قال الشيخ :صالح بن عبدالعزيزبن آل الشيخ
[شرح قوله: ]
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ) وحقيقة الإنابة الرجوع، رجوع القلب عما سوى الله -جل وعلا- إلى الله جل وعلا وحده، والإنابة إذْ كان معناها الرجوع، فإن القلب إذا توجه إلى غير الله -جل وعلا- قد يتعلق به تعلقاً؛ بحيث يكون ذلك القلب في تعلقه تاركاً غير ذلك الشيء، وراجعاً ومنيباً إلى ذلك الشيء، كما يحصل عند الذين يتعلقون بغير الله، تتعلق قلوبهم بالأموات والأولياء أو بالأنبياء والرسل أو بالجن ونحو ذلك، فتجد أن قلوبهم قد فُرِّغَت - إما على وجه التمام، أو على وجه كبير - من التعلق إلا بذلك الشيء، وهذا الذي يسمى الإنابة.
أناب: رجع، ترك غيره ورجع إليه، وهذا الرجوع ليس رجوعاً مجرداً ولكنه رجوع للقلب مع تعلقه ورجائه.
فحقيقة الإنابة: أنها لا تقوم وحدها القلب المنيب إلى الله جل وعلا، إذا أناب إليه، فإنه يرجع وقد قام به أنواع من العبودية، منها الرجاء والخوف والمحبة ونحو ذلك، فالمنيب إلى الله -جل وعلا- هو الذي رجع إلى الله -جل وعلا- عما سوى الله -جل وعلا-، ولا يكون رجوعه هذا إلا بعد أن يقوم بقلبه أنواع من العبوديات، أعظمها المحبة والخوف والرجاء، محبة الله، الخوف من الله، الرجاء في الله.
فإذاً: الإنابة صارت عبادة بهذا الدليل، وسيأتي بيان وجه الاستدلال، وأيضاً لأنها شيءٌ متعلق بالقلب، ولأنها لا تقوم بالقلب إلا مع أنواع أُخر من العبوديات، ولهذا استدل له بقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}.
ووجه الاستدلال: أن الله -جل وعلا- قال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} فأمر بالإنابة، وإذْ أمر بها فمعنى ذلك أنه يحبها ويرضاها ممن أتى بها، فهي إذاً داخلة في تعريف العبادة سواءً عند الأصوليين أو عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهذا الدليل العام على كونها من العبادة.
ما الدليل على كون هذه العبادة يجب إفراد الله -جل وعلا- بها فإن في هذا الأمر بالإنابة إلى الله -جل وعلا-؟
ما دليل كون هذه العبادة - وهي الإنابة - لا يجوز ولا يسوغ أن يتوجه بها إلى غير الله جل وعلا؟
هناك دليل عام، ألا وهو أنه إذْ ثبت أنها عبادة، فالأدلة العامة كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
- وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .
- وغير ذلك، كقوله عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة)) ، ((الدعاء مخ العبادة)) ونحو هذه الأدلة تدل على أن أي نوع من العبادة لا يجوز أن يتوجه به إلى غير الله، ومن توجه به إلى غير الله -جل وعلا- فقد كفر، فهذا الاستدلال العام.
وهناك دليل خاص في الإنابة أنه يجب إفراد الله جل وعلا بالإنابة، وذلك في قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} في سورة هود، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} قالها شعيب عليه السلام، وأخبر الله -جل وعلا- بها عن شعيب في معرض الثناء عليه، قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} يعني: عليه وحده لا غير، (توكلت) فوضت أمري، وأخليت قلبي من الاعتماد على غيره، ومجيء الجار والمجرور متقدماً على ما يتعلق به - وهو الفعل - دل على وجوب حصرها وقصرها واختصاصها بالله جل وعلا.
ثم قال: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فقال: (إليه) وحده لا إلى سواه؛ (أنيب) أرجع محباً راجياً خائفاً عن كل ما سوى الله -جل وعلا- إلى الله وحده، فلما قدم الجار والمجرور على يتعلق به - وهو الفعل - دل على أن هذه العبادة - وهي الإنابة - مختصة بالله -جل وعلا-، وهذا أتى في معرض الثناء على شعيب.
[شرح قوله: (ودليل الاستعانة) ]
قال: (ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ) هذا دليل عام في العبادات جميعاً حيث قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} و(إياك) - كما هو معلوم - ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم، أصل الكلام: نعبد إياك، ومن المعلوم أن المفعول به يتأخر عن فعله، فإذا قُدِّم كان ثمَّ فائدة في علم المعاني من علوم البلاغة، ألا وهي أنه يفيد الاختصاص.
وطائفة من البلاغيين يقولون: (يفيد الحصر والقصر)، وعلى العموم الخطب يسير، يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، هنا أفاد أن العبادة من خصوصيات الله جل وعلا، خاصة بالله جل وعلا.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} يعني لا نعبد إلا أنت، ثم قال بعدها - وهو مراد الشيخ بالاستدلال - {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهذه الآية من سورة الفاتحة - السورة العظيمة التي هي أم القرآن، التي يرددها المسلمون في صلواتهم -، فيها إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، وعقد العهد والإقرار على النفس بأن القائل لتلك الكلمات لا يعبد إلا الله جل وعلا، قال: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كذلك لا يستعين إلا بالله جل وعلا.
وجه الاستدلال: أنه قدم الضمير المنفصل - الذي هو في محل نصب مفعول به - على الفعل - الذي هو العامل فيه -، وتقديم المعمول على العامل يفيد الاختصاص، أو يفيد الحصر والقصر؛ فإذاً: هنا أثبت أنها عبادة، وأثبت أنه لا يجوز صرفها لغير الله، إذْ هي مختصة بالله جل وعلا، وهاهنا قال العلماء - شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم -: إن عبادة غير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، مع أن جنس الاستعانة قد يكون من الربوبية.
يعني: طلب الإعانة هو طلب لمقتضيات الربوبية؛ لأن الله جل وعلا هو مدبر الأمر.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هذا فيه معنى الألوهية، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلب الإعانة من الله، استعانة المسلم بالله، هذا فيه طلب لمقتضى الربوبية، ومن حيث كون الاستعانة طلباً صارت عبادة، ولهذا قال: إن عبادة غير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، وهذا لأجل أن العبادة إذا صرفت لغير الله -جل وعلا- فإنها يكون معها تحول في القلب - الذي هو المضغة إذا صلحت صلح العمل كله، صلح الجسد كله - إذا توجه بقلبه لغير الله في عبادته صار قلبه فاسداً.
ومقتضيات الربوبية أحياناً تطرأ، ولهذا الإشراك في الإلهية في بعض أوجهه أعظم من إنكار بعض أفراد الربوبية.
ألم تر أن ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي قال في وصيته: (إن مت فأحرقوني ثم دقوني ثم ذروني في البحر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين) وغفر الله -جل وعلا- له؛ لأنه شك في بعض أفراد القدرة والتي هي راجعة إلى شيء من معنى الربوبية، كذلك قال جل وعلا عن حواريِّ عيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، وأجيبوا ولم يؤاخذوا بكلمتهم تلك؛ لأنها شك في بعض أفراد القدرة، وهذا راجع إلى شك في بعض مقتضيات الربوبية.
أما العبادة لغير الله -جل وعلا- فهي التي لا يقبل من أحدٍ أن يصرف شيئاً منها لغير الله، قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وعيسى عليه السلام قال لقومه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
وقال جل وعلا لعيسى في آخر السورة، آخر سورة المائدة: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ...} إلى آخر الآيات.
المقصود من هذا: أن ما قاله شيخ الإسلام وجماعة: (أن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله) هذا صحيح ومتجه، ولهذا قدمت في سورة الفاتحة العبادة على الاستعانة؛ لأنها أعظم شأناً وأجل خطراً؛ لأنها هي التي وقع فيها الابتلاء، فلهذا كان حرياً بأهل الإيمان أن يعتنوا بأمر إخلاص القلب لله جل وعلا، وتوجه المرء في عباداته وعبودياته لله وحده دون ما سواه.
[شرح حديث: (إذا استعنت فاستعن بالله) ]
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى: (وفي الحديث: ((إذا استعنت فاستعن بالله)) ).
وجه الاستدلال: أن الأمر بالاستعانة بالله رُتِّب على إرادة الاستعانة، قال: ((إذا استعنت فاستعن بالله)) يعني إذا كنت متوجهاً للاستعانة، فلا تستعن بأحد إلا بالله؛ لأن الأمر جاء في جواب الشرط، قال: ((إذا استعنت)) (إذا) هذه شرطية غير جازمة، و(استعنت) هذا فعل الشرط، (إذا استعنت) إذا حصل منك حاجة للاستعانة (فاستعن) هذا الأمر ((فاستعن بالله)) لما أمر به علمنا أنه من العبادة، ثم لما جاء في جواب الشرط صار متركباً مع ما قبله بما يفيد الحصر والقصر.
[أنواع الأفعال التي تأتي على وزن (استفعل)]
ما معنى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؟ ما حقيقة الاستعانة؟
الاستعانة: طلب العون؛ لأن كثيراً فيما أوله السين والتاء يدل على طلب، استعان، استغاث، استسقى، ونحو ذلك.
استعان: يعني طلب الإعانة، استغاث: طلب الغوث، استعاذ: طلب العوذ، استسقى: طلب السقيا، {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} يعني: وإذ طلب موسى السقيا لقومه، هذا نوع.
النوع الثاني: (استفعل) ويراد بها الفعل بدون طلب، كقوله: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} يعني: وغَنِي الله {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، في أمثال ذلك.
المقصود: أن كثيراً ما يأتي استفعل لطلب الفعل.
هنا استعان: طلب العون، استعاذ: طلب العوذ، استغاث: طلب الغوث، وهكذا.
فإذاً إذْ كانت جميعاً في معنى الطلب أو فيها معنى الطلب فيصلح دليلاً لها كل ما فيه وجوب إفراد الله -جل وعلا- بما يحتاجه المرء في طلباته في الدعاء، جميع أدلة الدعاء تصلح دليلاً لما كان فيه نوع طلب، أي دليل في وجوب إفراد الله -جل وعلا- بالدعاء يصلح دليلاً لوجوب إفراد الله -جل وعلا- بأنواع الطلب، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يصلح دليلاً للاستغاثة والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك.
[شرح قوله: (ودليل الاستعاذة)]
بعد ذلك قال: (ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ} ) الاستعاذة كما ذكرت لكَ: هي طلب العوذ، و(أعوذ) معناها: ألتجئ وأعتصم وأتحرز، تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، معناها: ألتجئ وأعتصم وأتحرز بالله من شر الشيطان الرجيم، فإذاً: الاستعاذة طلب العوذ، طلب المُعتَصَم، طلب الحرز، طلب ما يعصم، طلب ما يحمي، هذه الاستعاذة.
وإذاً هي من حيث كونها طلب هذه ظاهرة، ومن حيث كونها بها الاعتصام والالتجاء والتحرز، صارت عبادة قلبية، ولهذا قال كثير من أهل العلم: (إن الاستعاذة عبادة قلبية).
وطلب العوذ نعم يكون باللسان، كقول أحد لآخر: (أعوذ بك، أعذني، ونحو ذلك) ولكنها تقوم بالقلب، يعني يقوم بالقلب الاعتصام بهذا المطلوب منه العوذ، يقوم بالقلب الالتجاء لهذا المطلوب منه العوذ، يقوم بالقلب التحرز بهذا المطلوب منه العوذ، فإذا قام بالقلب هذه الأشياء وهذه الأمور صار مستعيذاً، ولو لم يفصح لسانه بطلب العوذ.
يعني أنها عبادة قلبية، الاستعاذة عبادة قلبية؛ لأن حقيقتها طلب العوذ، فإذا قام بالقلب اعتصامه بالله، احترازه وتحرزه بالله، التجاؤه إلى الله من شر من فيه شر، صار ذلك استعاذة، قد يفصح باللسان عنها، يطلب: اللهم أعذني من مضلات الفتن، يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ برب الفلق، ونحو ذلك، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يعني ألتجئ واعتصم وأتحرز بكلمات الله الكونية التامة التي لا يلحقها نقص من شر كل من فيه شر مما خلقه الله جل وعلا، ونحو ذلك.
[حكم قول القائل: (أعوذ بالله ثم بك)]
لأجل هذا المعنى قال جمع من أهل العلم: (إنه لا يجوز أن يقول قائل: (أعوذ بالله ثم بك)، وذلك لأن العوذ عبادة قلبية) وهذا هو الصحيح، فإن العوذ إذا قيل: (أعوذ بالله ثم بك)، الاستعاذة عملٌ قلبي بحت، لهذا لا يصلح أن يتعلق بغير الله جل وعلا.
وقال آخرون من أهل العلم: الاستعاذة: طلبٌ للجأ والاحتراز والاعتصام، وقد يكون المطلوب منه يمكن ويملك أن يعطي هذا معتَصماً، وأن يقيه شراً، مثلاً: يأتي واحدٌ من الناس إلى قويٍّ من الناس، إلى كبيرٍ - ملك أو أمير أو رئيس قبيلة أو نحو ذلك - فيقول له: (أعوذ بك)، أو (أعوذ بالله ثم بك من شر هذا الذي أتاني).
رجلٌ - مثلاً - يأتيه يطلبه بشيء، يقولون: هذا يمكن أن يقيه شراً، أن يمنعه ممن يريد به سوءاً، يمكن أن يكون ممن يقدر عليه من البشر، فإذا كان بهذا المعنى يجوز أن يقول: (أعوذ بك) لمخلوق، (أعوذ بالله ثم بك) لمخلوق، ولكن قول: (أعوذ بك) هذا أبعد في الإجازة، وأما قول: (أعوذ بالله ثم بك) فهذا من راعى المعنى الظاهر - وإن كان لمخلوق أن يُعيذ - صححه، وقال: لا بأس أن يقول: (أعوذ بالله ثم بك) ولكن الأظهر أن العوذ عبادة قلبية وأنها إنما تكون بالله جل وعلا، وهذا على نحو ما مرنا في قوله: (توكلت على الله ثم عليك) ونحو ذلك.
- فمن أهل العلم: من يجيز مثل هذه الألفاظ - مع أن أصلها عمل قلبي، عبادة قلبية - مراعياً الظاهر، ما يراعي تعلق القلب، مراعياً الحماية الظاهرة، مراعياً التحرز الظاهر، مراعياً الاعتصام الظاهر.
- ومنهم: من لم يجزها مراعياً أنها عبادة قلبية وأنك إذا أجزتها في الظاهر، فإنه قد يكون - تبعاً لذلك - إجازة تعلق القلب عند من لا يفهم المراد.
وعلى العموم هما قولان مشهوران حتى عند مشايخنا المفتين في هذا الوقت وما قبل.
يقابل الاستعاذة التي هي طلب العوذ؛ لأن طلب العوذ من شيء فيه شر، لهذا قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)}، فالاستعاذة مما فيه شر، وأما اللياذ واللَّوذ فإنه مما فيه خير، قال: ألوذ بك، يعني إذا كنت مؤملاً خيراً، وإذا كنت خائفاً من شر تقول - لربك جل وعلا-: أعوذ بك، وإذا كنت مؤملاً خيراً تقول: ألوذ بك، وهكذا.
[شرح قوله: (ودليل الاستغاثة) ]
قال الشيخ - رحمه الله - (ودليل الاستغاثة قوله جل وعلا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} ).
الاستغاثة: طلب الغوث، والغوث يفسر بأنه: الإغاثة، المدد، النصرة، ونحو ذلك، فإذا وقع - مثلاً - أحدٌ في غرق ينادي: أغثني، أغثني، يطلب الإغاثة، يطلب إزالة هذا الشيء، يطلب النصرة.
الاستغاثة عبادة، وجه كونها عبادة: أن الله -جل وعلا- قال هنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} .
وجه الاستدلال: أنه أتى بها في معرض الثناء عليهم، وأنه رتب عليها الإجابة، وما دام أن الله -جل وعلا- رتب على استغاثتهم به إجابته جل وعلا دل على أنه يحبها وقد رضيها منهم، فنتج أنها من العبادة، و(إذ) هنا بمعنى (حين) {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} يعني: حين {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وتلاحظ أن الآية هنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} وقبلها {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الاستغاثة - كما ذكرت لك - والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك تتعلق بالربوبية كثيراً.
هنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} قال قبلها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} لأن حقيقتها من مقتضيات الربوبية، لأن: من الذي يغيث؟
هو المالك، هو المدبر، هو الذي يصرف الأمر، وهو رب كل شيء جل وعلا.
الاستغاثة عمل ظاهر، ولهذا يجوز أن يستغيث المرء بمخلوق لكن بشروطه، وهي:
- أن يكون - هذا المطلوب منه الغوث - حياً حاضراً قادراً يسمع، فإذا لم يكن حياً، كان ميتاً صارت الاستغاثة بهذا الميت كفراً ولو اعتقد المستغيث أنه يسمع، وأنه قادر، فإنه إذ كان ميتاً فإن الاستغاثة به شرك.
الأموات جميعاً لا يقدرون على الإغاثة لكن قد يقوم بقلوب المشركين بهم أنهم يسمعون، وأنهم أحياء، مثل حال الشهداء، وأنهم يقدرون مثل ما يُزعم في حال النبي عليه الصلاة والسلام، ونحو ذلك.
فنقول: إذ كان ميتاً، فإنه لا يجوز الطلب منه.
قالوا: فما يحصل يوم القيامة من استغاثة الناس بآدم، ثم استغاثتهم بنوح، إلى آخر أنهم استغاثوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟
نقول: هذا ليس استغاثة بأموات، يوم القيامة هؤلاء أحياء، يبعث الناس ويحيون من جديد، كانوا في حياة ثم ماتوا ثم أُعيدوا إلى حياة أخرى، فهي استغاثة بمن؟
بحي حاضر قادر يسمع، لهذا ليس فيما احتجوا به من حال أولئك الأنبياء يوم القيامة حجة على جواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا.
والاستغاثة بغير الله جل وعلا أعظم كفراً من كثير من المسائل التي صرفها لغير الله جل وعلا شرك.
إذاً: فالشروط:
- أن يكون حياً، إذا كان ميتاً فلا يجوز الاستغاثة به.
- أن يكون حاضراً، إذا كان غائباً لا يجوز الاستغاثة به، حي قادر لكنه غائب، مثل لو استغاث بجبريل -عليه السلام- فليس بحاضر، حي، نعم، وقادر قد يطلب منه ما يقدر عليه، نعم، لكنه ليس بحاضر، مثل أن يطلب من حي قادر من الناس، يأتي يطلب من ملك يملك، أو أمير يستغيث به: أغثني يا فلان! وهو ليس عنده مع أنه لو كان عنده لأمكنه بقوته؛ لكنه لما لم يكن حاضراً صارت الاستغاثة تعلق القلب بغير حاضر، هذا شرك بالله جل وعلا.
- أن يكون قادراً، إذا لم يكن قادراً، فالاستغاثة به شرك، ولو كان حياً حاضراً يسمع، مثل: لو استغاث بمخلوق بما لا يقدر عليه وهو حي حاضر يسمعه، وتعلق القلب - قلب المستغيث - على هذا النحو، تعلق قلبه بأن هذا يستطيع ويقدر أن يغيثه، فمعنى ذلك أنه استغاث بمن لا يقدر على الإغاثة، فتعلق القلب بهذا المستغاث به فصارت الاستغاثة - وهي طلب الغوث - شركاً على هذا النحو.
- وكذلك: يسمع، لو كان حياً قادراً، ولكنه لا يسمع، حاضراً لا يسمع كالنائم ونحوه كذلك لا تجوز الاستغاثة به.
وقد تلتبس بعض المسائل بهذه الشروط، في أنها في بعض الحالات تكون شركاً أكبر، وفي بعض الحالات يكون منهياً عنها، من ذرائع الشرك ونحو ذلك، مثل الذي يسأل ميتاً، أو يسأل أعمى بجنبه، أو مشلولاً بجنبه، أن يغيثه، ونحو ذلك.
المقصود: أن العلماء اشترطوا لجواز الاستغاثة بغير الله -جل وعلا-: أن يكون المستغاث به حياً حاضراً قادراً يسمع.