قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
واعلمْ أنَّ الاشتراكَ في الأسماءِ والصِّفاتِ لا يَستلزِمُ تماثلَ المسَمَّياتِ والموصوفاتِ، كما دلَّ على ذلكَ السَّمْعُ، والعقلُ، والْحِسُّ.
أمَّا السمعُ: فقدْ قالَ اللهُ عنْ نفسِهِ: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)
وقالَ عنِ الإِنسانِ: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)
ونَفَى أنْ يكونَ السَّميعُ كالسَّميعِ والبصيرُ كالبصيرِ فقالَ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
وأثبتَ لنفسِهِ علْماً وللإِنسانِ علْماً فقالَ عنْ نفسِهِ: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ)
وقالَ عنِ الإِنسانِ: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)
وليسَ علْمُ الإِنسانِ كعِلْمِ اللهِ تعالى فقدْ قالَ اللهُ عنْ علْمِهِ: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)
وقالَ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ)
وقالَ عنْ علْمِ الإِنسانِ: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَ قَلِيلاً)
وأما العقلُ: فَمِنَ المعْلومِ بالعقلِ أنَّ المعانيَ والأوصافَ تَتقيَّدُ وتَتميَّزُ بحسْبِ ما تُضَافُ إليْهِ، فكمَا أنَّ الأشْياءَ مختلِفُةٌ في ذواتِهَا فإنها كذلكَ مختلِفةٌ في صفاتِهَا وفي المعاني المضافةِ، إليْهَا فإنَّ صفةَ كلِّ موصوفٍ تُناسبُهُ لا يُفْهَمُ منْهَا ما يَقصُرُ عنْ موصوفِهَا أو يَتجاوزُهُ، ولهذا نصِفُ الإِنسانَ باللِّينِ والحديدَ المنصَهِرَ باللِّينِ، ونعلَمُ أنَّ اللِّينَ متفاوتُ المعنى بحسْبِ ما أُضِيفَ إليْهِ.
وأما الحسُّ: فإنَّنَا نُشاهِدُ للفيلِ جِسْماً وقَدَماً وقوَّةً، وللبَعوضةِ جسْماً وقَدَماً وقوَّةً، ونعلَمُ الفرْقَ ينَ جسمَيْهِما، وقَدَمَيْهِمَا، وقوَّتيْهِما.
فإذا عُلِمَ أنَّ الاشتراكَ في الاسمِ والصِّفةِ في المخلوقاتِ لا يَستلزمُ التماثُلَ في الحقيقةِ معَ كوْنِ كلٍّ منْها مخلوقاً ممكِناً، فانتفاءُ التَّلازمِ في ذلكَ بينَ الخالقِ والمخْلوقِ أَوْلى، وأجْلَى، بل التماثُلُ في ذلكَ بينَ الخالِقِ والمخلوقِ ممتنِعٌ غايةَ الامتناعِ.

الزائغونَ عنْ سبيلِ الرُّسلِ وأَتباعِهِمْ في أسْماءِ اللهِ وصفاتِهِ قِسْمانِ:
ممثِّلةٌ، ومعطِّلةٌ
وكلٌّ منْهُمْ غَلاَ في جانبٍ، وقَصَّرَ في جانبٍ، فالممثِّلةُ غَلَوْا في جانِبِ الإِثباتِ، وقَصَّرُوا في جانبِ النفْيِ. والمعطِّلةُ غَلَوْا في جانبِ النفيِ، وقَصَّرُوا في جانبِ الإِثباتِ، فخَرَجَ كلٌّ منْهمْ عنِ الاعتدالِ في الجانبينِ.
فالقسمُ الأوَّلُ: الممثِّلةُ وطريقتُهُمْ أنَّهُمْ أَثْبَتُوا للهِ الصِّفاتِ على وجهٍ يُماثلُ صفاتِ المخلوقينَ فقالُوا: للهِ وجهٌ، ويَدانِ، وعينانِ، كوجوهِنَا، وأيدينَا وأعيُنِنَا، ونحوُ ذلكَ.
وشُبْهَتُهُمْ في ذلكَ أنَّ اللهَ تعالى خاطَبَنا في القرآنِ بِمَا نَفْهَمُ ونَعْقِلُ قالُوا: ونحنُ لا نَفهَمُ، ولا نَعقِلُ إلا ما كانَ مشاهَداً فإذَا خاطَبَنا عنِ الغائِبِ بشيْءٍ وَجَبَ حَملُهُ على المعلومِ في الشَّاهِدِ.
ومذهبُهُمْ باطلٌ مردودٌ بالسَّمْعِ، والعقْلِ، والحِسِّ.
أما السَّمْعُ: فقدْ قالَ اللهُ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
وقالَ: (فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) ففي الآيةِ الأُولى نَفَى أنْ يكونَ لهُ مماثِلٌ معَ إثباتِ السَّمْعِ والبصرِ لَهُ.
وفي الثانِيَةِ نَهَى أنْ تُضْرَبَ لهُ الأمثالُ فَجَمَعَ في هاتينِ الآيتينِ بينَ النَّفْيِ والنَّهْيِ.
وأما العقْلُ فدلالتُهُ على بُطْلانِ التَّمْثِيلِ منْ وُجوهٍ:
الأوَّلُ: التبايُنُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ في الذاتِ والوجودِ، وهذَا يَستلزمُ التبايُنَ في الصِّفاتِ، لأنَّ صفةَ كلِّ موصوفٍ تَليقُ بِهِ فالمعانِي والأوصافُ تَتقيَّدُ وتَتميَّزُ بحسْبِ ما تُضَافُ إليْهِ.
الثاني: أنَّ القولَ بالمماثَلَةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ يَستلزِمُ نقْصَ الخالِقِ سبحانَه، لأن تمثيلَ الكاملِ بالنّاقصِ يَجعلُه ناقصاً.
الثالث: أن القولَ بمماثَلَةِ الخالقِ للمخلوقِ يَقتضي بطلانَ العُبوديَّةِ الحقَّةِ، لأنَّهُ لا يَخضعُ عاقلٌ لأحدٍ ويَذِلُّ لهُ على وجهِ التّعظيمِ المطْلَقِ إلا أنْ يكونَ أعلى مِنْهُ.
وأما الحسُّ: فإننا نُشاهِدُ في المخلوقاتِ ما تَشترِكُ أسماؤُهُ وصفاتُهُ في اللفْظِ، وتَتبايَنُ في الحقيقةِ فلِلْفِيلِ جسْمٌ وقوَّةٌ وللبعوضةِ جسْمٌ وقوَّةٌ، والتبايُنُ بينَ جسميْهما وقوَّتَيْهما معلومٌ فإذا جازَ هذا التبايُنُ بينَ المخلوقاتِ كانَ جوازُهُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ منْ بابِ أَوْلى، بل التَّبايُنُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ واجبٌ والتماثُلُ ممتنِعٌ غايةَ الامتناعِ.
وأمّا قولُهُمْ: إنَّ اللهَ تعالى خاطَبَنا بما نَعقِلُ ونَفهَمُ فصحيحٌ لقولِهِ تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
وقولِهِ: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليك مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
وقولِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ).
ولَوْلاَ أنَّ اللهَ أرادَ مِنْ عبادِهِ عَقْلَ وفَهْمَ ما جاءتْ بِهِ الرُّسلُ لكانَ لسانُ قومِهِ ولسانُ غيْرِهِمْ سواءٌ، ولَمَا حَصَلَ البيانُ الّذي تقومُ بهِ الْحُجَّةُ على الخلْقِ.
وأما قولُهُمْ: إذا خاطَبَنَا عنِ الغائِبِ بشيءٍ وَجَبَ حَمْلُهُ على المعلومِ في الشاهِدِ فجوابُهُ منْ وجهين
أحدُهُمَا: أن ما أَخبرَ اللهُ بهِ عنْ نفسِهِ إنمَا أَخبرَ بهِ مضافاً إلى نفسِهِ المقدَّسةِ فيكونُ لائقاً بهِ لاَ مماثِلاً لمخلوقاتِهِ، ولاَ يُمْكِنُ لأحدٍ أنْ يَفهَمَ منْهُ المماثَلَةَ إلا مَنْ لم يَعْرِف اللهَ تعالى، ولم يُقدِّرْهُ حقَّ قدْرِهِ، ولمْ يَعرفْ مدلولَ الخطابِ الذي يَقتضيهِ السِّياقُ.
الثاني: أنّهُ قد عُلِمَ بضرورةِ العَقْلِ والشرْعِ ما بينَ الخالِقِ والمخلوقِ من التبايُنِ العظيمِ في الذاتِ والوجودِ فكيف يتَصَوَّرُ مؤمنٌ أو عاقلٌ أن يكونَ بينَهما تماثُلٌ في الصفاتِ، فضْلاً عن أن يَعتقِدَ ذلك في اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.[
تقريب التدمرية - للشيخ محمد بن صالح العثيمين]