لقد استغلت بعض المصطلحات الصحيحة المحببة إلى النفوس فوُضعت في غير مواضعها، ونسب إليها ما ليس منها، أو أخرج عنها بعض أسسها وأركانها، ثم سيقت تلك المصطلحات مشوهة غير مطابقة لما وضعت له؛لخداع الناس، .
ومن تلك المصطلحات التي تساق اليوم، ويدعيها من ليس من أهلها؛ مصطلح "الوسطية"، -------------------- فالعلماني الملحد يتشدق بالوسطية، ويزعم أنه من أهلها.
----------والعقلاني المبهور بالحضارة الغربية، وقيمها الزائغة، الساعي لتطويع الأمة لمفاهيمها؛ يعقد المؤتمرات، ويقيم الندوات باسم الوسطية؛ لتمرير مبادئه ومبادئ أسياده باسمها.
------------------والساعي وراء السراب، الذي يهوِّن من شأن الباطل، ويقلل من شأن البدع وأهلها، ويعلي من شأن التشيع والرفض؛ ينادي باسم الوسطية، وبأنه لا بد من تنازلات وحلول وسطية لنجمع الأمة عليها.
-------------------والرافضي الغالِي الذي يعتقد بتحريف القرآن، وكفر الصحابة، ويلعنهم صباح مساء، يزعم ألا وسطية إلا ما هو عليه.
والصوفي الغالي يحتكر الوسطية ، ويصر على أن من أنكر شطحه، وكذّب دجله، وضلل عقائده المنحرفة؛ أنه قد جانب الوسطية، وامتطى صهوة الوهابية الخارجية، وأنه مكفر مستبيح لأنفس مخالفيه المعصومة.
واهل الغلو والتفريط يدعون الوسطية ---------------------------------------------وقد أرشدنا الله -تعالى-، إلى الميزان الذي نزن به تلك الدعاوى، والحكم الفصل بين أصحابها، قال الله -تعالى-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [الشورى:10].
وقال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه من يعــش منكم فسيرى اخـتـلافـا كثيراً، فعـليكم بسنتي، وسنة الخفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة" رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
فالوسطية التي امتدحها الله -تعالى- في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:143]، قد فسرت في القرآن والسنة، وفسرها السلف الصالح، وقد تواطأت عبارات المفسرين بأن المقصود بالوسط هنا هم "الخيار العدول الثابتون على الحق بين باطلي الغلو والجفاء"، وهم الصحابة الكرام قطعاً، والتابعون لهم بإحسان، ومن تبعهم من أئمة المسلمين وعلمائهم، وسائر من سار على منهجهم من المؤمنين.
وقد فسر القرآن هذه الوسطية في (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال: عدولاً، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) رواه البخاري.
وأما تفسيرها بالثبات على الحق بين باطلَيْ الغلو والجفاء ففي قوله -تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:6-7].
قال الإمام الطبري إمام مفسري أهل السنة: "وأرى أن الله -تعالى ذكره- إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها".
والصحابة الذين هم الأمة الوسط بدون نزاع بين اهل الحق؛ لهم منهجٌ واضح، وعقائد ثابتة معروفة، وعبادات تعلموها من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وسلوك وأخلاق.
فمن نهج منهجهم، واعتقد عقائدهم كما ثبت عنهم؛ لم يزد عليها ولم ينقص منها، ولم ينحرف عنها، ولم يستحسن خلافها، أو يتأولها بالتأويلات التي لا دليل عليها، وتعبد الله بعباداتهم، ولم يخترع لنفسه عبادات وشعائر لم يتعبدوا بها، ولم يتخذوها قربة، وتخلق بأخلاقهم، وسلك سلوكهم، وفهم مراد الله، ومراد رسوله كما فهموا؛ فهو من أهل الوسطية، ومن أهل الاعتدال.
ومن انحرف عن شيء من ذلك في منهج أو عقيدة أو عبادة أو سلوك؛ فقد خرج عن الوسطية بمقدار انحرافه، وصار إما إلى طائفة أهل الغلو، أو طائفة أهل الجفاء:
وخير الأمور السالفات على الهدى *** وشر الأمور المحدثات البدائع
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا" رواه الدارمي.
وقال الإمام البخاري -رحمه الله- في تفسير الأمة الوسط: هم الطائفة التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم".
والطائفة المنصورة فسرها الإمام أحمد وغيره بأنها أهل الحديث، فثبت بذلك كله أن الأمة الوسط في هذه الأيام من سلك مسلك الصحابة والسلف الصالح من جميع الوجوه.
والوسطية هي الحق الذي بين باطلي الإفراط والتفريط، وليست الوسطية الوسط بين الحق والباطل، فقد قال -تعالى-: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس:32].
ليست الوسطية التوسط بين السنة والبدعة، فـ "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وليست الوسطية التوسط بين السنة والشيعة، فكل من خرج عن طريق أهل السنة خرج عن الصراط المستقيم، وضل الضلال المبين.
وليست الوسطية التوسط بين الإسلام وبقية الأديان، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
وليست الوسطية هي الحداثة والتنوير الذي مرتكزه تطويع الإسلام وأصوله ومفاهيمه لمفاهيم الأعداء الذين يقول الله فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران:118].
إن الوسطية الحق يجمع أصولها وفروعها ويضبط مفاهيمها ومصطلحاتها ما تضمنته النصوص التالية: قوله -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح:29].
وحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطّاً فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ"، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ"، ثُمَّ تَلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً… إِلَى آخِرِ الآيَة) رواه أحمد والنسائي والدارمي وحسنه الألباني.
فالوسطية ما تضمنته هذه النصوص من أصول ومعاني ومفاهيم، والوَسَطيّ من فهم تلك النصوص حق فهمها، وعمل بمقتضاها. -----------
الوسطية المطلوبة في القرآن تجدها دوما "حق بين باطلين"، أما الوسطية المفروضة في القرآن فتجدها دوما "وسط بين الحق والباطل".
فهؤلاء الذين ينادون دوما بالوسطية الدينية، والوسطية في فهم الإسلام، إن كانوا يعنون بالوسطية وسطية "أصحاب محمد" في تفسير النص، والموقف من العلوم المدنية، والموقف من الكافر، ودور المرأة، وضوابط الحريات الشخصية، إلخ.. فهذه وسطية مشكورة محمودة.
أما إن كان المراد التوسط بين منهج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والفكر الغربي ، فهذه وسطية مردودة مذمومة، وقد سبق أن جاء فى القرآن نظيرها فقال جل وعلا: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (النساء : 143)
أن المسجونين في معتقلات الثقافة الغربية يسعون الى تطويع بعض المصطلحات لتحريف الأحكام الشرعية لتكون وسطا بين فهم السلف والفكر الغربي؛ يجعلون ذلك هو الوسطية المحمودة التي جاء بها لقرآن، والواقع أن هذه هي الوسطية المردودة التي ذمها القرآن.