ممن كتب وأفاض في هذا الباب- الإمام القلقشنديّ في كتابه "صبح الأعشى" فكان مما ذكر " الأصل الثامن:
أن يعرف مقدار فهم كل طبقة من المخاطبين في المكاتبات من اللسان فيخاطب كل أحد بما يناسبه من اللفظ، وما يصل إليه فهمه من الخطاب.
قال أبو هلال العسكري في كتابة الصناعتين: أول ما ينبغي أن تستعمل في كتابك مكاتبة كل فريق على مقدار طبقتهم في الكلام وقوتهم في المنطق. قال: والشاهد على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى أهل فارس، كتب إليهم بما يمكنهم ترجمته فكتب إليهم: " من محمد رسول الله إلى كسرى أبرويز عظيم فارس، سلامٌ على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة " لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين " فأسلم تسلم، وإن أبيت فإثم المجوس عليك " فسهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الألفاظ غاية التسهيل حتى لا يخفى منها شيءٌ من له أدنى معرفةٍ بالعربية.
ولما أراد أن يكتب إلى قوم من العرب، فخم اللفظ لما عرف من قوتهم على فهمه، وعادتهم بسماع مثله، فكتب لوائل بن حجر الحضرمي: " من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. على التيعة الشاة، والتيمة لصاحبها، وفي السيوف الخمس، لا خلاط، ولا ورط، ولا شناق، ولا شغار، ومن أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام " .
وقد ذكر العسكري أيضاً في باب الإطناب ما يحسن أن يكون شاهداً لذلك من القرآن الكريم فقال: قد رأينا أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي كما في قوله تعالى خطاباً لأهل مكة " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " وقوله: " أو ألقى السمع وهو شهيدٌ " في أشباهٍ كثيرةٍ لذلك. وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعل الكلام مبسوطاً، كما في سورة طة وأشباهها، حتى إنه قلما تجد قصةً لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحةً ومكررةً في مواضع معادةً، لبعد فهمهم، وتأخر معرفتهم.قال في مواد البيان: فيجب على الكاتب أن يتنقل في استعمال الألفاظ على حسب ما تقتضيه رتب الخطاب والمخاطبين، وتوجبه الأحوال المتغايرة، والأوقات المختلفة، ليكون كلامه مشاكلاً لكل منها، فإن أحكام الكلام تتغير بحكم تغير الأزمنة والأمكنة ومنازل المخاطبين والمكاتبين.
قال: ولتحري الصدر الأول من الكتاب إيقاع المناسبة بين كتبهم وبين الأشياء المتقدمة الذكر استعمل كتاب الدولة الأموية من الألفاظ العربية الفحلة، والمتينة الجزلة، ما لم تستعمل مثله الدولة العباسية، لأن كتاب الدولة الأموية قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتهم، حتى عدت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها، والأمكنة التي نزلها ملوكهم من بلاد العرب، والرجال الذين كانت الكتب تصدر إليهم، وهم أهل الفصاحة واللسن والخطابة والشعر.
يتبع...