قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ:
قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
{وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ**} (الزُّمَر: من الآية54) ).
قال الشيخُ عبدُ الرحمٰن بن محمد بن قاسم -رَحِمَهُ اللهُ-:
وَأَنَّهَا مِنْ أَجَلِّ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَهِي التَّوْبَةُ، بَلْ أَعَلَىٰ مَقَامِ التَّوْبَةِ:
فَإِنَّ التَّوْبَةَ: الإِقْلاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ عَلَىٰ مَا فَاتَ، وَالْعَزْمُ أَنْ لا يَعُودَ إِلَيهِ.
وَالإِنَابَةُ تَدُلُّ عَلَىٰ ذٰلِكَ، وَتَدُلُّ عَلَى الإِقْبَالِ عَلَى اللهِ بِالْعِبَادَاتِ .
والإقبالُ عَلَى اللهِ رُجُوعٌ عَمَّا لا يَنْبَغِي بِالْكُلِّيَّةِ ، وَقَصْدٌ إِلَىٰ مَا ينبغي مِنْ رِضاِهُ.
أََيّْ: وَأَقْبِلُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَارْجِعُوا إِلَيهِ بِالطَّاعَةِ، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} أَخْلِصُوا لَهُ التَّوْحِيدَ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (الزُّمَر: مِن الآية 54) أَيْ: بَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ حُلُولِ النِّقْمَةِ، وَأَمْرُهُ تَعَالَىٰ عِبَادَهُ بِالإِنَابَةِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَأَنَّهُ يُحِبُّهَا شَرْعًا وَدِيْنًا؛ فَصَرْفُهَا لِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ أَكْبرُ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-------------------قال الشيخ :صالح آل الشيخ
حقيقة الإنابة الرجوع، رجوع القلب عما سوى الله -جل وعلا- إلى الله جل وعلا وحده، والإنابة إذْ كان معناها الرجوع، فإن القلب إذا توجه إلى غير الله -جل وعلا- قد يتعلق به تعلقاً؛ بحيث يكون ذلك القلب في تعلقه تاركاً غير ذلك الشيء، وراجعاً ومنيباً إلى ذلك الشيء، كما يحصل عند الذين يتعلقون بغير الله، تتعلق قلوبهم بالأموات والأولياء أو بالأنبياء والرسل أو بالجن ونحو ذلك، فتجد أن قلوبهم قد فُرِّغَت - إما على وجه التمام، أو على وجه كبير - من التعلق إلا بذلك الشيء، وهذا الذي يسمى الإنابة.
أناب: رجع، ترك غيره ورجع إليه، وهذا الرجوع ليس رجوعاً مجرداً ولكنه رجوع للقلب مع تعلقه ورجائه.
فحقيقة الإنابة: أنها لا تقوم وحدها القلب المنيب إلى الله جل وعلا، إذا أناب إليه، فإنه يرجع وقد قام به أنواع من العبودية، منها الرجاء والخوف والمحبة ونحو ذلك، فالمنيب إلى الله -جل وعلا- هو الذي رجع إلى الله -جل وعلا- عما سوى الله -جل وعلا-، ولا يكون رجوعه هذا إلا بعد أن يقوم بقلبه أنواع من العبوديات، أعظمها المحبة والخوف والرجاء، محبة الله، الخوف من الله، الرجاء في الله.
فإذاً: الإنابة صارت عبادة بهذا الدليل، وسيأتي بيان وجه الاستدلال، وأيضاً لأنها شيءٌ متعلق بالقلب، ولأنها لا تقوم بالقلب إلا مع أنواع أُخر من العبوديات، ولهذا استدل له بقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}.
ووجه الاستدلال: أن الله -جل وعلا- قال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} فأمر بالإنابة، وإذْ أمر بها فمعنى ذلك أنه يحبها ويرضاها ممن أتى بها، فهي إذاً داخلة في تعريف العبادة سواءً عند الأصوليين أو عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهذا الدليل العام على كونها من العبادة.
ما الدليل على كون هذه العبادة يجب إفراد الله -جل وعلا- بها فإن في هذا الأمر بالإنابة إلى الله -جل وعلا-؟
ما دليل كون هذه العبادة - وهي الإنابة - لا يجوز ولا يسوغ أن يتوجه بها إلى غير الله جل وعلا؟
هناك دليل عام، ألا وهو أنه إذْ ثبت أنها عبادة، فالأدلة العامة كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
- وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .
- وغير ذلك، كقوله عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة)) ، ((الدعاء مخ العبادة)) ونحو هذه الأدلة تدل على أن أي نوع من العبادة لا يجوز أن يتوجه به إلى غير الله، ومن توجه به إلى غير الله -جل وعلا- فقد كفر، فهذا الاستدلال العام.
وهناك دليل خاص في الإنابة أنه يجب إفراد الله جل وعلا بالإنابة، وذلك في قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} في سورة هود، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} قالها شعيب عليه السلام، وأخبر الله -جل وعلا- بها عن شعيب في معرض الثناء عليه، قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} يعني: عليه وحده لا غير، (توكلت) فوضت أمري، وأخليت قلبي من الاعتماد على غيره، ومجيء الجار والمجرور متقدماً على ما يتعلق به - وهو الفعل - دل على وجوب حصرها وقصرها واختصاصها بالله جل وعلا.
ثم قال: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فقال: (إليه) وحده لا إلى سواه؛ (أنيب) أرجع محباً راجياً خائفاً عن كل ما سوى الله -جل وعلا- إلى الله وحده، فلما قدم الجار والمجرور على يتعلق به - وهو الفعل - دل على أن هذه العبادة - وهي الإنابة - مختصة بالله -جل وعلا-، وهذا أتى في معرض الثناء على شعيب.----------------------------قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله الإنابةُ: الرُّجُوعُ إلى اللَّهِ تَعَالَى بالقيامِ بطاعتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وهيَ قريبةٌ منْ معنى التَّوْبَةِ، إلاَّ أنَّهَا أَرَقُّ منها؛ لِمَا تُشْعِرُ بهِ من الاعتمادِ على اللَّهِ واللُّجُوءِ إليهِ، ولا تكونُ إلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيلُهَا قولُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}. -------