لمراد الله ورسوله ومصادم له, وإن ظهر بصورة تعظيم القرآن أو بدعوى الحرص على قراءته قراءة سليمة.

فمما يدل على هذا الأصل الأصيل:
أولاً:
أن القرآن أنزل على سبعة أحرف كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, وما ذاك إلا من أجل التيسير على الأمة وأن لا يجد الحرج أو التضييق إليها سبيلاً, فالأمر موسع غاية السعة, وسهل غاية السهولة, فنزول القرآن على أحرف متعددة مظهر من مظاهر التيسير والتخفيف على الأمة في قراءة كتاب ربهم.
ففي هذا أوضح دلالة على أن الإلزام بأداء واحد وطريقة واحدة ورسوم محددة دقيقة وقوانين مقعدة مخالف لهذا الأصل, فهو مخالف للحكمة التي من أجلها أنزل القرآن على سبعة أحرف, ومناف لها غاية المنافاة.

وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هون على أمتي) وقوله: (وإن أمتي لا تطيق ذلك).
فقد ألَحَّ على ربه أن يسهل على أمته وقال: إن أمتي لا تطيق القراءة على حرف واحد وبطريقة واحدة.
وما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مطالبة ربه بذلك وإلحاحه عليه إلا لعلمه أن ألسنة الناس تختلف ولهجاتهم تتفاوت, وقدراتهم تتباين, وأن حملهم على طريقة واحدة وحصرهم في وجه واحد في الأداء يشق عليهم غاية المشقة, وفيه إلغاء تام للحكمة التي من أجلها ورد هذا الحديث.

إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي وصفه الله تبارك وتعالى بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم يرى أنه فوق طاقة الأمة التي أراد الله لها التيسير في كل شيء أن يلزموا بقراءة القرآن على حرف واحد, فدل هذا بكل وضوح على أن التيسير والتسهيل والتهوين هو مراد الله ورسوله.

إن هذا الدليل (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) لو تأمله الناس لم يحتاجوا إلى معه إلى دليل غيره ليدركوا أن أمر القراءة سهل ميسر وهو كما قال الله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر).

وقد روى الترمذي (2944) عن كعب رضي الله عنه قال : (لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط. قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف).

فقد أنزل القرآن إذاً على سبعة أحرف بسبب اختلاف ألسنة الناس ولهجاتهم وضعفهم, ليقرأ كل واحد حسب ما يتيسر له, وما كان سهلاً عليه قريباً من نطقه, ولو أراد أن يزول عن لغته ولهجته وما جرا عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً لاشتد ذلك عليه وعظم الحرج والمشقة.

يقول ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص (94) : "فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم:
فالهذلي يقرأ (عتى حين) يريد حتى حين، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها.
والأسدي يقرأ (تعلمون) و(تعلم) و(تسود وجوه) و(ألم أعهد إليكم).
والتميمي يهمز, والقرشي لا يهمز.
والآخر يقرأ (وإذا قيل لهم) و(غيض الماء) بإشمام الضم مع الكسر، و(هذه بضاعتنا ردت إلينا) بإشمام الكسر مع الضم و(ما لك لا تأمنا) بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة, فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعاً في اللغات ومتصرفاً في الحركات"اهـ

وقال ابن الجزري في "النشر" (1/19) : "كلٌّ من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين, تخفيفاً عن الأمة وتهويناً على أهل هذه الملة، فلو أوجبنا عليهم قراءة كل رواية على حدة لشق عليهم تمييز القراءة الواحدة, وانعكس المقصود من التخفيف, وعاد بالسهولة إلى التكليف".

وقال ابن حجر في "الفتح" (9/28) : "معنى قوله (أنزل القرآن على سبعة أحرف) أي: أنزل موسعاً على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه, أي: يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه, كأنه قال: أنزل على هذا الشرط أو على هذه التوسعة, وذلك لتسهيل قراءته, إذ لو أخذوا بأن يقرءوه على حرف واحد لشق عليهم".

وقال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "حديث الأحرف السبعة" ص (111) : "ألسنتها تختلف ولهجاتها تتباين فحملهم على لسان واحد وإخضاعهم للهجة واحدة وحصرهم في وجه واحد يشق عليهم خاصة أنهم أمة أميون بيانهم ولسانهم بالفطرة والجبلة ومن كانت لغته بالفطرة والاعتياد يكون نقل الجبال أهون عليه من نقله عن لغته وزحزحته عن لهجته.

وقال الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه "تاريخ القرآن" ص (68) : "نحن نلتقي مع ما رآه أستاذنا الدكتور أنيس من أن روح هذه الرخصة لا تزال باقية إلى اليوم, يقرأ في حدودها المسلمون في شتى الأجناس, على اختلاف ألسنتهم في الماضي والحاضر والمستقبل, وإن كنا لا نرى أن ذلك من الأحرف السبعة, بل هو من روح التيسير التي تميز بها الإسلام, إذ كان وجود الأحرف السبعة بمعناها التنزيلي قد توقف بإجماع المسلمين على مصحف عثمان, ولم يبق منها سوى بعضها في حدود رسم هذا المصحف الإمام".

وقال ابن الخطيب في "الفرقان" ص (96) : "إن من لطف الله تعالى بعباده ورأفته بخلقه أنهم لم يكلفهم ما يشق عليهم, ولم يلزمهم ما يعسر عليهم, ألا ترى إلى القراءات ووجوهها والقراء ومذاهبهم, فهذا يرقق الراء لأنها لغة إحدى القبائل, وذاك يفخم اللام لأنها لهجة قبيلة أخرى, وهذا يسهل الهمز, وهذا يقصر الممدود, وآخر يمد المقصور, وهكذا إلى ما لا حصر له من التسهيل والنزول إلى حيث مدارك الناس وأفهامهم على اختلافها وتباينها شفقة عليهم ورحمة بهم".

قال الزرقاني في "مناهل العرفان" (1/162) عن وجه اختلاف اللهجات: "بل هذا قد يكون أولى بالحسبان وأحرى بالرعاية في باب التخفيف والتيسير, لأنه قد يسهل على المرء أن ينطق بكلمة من غير لغته في جوهرها ولا يسهل عليه أن ينطق بكلمة من غير لغته نفسها بلهجة غير لهجته وطريقة في الأداء غير طريقته.
ذلك لأن الترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل والإظهار والإدغام والفتح والإمالة ونحوها ما هي إلا أمور دقيقة وكيفيات مكتنفة بشيء من الغموض والعسر في النطق على من لم يتعودها ولم ينشأ عليها، واختلاف القبائل العربية فيما مضى كان يدور على اللهجات في كثير من الحالات, وكذلك اختلاف الشعوب الإسلامية وأقاليم الشعب الواحد منها الآن يدور في كثير من الحالات أيضاً على اختلاف اللهجات، وإذن فتخفيف الله على الأمة بنزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق إلا بملاحظة الاختلاف في هذه اللهجات".

قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/162) : "من تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته" .

ثانياً: (مما يدل على هذا الأصل الأصيل, وهو التيسير في أمر القراءة)
أن المراد الأصلي والغاية الأكيدة من التنزيل إنما هو معاني القرآن وليس ألفاظه, فإن الألفاظ مجرد حوامل للمعاني ليس إلا.
ولذلك أذن الله تبارك وتعالى أن يقرأ القرآن بحروف كثيرة وبلهجات مختلفة حتى يفهمه كل من قرأه, فتسومح في الألفاظ لأجل المعاني, فالألفاظ مجرد وسيلة لوصول المعاني.

إن هذا الكتاب الخالد العظيم أنزل لجميع البشر, فلا بد أن تكون قراءته في غاية السهولة واليسر.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في "إحياء علوم الدين" (3/399) : "من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه فهو غرور, إذ المقصود من الحروف المعاني, وإنما الحروف ظروف وأدوات".

ثالثاً: (مما يدل على هذا الأصل الأصيل, وهو التيسير في أمر القراءة)
تصرفات السلف رحمهم الله.
إن مما يدل على تسهيل أمر التلاوة طريقة السلف رحمهم الله في تعاطيهم مع التلاوة تعلماً وتعليماً, ترى هذا واضحاً كالشمس, لا يدققون في أمر الأداء, بل غاية قصدهم ومرادهم القراءة الصحيحة الخالية من اللحن, والاتباع في القراءة على سنن الأولين, لأن القراءة سنة متبعة, لا يقرأ القرآن حسب رسمه ولا بكل ما تجيزه اللغة, ما كان إلا هذا قصدهم وما كان إلا هذا مرادهم.
لا تجد لطريقة الأداء أي ذكر في جميع الروايات الصادرة من ذلك الجيل الفريد.
إلا روايات يسيرة عامة يفهم منها الاهتمام بتوضيح التلاوة والاهتمام بحسن القراءة.
وأما الاختلاف في طريقة الأداء التي يختلف الناس فيها بطبيعتهم فمتروك أمره لاختلاف طبائع الناس وطرائقهم في الأداء.
ولهذا لا يقولون: (القراءة سنة متبعة) إلا عند ذكر الاختلاف في الكلمات والحروف والإعراب, ولا يقولونها البتة في أمر الأداء.

ألا تعلم أن القارئ قالون عيسى بن ميناء الراوي المشهور عن نافع كان أصم يصحح من رؤيته للشفتين.
قال ابن أبي حاتم: كان أصم يقرئ القرآن, ويفهم خطأهم ولحنهم بالشفة.
قال: وسمعت علي بن الحسين يقول: كان عيسى بن ميناء قالون أصم شديد الصمم, وكان يقرأ عليه القرآن, وكان ينظر إلى شفتي القارئ ويرد عليه اللحن والخطأ". انظر: "غاية النهاية" (1/853)
وهذا يدل بكل وضوح أن أمر أداء التلاوة ميسر غاية التيسير, الغرض الأول منه عدم اللحن في القراءة.

وقال ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/406) في ترجمة الزبير بن محمد بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر: "تلقى الناس روايته عن أبي جعفر بالقبول مع ما فيها من غرائب التسهيل".

وقال أبو بكر بن مجاهد في "السبعة" ص (84) : "كان أبو عمرو حسن الاختيار سهل القراءة, غير متكلف, يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل".

وروى الحلواني عن قالون أن نافعاً كان لا يهمز همزاً شديداً ويمد ويحقق القراءة ولا يشدد ويقرب بين الممدود وغير الممدود كما في "معرفة القراء الكبار" (1/245)

وروى هارون بن موسى الفروي عن أبيه عن نافع بن أبي نعيم أنه كان يجيز كلما قرئ عليه إلا أن يسأله إنسان أن يقفه على قراءته فيقفه عليها.
وعن الاعشى قال: كان نافع يسهل القرآن لمن قرأ عليه إلا أن يسأله. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/243)
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تشهد لهذا التسهيل والتيسير.

رابعاً:
أن القول الصحيح جواز الجمع والخلط بين قراءتين أو أكثر, فيقرأ بقراءة عاصم مثلاً, ويقرأ بعض المواضع بقراءة نافع أو غيره.
وقد ذهب بعض القراء إلى منع ذلك, وتبعهم بعض الفقهاء, وهو خطأ لا دليل عليه.

قال ابن حجر في "الفتح" (9/38) : "وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكار ذلك حتى صرح بعضهم بتحريمه, فظن كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معتمداً فتابعوهم, وقالوا: أهل كل فن أدري بفنهم, وهذا ذهول ممن قاله, فإن علم الحلال والحرام إنما يتلقى من الفقهاء".

والقول بالجواز يتنافى مع الإلزام بطريقة واحدة في صفة الأداء.
فإن القارئ لو زاد أو نقص في المد أو تسهيل الهمز أو الغنة أو الترقيق أو غير ذلك فإنه في الجملة لم يخرج عن القراءات العشر حتى لو كان ليس له علم بها وبتفاصيلها.
ومن المعلوم أن الطرق المختلفة إلى هؤلاء العشرة بالمئات.
وما عند القراء العشرة نزر يسير من القراءات التي كانت موجودة في العصور الأول كما قال ابن الجزري وغيره.
والتيسير هو المقصود الأول من تنوع القراءات.
قلت: حتى لو كان ليس للقارئ علم بالقراءات وبتفاصيلها, فإن هذا حال كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا كجزء يسير جداً من شعرة سوداء في جلد ثور أبيض.
أو أقل من ذلك, هم فقط من يعرفون بعض تفاصيل تلك الطرق والقراءات.
فكيف يقصر التيسير عليهم دون غيرهم! هذا محال.

وقد أفتى بجواز ذلك أبو شامة, وابن الحاجب, وابن الصلاح كما في "الفتح" (9/38) , والنووي, وابن الجزري, وابن تيمية, وابن حجر, وغيرهم.

قال النووي رحمه الله في "التبيان" ص (128) : "إذا ابتدأ بقراءة أحد القراء فينبغي أن يستمر على القراءة بها ما دام الكلام مرتبطاً, فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أحد من السبعة".

وقال في "المجموع" (3/392) : "وإذا قرأ بقراءة من السبع استحب أن يتم القراءة بها, فلو قرأ بعض الآيات بها وبعضها بغيرها من السبع جاز بشرط أن يكون ما قرأه بالثانية مرتبطاً بالأولى".
وقال في "التبيان" ص (128): "إذا ابتدأ بقراءة أحد القراء فينبغي أن يستمر على القراءة بها ما دام الكلام مرتبطاً, فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أحد من السبعة".

وقال ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر" (1/18) عن الخلط بين القراءات: "أجازها أكثر الأئمة مطلقاً, وجعل خطأ مانعي ذلك محققاً, والصواب عندنا في ذلك التفصيل فنقول: إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى فالمنع من ذلك منع تحريم... وإن كان على سبيل القراءة والتلاوة وليس على سبيل النقل والرواية فإنه جائز صحيح مقبول, لا منع منه ولا حظر, إذ كل من عند الله, نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين, تخفيفاً عن الأمة، وتهويناً على أهل هذه الملة، فلو أوجبنا عليهم قراءة كل رواية على حدة لشق عليهم تمييز القراءة الواحدة, وانعكس المقصود من التخفيف, وعاد بالسهولة إلى التكليف".

وسئل ابن تيمية رحمه الله في كما في "مجموع الفتاوى" (22/445) : عن رجل يصلي بقوم وهو يقرأ بقراءة الشيخ أبي عمرو فهل إذا قرأ لورش أو لنافع باختلاف الروايات مع حمله قراءته لأبي عمرو يأثم أو تنقص صلاته أو ترد؟
فأجاب: "يجوز أن يقرأ بعض القرآن بحرف أبي عمرو وبعضه بحرف نافع، وسواء كان ذلك في ركعة أو ركعتين, وسواء كان خارج الصلاة أو داخلها, والله أعلم"اهـ

وأما قول ابن تيمية في "الفتاوى" (13/404) : "وأما جمعها في الصلاة أو في التلاوة فهو بدعة مكروهة" فمراده رحمه الله جمعها مع التكرار والترديد كما يفعل بعض القراء.

ولهذا قال في "الفتاوى" (24/244) : "إن جمع ألفاظ الدعاء والذكر الواحد على وجه التعبد مثل جمع حروف القراء كلهم لا على سبيل الدرس والحفظ لكن على سبيل التلاوة والتدبر مع تنوع المعاني مثل أن يقرأ في الصلاة {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} (بما كانوا يكذبون). {ربنا باعد بين أسفارنا} (بعد بين أسفارنا)... ومعلوم أن هذا بدعة مكروهة قبيحة".

وقال ابن القيم في "جلاء الأفهام" ص (323) : "ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ بتلك الأحرف على سبيل البدل لا على سبيل الجمع كما كان الصحابة يفعلون".

وقال ابن حجر في "الفتح" (9/38) : "والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة, فإنه متى خلطها كان كاذباً على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته, فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى كما قاله الشيخ محي الدين, وذلك من الأولوية لا على الحتم, أما المنع على الإطلاق فلا والله أعلم".

وقال ابن حجر: "ذكر أبو شامة في الوجيز أن فتوى وردت من العجم لدمشق سألوا عن قارئ يقرأ عشراً من القرآن فيخلط القراءات, فأجاب ابن الحاجب وابن الصلاح وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز".
وفتوى هؤلاء العلماء بالجواز تدل على عمق الفهم, فإن هذا هو المتوافق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه).
وهذا القارئ من العجم ومثله كثير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يسهل عليهم القراءة إلا هكذا دون قيود دقيقة.
فالتوسع في طريقة أداء قراءة القرآن هو مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثاني:
نقول عن أئمة الإسلام فيها التأكيد على تسهيل أمر القراءة.

قد توارد أئمة المسلمين وعلماؤهم على بيان هذا الأصل العظيم, وهو بيان تيسير القراءة والتهوين من شأن الاهتمام بنطق الحروف والتدقيق في مراعاتها, والتحذير الأكيد من ذلك, والتنبيه إلى الخلل الكبير في صرف الهم إلى طريقة النطق بالحروف, وهو السبب الأكبر في الغفلة عن المعاني وانصراف القلب حين القراءة, ولهم في ذلك كلمات صادقة كثيرة متفرقة سأذكر منها هنا ما تيسر.
وهي تدل دلالة واضحة على أن المستقر عند أولئك الأئمة الأعلام أن طريقة أداء القرآن وتلاوته أمر ميسور, وهو أمر متروك لكل قارئ حسب ما خلق الله فيه من طريقة في النطق والترتيل والتغني, وأن طرق الأداء ليس لها حد معين يلزم به كل أحد.
وأن الطريق الأخرى التي يحذرون منها وهي التشديد في القراءة تفضي إلى مصائب عظيمة على رأسها صرف الناس عن الانتفاع بالقرآن, وانشغالهم بملاحظة حروفه وكيفيات نطقها وتركيبها.
وسأذكر عشرين نقلاً عن كثير من أئمة الإسلام.
أولاً:
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في "إحياء علوم الدين" (3/399) : "من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه فهو غرور, إذ المقصود من الحروف المعاني, وإنما الحروف ظروف وأدوات.
ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين".

وقال أبو حامد (1/284) : "أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحُجُبٍ أسدلها الشيطان على قلوبهم, فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن, منها أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها, فهذا يكون تأمله مقصوراً على مخارج الحروف, فأنى تنكشف له المعاني, وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعاً لمثل هذا التلبيس".

ثانياً:
قال أبو شامة في "المرشد الوجيز" ص (211) : قد تجاوز بعض من يدعي تجويد اللفظ إلى تكلف ما لا حاجة إليه، وربما أفسد ما زعم أنه مصلح له.

وقال رحمه الله ص (193) : "لم يبق لمعظم من طلب القرآن العزيز همة إلا في قوة حفظه وسرعة سرده وتحرير النطق بألفاظه والبحث عن مخارج حروفه والرغبة في حسن الصوت به.
وكل ذلك وإن كان حسناً ولكن فوقه ما هو أهم منه وأتم وأولى وأحرى, وهو فهم معانيه والتفكر فيه والعمل بمقتضاه والوقوف عند حدوده وثمرة خشية الله تعالى من حسن تلاوته، ونحن نسرد من الأخبار والآثار ما يشهد لما قلناه بالاعتبار".
ثم ذكر أثاراً عن السلف كثيرة فيها بيان ما كان عليه السلف من الاهتمام بالتدبر والمعاني وليس كل همهم على الألفاظ والمباني كما هو حال من يهتمون بمسائل القراءة وإتقانها!

ثالثاً:
قال أبو بكر ابن العربي في "أحكام القرآن" (4/1895) : "ذلك لتعلموا أن المقصود حدوده لا حروفه، وعلقت القلوب اليوم بالحروف وضيعوا الحدود, خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم".

رابعاً:
قال ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (16/50) : "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن, إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك. فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه, وكذلك شغل النطق بـ {أأنذرتهم}, وضم الميم من (عليهم), ووصلها بالواو وكسر الهاء, أو ضمها ونحو ذلك".

خامساً:
قال ابن قتيبة رحمه الله في "تأويل مشكل القرآن" ص (110): "وقد كان الناس قديماً يقرؤون القرآن بلغاتهم كما أعلمتك ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلف، فهفوا في كثير من الحروف وزلوا...
وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقهم، وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشراً وفي مائة آية شهراً وفي السبع الطول حولاً، ورأوه عند قراءته مائل الشدقين دار الوريدين راشح الجبينين توهموا أن ذلك لفضيلة في القراءة وحذق بها.
وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت قراءتهم سهلة رسلة, وهكذا نختار لقراء القرآن في أورادهم ومحاريبهم"اهــ

سادساً:
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/162) : "والمقصود أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف... ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته".

وقال في "زاد المعاد" (1/493) : "ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به, بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها, وأنكروا على من قرأ بها... والذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه هو التغني الممدوح المحمود, وهو الذي يتأثر به التالي والسامع".

سابعاً:
قال أبو عبد الله الزعفراني: "ومن القراء المستأخرين نفر أحدثوا قراءة سموها قراءة الوزن، فأقاموا لأنفسهم بذلك سوقاً، وآذوا المتعلم إيذاء شديداً، وتعنتوا تعنتاً كبيراً، وأوهموه أنه ليس يستدرك ما قد استدركوه، فكان المتعلم إذا سكن الحرف تسكيناً خفيفاً قالوا له: حركت، وإذا بالغ في التسكين قالوا: وقفت، وإذا شدد تشديداً متوسطاً قالوا له: لم تحقق، وإذا بالغ في التشديد قالوا: اتكأت عليه، وإذا بين الألف بياناً خفيفاً قالوا: لم تخرجها من مخرجها، وإذا زاد في البيان قالوا: نفخت فيها، إلى أشياء لهم يعنتون بها المتعلم, وذلك كله مهجور متروك عندنا, لم يتعاطاه المتقدمون ولم يسنوه، ولم يتعلموه ولم يعلموه ، بل كانت قراءتهم محققة غير متجاوزة للحد". ذكره الأندرابي في "الإيضاح" ص (350)

ثامناً:
قال الذهبي في "زغل العلم" ص (25) : "فالقراء المجودة فيهم تنطع وتحرير زائد, يؤدي إلى أن المجود القارئ يبقى مصروف الهمة إلى مراعاة الحروف، والتنطع في تجويدها بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله تعالى، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة لله, ويخليه قوي النفس مزدرياً بحفاظ كتاب الله تعالى, فينظر إليهم بعين المقت وأن المسلمين يلحنون، وبأن القراء لا يحفظون إلا شواذ القراءة، فليت شعري أنت ماذا عرفت؟! وما علمك، وأما عملك فغير صالح، وأما تلاوتك فثقيلة عرية عن الخشية والحزن والخوف، فالله يوفقك ويبصرك رشدك، ويوقظك من رقدة الجهل والرياء.
وضدهم قراء النغم والتمطيط، وهؤلاء في الجملة من قرأ منهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة، فقد رأيت من يقرأ صحيحاً ويطرب ويبكي.
نعم ورأيت من إذا قرأ قسى القلوب وأبرم النفوس، وبدل كلام الله تعالى.
وأسوأهم حالاً الجنائزية والقراء بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيء على التلاوة بما يخرج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة، وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراءات.
اقرأ يا رجل واعفنا من التغليظ والترقيق وفرط الإمالة والمدود ووقوف حمزة فإلى كم هذا؟وآخر منهم إن حضر في ختمة أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا أبو فلان فاعرفوني فإني عارف بالسبع, إيش يُعمل بك؟ لا صبحك الله بخير إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة".

تاسعاً:
قال رجل لسليم بن عيسى رحمه الله: جئتك لأقرأ عليك التحقيق، فقال سليم: يابن أخي شهدت حمزة وأتاه رجل في مثل هذا، فبكى وقال: يابن أخي إن التحقيق صون القرآن، فإن صنته فقد حققته، وهذا هو التشديق". انظر: "جمال القراء" للسخاوي ص (459) , والمرشد الوجيز" لأبي شامة ص (208)

عاشراً:
قال الأندرابي في "الإيضاح" ص (348) : "ويستحب للقارئ التوسط في القراءة بالترتيل، و أن لا يجهد نفسه في التحقيق حتى يتجاوز ما وصفنا من حدوده, لأن تجاوزه إفراط وحَيدٌ عن سنن القراء المتقدمين، وخروج عما يعرف عن العَرَب العُرْب، واتباعهم في القراءة واجب, لأن القراءة سنة".

الحادي عشر:
قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" ص (172) : "وقد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف... وإنما المراد تحقيق الحرف حسب, وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس".

الثاني عشر:
قال ابن رشد كما في "حاشية الروض" (2/209) : "الواجب أن ينزه القرآن عما يؤدي إلى هيئة تنافي الخشوع، ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع منه القلب، ويزيد في الإيمان، ويشوق فيما عند الله".

الثالث عشر:
قال ابن قدامة في "مختصر منهاج القاصدين" ص (53) : "وليتخلى التالي من موانع الفهم، مثل أن يخيل الشيطان إليه أنه ما حقق تلاوة الحرف ولا أخرجه من مخرجه، فيكرره القارئ، فيصرف همته عن فهم المعنى".

الرابع عشر:
قال القرطبي في "تفسيره" (1/29) : "ومن حرمة القرآن ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين المتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه تكلفاً، فإن ذلك محدث".

الخامس عشر:
قال الحافظ كما في "حاشية الروض" لابن قاسم (2/208) : "ما كان طبيعة وسجية كان محموداً، وما كان تكلفاً وتصنعاً فهو مذموم، وهو الذي كرهه السلف وعابوه، ومن تأمل أحوالهم علم أنهم بريئون من التصنع".

السادس عشر:
قال الشيخ القاري في "جمع الوسائل" (2/142) : "ومن تأمل أحوال السلف علم أنهم بريئون من التصنع في القراءة بالألحان المخترعة دون التطريب والتحسين الطبيعي، فالحق أن ما كان منه طبيعة وسجية كان محموداً، وإن أعانته طبيعته على زيادة تحسين وتزيين لتأثر التالي والسامع به، وأما ما فيه تكلف وتصنع فهذه هي التي كرهها السلف والأتقياء من الخلف".

السابع عشر:
قال ابن قاسم في حاشيته على "الروض المربع" (2/209) : "والتغني الممدوح ما تقتضيه الطبيعة وتسمح به القريحة، من غير تكلف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خلي وطبعه استرسلت طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى: (لحبرته لك تحبيراً)".

وقال رحمه الله (2/207) : "ومن الناس من إذا حَدَرَ كان أخف عليه، وإذا رتل أخطأ، ومنهم من لا يحسن الحدر، والناس في ذلك على ما يخف عليهم، فيستحب لكل إنسان ملازمة ما يوافق طبعه ويخف عليه، فربما تكلف ما يشق عليه فيقطعه عن القراءة أو الإكثار منها"

الثامن عشر:
قال الأستاذ الدكتور محمد جبل في كتابه "التلقي والأداء" ص (94) : من المشكلات التنطع والتقعر في أمور عجيبة, كمقدار غنة النون والتنوين السابقين للراء عند من يقول بذلك, ومقدار تفخيم النون المخفاة أو ترقيقها, ومقدار حركة القلقلة ونوعها, وأمور كثيرة غير ذلك, حتى صار تجويد قراءة القرآن أمراً صعباً, وغلب تقعر هؤلاء وتنطعهم تيسير ذكر القرآن الذي أنعم الله علينا به (ولقد يسرنا القرآن للذكر), وكل ذلك من غياب الدراية.

التاسع عشر:
قال ابن الخطيب في "الفرقان" ص (144) : "فما بال القراء يلزموننا سماع تلك القراءات, ويتعبون العامة بتكليفهم فهم ما لم يكلفهم الله تعالى به.
وما لنا وتفخيم اللامات وترقيق الراءات وإبدال الأحرف مكان الأخرى, وإدغامها في بعضها حتى ليكاد السامع لا يفهم ما يقال, وهو من أرقى الكلام وأحسن النظام.
هذا غير تعسفهم في الغن والمد بما يخرج الكلام عن طلاوته واللفظ عن حلاوته".

العشرون:
قال أبو مزاحم الخاقاني المتوفى سنة (325) هـ في قصيدته المشهورة:
إذا ما تلا التالي أرق لسانه
فأول علم الذكر إتقان حفظه
وإن أنت حققت القراءة فاحذر الز
زن الحرف لا تخرجه عن حد وزنه
فبيِّن إذاً ما ينبغي أن تُبِيْنَه
وإن الذي تخفيه ليس بمدغم
وقل إن تسكين الحروف بجزمها
فحرك وسكن واقطعن تارة وصل
ومن يقم القرآن كالقدح فليكن
وأذهب بالإدمان عنه أذى الصدر
ومعرفة باللحن فيه إذا يجري
يادة فيه واسأل العون ذا القهر
فوزن حروف الذكر من أفضل البر
وأدغم وأخف الحرف من غير ما عسر
وبينهما فرق فعرفه باليسر

وتحريكها للرفع و النصب والجر
ومكن وميز بين مدك والقصر
مطيعاً لأمر الله في السر والجهر


فهؤلاء عشرون عالماً من كبار علماء الأمة الذين يستضاء بنور علمهم وفهمهم قد أجمعت كلمتهم على التحذير من صرف الهم إلى طريقة الأداء والتلاوة, وكلماتهم هذه كلها تؤكد بكل وضوح أن شأن القرآن سهل ميسور فيه حرية واسعة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بفضل شفاعته لهم أن يهون الله أمر القراءة على أمته, فاستجاب الله لنبيه وأكرمه.
وهذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة, فقد أخرج مسلم (772) عن حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة, ثم مضى, فقلت: يركع بها فمضى, فقلت: يصلي بها في ركعة, ثم افتتح النساء فقرأها, ثم افتتح آل عمران فقرأها, يقرأ مترسلاً, إذا مر بآية فيها تسبيح سبح, وإذا مر بسؤال سأل, وإذا مر بتعوذ تعوذ, ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم, فكان ركوعه نحواً من قيامه, ثم قال: سمع الله لمن حمده, ثم قام طويلاً قريباً مما ركع, ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى, فكان سجوده قريباً من قيامه).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صرف همه كله وتأمله إلى معاني تلك الآيات, إذا مر بآية فيها تسبيح سبح, وإذا مر بسؤال سأل, وإذا مر بتعوذ تعوذ, ولم يكن مشغولاً بالنظر في المدود والغنن وطريقة التلاوة! بل قد صرف همه كله إلى شيء آخر.

المسألة الثالثة:
مخالفة مدرسة التجويد عند المتأخرين لهذا الأصل الأصيل.
المبحث الأول:
مخالفة الأصل الأصيل في التحديدات الدقيقة لطريقة أداء التلاوة في مخارج الحروف وصفاتها والمدود والغنن والقلقلة وغيرها.
ودخول الأجهزة الإلكترونية.

إن مما يجب أن يعلم أن أمر التلاوة سهل ميسور, لا حاجة فيه لقيود دقيقة إذا سلم القارئ من اللحن والإخلال باللسان العربي الذي أنزل به القرآن.
ولكن الأمر صار عند القراء في هذا الزمان وفي أزمان سالفة شاقاً مكلفاً فلا بد أن يتمرن القارئ على طريقة مرسومة محدد فيها كل شيء وليس للقارئ أي اختيار, فيغتال معه التغني الحر والتدبر والهناء بالقراءة, فإذا قرأ صار يراعي تلك القواعد بكل تفاصيلها فليس له هم إلا هذا.

فعلى سبيل المثال:
أولاً:
ما يتعلق بالتدقيق في مخارج الحروف.
ولا يخفى على أحد اليوم ما يدور بين أهل التجويد من المجادلات الطويلة والخلافات والمشاحنات والردود في مسألة مخارج الحروف, وما يترتب عليها من الشحناء وإضاعة الجهود وتفلت الأعمار كل ذلك في غياب تام عن الغاية من القرآن, وكأن القرآن إنما أنزله الله تبارك وتعالى من أجل إتقان مخارج الحروف!

والأصل أن الحروف العربية ينطقها صاحب اللسان العربي نطقاً صحيحاً، بل حتى الأعجمي في غالب الأحيان, وإنما قد يحتاج إلى معرفة مخارج الحروف أعجمي لا يخرج الحرف من مخرجه فيقول مثلاً: (الهمد الله) أو يقول: (الرهمن الرهيم) أو يقول: (صراط الذين أنأمت عليهم) أو يقول: (ويغيمون الصلاة) فهذا هو من يحتاج أن يتعلم المخرج الصحيح للحرف.
أما ذو اللسان العربي فليس بحاجة إلى كثير من ذلك, كيف وهو يقرأ القرآن كما أنزل بلسان عربي مبين, دون زيادة ولا نقص, ولا تحريف ولا لحن, ولا إبدال حركة بأخرى.

قال أبو حيان كما نقله صاحب كتاب "دراسات في اللغة والقراءات" ص (101)
"إنما ذكر النحويون صفات الحروف لفائدتين:
إحداهما: لأجل الإدغام...
والفائدة الثانية: وهي الأولى في الحقيقة بيان الحروف العربية حتى ينطق من ليس بعربي بمثل ما ينطق به العربي".

وللإمام أبي حامد الغزالي كلام ثمين أنقله ففيه مقنع لكل متجرد.
قال أبو حامد الغزالي في "الإحياء" (3/399) : "من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه فهو غرور, إذ المقصود من الحروف المعاني, وإنما الحروف ظروف وأدوات.
ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين.
فذلك غرور أهل النحو واللغة والأدب والقراءات والتدقيق في مخارج الحروف, مهما تعمقوا فيها وتجردوا لها وعرجوا عليها أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين, فاللب الأقصى هو العمل, والذي فوقه هو معرفة العمل, وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه, وما فوقه هو سماع الألفاظ وحفظها بطريق الرواية, وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى ما فوقه, وما فوقه هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك, وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف.
والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل, فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل, فطالب بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات.
فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع, وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه, وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل القريب أو في المنزل البعيد, وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها".

وقال قال ابن الخطيب في "الفرقان" ص (136) : "من المعلوم بالضرورة أن الحروف ما جعلت إلا لتتكون منها الكلمات, والكلمات ما جعلت إلا للدلالة على معان مخصوصة, وليس للحروف ولا للكلمات وظائف غير ذلك.
فمن التنطع والتعسف أن يتمسك القراء بمخارج خاصة للحروف غير المخارج الطبيعية, بدرجة لا تمكن الإنسان من النطق اللهم سوى من روض نفسه وعود لسانه على إخراج أحرف معينة بصعوبة شديدة.
وإذا شئت أيها المتأمل المنصف دليلاً على ما أقول فما عليك إلا أن تراقب بعض الناس في صلاتهم عندما يصلون من الفاتحة إلى قوله تعالى: (والضالين)...
ويظل المصلي في صلاته هكذا يراعي مخارج الحروف, كأنه يشتغل بصناعة فنية متعبة مؤلمة حتى يخرج بذلك عن معنى الصلاة وعن معنى قراءة القرآن وعن معنى العبادة وعن معنى الوقوف بين يدي الله تعالى, وتنصرف عنه وعن قلبه وعن ذهنه كل هاتيك المعاني, ولا يبقى معه سوى الصناعة الرديئة".

ثانياً:
التدقيق في مسألة تحديد زمن المد, وهو أمر لا أصل له, بالاتفاق كما سيذكر الإمام مكي بن أبي طالب رحمه الله في النقل الآتي.

فقد ذكر الإمام مكي بن أبي طالب أن المد ليس له حد ولا يقدر بالحركات.
فقد قال في كتابه "تمكين المد" ص (36) : "(فصل في أن المد لا يحصر وأن تقديره بالألفات للتقريب على المبتدئين)
والتقدير عندنا للمد بالألفات إنما هو تقريب على المبتدئين وليس على الحقيقة, لأن المد إنما هو فتح الفم بخروج النفس مع امتداد الصوت وذلك قدر لا يعلمه إلا الله, ولا يدري قد الزمان الذي كان فيه المد للحرف ولا قدر النفس الذي يخرج مع امتداد الصوت في حيز المد إلا الله تعالى, فمن ادعى قدراً للمد حقيقة فهو مدعي علم الغيب
وقد وقع في كتب القراء التقدير بالألف والألفين والثلاثة على التقريب للمتعلمين ... ولم يقل أحد من القراء والنحويين: إن المد يحصر في قدر ألف وقدر ألفين وأنه لا يكون أكثر ولا أقل هذا لم يقله أحد.
ألا ترى أن أبا إسحاق الزجاج قال: لو مددت صوتك يوماً وليلة لم يكن إلا ألفاً واحدة"اهـ

وقال الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله في "جامع البيان" (1/342) بعد أن ذكر مراتب القراء في طول المد: "وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة".

وقال ابن الجزري في "النشر" (1/333) بعد أن ذكر مراتب المد عند القراء: "فهذا ما حضرني من نصوصهم, ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب، وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط، والمنضبط من ذلك غالباً هو القصر المحض, والمد المشبع من غير إفراط عرفاً، والتوسط بين ذلك".

وقال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "حديث الأحرف السبعة" ص (177) : "بعض أوجه الأداء يصعب حصول التواتر على نقلها ولا يتصور وقوعه, كضبط مقادير المدود بالحركات, فإن الاتفاق على ضبط ذلك بتلك الدقة المتناهية شيء فوق طاقة البشر, لذلك تجد الروايات مختلفة اختلافاً كبيراً في مقدار مد المتصل".

وقال ابن الخطيب في "الفرقان" ص (143) : "فما الفائدة من المحافظة على الأشياء الشكلية المتكلفة إذا نحن تركنا روح القرآن ولبه والتفهم لعباراته والتنبه لإشاراته.
فالقرآن الكريم لم ينزل لمحض التبرك به في المنازل... وترديد كلماته, ومراعاة مدودة والمحافظة على غناته وملازمة سكتاته, إنما نزل القرآن لنقف على أسراره ونسير في أضوائه وأنواره".

ثالثاً:
تحديد صفة وكيفية القلقلة.

قال الأستاذ فرغلي سيد عرباوي في "حروف القلقلة" ص (57) : الذين قالوا بترك انفراج عند القلب والإخفاء الشفوي اختلفوا في قدرها:
فمنهم من قال: بقدر ورقة.
ومنهم من قال: بقدر شعرة أو شعرتين.
ومنهم من قال: بقدر سن قلم.
ومنهم من قال: بقدر أن يرى الناظر بياض أسنانك.
ومنهم من قال: الغنة حركتان, حركة بفرجة, والأخرى من غير.

وقال ص (58) : القلقلة منهم من قال: هي أقرب للفتح مطلقاً, ومنهم من قال: هي أقرب للضم, ومنهم من قال: هي أقرب للكسر, ومنهم من قال: تتبع حركة ما بعدها.

وقال ص (120) وأنقل لكم أحدث صيحة عالمية حديثة في نطق القلقلة.
قال بعضهم: القلقلة نوعان:
مستفلة ومستعلية, فالمستفلة مائلة إلى الفتحة مشمة بكسر خفيف... أما إذا كانت القلقلة من حروف الاستعلاء فلا بد من إشمام فتحتها بضم خفيف... الخ.

رابعاً:
تحديد كيفية الغنة ومقدارها.
قال الدكتور مساعد الطيار في كتابه "مقالات في علوم القرآن" (2/411) : هذا العلم قد دخله الاجتهاد في بعض مسائله، وذلك من دقائق ما يتعلق بهذا العلم، ومما يحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير من المتخصصين في هذا العلم وذلك في أمرين:
الأول: المقادير، والمقصود بذلك مقدار الغنة والمدود والسكت وغيرها مما يقدر له زمن بالحركات أو بقبض الأصبع أو بغيرها من موازين المجودين للزمن المقدر.
وليس القول بدخول الاجتهاد في المقادير يعني أنه لا أصل لها، بل لها أصل لكن تقدير الزمن بهذا الحد بالذات مما تختلف فيه الطبائع ويصعب ضبطه، فيقدره هذا بذاك العدد ويقدره آخر بغيره من العدد".

وذكر الدكتور علي الغامدي أن عامة القراء المتأخرين قد أخطؤوا في تقدير الغنة بمقدار حركتين.
فقد قال في كتابه "اللحن" ص (62) : "غنة المشدد والمدغم والمخفى قد اجتهد بعضهم فقدرها بحركتين, وأصبح هذا عرفاً شائعاً عند عامة مقرئي وقراء هذا الزمان, بل أصبح من يقصر عن هذا المقدار يعد من اللاحنين, بل جعله بعضهم من الآثمين, وهذا التقدير لا أعلم له أصلاً في تقدير المتقدمين, ولعله وليد العصور المتأخرة القريبة".

وفي ما يتعلق بالإشمام
قال ابن الخطيب في "الفرقان" ص (134) : "الإشمام وهو ضم الشفتين كمن يريد النطق بضمة من غير أن يظهر لذلك أثر في النطق.
فبربك أيها القارئ المنصف ما لزوم ضم الشفتين كمن يريد أن ينطق بضمة من غير أن يظهر أثر ذلك في النطق.
أيريد القراء أن يقوم المسلمون أثناء تلاوتهم قانونهم الأسمى وكتاب ربهم الأعلى بحركات بهلوانية غير مفهومة ولا معلومة كحركات المهرجين.
وإلا فما معنى أن ينطق الإنسان بالحرف مفتوحاً ثم يمط شفتيه كمن يريد أن يضم الحرف بشرط أن لا يظهر أثر ذلك الوضع العجيب في النطق.
إنني أقولها في صراحة الحق وجرأة المحق: إن ما يقولونه ويريدون أن يلزموا به سائر المسلمين باطل مردود سمج ممجوج لا يرضى به منزل القرآن جل وعلا ولا من نزل عليه القرآن صلوات الله وسلامه عليه, ولا من نزل إليهم القرآن من العقلاء المكلفين, وهو من العبث الذي يجب أن تصان عنه أفعال الراشدين"اهـ

وهناك ما هو أدهى مما سبق ذكره من هذه التحديدات الدقيقة التي لا أصل لها, بل هي مناقضة للأصل الأصيل الذي سبق بيانه.
ألا وهو دخول الأجهزة الالكترونية الحديثة في تعليم تلاوة القرآن.

لقد بات من الضرويات المتحتمات على كل طالب علم أن يشارك في توعية الناس بخطورة الغلو في ما يتعلق بقراءة القرآن, وبتذكيرهم أن تسهيل القراءة كان هو المطلب الذي حرص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم رفقاً بالأمة, ومحافظة على قلوبهم من التشتت الذي يضيع معه الانتفاع بكلام الله.

إنك تتحير أحياناً هل أنت في مستشفى وعيادات خارجية أم في تعليم قراءة القرآن الذي قال الله فيه (ولقد يسرنا القرآن للذكر).
لقد أصبحت بعض كتب التجويد كأنه كتاب أحياء أو كتاب في الطب, أو لوحة معلقة في عيادة, قد ملئ بصور اللسان الحنجرة والرأس والصدر.

ولقد صار بعض المهتمين بمسائل التجويد يطالبون بدخول الأجهزة الحديثة الإلكترونية والفيزياء والتشريح وغيرها في تعليم التجويد.

يقول أحد أهل العلم الفضلاء: "التجديد في جوانب تدريس علم التجويد له مسوغات ومبررات تدعو إليه، ويجب أن يكون القائمون عليه والمتخصصون فيه مبادرين إلى إقامة علاقات أخوية وعلمية مع الزملاء المتخصصين في اللغة وخاصة في علم الأصوات الحديث، وفي الفيزياء ولا سيما الصوتية، وفي الالكترونيات وهندستها، وفي طب الأنف والأذن والحنجرة وتشريحها, لأن هناك قطيعة بين المتخصصين في هذه التخصصات.

ثم يقول: من الأجهزة التي تنفعنا في هذا جهاز Stroboscopy لتصوير الحنجرة, وهذا يساعد على معرفة مخارج الحروف الحلقية، وتحقيق كلام العلماء في ذلك ومدى دقته، ومعرفة معنى قولهم: أقصى الحلق، ووسطه، وأدناه، ويكشف هذا الجهاز عن وضع الأوتار الصوتية أثناء الكلام، مما يساعد في معرفة كيفية حدوث صفة الجهر والهمس. وكيف تكون هذه الصفات, ومن أفضل ما رأيته في هذا الجهاز أيضاً أنه يكشف عن وضع غضروف الحنجرة المسمى بالغلصمة أثناء نطق الحروف المفخمة كالصاد والظاء، واسمه بالانجليزية (Epiglottis)
حيث يذهب علماء الصوتيات الحديثة إلى أن التفخيم للحروف يحدث بتقعر لوسط اللسان مع تضييق في الحلق، وكشف منظار الحنجرة أن مكان هذا التضييق يكون عند غضروف الغلصمة هذا.
ولهذا الجهاز فوائد تظهر بالتجربة والتطبيق، وله صور واضحة جداً لكل هذه المراحل التطبيقية, ومما أعجبني أن هناك تفاوت طفيف في نطق الحرف الواحد عند المتكلمين، بحسب درجة الصوت.
جهاز Nasometer وهو مفيد لقياس الغنة ومخرجها، وهو من أهم الأجهزة لمعرفة مقادير الغنة في الحروف الأنفية كالميم والنون، وفي معالجة بعض العيوب النطقية كمن يتكلم من أنفه، أو يخرج بعض الحروف غير الأنفية مختلطة بالغنة, كما يساعد وهذه من أهم وظائفه في تحديد نسبة غنة النون عند حروف الإخفاء الخمسة عشر.
جهاز Palatometer لقياس مخارج حروف الحنك اللسانية، وهو مخرج القاف والكاف والجيم والشين والياء.
جهاز Spectrogram لتحليل الطيف, وهو من أهم الأجهزة التي تساعد في عملية تصحيح النطق وتجويد الحروف، حيث يقوم بعرض صورة مرئية للنطق تكشف عن خصائص الكلمة المنطوقة, وهذا ينفع في معرفة صفات الحروف وخاصة التفخيم والترقيق والإطباق ونحوها.
ولا أشك أن هناك أجهزة أخرى مهمة في هذا الموضوع"انتهى.

قلت: لا شك أن هذا من الغلو والتنطع الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو من أسباب تنفير الناس من تعلم القراءة الصحيحة.
وإن التعمق في تحديد المخارج ووضع اللسان مخالف للطبيعة التي خلق الله الإنسان عليها، والأصل في الإنسان العربي أنه ينطق الحروف نطقاً صحيحاً سليماً, أما الأعجمي فلا يحتاج إلى أجهزة وفيزياء, فالأمر أهون من ذلك, وقد أنزل القرآن على سبعة أحرف حتى لا تصعب قراءته على أحد, فالمقصد منه ليس اللفظ باتفاق المسلمين, ولهذا نرى القدماء من العلماء والقراء لم يغالوا هذا الغلو الشديد في أمر المخارج وصفات الحروف.

المبحث الثاني:
مخالفة الأصل الأصيل في الغلو في أمر القراءات والتجويد.
اشتهر عند المتأخرين عن عهد السلف والقراء التعظيم الشديد والغلو في شأن الأحرف والقراءات.
وهذا أمر لا يعرف له وجود عند أحد من الصحابة أو التابعين أو القراء أو السلف.
وإنما حصل هذا فيمن جاء بعدهم.
أما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم على علم واضح أن أمر القراءات لا يتعدى مسألة الرخصة والتهوين, ولذلك حين صار الاختلاف بين القراء سبباً للشقاق عمد عثمان رضي الله عنه كما هو مشهور ومعروف إلى إلغاء كثير من الأحرف والقراءات وأبقى على حرف واحد, وهو حرف قريش الذي به نزل القرآن, وكان ذلك بإجماع الصحابة.
إن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) إلا الرخصة فحسب, أي: أنها رخصة وتسهيل لمن احتاج إلى ذلك, ولذلك تراهم لا يعظمون تلك الأحرف والقراءات ولا يهتمون بها, بل هم في غفلة وفي شغل عنها.

ولم يكن هذا حال الصحابة رضي الله عنهم دون غيرهم من أهل القرون الفاضلة بما فيهم القراء العشرة ورواتهم وغيرهم.
بل هذا حال الجميع, فقد كانوا في وقت تنتشر فيه الأحرف والقراءات انتشاراً عظيماً, فكانوا يواجهون ذلك السيل من القراءات بالاختيار, ثم ينتهي كل شيء.
لا تشغلهم تلك الاختلافات عن القرآن نفسه, لأنهم يملكون التصور الصحيح لأمر الأحرف كما ملكه الصحابة والتابعون.

وهذا ما خالف فيه المتأخرون من القراء, من القرن الخامس فما بعده, حيث عظموا هذه الأحرف وصار الكلام فيها وعنها وعن تفاصيلها يطغى على القرآن وعلى الغاية التي أنزل من أجلها القرآن, واعتقدوا أن تعملها يساوي تعلم القرآن, واعتقدوا أنها كلها منزلة من الله, وأن جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بها كلها, وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ الصحابة بتفاصيل تلك الأحرف والقراءات كلها, وهذا لم يقل به أحد من المتقدمين في القرون المفضلة أو القراء.
من هنا عظم المتأخرون تلك الأحرف والقراءات وغلوا فيها, ووضعوها في منزلة فوق منزلتها الحقيقية التي دلت عليها نصوص الشريعة.

والغلو في أمر القراءات قديم.
هذا الإمام ابن حزم عفا الله عنه يقول في "الإحكام في أصول الأحكام" (4/674) : "دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل عظيمة من عظائم الإفك والكذب, ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام".
واستشاط غضباً سامحه الله وعفا عنه حتى حكم بالردة والخروج من الإسلام على من يعتقد ذلك.
فقال: "وتالله إن من أجاز هذا غافلاً ثم وقف عليه وعلى برهان منع ذلك وأصر فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه".
مع أن الذين يعتقدون ذلك هم جماهير أهل العلم من السلف والخلف, وهو القول الصواب المقطوع به.
ولكنه الغلو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ناحية آخرى:
وهو مظهر من مظاهر الغلو في أمر القراءات والتجويد.
يتميز كثير من أصحاب مدرسة القراءات والتجويد من المتأخرين بالشدة مع من يخالفهم, وعدم اتساع الصدور للختلاف, فسرعان ما يتهم المخالف بالجهل أو الطعن في القرآن أو القراءات أو غير ذلك.
بينما لا تجد هذه الشدة وهذا الغلو عند أصحاب العلوم الأخرى, كالمحدثين أو الفقهاء أو المفسرين أو غيرهم.
وإليك نماذج يسيرة مختصرة توضح هذا الواقع المر:
وهي نماذج لا يجمعها رابط, لكن تدل كلها على الغلو في ما يتعلق بأمر القراءات والتجويد, والتعصب والشدة على المخالفين, وعدم سعة الأفق.
قال محمد مكي نصر كما في كتاب "القول المفيد في وجوب التجويد" لمحمد موسى نصر ص (31) : من حلف أن القرآن بغير تجويد ليس قرآناً لم يحنث.

وذكر محمد مولود الموسوي في كتابه "القول السديد" أن القراءة بدون تجويد لحن, وأن اللاحن لا ثواب له في القراءة, وأن صلاته باطلة إن تعمده حتى لو كان لحناً خفياً, وأن قراءة غير المجود لا تنفعه. ذكره الدكتور محمد المختار في "تاريخ القراءات" ص (657)

وقال شيخ آخر: اعلم أن الأجر الذي في قراءة القرآن متوقف على التجويد, وأن اللاحن لا أجر له. ذكره الدكتور محمد المختار في "تاريخ القراءات" ص (671)

وقال محمد علي خلف في رسالته "القول السديد" ص (3): "إذا لم يراع القارئ قواعد العرب من ترقيق المرقق وتفخيم المفخم وإدغام المدغم إلى غير ذلك مما هو لازم في كلامهم فكأنه قرأ القرآن بغير لغة العرب, والقرآن ليس كذلك, فهو ليس بقارئ بل هادم, وعدم قراءته خير له, وهو بها داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه).

وكذلك قال الشيخ زكريا الأنصاري المتوفى سنة (926) هـ في شرحه للمقدمة الجزرية ص (48) : "والقارئ بتركه التجويد من الداخلين في (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه).

وذكر الشيخ عبد العزيز القارئ في كتابه "قواعد التجويد" ص (42) أن التجويد قسمان: واجب وصناعي, ثم قال: القسم الثاني: صناعي: وهو ما يتعلق بالمهارة في إتقان النطق الصحيح، وذلك ببلوغ الغاية في تحقيق الصفات والأحكام، وضبط مقادير المدود ضبطاً دقيقاً لا يزيد نصف درجة ولا ينقص، بل بعض القراء يزن المدود بأدق من ذلك فيفرق بين ربع الحركة في الزيادة أو النقص".

وذكر الدكتور عبد العزيز القارئ كما في "لقاءات ملتقى أهل التفسير" ص (20) فتوى بعض الناس بعدم وجوب التجويد فقال: مثل هذه الفتوى هي من نوازل هذا العصر, لم يعهد فيمن تقدم من يفتي بذلك.
ثم قال: إن كانت هذه الفتوى من جاهل فيجب أن يؤدب!

وقال صاحب كتاب "غاية المريد" ص (38) : أجمعت الأمة المعصومة على وجوب التجويد, وذلك من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا, ولم يختلف فيه منهم أحد".

وقال أحد المؤلفين بالتجويد: كثير من الدعاة والأئمة وأصحاب الشهادات العالية لا يحسنون تلاوة كتاب ربهم.

وقال آخر: إن آخر من نطق بالضاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو عمر.

وبلغ الغلو مداه عند بعض المغاربة حتى زعم أن قراءة أهل الجنة برواية ورش.
وزعم آخر أنه رأى الطلبة مناماً يقرؤون القرآن جماعة برواية ورش بين يدي الله تعالى في الجنة, كما في كتاب "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" لعبد الهادي حميتو.

وذكر ابن الجزري رحمه الله في "منجد المقرئين" ص (199) كلاماً لأبي شامة في مسألة التواتر ثم قال: "فانظر يا أخي هذا الكلام الساقط الذي خرج من غير متأمل, المتناقض في غير موضع في هذه الكلمات اليسيرة.
أوقفت عليها شيخنا الإمام الجمالي فقال: ينبغي أن يعدم هذا الكتاب من الوجود ولا يظهر البتة وأنه طعن في الدين"اهـ

وقال عفا الله عنه عن جماعة من العلماء: ما هم إلا نويس لا اعتبار بهم.
فقد قال في "منجد المقرئين" ص (200) عن جماعة من العلماء واللغويين الذين كان لهم رأي في بعض القراءات: "ما هم إلا نويس لا اعتبار بهم ليس لهم معرفة بالقراءات ولا بالآثار... فانظر يا أخي إلى قلة حياء هؤلاء من الله تعالى"اهـ

وذكر أبو نصر القشيري كما في "المنجد" ص (202) أن من رد قراءة يرى أنها ضعيفة فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم واستقبح ما قرأ به.

وذُكِرَ عن مفتي البلاد الأندلسية أبي سعيد فرج بن لب قوله: "إن من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر, لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة". انظر: "مناهل العرفان" (1/435)

ولما جمع ابن مطرف الكناني كتابي ابن قتيبة رحمه الله "تأويل مشكل القرآن" و"غريب القرآن" في كتابه (القرطين) حذف ما ذكره ابن قتيبة من انتقاده لقراءة حمزة، وقال: أنه حذف هذا الباب لخلوه من الفائدة.
وقد علق عليه محقق كتاب "تأويل مشكل القرآن" السيد أحمد صقر فقال: وهو قول يدل على عصبية مضلة، وغفلة عن قيمة الحقائق العلمية...".

وقال أبو حيان في "تفسيره" (3/159) بعد أن ذكر رأياً للإمام ابن عطية في قراءة من القراءات قال: "هذه جسارة قبيحة من ابن عطية".

وألف أحدهم رسالة علمية بعنوان "دفاع عن القراءات في مواجهة الطبري المفسر" فاتهم الإمام الكبير ابن جرير الطبري إمام المفسرين والعلماء بأنه قد سل سيفه من غمده ليقطع به هذه القراءات, وأنه أول من فتح باب الطعن في القراءات, وأنه دلس على الأمة بخلطه القراءات, وأنه يتعمد الطعن في القراءات, وأنه آثم في ذلك.

ووصف آخر كلام الإمام ابن جرير في بعض القراءات بأنه إجرام!

هذه أمثلة يسيرة من واقع كبير مُرٍّ أجاج يدلك على ما بلغ إليه الحال عند بعض من يَغْلُون في مسائل القراءات والتجويد.
وكان الأجدر أن يكون أهل القرآن العظيم أعظم الناس خلقاً وأشرحهم صدوراً وأعذرهم لمن يخالفهم.

المسألة الرابعة:
اختلال كثير من قواعد التجويد وهدمها من قبل القراء المتأخرين ومشايخ التجويد أنفسهم.

المبحث الأول:
تحطم كثير من القواعد بالاختلاف العريض فيها وتخطئة القراء بعضهم لبعض.

إن كثيراً من قواعد التجويد ومسائله لا تقوم على أرض صلبة فطالما حصل النقد لمسائل كثيرة في أبواب التجويد من علماء التجويد والقراءات المتأخرين أنفسهم.
حتى حصل في كثير من الأحيان الاختلاف الواسع والتعارك الشديد بين أصحاب مدرسة التجويد المتأخرين في مسائل كثيرة جداً وفي أبواب مختلفة من التجويد.
فلا تكاد تجد مسألة إلا وقد تعرضت للطعن والنقد من القراء ومشايخ التجويد أنفسهم فكيف يطمأن إلى تلك القواعد!

وإليك نماذج يسيرة من هذا الاختلاف والنقد.

فمما يتعلق بمخارج الحروف:
قال المرعشي في "بيان جهد المقل" ص (18) : "لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء أكثر شيوخ الأداء، والشيخ الماهر الجامع بين الرواية والدراية المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات أعز من الكبريت الأحمر، فوجب علينا أن لا نعتمد على أداء شيوخنا كل الاعتماد، بل نتأمل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفن، ونقيس ما سمعنا من الشيوخ على ما أودع في الكتب، فما وافق فهو الحق، وما خالفه فالحق ما في الكتب".

وقال الأستاذ فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة" ص (21) : والحذر من أخذ المخارج من بعض شيوخ العصر الذين يتذوقون الحروف بلهجتهم العامية, ويقعدون لتلاوتهم, ثم يرفعون هذا التقعيد على أنه رواية عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم, فقد نشأ جيل دخل على لسانه العجمى بسبب كثرة انتشار أمثال هؤلاء الشيوخ ومن على شاكلتهم, وهناك فريق منهم تزعم الطعن في المشايخ المسندين وفي أسانيد القراء...
وقال أيضاً ص (14): "وهي قضايا لم أتفرد بالتنبيه عليها, فقد سبقني شيوخ الشام إلى ذلك".

وفي صفات الحروف:
قال الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر في كتابه "التلقي والأداء" ص (104) : وقد ترتب على عدم فهم معنى الجهر والهمس والشدة والرخاوة أن مدرسي التجويد الآن ينطقون الضاد (المصرية) شديدة, وهم يظنون ويقولون: إنها رخوة.
وينطقون الطاء والقاف مهموستين, وهم يظنون ويقولون: إنهما مجهورتان.
وينطقون الجيم رخوة, ويظنون أنها شديدة, وقد سمعت من يقرأ بالفاء مجهورة مثل ال (v), ومن يلحق بالتاء الساكنة سيناً وهكذا.
والنتيجة النهائية لهذا هي عدم معرفتهم أو استجابتهم لبيان النطق الصحيح, لأنهم يظنون أنهم على صواب.
بل إنه ترتب على عدم فهم الجهر والهمس والشدة والرخاوة خاصة أن الشيخ الفاضل محمد مكي نصر رحمه الله نقل في كتابه "نهاية القول المفيد" عن ملا علي القاري المتوفى سنة (1014) هـ كلاماً معظمه صحيح, ويوطئ لفهم هاتين المجموعتين من الصفات فهما صحيحاً, لكنه عندما انتقل إلى الكلام عن الجهر والهمس والشدة والرخاوة كلاماً علمياً بتعريف كل منهما وبيان العلاقة بينهما لم يستطع الاستفادة من كلام القاري, وبث في الكلام عن هاتين المجموعتين أخطاء يحتاج بيان مواطن الخطأ فيها وتصويبها إلى عدة صفحات.

وقال ص (152) : تفسير الإطباق بأنه إلصاق وسط اللسان أو ظهره بسقف الحنك كما ذكر كثيرون غير صحيح, ثم علل لذلك.
وقال ص (153) بعد أن ذكر تعريفهم للاستعلاء: وهذا كله غلط.
وقال ص (154) : وبذلك يعلم أن قول ابن الجزري: إن الياء هي أكثر الحروف المستفلة استفالاً هو قول مبني على معنى غير دقيق.
وقال ص (92) : كتب المتأخرين جمد أكثرها على ما قاله القدماء, بل أضاف بعضهم إضافات سلبية.
ثم ذكر أمثلة كثيرة.
وقال ص (94) : إن إعراض معلمي التجويد عن الدراسة الجادة وعن الدراية هو الذي جعلهم لا يستطيعون تمييز الصواب من الخطأ فيها.
وقال ص (94) : إن النطق الصحيح للقاف والطاء غمض بل ضاع من ألسنة الكثيرين الآن.

وقال الدكتور مساعد في كتابه "مقالات في علوم القرآن" (1/144) : عندي في صفات الحروف تساؤلات منها:
هل الصفات التي تدرس من خلال الجزرية صفات متفق عليها, بحيث لا يزاد عليها ولا ينقص.
ما حال الصفات التي ذكرها السابقون ولم يتعرض لها ابن الجزري, كالصفات التي ذكرها مكي في "الرعاية".
إن المتأمل في الصفات التي ذكرها ابن الجزري يجد الملحوظات الآتية:
أولاً: إن بعض الصفات لا علاقة لها بالصوت, ولا تؤثر في طريقة خروج الحرف... وإذا كان كذلك فذكره في صفات الحروف فضلة, بل لا داعي له.
ثانياً: من الصفات ما يكون له أثر في قوة الحرف دون أن يكون له أثر مباشر في نطقه, كالهمس والإطباق... والذي يظهر لي أنه لو لم تذكر هاتان الصفتان فإنهما لا تؤثران في أداء الحرف من الجهة الصوتية...
ثالثاً: تذكر صفات بعض الحروف ولا يحرر المراد بالكيفية...
ألا يمكن صياغة الصفات صياغة تتناسب مع ما يكون له أثر في النطق... ولا يقال: إن في هذا تغييراً لما هو مألوف منذ قرون, فهذا التغيير خاضع للاجتهاد, ولا زال العلماء يحررون في العلوم ويستدرك بعضهم على بعض دون أن يكون في ذلك غضاضة, ولو قيل مثل هذا لابن الجزري لما ترك الصفات التي أوصلها مكي إلى قرابة الأربعين صفة, لكنه حرر واجتهد.
بل إنني أدعو إلى صياغة علم التجويد صياغة تتناسب مع التطبيق, وتقلل من التنظيرات والعلل التي ليست من صلب هذا العلم, وكذا ما دخله من اجتهادات متأخرة صار العمل عليها عند بعض المقرئين".

وفي تحديد زمان المد:
قال الدكتور مساعد في كتابه "مقالات في علوم القرآن" (2/411) : هذا العلم قد دخله الاجتهاد في بعض مسائله، وذلك من دقائق ما يتعلق بهذا العلم، ومما يحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير من المتخصصين في هذا العلم وذلك في أمرين:
الأول: المقادير، والمقصود بذلك مقدار الغنة والمدود والسكت وغيرها مما يقدر له زمن بالحركات أو بقبض الأصبع أو بغيرها من موازين المجودين للزمن المقدر.
وليس القول بدخول الاجتهاد في المقادير يعني أنه لا أصل لها، بل لها أصل، لكن تقدير الزمن بهذا الحد بالذات مما تختلف فيه الطبائع، ويصعب ضبطه، فيقدره هذا بذاك العدد، ويقدره آخر بغيره من العدد.
الثاني: التحريرات: والمراد بها الوجوه القرائية الجائزة عند القراء عند جمع القراءات...

وقال كذلك (2/142) : "إنني أنصح طلاب هذا العلم أن يرتقوا به في التحقيق, بقراءة ما سطره العلماء السابقون, ومعرفة ما أحدثه المتأخرون من تعليلات وأحكام لا تجدها عند المتقدمين".

وقال أيضاً (1/148) : "التجويد قد دخله اجتهادات متأخرة صار العمل عليها عند بعض المقرئين وليس فيها سند عن المتقدمين".

وقال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "حديث الأحرف السبعة" ص (177) : "بعض أوجه الأداء يصعب حصول التواتر على نقلها ولا يتصور وقوعه, كضبط مقادير المدود بالحركات, فإن الاتفاق على ضبط ذلك بتلك الدقة المتناهية شيء فوق طاقة البشر, لذلك تجد الروايات مختلفة اختلافاً كبيراً في مقدار مد المتصل".

وفي تحديد زمان الغنة:

ذكر الدكتور علي الغامدي أن عامة القراء المتأخرين قد أخطؤوا في تقدير الغنة بمقدار حركتين.
فقد قال في كتابه "اللحن" ص (62) : "غنة المشدد والمدغم والمخفى قد اجتهد بعضهم فقدرها بحركتين, وأصبح هذا عرفاً شائعاً عند عامة مقرئي وقراء هذا الزمان, بل أصبح من يقصر عن هذا المقدار يعد من اللاحنين, بل جعله بعضهم من الآثمين, وهذا التقدير لا أعلم له أصلاً في تقدير المتقدمين, ولعله وليد العصور المتأخرة القريبة".

ومما يتعلق بالغنة أيضاً:
قال المتولي كما في كتاب "الإمام المتولي وجهوده" للدوسري ص (272) : "اعلم أن ما ذكرنا من منع إظهار الغنة على وجه الإدغام الكبير لأبي عمرو, وهو ما عليه شيوخنا وسائر من علمناهم, والآن ظهر لنا من كلام النشر أن الأمر بخلافه".

وفي مسألة الاختلاف في تعيين حروف القلقلة:

ذكر الدكتور عرباوي في كتابه "حروف القلقلة" ص (77) أن في كتاب الإيضاح للخراساني أن اللام من حروف القلقلة.
وعند سيبويه أن التاء من حروف القلقلة.
وعند المبرد أن الكاف من حروف القلقلة.
وعند ابن أبي مريم الشيرازي أن الضاد والزاي والذال والظاء من حروف القلقلة.
وذكر ابن الجزري في "النشر" أن بعضهم يعد الهمزة من حروف القلقلة.

واختلفوا في القلقلة هل تكون حال الوصل فقط أم حتى في الوقف, كما في "حروف القلقلة" لفرغلي عرباوي ص (117)

وفي النطق بالقلقلة:
قال الدكتور عرباوي ص (125) : مما اتفق عليه المهتمون بعلم القراءات والتجويد أن وصف علماء العربية ولاحقيهم من علماء التجويد الأوائل لصوت القلقلة لا ينطبق اليوم على نطق بعض القراء, وهذا الأمر قد جاء عن طريق بعض الاجتهادات المتأخرة, وهذا التغير لم يحظ باعتراف كثير من القائمين على أمر تعليم تلاوة القرآن في زماننا والمؤلفين لكتب علم التجويد, وقد أدت تلك الحالة إلى تناقض القواعد بين القدامى والمحدثين.

وقال ص (237) : "إن وصف علماء العربية والتجويد الأوائل لحروف القلقلة لا ينطبق اليوم على نطق بعض القراء في عصرنا, وهذا يدل على أن تغييراً قد حصل في المشافهة بهذه الحروف, وهو تغير يشمل مخرج هذه الحروف وصفاتها, ولكن هذا التغيير لم يحظ باعتراف كثير من المخلصين الرافضين لتطوير قواعد القراءة التوقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهناك من تشبث بقبول هذا التطوير في مناهج كتب التلاوة, ولقد أدى ذلك إلى تناقض بين ما يكتب وما ينطق".
وذكر من الأخطاء في ذلك: إعمال مخرج الفتحة معها, والزيادة في حروف القلقلة, وتشديد الحرف المقلقل, وإدخال همزة في نهاية القلقلة, ومضغ القلقلة, ونطق الجيم الساكنة برخاوة خالصة, والاستمرار بضم الشفتين عند الحرف الساكن المقلقل إذا كان قبله مضموماً, وإعمال المجرى الخيشومي مع بعض أحرفها, وإخراج الهمس في نهاية النطق بحرف القلقلة.

وقال ص (217) : "منهج أئمة التجويد القدامى في ذكر مراتب القواعد مُبَسَّط يسهل تناوله واستيعابه بسرعة, ولا يحتاج لمجهود ذهني كبير لفهمه"
ثم ذكر أن تلامذة ابن الجزري هم أول من أسس لفكرة مراتب القلقلة.

وقال الدكتور يحيى الغوثاني في كتابه "علم التجويد" كما ذكر صاحب كتاب "حروف القلقلة بين القدامى والمحدثين" ص (139) : "لقد ذهب بعض المعاصرين مذاهب شتى في كيفية أداء القلقلة, فمنهم من يقول: تتبع حركة الحرف الذي قبلها, ومنهم من يقول: تتبع حركة الحرف الذي بعدها, ومنهم من يقول: تميل إلى الفتح مطلقاً, إلى غير ذلك من الآراء الاجتهادية, والصواب أن القلقلة اهتزاز حرف القلقلة في مخرجه ساكناً".

وقال الأستاذ فرغلي عرباوي أيضاً ص (130) : بعض قراء القرآن من المصريين في عصرنا تأثر ببعض الأقوال التي اعتمدت القول بتبعيض الحركة عند التلفظ بحروف القلقلة, فانتشر الأمر عن طريقهم, وعن طريق من تتلمذ عليهم, وكان تأثير قراء القرآن المصريين كبيراً في العالم الإسلامي, ونسمع اليوم كثيراً من القراء يتابعونهم على هذا الأداء... وصوت القلقلة التي نسمعها من بعض مجيدي القرآن اليوم يختلف عن كيفية القلقلة التي وصفها ابن الجزري, وتحدث عنها علماء القراءة والتجويد السابقون في كتبهم, والنص لا يتغير مهما طال عليه الأمد, أما التلقي فقد يعتريه بعض التغير مع مرور الزمن.

وفي تقسيم مراتب التفخيم:

قال الأستاذ فرغلي سيد عرباوي في "حروف القلقلة" ص (58) : من المسائل الخلافية التي وقع فيها التنازع بين المعاصرين مسألة تقسيم مراتب التفخيم إلى خمس مراتب, ثم يأتون عند المرتبة الرابعة ويأبون إلا أنها تتبع ما قبلها في الحركة, ثم ينقضون ما قرروه فيما لو وقع بعد الساكن راء فخيمة.

وفي مسألة الإخفاء الشفوي في مسألة الميم الساكنة عند الباء: (إطباق الشفتين أو الفرجة)
والمعارك فيها قائمة إلى الأبد ولن تضع الحرب أوزارها.
وقد ألف فيها عدد من الرسائل ما بين مثبت مؤيد وناف مستنكر.
قال الدكتور أيمن سويد وفقه الله: "هذه المسألة تتبعتها أكثر من عشرين عاماً, وكنت مقتنعاً بموضوع إبقاء الفرجة, وكنت أعتقد أنها صواب عشرين عاماً من عمري, وأقرأت بها عدداً كبيراً من الإخوة, ثم تبين لي لطول التمحيص والبحث مع الشيوخ والبحث في كتب التجويد والقراءات مخطوطها ومطبوعها, وبعد بحث عشرين عاماً تبين لي وضوح الشمس أن هذه المسألة محدثة, وأنه لا سند لها".

وقال الأستاذ فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة" ص (53) : مصنفات التجويد والقراءات القديمة تنص نصاً صريحاً بإطباق الشفتين عند التلفظ بالإخفاء الشفوي, وسموا هذا العمل إخفاء, ثم جاء أصحاب المصادر الثانوية وقالوا بتقليل الاعتماد على الشفتين, ثم تطور القول بالتقليل وأصبح فرجة في الكتب الحديثة.

وفي الضاد معارك لا تنتهي وبحوث ومؤلفات وردود وأعمار تتفلت سداً.
فيقول أحدهم: قد أخذ مني البحث في صوت (الضاد) خمسة وعشرين عاماً، ولم يكن من يقرئوننا في المساجد مما يضبطونه أو يعبؤون كثيراً في الخلاف فيه.

وفي الجيم خلاف مشهور وعراك.
حتى قال الدكتور محمد المختار في كتابه "تاريخ القراءات" ص (575) بعد أن ذكر مناظرة وقعت في حرف الجيم: "وسوف نرى أن هذه المناظرة كانت منطلقاً لمعركة حامية الوطيس حول النطق بالجيم عند علماء شنقيط".

وقال ص (657) : "واشتد الخلاف حول النطق بالجيم, ودارت حوله معركة استمرت عدة قرون".

وقال الدكتور محمد المختار في كتابه "تاريخ القراءات" ص (673) : "واعلم أن أهل المغرب يلحنون في حروف في كتاب الله غير الجيم...".

وفي حروف الطاء والقاف والتاء وتكرار الراء
قال الأستاذ محمد حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر في كتابه "التلقي والأداء" ص (27): "ينبغي أن يعرف هؤلاء المقرئون المقلدون أن نطقهم للطاء حسب ما ينطق أهل شمال مصر هو نطق خطأ, لأنها في هذا النطق مهموسة, والصواب أن تنطق مجهورة, لأن هذا هو ما قرره العلماء الذين عاصروا القراء والعلماء الذين يحتج بقراءتهم...
وكذلك ينبغي أن يعرف هؤلاء المقلدون أن القاف التي ننطقها نحن الآن مهموسة في حين أن العلماء الأولين منذ الخليل الذي لَقِن عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر وغيرهم نصوا على أن القاف تخرج من أقصى اللسان... ولا أنها مهموسة كما ينطق قراء مصر وتبعهم قراء العالم.
كما ينبغي أن يعرفوا أن إلحاق سين ضعيفة بالتاء هو نطق غلط ولا أصل له.
وأن نطق الجيم رخوة بحيث يمر النفس من مخرجها أن نطقها غلط.
وأن عدم تكرار الراء غلط.
وأن نطق الضاء شديدة أي بحبس النفس غلط".
وقال الأستاذ محمد جبل أيضاً ص (148) : بعد أن ذكر أن بعض علماء القراءات والتجويد ذهبوا إلى عدم تكرير الراء قال: "وقد تقعروا في هذا الغلط وأصَّلُوه".
ثم ذكر قول بعضهم, ثم قال: "وقد وافق على هذا التأويل الملتوي المغالط عدد آخر من المؤلفين في التجويد والأمر لله"اهـ

ومن الاجتهادات التي يكثر فيها العراك بين أهل التجويد مسألة الوقوف التي اخترعها الهبطي المغربي, وقد انتقدها بشدة عبد الله بن الصديق الغماري فكان مما قال: "ولا أدري ما الداعي إلى اختيار هذه الوقوف التي يحتاج تصحيحها إن أمكن إلى تمحل في الإعراب وتكلف في التقدير مما ينافي بلاغة القرآن التي أعجزت الإنس والجان..." انظر "تاريخ القراءات" لمحمد المختار ص (561)

وكذلك اختراع التسهيل بالياء الخالصة. انظر ص (565)

وفي الكلام في الأداء عموماً:
قال الدكتور فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة بين القدامى والمحدثين" ص (11): "والمدقق في حال السوق التجويدية اليوم يجد أن الأداء المنطوق أصابه تلوث العاميات المعاصرة, والمكتوب أصابه الخلل بسبب التقعيد لهذه اللهجة العامية, ونلحظ تبايناً ظاهراً بين أداء بعض الأحكام وطريقة وصفها في كتب التلاوة, كما أن هناك اختلافاً بين نطق عدد من الأحرف الفصيحة التي نزل بها القرآن وبين طريقة أدائها ووصفها في الكتب المعاصرة".

وقال أيضاً: "فالمصري مثلاً يقرأ وحدات القرآن الصوتية بلهجته العامية, والشامي يغلب عليه الإمالة في بعض الحروف, وكذلك أهل الخليج غلب عليهم بعض الظواهر البدوية النبطية, وأهل المغرب العربي لهم ظواهر خاصة في الأداء, ويستطيع المستمع المدقق يحكم على القارئ من أي الديار هو بسبب لهجته العامية, فمثلاً استمع لقارئ من أفريقيا أو السودان أو من العراق ستجد تبايناً بين لهجة هؤلاء وهؤلاء, والكل يدعي أنه بلغ ذروة سنام الإتقان, ويرمي غيره بالجهل بالأداء".

وقال ص (38) : "وجدت الطعن من بعض قراء الشام للقراء المصريين, وأهل مصر يعتقدون أن القرآن نزل بمكة وقرئ بمصر, ولا يعجبهم أي قارئ غير المصري, وأهل الخليج يرمون قراء مصر بالبدع, وكل قراء دولة يسفهون قراء الدولة الأخرى".

وقال أيضاً ص (15): "ولو نظرنا إلى واقع السوق المحلية للتجويد وحال البضاعة المعروضة فيه سواء كانت مسموعة أو مكتوبة لوجدناها مصابة بتلوث المكتوب قبل المسموع, وغلب على المكتوب تقعيدات ورطنات العاميات المعاصرة, وغلب على المسموع تلوث الأداء وهيمنة العجمى العامية... السوق التجويدية اليوم تموج بكثير من اضطراب الأداء".

وقال أيضاً: "قواعد التجويد في بعض الكتب المعاصرة تشكو من الاضطراب وضعف سندها, وتصرخ من تفكك أوصالها وتفرق أهلها في الأداء وأنماطه المختلفة, أزياء التجويد اليوم على أحدث صيحة تطويرة عامية.
بالإضافة إلى ذلك نجد حال من تصدروا للتعليم من الشيوخ في دور القرآن أصابهم عور التنازع والفرقة... ووجدنا ممن هذا حالهم أن بضاعتهم المعروضة في سوق التجويد على أحدث موضة تجويدية عالمية, ويرون التمسك بهذه الموضة التجويدية ذروة سنام الإتقان.
وأصبح الأداء الصحيح محصوراً في ركن ضيق من الساحة التجويدية".

وقال أيضاً ص (15): "أدرك علماء التجويد القدامى أن النص لا يتغير مهما طال عليه الأمد, أما منطوق الكلام فهو في تغير دائم, لا نملك الآليات لإيقافه".

وقال ص (54) : لو تقيد كل شيخ بالاكتفاء بالنقل لما سطره الأوائل لما ظهر القول بالفرجة, وتقدير زمن الغنة بحركتين, وتعريف الحركة بقبض الإصبع أو بسطه, وإمالة القلقلة ناحية جزء الحركة, وهذه الأشياء لا يوجد لها أي ذكر عند أصحاب المصادر الأصلية.

وقال ص (123) : "وكم من مسألة اجتهادية دخلت أبحاث علم التجويد, فصارت فيما بعد من المتلقى بالسند".

وقال الدكتور عبد الرحمن الصالح كما في "شبكة المعلومات": "وقد رأيت كثيراً ممن لديهم إجازات في القراءات السبع والعشر لا يضبطون نطقه، ولا يميزون بين جهر وهمس أو شدة أو رخاوة بل يقلدون كما علموا ولا نلومهم بعد"

وكتب أحدهم في "شبكة المعلومات" موضوعاً يتعلق بمصادر علم التجويد والقراءات والمنهجية في التعامل معها, وقال: الذي دفعني إلى بسط الكلام في هذه المسألة خطورة ما نشاهده اليوم من الخلاف في بعض المسائل التجويدية بحيث كل واحد متيقن أنه على الحق والآخر في ضلال والكل يستدل بما تلقاه عن مشايخه.
وقال أيضاً: لا شك أن التلقي يعتريه شيء من التغيير مع مر الزمان والدليل على ذلك ما نراه اليوم من الخلاف في بعض المسائل الأدائية مع أن الأسانيد إن لم تلتقي بأحد المشايخ فإنها تلتقي حتما بابن الجزري رحمه الله تعالى.
وذكر أن من أسباب ذلك تقليد العلماء من غير تدقيق, فينفرد العالم بشيء ولأنه من العلماء المشهورين تجد أن الوجه الذي انفرد به يستفاض بين الناس ولو كان مخالفاً للنصوص صراحة، وبعد سنوات يصير ذلك الوجه من المتلقى بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: للأسف هناك من المشايخ الجامعين للقراءات يقرؤون بما تلقوا عن مشايخهم ولو كان مشايخهم على خطأ, وإذا أتيت بالأدلة على بطلان ما يقرؤون به يختبأ وراء المشافهة ويقول "القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول" فأصبح الكل يستدل بهذا القول على صحة ما يقرئ به ولو كان ضلالاً, وهذا يجرنا إلى تعظيم النصوص أكثر من تعظيم المشافهة من المشايخ خاصة في الوقت الذي نحن فيه الآن.

وقال الدكتور عبد الرحمن الصالح كما في "الشبكة": ومن أبشع ما وقع فيه القراء:
بدعة تحريك الحرف من أجل إيضاحه، [ما سموه بالقلقلة، ثم شرعو يقسمونها إلى كبرى وصغرى ومع التشديد]. فالصواب فيها أن يطلب توضيح خروج الحرف والحذر من تحريكه أدنى تحريك لأنه حرف ساكن.
وبدعة إلغاء صفة الرخاوة مع الضاد.
وبدعة التفريج بين الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الميم، جهلا منهم بتاريخ المصطلح (إخفاء) وأنه أطلق خطأ أو وضع في غير محله.
وتوهم بعض القراء أن الحركة المقصودة في عد الألف حركتين هي حركة الإصبع.
وبدعة المبالغة في تفخيم حروف الاستعلاء والألف بعدها، ذلكم أن نص علماء التجويد على أن هذه الحروف فخمة يعني أن طبيعتها كذلك لا أن تزيد في تفخيمها.

وقال الأستاذ فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة" ص (127) : "من خلال بحثي لمعرفة من هو أول من زاد زيادات غريبة وعجيبة في التجويد وجدت الجميع ينسبها للمرعشي التركي... وللأسف يكثر الشيخ محمد مكي نصر الجريسي من أقوال المرعشي في كتابه "نهاية القول المفيد", وأضاف المرعشي جزئيات ومراتب في التجويد لا تعرف إلا من خلال مصنفه"اهـ

لقد رأيت إذاً هذا الاختلاف والنقد الواسع الهائل من مجموعة كبيرة من القراء وعلماء القراءات والتجويد فماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن التقيد بكثير من هذه القواعد الدقيقة التي يحرص عليها كثير من القراء المتأخرين ويؤثمون من لا يراعيها هي خطأ من الأصل, وأول من خطأها علماء التجويد أنفسهم.
فلا تكاد توجد قاعدة من القواعد إلا وقد وجه إليها النقد في جانب من جوانبها.
وما دام الأمر كذلك فالتحرر من القيود الدقيقة التي تكبل القارئ وتصرفه صرفاً كلياً عن تدبر القرآن هو المتعين وهو المتوافق مع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والقراء العشرة والقراء عموماً والسلف عموماً.
حيث كانت قراءته سهلة غير متكلفة للقار ئ فيها الحرية في طريقة المد ومقداره والغنة والقلقلة والإدغام والإخفاء وغير ذلك ما دام يقرأ كتاب ربه متغنياً بلسان عربي مبين.
ما لم يحد عن الأداء المعقول والصواب المستساغ.
وليس لذلك طريقة أداء واحدة, بل هي كثيرة بقدر اختلاف البشر في ألسنتهم وطرائقهم وقدراتهم.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

المبحث الثاني:
جعل هذه المسائل الدقيقة مادة للنزاع العريض والشحناء والاختلاف, فالقرآن جاء ليجمع ويوحد, فصار سبباً في الفرقة والاختلاف والتشتت.
ما عليك لترى هذا التطاحن والتشاحن بعينيك إلا أن تتصفح المواقع التي تهتم بذلك في شبكة المعلومات, لترى مقدار الاختلاف في أشياء كثيرة جداً من مسائل التجويد ومخارج الحروف وغيرها.
فهناك تعارك شديد في مخارج بعض الحروف, أو مخرج حرف الضاد, أو الاختلاف حول طريقة أداء حروف القلقلة, أو الاختلاف في بعض الحروف هل هي مجهورة أم مهموسة, أو شديدة أم رخوة , أو مسألة فتح الشفتين عند الإخفاء الشفوي, أو تكرير الراء, أو تفسير الإطباق أو الاستعلاء, أو تحديد زمن الغنة وغير ذلك كثير.
ولو سألت أولئك المختلفين لماذا أحرق عثمان المصاحف وأبقى على مصحف واحد؟
لقالوا جميعاً: درءاً للاختلاف والتشاحن حتى لا ينشغل الناس باللفظ وينسون المقصود العظيم من إنزال القرآن.
ولو سألتهم ثانية لماذا رخص للناس أن يقرؤوا القرآن بلغاتهم على كثرة اختلافها؟ولماذا أنزل القرآن على حروف كثيرة مختلفة؟
لقالوا جميعاً: إنما كان ذلك للتيسير والتسهيل والتهوين على الأمة ودرءاً للحرج أو التضييق في تلاوته.
فيقال لهم: أين ذلك التيسير والتهوين والتسهيل من القراءة في هذه الأزمان, إنما هو التعسير بكل صوره وأشكاله, والعنت والحرج في كل وجوهه وأنواعه.
فقد ملئت الشبكات والمنتديات والمؤلفات اختلافاً وتشديداً وتضييقاً على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
مخالفين بذلك سنة نبيهم الذي حرص كل الحرص وراجع ربه مراراً على أن يكون كتابه سهلاً يقرؤه كل أحد بكل يسر وسهولة وسعة.

المسألة الخامسة:
حكم التجويد.
المبحث الأول: الأدلة التي يستدل بها على أن الأداء والتجويد له كيفية معينة وصفة محددة متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم بالإسناد.
والجواب عنها.

الدليل الأول:
أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ليعلمه كيفية أدائه وقراءته وتجويد ألفاظه.

فقد زعم بعض أهل العلم أن من المقاصد في عرض جبريل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ضبط تلاوته وتصحيحها وإتقانها.

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة, فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه) أخرجه البخاري (4712)
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل, وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن...) متفق عليه. البخاري (6) , ومسلم (2308)

فقال بعضهم: إن الغرض من المعارضة تجويد ألفاظه وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها, وتلقي طريقة القراءة والأداء من جبريل عليه السلام.
وهذا القول قال به الكرماني والبرماوي, وردده بعض المعاصرين.
وسأذكر أقوالهم ثم أذكر أنه قول باطل متهافت, وأنه من الرجم بالغيب, ولا دليل عليه إلا الظن المجرد.

قال الكرماني المتوفى سنة (786) هـ كما "عمدة القاري" للعيني (1/76) : "وفائدة درس جبريل عليه الصلاة والسلام تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بتجويد لفظه وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها".
وقال البرماوي المتوفى سنة (831) هـ: "مدارسة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم معناه تعلم مخارج الحروف وكيفية النطق بها".
ذكره الأستاذ الدكتور محمد جبل في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات" ص (154)

وقال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "سنن القراء ومناهج المجودين" ص (114) : "بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وهو أفصح من نطق بالضاد لم يرخص له ذلك, بل علم القراءة تعليماً, وتلقاها مشافهة من القوي الأمين عرضاً وسماعاً".

قلت: سبحان الله, كأن القائلين بهذا القول يجهلون أن محمداً عليه الصلاة والسلام أفصح الخلق, وقد وضعه الله موضع البلاغ من وحيه, ونصبه منصب البيان لدينه, واختار له من اللغات أعربها, ومن الألسن أفصحها وأبينها.

يقول الأستاذ الدكتور محمد حسن حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر رحمه الله في كتابه "من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية " ص (164) : "هذا الزعم خطيئة كبرى, فالتجويد ليس إلا نطق القرآن الكريم كما ينطقه العرب الفصحاء, والنبي صلى الله عليه وسلم أعرب الخلق وأفصح الخلق... وهل كان محمد صلى الله عليه وسلم أعجمياً حتى يعلم مخارج الحروف, إن هذا القولة التي اقترن القول بها بعبارات فيها جفاء وتزيد رددها البرماوي والكرماني تستحق الاستغفار لكل من قال بها... وهو تبرع من قائيله لا أصل له, وتسور على أمر غيبي بلا أدنى بينة"اهـ

وأما مسألة الحكمة من معارضة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فقد بينتها في موضوع بعنوان "العرضة الأخيرة المفترى عليها".
وذكرت هناك أن الغاية من المعارضة استثبات حفظه على ما أوحاه إليه جبريل, وتثبيت ما يشاء الله ونسخ ما يشاء, وليس وراء ذلك من شيء.
وهذا قول عامة العلماء, وهو الصواب دون ريب.
وذكرت قول عامر الشعبي رحمه الله: (كان الله تعالى ينزل القرآن السنة كلها، فإذا كان شهر رمضان عارضه جبريل عليه السلام بالقرآن، فينسخ ما ينسخ، ويثبت ما يثبت ويحكم ما يحكم، وينسئ ما ينسئ) أخرجه ابن الضريس في "فضائل القرآن" (128)
وقول ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص (94) : "فيحدث الله من ذلك ما يشاء, وينسخ ما يشاء, وييسر على عباده ما يشاء".
وقول ابن كثير في "تفسيره" (1/51) : "والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى، ليبقى ما بقي ويذهب ما نسخ توكيداً أو استثباتاً وحفظاً, ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره عليه السلام على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك".
وقول ابن حجر في "فتح الباري" (9/5) : "جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان, وفي ذلك حكمتان, إحداهما: تعاهده, والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ".

الدليل الثاني:
أن القراءة سنة متبعة ليس في الحروف والإعراب فحسب, بل حتى في صفات الأداء وتفاصيل التجويد.
وأن القراء قد نقلوا حروف القرآن وكيفية نطق هذه الحروف أي: بتفاصيل الأداء والتجويد, وهما أمران متلازمان لا يمكن أن ينفك احدهما عن الآخر, فمن قبل عنهم نقل الحروف لزمه أن يقبل عنهم نقل الأداء.

قال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "سنن القراء ومناهج المجودين" ص (110) : التجويد هو عبارة عن وصف اصطلاحي لما ثبت الرواية به من صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ص (113) : "لم يترك الصحابة للغتهم يقرؤون القرآن حسبما يتيسر على ألسنتهم بل أمروا بأن يتعلموا كيفية قراءته, وهم عرب فصحاء لا يعرفون اللحن"

وقال ص (113) : "فلا يجوز أن يقرأ أحد إلا بالهيئة التوقيفية المتلقاة من الحضرة النبوية, والتي يتعلمها مشافهة من المقرئين".

والجواب عن هذه الشبهة ذكرته في بحث مستقل بعنوان "هذا مراد السلف بقولهم: القراءة سنة متبعة".
وفي بحث آخر بعنوان " اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما ذكرته في البحث الأول أن مراد السلف رحمهم الله بقولهم: (القراءة سنة متبعة) هو ما يتعلق بالإعراب والحركات, وكيفية نطق الكلمات ونحو ذلك.
ولم يريدوا بمقولتهم تلك أنها سنة متبعة في تفاصيل الأداء وصفة التلاوة والمدود ومقاديرها والإظهار والإدغام والإخفاء والغنن والتفخيم والترقيق, وغير ذلك مما هو من قبيل الأداء.
وذكرت أن هذا المفهوم لا أصل له من كلام العلماء القدماء والقراء الأولين, ولا دليل عليه من كلام السلف الأولين رحمة الله عليهم أجمعين.
ودللت على ذلك بأدلة كثيرة.
ومما ذكرته في البحث الثاني أن الاختلاف في صفات أداء التلاوة إنما هو ناشئ عن اختلاف القراء في اختيارهم, واختلاف لهجاتهم, وتأثرهم بطبيعة لهجات القبائل العربية, وليس أصله التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكرت على ذلك أدلة كثيرة جداً.
بل حتى الأئمة القراء أنفسهم لم يقل أحد منهم أو من تلاميذهم: إن جميع تفاصيل طريقة أدائهم للقراءة قد أخذوها بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فالقراء الكرام أنفسهم لم يدعوا ذلك أبداً, ولا يوجد أي قول صادر من أولئك القراء الكرام يدل على أنهم نقلوا صفة الأداء بكل تفاصيلها بالسند كما نقلوا الحروف والكلمات والإعراب.
إلا قولهم: (القراءة سنة متبعة) ونحوها من العبارات, وقد بينت مرادهم بذلك آنفاً.

ثالثاً:
مما يستدل به على وجوب الالتزام بتفاصيل الأداء وما يسمى بالتجويد أدلة مشهورة لكنها لا تدل على المراد, كما يعلم من معناها الحقيقي بالرجوع إلى كتب التفسير.
كقوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً)
وقوله تعالى: (يتلونه حق تلاوته).
وقوله تعالى: (قرآنا عربياً غير ذي عوج).
وعلى افتراض أن يصح من معانيها إتقان طريقة تلاوته, فلا أحد يعارض في وجوب إتقان التلاوة بمعنى عدم الخطأ واللحن فيها أو تغيير الإعراب أو قراءته قراءة مهلهلة ركيكة.
ولكن لا يوجد في هذه الأدلة ولا غيرها وجوب الالتزام بقوانين مفصلة وطرائق محددة وصفات دقيقة ومدود محددة.

رابعاً:
مما يستدل به أيضاً:
حديث أنس رضي الله عنه حين سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: (كانت مداً, ثم قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} يمد ببسم الله, ويمد بالرحمن, ويمد بالرحيم) أخرجه البخاري (4759)

والجواب عنه أنه لم يحدد المد بوقت أو حركات أو ألفات, فهو مد مرجعه اختيار القارئ, وليس فيه دليل على تحديده بوقت أو حركات, ثم إنه ذكر أنه يمد (بسم الله) ويمد (الرحمن) وليس في هذا إلا مد طبيعي عند الوصل.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد هذه الحروف أي: يقرؤها بإشباع وتمكين وبدون سرعة وبتر.

خامساً:
مما يستدل به أيضاً:
ما يروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قرأ عليه (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) مرسلة, فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فمدها.
فهذا الحديث لا دلالة فيه على تحديد طريقة أو مقدار للمد أو غيره, وإنما المطلوب هو المد أيُّ مد, فإن أصل المد لا بد منه ولا تصح القراءة إلا به, أما مقاديره وحدوده فليست كذلك.
ولذلك لم يذكر له ابن مسعود مقدار ذلك المد, ولم يقل ست حركات ولا خمس ولا أربع.
وإنما نبهه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنه قد أخل بأصل المد, ولا شك أن من قرأ (للفقراء) مرسلة من دون أي مد فهو مخطئ.
ولهذا أخبره ابن مسعود رضي الله عنه بأن فيها المد, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أقرأه مد في القراءة.
ثم إن الحديث لا يصح, بل هو ضعيف.
وقد أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (5/257), ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9/137)
من طريق: شهاب بن خراش، عن موسى بن يزيد الكندي قال: (كان ابن مسعود يقرئ رجلاً...) الحديث.
وشهاب بن خراش لا بأس به, ولكن قال فيه ابن عدي في "الكامل" (4/34): "له أحاديث ليست بالكثيرة، وفي بعض رواياته ما ينكر عليه".
وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/459): كان رجلاً صالحاً، وكان ممن يخطئ كثيراً حتى خرج عن حد الاحتجاج به".
وموسى بن يزيد الكندي غير معروف.
ويحتمل أنه مسعود بن يزيد الكندي كما وقع عند ابن الجزري في "النشر" (1/315), وكما في "مجمع الزوائد" (7/155)
فإن كان هو مسعود بن يزيد الكندي فإنه أيضاً ليس بمعروف وليس له ترجمة.

سادساً:
مما يستدل به أيضاً:
حديث (خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود, وسالم مولى أبي حذيفة, ومعاذ بن جبل, وأبي بن كعب) متفق عليه.

قال عبد العزيز القارئ في "سنن القراء" ص (48) : "خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خذوا القرآن من أربعة) الصحابة وهم عرب فصحاء بل هم أفصح الأمة ومع ذلك لم يكلهم إلى فصاحتهم بل أمرهم بالتلقي, وما ذاك إلا لأن قراءة القرآن لها هيئة مخصوصة توقيفية"اهـ

والجواب عن هذا أنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن أخذ التلاوة من زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان أو غيرهم من الصحابة جائزاً, لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالتلقي من أربعة فقط, وهذا من أبطل ما يقال.

والسبب في كون النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأخذ عن هؤلاء والله أعلم أنهم كانوا متفرغين منتصبين لهذه المهمة أو لكونهم نتيجة لذلك التفرغ أكثر ضبطاً لحفظ سوره وآياته أو لغير ذلك من الأسباب.
ويؤيد ذلك أن هؤلاء الأربعة قد اشتهر فعلاً ضبطهم لما أنزل من القرآن.
فقد أخرج أحمد والنسائي وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن أبزى (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الفجر فترك آية, فلما صلى قال: أفي القوم أُبيٌّ بن كعب؟ قال أُبيٌّ: يا رسول الله نسخت آية كذا وكذا أو نسيتها؟ قال: نسيتها).

وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (قرأت من فِيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت له ذؤابتان في الكُتَّاب)

وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقرئني، فقال رسول الله: يا عبد الله أقرئه، فأقرأته ما كان معي، ثم اختلفت أنا وهو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه معاذ، وكان معلماً من المعلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ومثل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) أخرجه أحمد وغيره.
فلو كان للأداء طريقة محددة يلزم الأخذ بها للزم من هذا الحديث عدم جواز أخذ القراءة من غير ابن أم عبد وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يقرأ القرآن غضاً كما أنزل, وهذا قول لم يقل به أحد من العالمين.

سابعاً:
مما يستدل به أيضاً:
قول علي رضي الله عنه: "الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف".

والجواب أنه ليس المراد بقوله t: (تجويد الحروف) التجويد المعروف اليوم, فإن التجويد لفظ اصطلاحي متأخر, وإنما يريد بذلك قراءته ببيان وترسل, وإعراب, ونطق صحيح.

وهذا هو مراد السلف حينما يذكرون عن أحد: أنه حسن القراءة أو جيد القراءة أو نحو ذلك من الكلمات.
إنما يريدون هذا فحسب.

ثامناً:
مما يستدل به أيضاً:
قول ابن الجزري رحمه الله في "المقدمة الجزرية":
والأخذ بالتجويد حتم لازم*** من لم يجود القرآن آثم.

والجواب عنه أن ابن الجزري قد بين مراده بهذا في كتابه "النشر" (1/210) حيث يقول: "التجويد عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة بالألفاظ, بريئة من الرداءة في النطق, ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح, وبلوغ النهاية في التحسين... والناس في ذلك بين محسن مأجور، ومسيء آثم أو معذور, فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناء بنفسه واستبداداً برأيه وحدسه, واتكالاً على ما ألف من حفظه, واستكباراً عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب".

وصدق رحمه الله فإن التجويد بهذا المفهوم واجب ولا شك, وآثم تاركه بغير عذر, فإن من عدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناءً بنفسه واستبداداً برأيه فلا شك في إثمه وضلاله.

تاسعاً:
مما يستدل به أيضاً:
دعوى اتفاق السلف.
قال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "سنن القراء ومناهج المجودين" ص (110) : "لم تكن هذه المسألة مسألة نزاع بين السلف, لذلك لم يبحثوها, بل انصرفوا إلى العمل بها, وطرحها للمناقشة من محدثات هذا الزمان".

وجواب هذه الشبهة أن السلف لم يبحثوها لعدم وجودها أصلاً في نظامهم.
أما زعم أنها محل إجماع لأنهم لم يبحثوها فهذه مجرد دعوى ولو سلم لها لسلم لكل من يأتي بأمر محدث ويدعي أن ذلك ليس محل نزاع عند السلف لأنهم لم يبحثوه.

وبعد الإجابة عن كل الشبهات والأدلة التي يستدل بها على وجوب التزام قواعد محددة بدقة لأداء التلاوة أذكر الآن أدلة أخرى تدل على أن القارئ إنما يطالب بالترتيل والتغني, ومع التغني والترتيل يأتي التجويد السمح الفطري الطبيعي, دون قيود مقيدة أو حدود محدودة حاصرة.
ومن هذه الأحاديث:
أولاً:
حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) أخرجه أحمد (30/451), وأبو داود (2/74) (1468), والنسائي (2/179) (1015), وابن ماجه (1/426) (1342), وغيرهم وإسناده صحيح.
وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)
أخرجه أحمد (3/75), وأبو داود (2/74) (1470), وعبد الرزاق (2/483) (4171), والحميدي (76)، وابن أبي شيبة (7/154), وغيرهم, وهو صحيح أيضاً.
ولم يتعد ذلك وترك طريقة التغني لكل قارئ.
ثانياً:
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة, لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) أخرجه مسلم (793) .
وفي رواية قال أبو موسى رضي الله عنه: (لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيراً). أخرجه البزار (3160) , وابن حبان (7197) , وغيرهما.
وإسناده جيد.
فهذا يدل على أن أبا موسى رضي الله عنه كان يقرأ بصوته الجميل قراءة عادية طبيعية بطريقة الحدر, أي: السرعة مع وضوح القراءة وفهم المعنى, ولو كان أبو موسى يقرأ بالتجويد والتدقيق لما كان لقوله: (لحبرته لك تحبيراً) فائدة ولا زيادة معنى, إلا لو كان سيتكلف ما ليس من طبعه, وهو أمر مذموم لا يمكن أن يفعله أبو موسى رضي الله عنه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أثنى على قراءة أبي موسى رضي الله عنه مع أنه لم يحبر القراءة, فهذا يدل على أن أمر القراءة سهل وميسور, ومع أنه امتدح قراءة أبي موسى إلا أنه قال أيضاً: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد). يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فهذا يدل على تفاوت الصحابة رضي الله عنهم في أداء القرآن.
ثالثاً:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد).
أخرجه أحمد (1/211) , وابن ماجه (1/49) (138) , وابن حبان (7066) , وغيرهم, وهو حديث صحيح.
والغض: الطري الذي لم يتغير, كما في "النهاية" (3/371)
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه غاية في أداء القراءة وأنه يقرأ القرآن كما نزل, وعلم بذلك أن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم ليسوا كذلك وليسوا في المرتبة كعبد لله بن مسعود رضي الله عنه, والمراد طريقة القراءة وصفة أدائها, فبطل بذلك دعوى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتلقون القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم فيؤدونه كما يؤديه دون تفاوت بينهم في طريقة الأداء.
ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر الناس على أخذ القراءة من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دون سواه, وغيره دونه في الأداء قطعاً, بل إنه قال كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (استقرؤوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود, وسالم مولى أبي حذيفة, وأبي ابن كعب, ومعاذ بن جبل) متفق عليه. البخاري (3548) , ومسلم (2464)
وكان المقرئون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كثر غير هؤلاء.
ثم تأمل في قوله: (من أحب...) فإن فيه دليلاً على نفي الحرج, وأن الأمر فيه سعة وتيسير, فمن أحب ذلك فعل, وإلا فالخيارات كثيرة.
هذا كله على القول بأن المراد طريقة أداء عبد الله بن مسعود.
ولكن هناك قول آخر في المراد بالحديث قد ذكرته في موضع آخر, وهو أن المراد أنه كان يقرأ الحرف الأول الذي أنزل عليه القرآن دون الحروف السبعة التي رخص للناس أن يقرؤوا بها.
رابعاً :
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة, والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه. البخاري (4653) , ومسلم (798)
ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الذين يقرؤون القرآن على قسمين:
الأول: ماهر بالقرآن.
والثاني: غير مجيد للقراءة بل متتعتع فيها وهي شاقة عليه, لا يقرؤها بيسر وسهولة, فهذا له أجران, أجر على القراءة وأجر على المشقة, ففي الحديث إشارة إلى أن من لم يكن كذلك فهو من القسم الأول وهو الماهر بالقرآن, فشرط المهارة إذاً عدم اللحن, وعدم التتعتع, وعدم المشقة في القراءة بسبب عدم معرفة القراءة.
خامساً :
حديث بريدة رضي الله عنه وفي آخره (ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلاً).
أخرجه أحمد (38/41), وابن أبي شيبة (7/170), والدارمي (4/2135), وغيرهم.
وفي إسناده ضعف, وقد حسنه ابن كثير في "تفسيره".
فقراءة القرآن صعود في الجنة سواء قرأ هذاً, أو ترتيلاً وتجويداً.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها الإرشاد إلى عدم التدقيق في إقامة الحروف والمبالغة في أمر القراءة.

قال أبو عبد الرحمن السلمي كما في "غاية النهاية" (1/577) : "أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الآخر حتى يعلموا ما فيهن, فكنا نتعلم القرآن والعمل به, وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز ههنا ووضع يده على حلقه".

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا العجمي والأعرابي، قال: فاستمع فقال: اقرؤوا فكل حسن، وسيأتي قوم يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه).
أخرجه الإمام أحمد وغيره.

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نقترئ، فقال: الحمد لله كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم, يتعجل أجره ولا يتأجله).
أخرجه أبو داود وغيره.

وعن أنس بن مالك t قال: (بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والأسود والأبيض إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم في خير، تقرؤون كتاب الله وفيكم رسول الله، وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقفون القدح، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها).
أخرجه الإمام أحمد.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أقرأ الناس لهذا القرآن المنافق لا يذر منه ألفاً ولا واواً, يلفه بلسانه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها).
أخرجه عبد الرزاق "في مصنفه".

قال ابن الخطيب في "الفرقان" ص (132) : "ومن عجب أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فاقرؤوا ما تيسر منه), ونحن نأبى إلا أن نقرأ ما تعسر منه على ألسنتنا وشذ على أسماعنا وشق على أفهامنا... وقد بلغ من تضييق القراء وتعسفهم أن جعلوا القرآن الكريم السهل السمح الميسر للتدبر والتفكر صعباً شديداً مغلقاً مبهماً, لقد شددوا تشديداً كبيراً وضيقوا تضييقاً بالغاً في حين أنه قد نزل لسائر الناس, وطلب العمل بما فيه من سائر الناس".

المبحث الثاني:

تحسين التلاوة مطلوب وقد حث عليه القراء والسلف لكن دون قيود دقيقة ولا حدود مرسومة.

إني لست ممن يدعو إلى أن يقرأ القرآن كيفما اتفق, بل لا محيد عن ضبط تلاوته وإتقانه على الشيوخ فلا بد من معرفة قراءة القرآن معرباً دون لحن أو خطأ وبالترتيل وبالتغني ومعرفة ما يمد وما لا يمد ومواضع ترقيق الراء وتفخيمها وغير ذلك.
فإن من الأمور التي لا تخفى على أحد أن القرآن الكريم لا يقرأ كما يقرأ الكلام العربي العادي أو كما تقرأ الكتب دون ترتيل أو تغني.
بل يقرأ بالتغني والترتيل, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)
وهذا الأمر هو الذي كان معروفاً عند السلف, وهو الإتقان والتغني والترتيل, وقد تحول الأمر عند المتأخرين من إتقان وتغن وترتيل يجلب التفكر والتأمل والتدبر إلى صناعة دقيقة وقوانين عسيرة واصطلاحات كثيرة تبعد القارئ عن ذلك وتشغله عنه أيما إشغال.

أما مجرد إتقان التلاوة وتحسينها فإنه معروف عند السلف.
ومن ذلك ما روي عن سقلاب بن شنينة أبي سعيد المصري المتوفى سنة (191) هـ أنه قال: "قال لي نافع: بيِّن النون في هذه الأحرف إذا لقيتها, عند الحاء والخاء والعين والغين والألف والهاء". ذكره ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/429)

وقال أبو حاتم المتوفى سنة (255) هـ: قرأت على يعقوب الحضرمي, فبلغت إلى قوله: (ويمسك المساء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) فقال: يا سهل سمعني صفير السين, وطنين النون, وقعقعة العين".

وروي عن عبد الله بن ذكوان المتوفى سنة (242) هـ أنه قال: يجب على قارئ القرآن أن يقرأ بترتيل وترسل وتدبر وتفهم، وخشوع وبكاء ودعاء وتحفظ وتثبت، وأن يزين قراءته بلسانه ويحسنها بصوته، ويعرف مخارج الحروف في مواضعها، ويستعمل إظهار التنوين عند حروف الحلق إظهاراً وسطاً بلا تشديد، وإخراج الهمزة إخراجاً وسطاً حسناً، ويشدد المضاعف تشديداً وسطاً من غير إسراف ولا تعد، وتفخيم الكاف والراء والزاي والخاء والحاء والطاء بلا إفحاش ولا إسراف، وترقيق الراء وتصفية السين، وإظهار طنين النون عند الخاء، وإظهار الهاء وإخراجها من الصدر، وإدغام ما يحسن فيه الإدغام، وإظهار ما يحسن فيه الإظهار. انظر: "جمال القراء" للسخاوي ص (513)

ويروى عن محمد بن أبي عبد الرحمن المقري المتوفى سنة (256) هـ أنه قال: "سمعت رجلاً من أهل العلم يقول: قرأ رجل على مقرئ بواسط, فقال له المقرئ: أقم الهاء, وأسمعني طنين النون, وخرير الخاء, وروّ الراء, وأسلس الباء, سمّن الصاد, اشقق الكاف, أقم الواو على ذنبها".
عزاه صاحب كتاب "تجويد اللفظ" ص (538) إلى كتاب "التمهيد" للهمذاني.

وقال ابن مجاهد المتوفى سنة (324) هـ: "جثوت بين يدي أبي الزعراء لأقرأ عليه, فقال: إن كنت تقرأ علي فأعط الحرف حقه, وأسمعني خرير الخاء, وطنين الطاء, وعَعَّة العين, وبحة الحاء, وصفير السين, ورنين الراء, ولا تمضغ, أو قال: لا تمذق الحرف".
عزاه صاحب كتاب "تجويد اللفظ" ص (539) إلى العماني في "الكتاب الأوسط".

وهذه المقولات التي سلف ذكرها من أقدم ما يذكر في مسألة تجويد القراءة وتحسينها, وهي عبارات عامة تدل على اهتمامهم بجودة التلاوة عموماً وتوضيح القراءة والفصاحة في النطق بالحروف, وأنه لا بد من معرفة أصول القراءة من الإظهار والإخفاء ونحو ذلك, وأنهم كانوا يعتنون بالترتيل والتغني والمد وغير ذلك, وهذا كله حق وهو مطلوب من كل قارئ ولا شك.

وليس في هذه العبارات ولا غيرها البتة أن ذلك محدد بحدود دقيقة وقوانين لا يجوز الزيادة فيها أو النقصان.
بل هو مجرد طلب لتوضيح القراءة وإعطاء الكلمات والحروف حقها بوضوح دون زيادة أو نقص, أما طريقة الترتيل والتغني والمد والغنة وغيرها فهو اختيار واسع ليس له حدود أو قيود ما لم يخرج عن المقبول وما تقبله النفوس والطبائع.

قال أبو سعيد ابن الأعرابي المتوفى سنة (340) هـ: "إن العرب كانت تتغنى بالركباني وهو النشيد بالتمطيط والمد إذا ركبت الإبل, وإذا تبطحت على الأرض, وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها, فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون القرآن هجيراهم مكان التغني بالركباني". انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/358) , و"النهاية" لابن الأثير (3/391)

وقال علي بن الحسن بن شقيق المتوفى سنة (215) هـ: "لم أر أحداً من الناس أقرأ من ابن المبارك، ولا أحسن قراءة ولا أكثر صلاة منه، كان يصلي الليل كله في السفر وغيره، وكان يرتل القراءة ويمدها". انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/266)
وقال أيوب السختياني: كان مقسم بن بجرة يقرأ في المسجد في مصحف, وكان يتعتع في قراءته, لم يكن جيد القراءة. انظر: "تهذيب الكمال" (28/463)
ولهذا لا ترى في كلمات السلف في القرون الأولى إلا مثل لفظ الترتيل والترسل والمد والبيان والحسن والفصاحة والإعراب وحسن القراءة والتحقيق والجودة.
ومرادهم بهذه العبارات ونحوها وضوح القراءة وبيانها والتغني والمد وعدم اللحن وإعطاء الكلمات والحروف حقها دون زيادة ولا نقصان.

ومن ذلك ما يذكره علماء التجويد القدماء من النطق الصحيح للكلمات والحروف والحركات, فلا يشبع الحركة حتى تصير حرفاً ولا يختلس الحرف حتى يصير حركة.

فهذا أبو عمرو الداني يقول في "التحديد" ص (94) : "فأما المحرك من الحروف بالحركات الثلاث: الفتحة والكسرة والضمة فحقه أن يلفظ به مشبعاً، ويؤتى بالحركات الثلاث كوامل، من غير اختلاس ولا توهين يؤولان إلى تضعيف الصوت بهن، ولا إشباع زائد ولا تمطيط بالغ يوجبان الإتيان بعدهن بألف وياء وواو".

ومن ذلك ما قاله أبو مزاحم الخاقاني المتوفي سنة (325) هـ في قصيدته الرائية.
فقد ألف قصيدته المشهورة في حسن الأداء في واحد وخمسين بيتاً.
قال في مطلعها:
أقول مقالاً معجباً لأولى الحِجْرِ
ولا فخر إن الفخر يدعو إلى الكبر

ثم يقول بعد أبيات:
فذو الحذق معطٍ للحروف حقوقها
إذا رتل القرآن أو كان ذا حَدْرِ

ويقول:
فقد قلت في حسن الأداء قصيدة
وأبياتها خمسون بيتاً وواحد
رجوت إلهي أن يحط بها وزري
تنظم بيتاً بعد بيت على الإثْرِ

ومن أبياتها الجميلة:
إذا ما تلا التالي أرَقَّ لسانَه
فأول علم الذكر إتقانُ حفظه
ألا اعلم أخي أن الفصاحة زينت
فكن عارفاً باللحن كيما تزيله
وإن أنت حققت القراءة فاحذر الز

زن الحرف لا تخرجه عن حد وزنه
فبيِّن إذاً ما ينبغي أن تُبِيْنَه
وإن الذي تخفيه ليس بمدغم
وأذهب بالإدمان عنه أذى الصدر
ومعرفةٌ باللحن فيه إذا يجري
تلاوة تال أدمن الدرس للذكر
وما للـذي لا يعرف اللحن من عذر

يادة فيه واسأل العون ذا القهر
فوزن حروف الذكر من أفضل البر
وأدغم وأخف الحرف من غير ما عُسْرِ
وبينهما فرق فعَرِّفْهُ بالْيُسْرِ


وذكر ابن الجزري في "غاية النهاية" (2/421) أنها أول ما صنف في التجويد.

قلت: وهي قصيدة مختصرة جميلة بين فيها رحمه الله أصول القراءة المتقنة, ليس فيها شيء من التعقيد أو التدقيق أو حدود للمدود أو الغنة أو مخارج الحروف وغيرها, بل هي في غاية الوضوح والسهولة واليسر, تتناسب ويسر القدامى في أمر التلاوة, الغاية الفصاحة والوضوح وعدم اللحن وإعطاء الحروف حقها بلا نقص فتتحول إلى حركات, والحركات بلا زيادة فتتحول إلى حروف, ونحو ذلك.

فإتقان التلاوة وتحسينها إذاً مطلوب, لكن وفق ما تأتي به الطبيعة دون حدود أو مقاسات أو تكلف, فإن القراءة بالتجويد تأتي تلقائياً مع التغني ولا يمكن أن يتغنى القارئ من غير أن يأتي بالمدود والغنة والإخفاء والإدغام وغير ذلك .

قال ابن مجاهد كما في "التحديد" للداني ص (112) : لا يقدر أحد أن يأتي بـ (عمن) بغير غنة".
فالغنة إذاً تأتي سجية من غير تكلف, ولو أردت أن تقرأ بغير غنة ما قدرت.
وهكذا الأمر مع غير الغنة من الإظهار والإدغام وغيره.
ومن يخطئ يعلم ويدرب.

وهذا آخر ما أردت بيانه أو الإشارة إليه.
أسأل الله أن ينفع به وأن يجعله عملاً صالحاً خالصاً مقبولاً.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
Alrajhi.sr@gmail.com