الدين الخُلق
عبدالله المؤدب البدروشي
الحمد لله الذي بنى دينه على مكارم الأخلاق، وأقام سبيله على التراحم والتآلف والوفاق، أشهد أن لا إلهإلا الله وحده لا شريك له، شرفنا بهذا الدين، وأمرنا باتباع هديهالمبين، وأشهد أن سيدنا وقدوتنا وحبيب قلوبنا محمداً عبده ورسوله، صاحبالخلق العظيم، والمنبت الكريم، والمنهج القويم، اللهم صل وسلم عليه في الأولين والآخرين، وارض اللهم على آله الطاهرين، وعلى صحابته الغرالميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
إخوة الإيمان والعقيدة! الإسلام ديننا القيم، لكي نفهم حقيقته ومعناه؛ هو حسن عبادةللخالق يصاحبه حسن تعامل مع المخلوق. هذا هو الإسلام! عبادة حقة لله، ومعاملة حسنة مع عباده. وفي قرآننا الكريم في كلام ربنا ربط الله -جلجلاله- بين الإيمان والعمل الصالح فقال -عز وجل-: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْتَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [البقرة:25]. وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُ وا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِيمِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [يونس: 9]. فالجنة لمن؟ والنجاح والفلاح لمن؟ لأهل الإيمان الذين يطيعون الله ويعبدونه حق عبادته، ويعملون الصالحات، أصحاب الكلمة الطيبة، والفعل الحسن. فعبادة الله تحتاج إلى خلق حسن وعمل صالح، وفي قرآنناالعظيم، حتى إذا قدم الله العمل الصالح على العبادة في الذكر اشترط له الإيمان حليفاً قال -تبارك وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍأَو أُنْثَى وَهُو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةًوَلَنَ جْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، وقال أيضاً: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَايُظْلَمُون َ نَقِيvh)[النساء: 124]. فلا يقبل الله العبادة من صلاة وزكاة وصوم وحج إلا إذا صاحبها العمل الصالح والأخلاق الطيبة، ولا يقبل الله العبادة مع الأخلاق السيئة، لا يقبل العبادة مع سوء الأعمال، فليحذر المؤمن!! الإسلام ليس صلاة وزكاة وصوماً وحجاً فقط، تلك أسس الإسلام، تلك أركان الإسلام، تلك قواعد الإسلام، جاء في الصحيحين قول حبيبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُاللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ،وَصَو ْمِ رَمَضَانَ)). هذه أساسات.. فإذا أقام المسلم أساسات البيت ولميقم له جدراناً وسقفاً فلا يسمى بيتاً ولا يصلح للسكن، وإذا أقام المسلم الجدران والسقف من غير أسس انهار البيت قبل أن يسكن، كذلك قواعد الإسلام.. الصلاة مع الإساءة للغير فكأنك لم تصل، الصوم مع الظلم والاعتداء إنما هو تعب وعطش.. أورد الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: خاطب النبي –صلى الله عليه وسلم- صحابته يوماً بقوله: ((أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ))؟ قَالُوا: "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَمَتَاعَ"، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَالْقِيَام َةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ؛ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَهَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَهَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَمِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)). هذاالرجل كان يرتاد المساجد، يصلي الفرائض، ويتنفل.. وكان يصوم رمضان ويصوم الاثنين والخميس والست من شوال، وكان يؤتي ماله يتزكى ويتصدق، وحج البيت واعتمر لكنه لم يحسن معاملة الناس، لم يحمل الكلمة الطيبة، لم يتصرف بالحسنى.. فصار بذلك إلى النار لم تغن عنه عبادتهشيئاً؛ لأن العبادة ترفعها إلى الله الأخلاق الحسنة. روى الإمامالبخاري أن الصحابة قالوا: "يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل وتتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا خير فيها، هي من أهل النار)). فلا قبول للعبادة ولا نجاح عند الله إلا بالمعاملة الحسنة، إلا بالتراحم والتآلف بين الناس.. جاء فيصحيح الإمام مسلم قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّيَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ -عز وجل- فِي ذَلِكَالْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ امْرَأًكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتركُوا هَذَيْنِحَتَّى يَصْطَلِحَا، اتركُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)). فلا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج لصاحب القلب الأسود، لمن يظلم غيره، لمن يعتدي.. قالوا: "يا رسول الله، من أحب العباد إلى الله؟" قال: ((أحب عباد الله إلىالله أحسنهم خلقاً))، قالوا: "وأحبهم إليك يا رسول الله؟" قال: ((أحبهم إليّ، وأقربهم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنهم أخلاقاً))، قالوا: "فما أثقل شيء في الميزان؟" قال: ((ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)). يوم جاء الصحابيمعاذ بن جبل –رضي الله عنه- قال: "يا رسول الله أوصني" قال: اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)). وأولى الناس بحسن الخلق الوالدان اللذان كانا سبباً لوجودك في الدنيا، وصاحبا الفضل عليك بعدالله، فكل خير قد حزته هم اللذان تسببا لك فيه، وكل عطية قد نلتها المنةفيها لهما بعد فضل الله -تعالى- هما أحق الناس بحسن الصحبة، وأولى الخلقبالخدمة والعشرة، قدّم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حقهما على الجهاد في سبيل الله، لمايحظيان عند الله من علو منزلة وسمو مكانة، جاء صحابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحديث من صحيح الترغيب قال: "يا رسول الله، ائذن لي فيالجهاد"؟ فقال: ((ألك والدان))؟ قال: "نعم"، قال: ((الزمهما، فإن الجنة تحتأقدامهما))، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا). فالدين في الإحسان إليهما، وطاعة اللهفي برهما، ورضوان الله في حسن الخلق معهما.
وحسن الخلق بعد الوالدينيكون بين الزوج والزوجة حين يكون الدين حاضراً في حياة الزوجين، التعاملبين الاثنين حسب الآية الكريمة والحديث الشريف حين تكون المودة والرحمةقائمة كما أقامها الله بين الزوجين، يأمر الله الحياة أن تصفو، ويأمر الله الأولاد أن يصلحوا، وينشر الله على البيت الوفاق والطمأنينة.
وحسن الخلق بعد الزوجين يكون مع الناس أجمعين، يكون مع الجار فلا يؤذي المسلم جاره، فشرط الإيمان بالله أن تحسن إلى الجار، جاء في الصحيحين قول حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)). فلا إيمان مع الإساءة إلى الجار، لا إيمان مع تخويف الجار، والله لا يؤمن.. الحبيب –صلى الله عليه وسلم- يقسم ويقسم ثلاثاً -وقسمهعند الإمام البخاري-: ((وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ))، قِيلَ: "وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ"؟ قَالَ: "الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ)). لا يأمن شره، لا يأمن أفاعيله.. جاءفي الأدب المفرد للإمام البخاري: أن رجلاً من الأنصار قال: "خرجت مع أخي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجئت فإذا هو قائم مع رجل، فظننت أن له حاجة -أي: هذا الرجل- فجلست، فأطالا القيام حتى أشفقت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طول قيامه، ثم ذهب الرجل، وقمت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-فقلت: يا رسول الله! لقد رثيت لك من طول قيامك مع هذا الرجل، فقال: ((أرأيته))؟ قلت: نعم، قال: ((أتدري من هو))؟ قلت: لا، قال: ((إنه جبريل، ولو سلمت عليه لردعليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))".
وحسن الخلق بعد الجار يكون مع كافة الناس حتى يتحقق أمر الله لعباده، فهو القائل -جل جلاله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوارَبّ َكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77]. فكما أمر الله بعبادته أمر عباده بفعل الخير بينهم، فقبول العبادات والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة كل ذلك مرهون بالأعمال الصالحة أن نكون من أصحاب الخير، وأن نكون من أهل المعروف.. هذا هو ديننا دين الخلق الكريم، والكلمة الطيبة، وحسن التعامل مع الناس..
فلتنق الله عباد الله، ولنجمع بين حسن العبادة وحسن الخلق يجمع الله علينا الحياة الطيبة في الدنيا وحسن ثواب الآخرة. اللهم رازقنا طاعتك مع طيب الأخلاق، واجمعنا على المحبة والتآلف والوفاق، واجعلنا من عبادك المخلصين لك الدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم.