فقه الأزمات والفتن
الشيخ صالح آل الشيخ
...
الخامس:
حال الأمة الإسلامية يختلف ما بين ضعف وقوة أولا ما بدأت الأمة الإسلامية ببعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت ضعيفة، فيها ضعف وإن كانت قوية بالله وفيما جاء به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنها كانت من حيث التمكين وقيام الدولة أو من حيث تحقيق ما تريد كانت فيها ضعف؛ لكن هذا الضعف كان أحكام شرعية منزلة على هذا الضعف.
في العهد المدني في أوله كان هناك أحكام فقهية أيضا منزلة على هذه الحال المتوسطة.
وفي آخره بعد الفتح فتح مكة وبعد فتح خيبر وبعد زمن الوفود ونزلت براءة ونزلت سورة المائدة كان هناك حال القوة.
هل نقول هنا إن ما لم يذكر في سورة براءة ليس دليلا على شيء؟ أو أن الأدلة الشرعية المذكورة في جميع سورة القرآن في كل حالة من هذه الأحوال؟ لهذا ذهب أهل التحقيق كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من أهل العلم ومنهم من المعاصرين إلى أن الفقه يتنزل بتنزل الأحوال ويختلف باختلاف الأحوال إذا كان كذلك فإن من الفقه المطلوب في الأزمات والفتن أن نفرق ما بين فقه القوة وفقه الضعف وفقه الحال المتوسطة بينهما؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحكام الشريعة كان عندنا هذه الأنواع في الفقه الثلاثة، ففقه الضعف كان هناك كثير من الأحكام في مكة وفقه التوسط وفقه القوة.
هناك من يقول من أهل العلم: إن الأحكام هذه نُسخت إلى الحال الأخيرة، كما يقول بعض أهل العلم: هذه نسختها آية السيف، وهذه نسختها آية السيف، والمحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره لا يرون النسخ في ذلك بل يربطون هذا بحال المسلمين، فإذا كان في ضعف نزلت عليهم أحكام الضعف، إذا كانوا في غربة من السنة نزّلت عليهم أحكام غربة السنة، إذا كان في قوة تنزّل عليهم أحكام القوة، ويدل على ذلك عدو أدلة منها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» بقوله «إن الله يبتعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» رواه أبو داوود في سننه والإمام أحمد وجماعة بإسناد قوي، وهكذا في غيرها من الأحكام.
فإذن لما جاءت بعض الأحكام الشرعية المتعلقة ببعض المسائل قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه إذا رجع حال الأمة كما كان أولا رجع الحكم السابق. ولا نحتاج إلى أن نمثل لأنها معروفة لديكم.
لما تكلم ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الهجر قال هجر المبتدع هذا هجر المبتدع إذا كان في بلد سنة قوة ينفع معه الهجر، أما إذا كان في بلد فيه غربة للسنة فهجر المبتدع فإنه لن يؤثر، وهذا فيه أمثلة كثيرة عندكم من كلام أهل العلم في ذلك.
إذن على مستوى الأفراد، وكذلك على مستوى أكبر مجتمعات أو على مستوى الدول هناك فرق ما بين فقه القوة وفقه الضعف.
كذلك ما يتعلق بهذا الأمر فقه الضرورة مرتبط بفقه القوة والضعف، فقه الضرورة هل الضرورة المتعلقة بالأفراد هي الضرورة المتعلقة بالمجتمع، هي الضرورة المتعلقة بالدولة؟ فقه الضرورات مختلف.
وإذا نزلنا الضرورات منزلة واحدة بأن الضرورة المتعلقة بشخص هي الضرورة المتعلقة بالدولة أو الضرورة المتعلقة بالأمة، فإنه حينئذ نجني على الفقه الإسلامي كله؛ بل نجني على أمتنا؛ بل نجني على استمرار هذه الأمة في قوتها وهيبتها واستمرارا عقائدها واستمرار عطائها.
...
الأصل الأخير في ذلك أو الفقه الأخير هو:
فقه السياسة الشرعية
والسياسة الشرعية مطلوبة شرعا والنظر في السياسة الشرعية مختلف:
فمنهم من ينظر في السياسة الشرعية إلى أنها السياسة التي يتبعها القاضي في قضائه وأحكامه، وهناك كتب مؤلفة في هذا الأمر معروفة فيما يتعلق بالتقاضي عند القاضي والنوازل وما يتصل بذلك، ومؤلفات للسياسة الشرعية متعلقة بذلك.
هناك من نظر في السياسة والشرعية فيما بتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يجب أن تعمل فيه الأمور الشرعية والسياسة الشرعية في قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما نظر اليوم وهو فقه السياسة الشرعية فيما يتعلق بالأزمات والفتن والسياسة الشرعية أصلها مبني على قاعدة أجمع عليها أهل العلم وهي أن الشريعة جاءت بالمصالح ودرء المفاسد، وجاءت بتحقيق المقاصد، هذان أمران:
الأمر الأول نقدم المقاصد، النظر المقاصدي هذا من أهم أنواع النظر التي يحتاج بها المجتهد، فلاشك طالب العلم بعامة -نتكلم بعامة- يُسأل عن مسألة فيفتي فيها بما يعلمه من الأحكام التي درسها أو الأحكام الآتي اطلع عليها أو بالدليل أو بحسب الحال لكن المجتهد ينظر في الأحكام إلى مقاصد الشريعة؛ لأن الشريعة جاءت بتحقيق مقاصد، الأعرابي الذي جاء يبول في المسجد الصحابة أتوا ينكرون عليه لماذا؟ لأن بوله في المسجد خطيئة هذا لاشك فيه؛ لكن نظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو حكم مستقى فيه النظر المقاصدي قال لا «تزرموه لا تعجلوا عليه» ثم لما فرغ قال «أريقوا على بوله سجلا من ماء» والحديث معروف لماذا؟ لأن لا يترتب على نهيه عن ذلك انتشار أوسع للبول في المسجد، هذا نظر مقاصدي، نظر في السياسة الشرعية وإن كان في مسألة متعلقة بالطهارة.
كذلك المسائل المتعلقة بالأمة المتعلقة بالدعوة لابد فيها من نظر المقاصد الشريعة جاءت بالمقاصد ما من تشريع إلا وله مقاصد، له غايات، ويطول الكلام إذا أتينا بالتعريف للمقاصد يعني ما يتصل بذلك ترجعون إليها في مظانها.
فهنا أحكام كثيرة متعلقة بالمقاصد لابد أن ترعى؛ يعني لابد أن ترعى، فهنا مثلا الجهاد ما مقاصده؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما مقاصده الشرعية؟ الدعوة إلى الله جل وعلا ما مقاصدها؟ المقاصد الشرعية المطلوبة منها، الشريعة نفسها لماذا جاءت؟ تعلمون الكلمة العامة أن الشريعة جاءت بالمحافظ على الضروريات الخمس كالدين والنفس والمال والعقل والعرض أو النسل هذه الضروريات الخمس التي هذه مقصد للشريعة.
...
هذا لمحة في النظر المقاصدي.
السياسة الشرعية النظر الثاني فيها متعلق بالمصالح والمفاسد، كما قال العرب، كما قال أهل الحكمة: كل إنسان يعرف الشر والخير. فإن الله جل وعلا قال ?وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ?[البلد:10]، طريق الخير وطريق الشر وقال ?قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا?[الشمس:9-10]، يعني الخطوط العامة هذا حق وهذا باطل وهذا صح وهذا غلط، هذا أكثر الناس يشتركون في ذلك، خاصة الناس طلبة العلم أمثالكم الحكماء العقلاء هم الذين يعرفون خير الخيرين وشر الشرين، كما قال أحد السلف قال: ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين. هذا هو الصحيح.
فإذن الفقيه العاقل هو الذي يعرف الحكم الأكثر خيرية ليحكم به ويدعى الناس إليه، والأكثر شرا لينهى الناس عنه وهذا الفقه هو الذي نحتاجه اليوم أكثر ليس حاجة إلى بثه فقط بل إلى تدريسه وإلى ترسيخه؛ لأنه إذا لم يؤصل مبدأ السياسة الشرعية وفقه السياسة الشرعية، وكيفية رعاية المصالح ودرء المفاسد فإنه لا نظر صحيح في الشرع أصلا.
لهذا نقول هنا أن طلبة العلم يجب عليهم أن يأخذوا بالقاعدة الصحيحة المتفق عليها وهي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها. فالباب الذي فيه مصلحة موجودة أو مصلحة يرجى تفسيرها فهذا نجزم أن الشريعة جاءت بها والباب الذي فيه مفسدة موجودة أو مفسدة نخشى أن تكثر فنجزم أن الشريعة جاءت بوصفه في ذلك، وبحسب الحال قد لا نستطيع كل المصالح وقد لا نستطيع درء كل المفاسد للكن نجتهد أن نفتح ما نستطيع من المصالح وأن ندرأ ما نستطيع من المفاسد، وهذا هو الذي يوافق الأصول الشرعية، وهذه من القواعد العامة المتفق عليها وهي أن الشريعة جاءت لرعاية المصالح ودرء المفاسد.
..."
الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله تعالى-
محاضرة بكلية الشريعة 1425هـ
قام بتفريغ المادّة: سالم الجزائري