من مقدمة المحقق الشيخ طارق بن عوض الله على كتاب المنتخب من العلل للخلال:

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد:
فإن علم الحديث رفيع القدر، عظيم الفخر، شريف الذكر، لا يعتنى به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غفر، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر.وهو علم أصل، له على غيره من العلوم فضل، فهو كالمقلة للعين، والقلب للجسد، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله.وقد اختار الله عز وجل له أئمة صادقين، بالحق عاملين، وإليه داعين، وللباطل مجتنبين، وعنه محذرين، فجعلهم حراسا للدين، ينفون عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين.
فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة وحججهم قاهرة.فوضعوا لمن بعدهم أصولا قويمة، وميزوا بين الأحاديث الصحيحة والسقيمة، وأظهروا في رواتها كل شريفة وذميمة، تدينًا وتقربًا إلى الله عز وجل ، ونفيًا للكذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وإن من أشرف علوم الحديث علما، ومن أغمضها فهما، وأخفاها نظما وأرفعها مكانة، وأبعدها منزلة، ذلك هو علم علل الحديث، الذي سما أهله، وارتفع سهله، ولله الأمر كله، يرفع من يشاء، ويضع من يشاء.
وحسبك بأن تعلم، بأن علم الجرح والتعديل، وهو من أهم علوم الحديث، إنما يقوم على هذا العلم الشريف علم علل الحديث، فهو مفتقر إليه، متوقف عليه.
فإن ثمرة علم الجرح والتعديل هي معرفة الثقات من الضعفاء من رواة الحديث، وهذه الثمرة إنما يقف عليها المحدثون من خلال النظر في روايات الراوي وعرضها على روايات غيره، ليتبيّن ما أصاب فيه الراوي وما أخطأ، وبقدر ما يُعرف من إصابته وخطئه بقدر ما تعرف منزلته من الثقة أو الضعف.
وعرض روايات الراوي على ما رواه غيره، هو ما يسمَّى عند أئمة الحديث بالاعتبار والتتبع، وهو من علم العلل، بل من صميم علم العلل، وبهذا يعلم كم يفتقر علم الجرح والتعديل إلى علم علل الحديث.
وكلما كان المتكلم في الرجال بالجرح والتعديل عالما بعلل الحديث، كلما كانت أقواله في الرجال أقرب إلى الصواب والتحقيق، لأنه إنما يبني أحكامه في الرواة على الواقع الملموس من رواياتهم، وكلما كان أبعد عن علم علل الحديث، كلما كانت أقواله في الرجال بعيدة عن الصواب، يشوبها عدم التحرير والتحقيق، لأنه في الغالب إنما يبني أحكامه في الرواة على النظرة السطحية من أحوالهم، من غير خبرة كاملة بمروياتهم، وقد يكون الرجل صالحا عابدا، ولكنه ليس ممن يحفظ الحديث على وجهه، فمن نظر إلى ظاهره، ولم يكن عالما بمروياته اغتر بظاهره، ووثقه عن غير خبرة وعلم كامل بحفظه وضبطه، بينما أئمة العلل فعندهم الخبرة الكاملة بحال مروياته، ولذا تكون أحكامهم على الرواة غالبا موافقة للصواب.
ولذا نجد أئمة العلل كثيرا، إذا ما تكلموا في الرواة بالجرح والتعديل يعتمدون في أحكامهم على الرواة على ما مخضته لهم بحوثهم العللية، فتكون أحكامهم على روايات الراوي دليلا لهم على حال ذلك الراوي من الجرح والتعديل.
فنجدهم كثيرا ما يقولون في الحكم على الرواة: "فلان منكر الحديث" أو "أحاديثه مناكير" أو "صاحب مناكير" أو "يخالف الثقات" أو "يخطئ كثيرا" أو نحو هذه العبارات التي لا يستطيع أن يطلقها إلا عالم خبير بعلل الأحاديث وأحوال الروايات.
ونجدهم أيضا كثيرا ما يقولون: "فلان لا يصح له سماع من فلان" أو "لم يسمع من فلان إلا حديث كذا وكذا" أو "لم يسمع من فلان حديث كذا" أو نحو هذه العبارات، وهي أيضا لا يطلقها إلا من كان من أهل الخبرة الكاملة بعلل الأحاديث.
ومن هنا تكمن ضرورة معرفة أقوال أئمة الحديث في الحكم على الأحاديث تصحيحا وتعليلا، والحكم على الرواة تجريحا وتعديلا، فهم مصابيح الدجى، وأعلام الهدى.