يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
عبد العزيز بن مصطفى كامل
هذه الزاوية:
تجيء هذه الزاوية في سياق التجديد الذي درجت عليه مجلة البيان في مسيرتها المباركة التي دخلت عامها السابع والعشرين، ولأن رسالة مجلة البيان هي بيان الحق وإيضاحه في مجالاته المتعددة؛ فإن من أعظم بيانه إيضاح ما جاء به الوحي كتاباً وسنة، وإذا كانت أجلُّ وظائف الرسالة هي إبلاغ ما أنزل الله على مراد الله، كما قال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) فإن أهم وظائف من استجاب لهذه الرسالة أن يبلِّغ ما بلَّغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا ما وصى به - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((بلِّغوا عني ولو آية))[1].
وقد اخترنا هذا الجزء من الحديث، ليكون عنواناً لهذه الزاوية، وهي تتناول في كل عدد آية فذة جامعة، أو حديثاً مما له دلالة على أصل عظيم في المنهج الحق، لنقف مع ذلك النص من خلال فرائدَ وفوائدَ واستنباطات علماء التفسير أو الحديث؛ بحيث نهيئ مادة جاهزة لمن أراد أن يوظفها في خطبة أو محاضرة، أو حلقة تربوية.
فالزاوية وإن كانت موجَّهة للقراء عامة؛ فإنها تخاطب بوجه أخص أهل الدعوة والبلاغ والتربية، لتساهم في تقريب وتسهيل مهمتهم الجليلة في استفاضة البلاغ المبين. [التحرير].
((بلِّغوا عني ولو آية)):
لعل من المناسب قبل التعـرض لشرح الآية المختارة لهذا العدد أن نُلقي بإطلالة على ذلكم الحديث الجامع المختار عنواناً للزاوية، فالحديث معناه - كما قال المناوي في فيض القدير (3/269) -: ((بلِّغوا عني)) "أي: انقلوا عني ما أمكنكم، ليتصل بالأمة ما جئت به، (ولو) أي: ولو كان الإنسان إنما يبلغه مني أو عني (آية) واحدة من القرآن، وخصها لأنها أقل ما يفيد في باب التبليغ، ولم يقل: حديثاً؛ إما لشدة اهتمامه بنقل الآيات لأنها المعجزة الباقية من بين سائر المعجزات، ولأن حاجة القرآن إلى الضبط والتبليغ أشد؛ إذ لا مندوحة عن تواتر ألفاظه، وإما للدلالة على تأكيد الأمر بتبليغ الحديث؛ فإن الآيات مع كثرة حَمَلتها واشتهارها وتكفُّل حفظ الله لها عن التحريف واجبةُ التبليغ؛ فكيف بالأحاديث؟ فإنها قليلة الرواة، قابلة للأخطاء والتغيير".
لكن يشترط في المبلِّغ أن يكون على علمٍ بالقدر الذي يبلِّغه، وهذا ما أشار إليه العلاَّمة ابن عثيمين رحمة الله في كتابه [شرح رياض الصالحين - 1/1583)] عند شرحه لذلك الحديث؛ حيث قال: ((بلِّغوا عني)) "يعني بلِّغوا الناس ما أقول وبما أفعل، وبجميع سنته - عليه الصلاة والسلام -، بلِّغوا عني (ولو آية من كتاب الله و (لو) للتقليل؛ يعني: لا يقول الإنسان أنا لا أبلِّغ إلا إذا كنت عالماً كبيراً، لا؛ إنما يبلغ الإنسان ولو آية، بشرط أن يكون قد علمها، وأنها مما بلغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال في آخر الحديث: ((ومن كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار))".
بين يدي الآية:
تكفل الله - تعالى - بحفظ كلمته الأخيرة إلى البشر (القرآن الكريم) فقال - سبحانه -: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، وذلك بعد أن أودعه علْمه، وعلَّمه للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْـمَلائِكَة ُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)[النساء: 166]، ولم يمضِ على وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من 50 سنة حتى كان أكثر سكان الأرض المعروفة يومئذٍ تحت سلطان (لا إله إلا الله).
أما اليوم، فالعالم يعج بمئات بل آلاف الملايين من البشر الوثنيين الذين يعبدون الطبيعة في مظاهرها المختلفة (أرضاً وسماءً)، فنحو نصف سكان العالم البالغين اليوم نحو سبعة مليارات نسمة في العقد الأول من الألفية الثالثة لا زالوا يعبدون الأصنام والأوثان؛ فالصين (البوذية) وحدَها يبلغ عدد سكانها بحسب إحصاء عام 2010م نحو مليار وثلاثمائة وستة وثلاثين مليوناً من البشر الذين يعبدون (بوذا)، وهو ما يمثل ما يقرب من 20% من سكان الأرض، عدا أقلية مقهورة من المسلمين. والهند (الهندوسية) يبلغ عدد سكانها نحو مليار وثلاثمائة وستة وأربعين مليوناً، يقدسون - إضافة إلى «البقر» - نحو عشرة آلهة «ذكور» وسبعة آلهة «إناث»، ويمثلون معظم سكان (القارة) الهندوسية. ويوجد في العالم اليوم نحو مليارين ومئة وخمسين مليوناً من النصارى الذي يعبدون (عيسى) إلهاً أو ابن إله أو ثالث ثلاثة. أما الذين ليس لهم إله يعبدونه نهائياً كـ (الملاحدة الشيوعيين)، فقد كانت لهم حتى عصر قريب دولة تمثل القطب الدولي الثاني في العالم بعد أمريكا. وإذا جئنا إلى خريطة العالم الإسلامي الذي يمثل سكانُه ملياراً وستمائة مليون نسمة - منهم نحو 85% يحملون هوية إسلامية - وجدنا من بين هؤلاء عشرات إن لم يكن مئات الملايين الذين يقعون في الشرك الصريح بعبادة القبور والأضرحة والمزارات!.
كم يحتاج كل هؤلاء من الجهد حتى تبلُغهم كلمة الله التي أنزلها هدى للعالمين؟ وحَمَّل أهل التوحيد مسؤولية إيصالها وتبليغها وإقامة الحجة بها على الناس أجمعين؟ إنها مسؤولية تنوء بها الجبال، لكن لا بد من استشعار رهبة المسؤولية مهما تعلَّلنا بضعف الإمكانات، لا بد من حمل همِّها على الأقل.
لقد جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أجواء جاهلية عالمية شبيهة بهذه الأوضاع التي يعيشها العالم اليوم، لكنه - صلى الله عليه وسلم - تحمَّل الأمانة كلها على عاتقه، ثم حمَّلها لأصحابه من بعده بهذا القرآن حتى غيروا به وجه العالم؛ فأصبحت كلمة (لا إله إلا الله) هي العليا، وكلمة الوثنيين والنصارى واليهود والملحدين والمنافقين هي السفلى؛ ذلك أن آية من كتاب الله - تعالى - كانت محرِّكاً جباراً لهمم الموحدين من الناس نحو إخراج الناس (بالإسلام) من الظلمات إلى النور، وهي قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67].
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ)
سنتجول (مع المفسرين) مع ما تعطيه هذه الآية الجامعة من معانٍ إجمالية، ثم نتوقف معهم من خلالها بعض الوقفات التفصيلية.
جاءت هذه الآية من سورة المائدة في سياق حديث القرآن عن تحريم موالاة اليهود والنصارى الصادِّين الناس عن سبيل الله بما معهم من باطل وخرافات يدَّعونها ديناً وقُربى، وبيَّنت الآيات أن من خالف في ذلك وسارع إلى موالاتهم من دون المؤمنين، فإنه يدلل بذلك على مـرض قلبه بالنفاق، الذي قد يؤول إلى الردة الصريحة.
وقد ساق النظم الكريم في ذلك السياق فظائع وفضائح الانحراف الاعتقادي لدى الطائفتين الضالتين من أهل الكتاب، بدءاً من قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) [المائدة: 51] وحتى قوله - سبحانه -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْـجَحِيمِ) [المائدة: 68].
وقد تعددت أقوال المفسرين من السلف والخلف في سبب نزول الآية، لكنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في علم الأصول.
وعموم اللفظ، مع سياق الآيات، ومقاصد السورة المتوجهِ معظمُها نحو كشف أبعاد الانحراف الاعتقادي لدى النصارى بعد اليهود، يبين ذلك كله أن الآية جاءت أمراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته من بعده، باستكمال البلاغ بما أنزل الله من الدين الحق الناسخ لما كان عليه أهل الكتابين من شرائع، والمبطل لما آلوا إليه من زيغ، حتى لا يكون باطلهم منهجاً متَّبعاً بين البشر على أنه الحق، والحال أنه يبعدهم عن الصراط المستقيم الموصل لجنات النعيم. ولذلك قال في خاتمة ذلك السياق: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْـجَحِيمِ) [المائدة: 86].
وقد استُهلَّت الآية بنداء التشريف والتكليف معاً: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة: 67] المبعوث إلى العالمين من الثقلين. (بَلِّغْ)؛ أي أوصل (مَا أُنزِلَ إلَيْكَ) ففيه الهداية؛ لأنه (مِن رَّبِّكَ) المالك أمرك والحافظ لشأنك، فلا تخشَ في الدعوة إليه أحداً، ولا تخف من مكرهم لإيقافها أبداً، فإن الله متكفل بالهداية وأنت مكلَّف بالبلاغ: (وَإن لَّمْ تَفْعَلْ) [المائدة: 67] فتؤدي البلاغ الكامل - والأمر كذلك - بأن امتنعت عن البلاغ أو كتمت بعضه: (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]؛ أي: فما أديت واجب الرسالة ومقتضاها؛ لأن كتمان بعضها إغفالاً لها ككتم كلها، ولأن بعضها ليس أولى بالبلاغ من بعض، فجميع الرسالة يكمل بعضه بعضاً، ويوصل بعضه إلى بعض. (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الذين هم أعداؤك من الكافرين، فلن ينالوك بضر - من قتل أو أسر - يمنعك من استكمال إبلاغ الرسالة، فما عليك أنت إلا البلاغ المبين، أما الهداية، فإنها إلى الله، لا يهدي إليها إلا من افتقر لها، فأنصتَ إليها بعد بلوغها، أما من جحد النبوة وأنكر الرسالة فـ (إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المستقرين في أمر الكفر عن علم وقصد وعناد.
هذا هو مجمل معنى الآية، مأخوذاً من مجموع التفاسير المعتبرة.
أحكام ودلالات وفوائد:
أما المعاني التفصيلية فقد حملت الآية التي نحن بصددها، عشرات الفوائد والدلالات والأحكام المجموعة من مجموع التفاسير المشهورة، اجتهدت في اختصارها، فما تركتُه أضعافُ ما أثبتُّهُ، حتى تحين الفرصة لبسط المجموع منها في مواضع أخرى بإذن الله؛ فإلى تلك الدلالات والأحكام والفوائد: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)
• نداء التكريم هذا (يأيها) المقترن بأشرف الأوصاف التي يمكن أن يوصف بها بشر (الرسول)، تدل على أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أعظم الأنبياء والرسل عند الله قَدْراً لقيامه بأسمى الرسالات وأدائه لأعظم الأمانات؛ لهذا لم يناده الله - تعالى - باسمه المجرد كما نادى الأنبياء قبله (يا آدم!) (يا نوح!) (يا إبراهيم!) (يا موسى!) (يا يحيى!) (يا داوود!) (يا عيسى!)؛ إنما ناداه بلفظ الرسالة أو لقب النبوة: (يا أيها الرسول!) (يا أيها النبي!) إكراماً له وتشريفاً؛ لأنه أعظم الرسل، المرَسل بأشرف الكتب، لأكرم الأمم. (راجع هذا المعنى في تفسير البحر المحيط لأبي حيان، وتفسير الكشاف للزمخشري][2].
• النداء بوصف الرسالة (يأيها الرسول!) يدل على أن من شأن (الرسول) ألا يكتم شيئاً من الرسالة، وفي هذا شهادة من الله لرسوله بأداء البلاغ، وأن ما قام به كان واجباً عليه، لم يهمل منه شيئاً واستمر واجب البلاغ بعده على أهل البلاغ من أمته؛ فالأمر هنا ليس خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -. قال الثعالبي في تفسيره لهذه الآية: "كما وجب عليه التبليغ - عليه السلام - وجب على علماء أمته".
• عرَّف (ابن عاشور) في تفسيره للآية حدَّ التبليغ بما حاصله أنه: هو ما يحصل به ما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكم، أن يعرفه في وقت الحاجة أو قبله، قال السعدي في تفسيرها: "ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه - صلى الله عليه وسلم -: من العقائد والأعمال والأقوال والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية، فبلغ أكمل تبليغ ودعا وأنذر وبشَّر ويسَّر، وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين".
• (ما) الاسمية هنا بمعنى (الذي)، فتفيد استغراق جميع المنزَل من الله، فالبـلاغ المأمور به هو البلاغ الكامل الذي لا يغفل شيئاً ولا يخفيه، وقد أدَّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاملاً، وأدَّاه الصحابة من بعده كاملاً، وكذلك التابعون وتابعوهم من بعدهم، حتى وصل إلينا الدين كاملاً، لا يحتاج إلى زيادة ولا ابتداع. [تفسير ابن كثير للآية].
• السُّنة النبوية من البلاغ المأمور به، باعتبارها تبياناً للقرآن؛ فهي من البلاغ الذي قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فحياته كلها كانت بلاغاً فِعلياً، وتفسيراً عملياً للقرآن، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إني أوتيت الكتابَ ومثله معه))[3]؛ أي السُّنة المفسرة له.
قال القرطبي في تفسير قوله - تعالى -: (لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19]: "تبليغ القرآن والسنة مأمورٌ بهما، كما أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغهما، فقال الله له: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) [المائدة: 67].
• الصحابة - رضوان الله عليهم - شهدوا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، بأنه قام بالبلاغ الكامل؛ وذلك عندما استشهدهم في حجة الوداع فقال: ((يا أيها الناس! إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟))
قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت، ونصحت وقضيت الذي عليك. فقال: بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد! اللهم اشهد!))[4].
• والصحابة هم خير من قام بأداء البلاغ بعده. قال ابن كثير عن الصحابة في تبليغهم للقرآن: "كانوا أحرص شيء على أداء الأمانات، وهذا من أعظم الأمانة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أودعهم ذلك ليبلِّغوه؛ كما قال الله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)، ففعل - صلوات الله وسلامه عليه - ما أُمِر به، وقال: ((بلِّغوا عني ولو آية))، فبلِّغوا عنه ما أمرهم به، فأدوا القرآن قرآناً والسنة سنةً، لم يلبسوا هذا بهذا".
• كل ما أحلَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما حرَّمه مما بلَّغ به، إنما أخذه من القرآن، وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لا أُحلُّ إلا ما أحلَّ الله - تعالى - في كتابه، ولا أُحرم إلا ما حرَّمه الله - تعالى - في كتابه))، وهذا المعنى أشار إليه ابن تيمية - رحمه الله - عندما نقل في [مقدمة التفسير] قول الإمام الشافعي: "كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن"[راجع تفسير الآلوسي للآية].
• الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ القرآن لفظاً ومعنى، والصحابة تلقَّوه عنه لفظاً ومعنى. قال ابن تيمية في أول [مقدمة التفسير]: "يجب أن تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه"، وقال ابن القيم: "النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لأصحابه القرآنَ لفظه ومعناه، فبلَّغهم معانيه كما بلغهم ألفاظه، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك. قال - تعالى - (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ) [النحل: 44]"[5].
ويستفاد من هذا أن تعليم تلاوة القرآن وضبط ألفاظه يجب أن يقترن بمعانيه على حسب الوِسْع، فهذا من البلاغ الواجب، حتى يستفيض العلم بالقرآن.
• سياق الآيات أعطى أمثلة للأشياء المأمور بالتصريح بإبلاغها دون مجاملة أو مهادنة، فمنها: أن اليهود والنصارى يوالي بعضهم بعضاً ضد المسلمين، ومنها أن اليهود وقعوا في الكفر الغليظ عندما سكتوا عن قول بعضهم: (إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) تعالى الله عما يقولون، ومنها أن أهل الكتاب ليسوا على شيء معتبَر أو مقبول من الدين ما لم يعترفوا بنبوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - الموجودة في التوراة والإنجيل، ومنها مواجهة النصارى بأنهم كفار؛ لدعواهم ألوهية المسيح وقولهم: (إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) ونحو ذلك، وهذا يفيد في أن أمور العقائد الباطلة لا بد من مكاشفة أهلها بها في البلاغ حتى لا يتكلوا على أوهام الاصطفاء والاختيار، فهذا من البلاغ المبين. [انظر تفسير الظلال لسيد قطب عند هذه الآية].
(وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)
يتبع