"الخوف" استعداد بعِلم..

بدايَةً، لا بدَّ أن نعتَرف جميعًا أن الخوف شعورٌ طبيعي خلقَه الله تعالى في الإنسان، له وظيفتُه وأهميَّته، ولما كان الخوف كذلك فمِن المؤكَّد أنَّ الله خلَق لِهذا الخوف قانونًا كلَّما وافقه الإنسان كانَت له السَّعادَة، فإن رفضه أجبَرَه هذا القانونُ على السَّيْر فيه، وحالتَئِذٍ يَفقِد الإنسان سَعادتَه الَّتي يَسعَى إليها، والَّتي يعتبرها هدفَه الأسْمَى.
أمَّا كونُ البعضِ يَرَى في الخوف شعورًا سلبيًّا فهذا لا يقلل من قيمتِه لأشياء؛ أولها: أن هذا الخوفَ - كما قلنا - من خلق الله، وكلنا يعلم أن الله لا يخلق شيئًا عَبَثًا، إنما لغاية وحِكمة حسَنةٍ تغيب على الإنسان، وثانيها: أن هذا الخوفَ يفعل نوعًا من التوازن بين المشاعر داخل الإنسان، كما أنه ثالثًا يحفظ بقاء الإنسان أحيانًا؛ فالطفل حينما يولد تراه يخاف تلقائيًّا من الصَّوت العالي كما يخاف السُّقوطَ على الأرضِ..
والآنَ.. ما تعريف الخوفِ؟
الخوف في اللغة العربية على معان كثيرة: أولها: الفَزَع والتوقُّع، وثانيها: القِتَال، قال تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّ ُمْ بشيءٍ من الخَوْفِ} [البقرة: 155]، وقال: {فإذا جاءَ الخَوْفُ} [الأحزاب 19]، وثالثُها: العِلْم، ومنه قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء: 128]، كما قال تعالى: {فَمَن خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} [البقرة: 182].
ويأتي رأيُ "المعجم الوسيط" في معنى الخوف قائلاً: "الخوفُ: انفعال في النَّفْس يحدث لتوقُّع ما يَرِد من المكروه أو يفوت من المحبوب"؛ فالخوف إذًا نذير داخلي بالاستعداد لشيء ما يتوقَّعه الإنسان، ولا يطلق مصطلح "الخوف من" - في رأيي - إلا من الله تعالى؛ فقد قال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
"أخاف من الأيام الآتية"..
عبارةٌ يقولها البعض، وليس لها معنى أو لنقل: ليس لها وجود، بل نترقى في التعبير لكي نقول: إنه لا يجوز أن يكون هناك خوف من الغد إنما الخوف يكون من الله كما مَرَّ، ولكنَّ المصطلح الصحيح الذي يمكننا أن نستخدمه في هذه الحالة هو "الخوف للغد"، بمعنى أن هناك شعورًا داخليًّا يقول لي: استعدَّ للغد استعدادًا يُصَدِّق قول عمرو بن العاص: "احرِز لدُنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا"، فلو أن الإنسان أخذ بهذا الكلام فعلاً في حياته فلن يجد الخوف إلا من الله تعالى، ويجد نفسه خائفًا (أي: مستعدًا) دائمًا لما يتوقعه من الأحداث في حياته فقط.
لو أن الإنسان فعل لآخرته كأنه يموت غدًا فسيجد نفسه يستعد بالعبادة لكي يتقرب بها إلى الله؛ فيكون الله هدَفَه في هذا، خوفُه لله ومِن الله، كما سيستِعد بالعلم الذي يقربه من الله أكثر وأكثر بحيث يحاول جاهدًا أن يتقرَّب إلى الله، ويحاول حينئذ نشر روح الفلاح الَّتي تؤكد أن ((الدين النَّصيحة)) فعلاً، وذلك عن طريق تعليم العلم الذي تعلمه كما يحاول جاهدًا أن ينشر روح التسامح بالفهم والقبول والصفح، وعماده في نَشْر هذه الروح هو الحب والإخاء والتَّماسك بين أفراد أسرته ومجتمعه كله، وقبل كل هذا نشرُ هذه الروح في أعماق نفسه، مصدقا في كل تلك الأفعال قولتَه فبل نومه: ((اللَّهمَّ إنْ أخَذْتَ رُوحِي فارحَمْها!))..
كما أن الإنسان لو علم أنه سيعيش أبدًا فسيستعد أيضًا بالعبادة لله؛ ليكون عونه وسنده في التأقلُم مع الأيام والأحداث الَّتي قدرها له {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، كما سوف يستعد بالعلم الذي يجعله على إيمان كامل بأن ((مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ))، ولهذا يطمئن قلبه بالرِّضا، ويتغلب بقوة الإيمان والاعتقاد الراسخة على الشُّعور السَّلبي بالخوف من الآتي الذي لا يَعرِف عنه شيئًا..
وإذا آمن الإنسان بأن {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، أي: إنه هو الأقوى، تقصر دون قوتِه القُوَى، كما أنه لو آمن أن {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، فسوف يعلم أن العلم من صفات القوي؛ فلو أراد أن يمحو خوفه من غير الله سبحانه فليتسلح بالعلم الذي هو سبيل القوَّة الَّتي تجعله يهزم أيَّ خوف آخر غير خوفه من الله، وعند هذه اللحظة سيجد نفسه متفائلاً، يعمل لغدِه كأحسن ما يكون العمل؛ لأنه يعتقد تمام الاعتقاد أنه الآن يجني ثمار ما زرعه أمسِ، ويجد نفسه عندئذ يتقدَّم كل يوم درجة في القرب من الله.. في الحيَاة..
واستشارة أهل الذكر مسلك من مسالك تحصيل العلم؛ قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، كما أن استعارة الخبرات من ذوي الخبرات شيء مهم جدًّا؛ فمِن المؤكد أن أي إنسان يعلم أن موقفَه هذا أو شعورَه هذا قد مرَّ به ناس من قبله فليرجع إليهم إن كانوا موجودِين، أو إلى آثارهم إن كانوا قد ماتوا، كما أن من طرق تحصيل العلم أيضًا التجارب العملية الَّتي اشتراها الإنسان من أيَّامه الَّتي عاشها قبل هذا الموقف أو الشعور..
القارئ الكريم!!
الخوفُ شعورٌ طبيعي خلقه الله؛ فهو موجود شئنا أم أبَيْنا..
الخوفُ نذيرٌ بالاستعداد، والاستعداد لا يكون إلا بقوةٍ، العلمُ عِمادُها والأساسُ..
الخوفُ يمرُّ على الإنسان في لحظات من فقدان القوَّة تتفاوت مدَّة هذه اللحظات من إنسان إلى آخر؛ فالذي يستعد كثيرًا للآتي لا يفزَع كثيرًا؛ لأنه وبكل بساطة لا يتوقع إلا كل خير..
إلى أمانِ اللهِ..!
أبو العلاء الشافعي
الألوكة
[/SIZE]