التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة (1)


المحرر المحلي



مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية " البحث الفائز بالمركز الأول في المسابقة البحثية الأولى للمركز "

عقد مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية المسابقة البحثية الأولى وكانت تحت عنوان: (التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة)، وقد فاز بالمركز الأول البحث المقدم من الباحث رامي عيد مكي بحبح من جمهورية مصر العربية، وتعميمًا للنفع تنشر مجلة الفرقان هذا البحث على حلقات، واليوم مع مقدمة البحث.

لقد خرج المسلمون منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الجزيرة العربية فاتحين للبلاد، مختلطين بالأمم والحضارات، يصهرون ما بها من علوم نافعة في منظومتهم العقدية والأخلاقية، ناقلين هذه العلوم إلى العربية، ولم يقفوا عند النقل بل نقدوا وصوَّبوا، ثم ابتكروا وأبدعوا في شتى مجالات العلوم والفنون والآداب، وكونوا حضارة عظيمة أمدت الفكر الإنساني بوسائل الرقيِّ والتقدُّم لأكثر من عشرة قرون.
النظريات الجديدة
لقد كانت تأتينا النظريات والتيارات الجديدة من الشرق والغرب؛ فنأخذ منها ما يتفق مع قيمنا وديننا وعقيدتنا، ثم نعيد صياغة أكثرها ونحولها بما يوافق تراثنا وقيمنا، ولم نكن نستسلم للمذاهب والدعوات والتيارات الوافدة، أو ننصهر فيها، بل كنا نصوغ أغلبها ونصهرها ونذيبها في ظل منظومتنا الإسلامية،لم يتغير جُلّ طابعنا، ولم يتحوِّل كل كياننا من أي تأثير وافد، كنا نتطوِّر ونتقدِّم ولكنِّ معظم قيمنا وتراثنا لا تتغير، فنحن كنِّا أمةً وسطاً، لم نكن متعصبين؛ بحيث نرفض الجديد والمتطور من العلوم، ولم نكن متساهلين بالطريقة التي تجعلنا نذوب في مذاهب الآخرين ودعواتهم.
حركة فاعلة
ومنذ البعثة النبوية والعالم الإسلامي في حركة فاعلة في كل اتجاه، في ميدان الفتح، كما في ميدان العلم، وميدان الفقه وميدان الاقتصاد والاجتماع والفكر والسياسة وكل منحى من مناحي الحياة، مَضَيْنا في ركب الحضارة، فكراً وصناعة واختراعاً، وساهمنا في بناء الحضارة، وإنشاء الثقافة، وسطرنا مسيرة حضارية إنسانية، وتاريخاً ناصعاً مشرقاً.
تحولات وتغيرات
ولكن خلال القرنين الماضيين شهد العالم الإسلامي تحولات وتغيرات عميقة على العديد من الأصعدة السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية؛ حيث عانت الأمة الإسلامية جموداً معيباً في شتى الميادين، فلم يكن لها كبير اهتمام بالعلم، ومن ثم توقف المدُّ العلميُّ الإسلاميُّ، وحدث جمود في الاجتهاد الفقهي؛ فحدثت وقفة منكرة لم يُصَب الإسلامُ بأسوأَ منها في تاريخه الطويل، ومن هذه الوقفة المنكرة بدأ الخطر الحقيقي على الإسلام؛ فليس أخطر على أيِّ نظام من أن يقف نموُّه ويتجمد في مرحلة من المراحل؛ لأنه بعد ذلك حتماً سيأخذ في الضمور والاضمحلال.
ضمور الحضارة الإسلامية
وبالفعل ضمرت الحضارة الإسلامية واضمحلت، وتقدمت أوروبا تقدماً سريعاً بما اكتسبته من العلوم العربية والإسلامية، ووصل الأمر إلى أن العالم الإسلاميَّ احْتُلَّ من قِبَل الدول الغربية التي نهبت ثرواته، وعمّقت أسباب تخلفه وعوامله.
اللحاق بالتطور الغربي
ولقد أفضى الوضع المُحْدَثُ للعالم إلى استشعار الدولِ العربيِة والإسلاميةِ للحاجةِ إلى اللحاق بالتطور الغربي، وبدلاً من أن يبحثوا عن أسباب تخلفهم وتأخرهم فيعالجوها، ويبحثوا عن أسباب قوتهم وعواملها فيُحْيوها؛ اندفعوا في أحضان أعدائهم، ولجؤوا إليهم يستمدون منهم القوة، فأرسلوا البعثات التعليمية إلى أوروبا، واستقدموا الخبراء والمدرسين والمدربين من فرنسا وانجلترا والمجر وإيطاليا.
العلومَ والنظمَ الأجنبيةَ
بَيدَ أن البونَ شاسعٌ بين أن نأخذَ العلومَ والنظمَ الأجنبيةَ فنصهرها في بوتقة الإسلام، ونُطوِّرُها في ظل منظومة قِيَمِهِ، وأن نستورد العلوم والنظم فنطبقها كما هي بقيمها وبجوانبها الغربية كلها التي تتعارض مع عقيدتنا وقيمنا الإسلامية؛ حيث إن التبادل المعرفي يحرك الذات، ويلقِّح العقل، ويجمع الطاقة، ويبعث الفاعلية، أمَّا استيرادُ الفكرِ والقيمِ وتطبيقُهما كما هما فإنه يلغي الذات، ويصبح وبالاً على الأمة، فلا نهوض يمكن أن يتحقق من خارج تطوير الذات بالعلم والمعرفة؛ وذلك لأن الذات هي محور النهوض ومرتكز تنمية الإمكانات، وهي محل الإفادة من الحضارات الأخرى، أما في حال استيراد القيم والأخلاق والمعاملات من حضارة أخرى وجعلها مقدمةً على قيمنا وأخلاقنا ومعاملاتنا؛ فلا يبقى لنا أمل في النهوض أو الكسب المعرفي؛ لأننا بذلك نكون قد ألغينا ذاتنا، وننتظر الفعل الحضاري من الآخر.
تكريس للتخلف والتراجع
فمعالجتنا للمشكلات والتحديات بالمعايير الحضارية الغربية الخارجة عن قيم الأمة ومعتقداتها إنما هو تكريس للتخلف والتراجع، واستمرار للوهن الحضاري والتمكين لامتداد الحضارة الغربية، وبالفعل ما ازداد المسلمون إلا ضعفاً وتأخراً وهزيمة، وازدادت الحضارة الغربية تقدماً وتطوراً وازدهاراً.
توجه المسلمين للغرب
لقد بدأ توجه المسلمين تجاه الغرب في أول الأمر عسكرياً وحربياً بنيَّة تقوية الجيوش الإسلامية، ولكن الغرب استغلوا هذا التوجُّه في ظل مرحلة الضعف الشديدة التي يعيشها العالم الإسلامي على المستوى الديني والعلمي والحضاري؛ فأعدوا عدتهم لغزو جديد بحركة عدوانية خبيثة وخطيرة، تتمثل في تيار فكري كبير ذي أبعاد سياسية واجتماعية وفنية، يرمي إلى صبغ المسلمين بالأسلوب الغربي؛ وذلك بهدف احتواء الشخصية الإسلامية الفكرية، ومحو مقوماتها الذاتية، وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها، وهدم عُرى الإسلام وإقصاء المسلمين عن دينهم، وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.
القضاء على الإسلام
هذه الحركة تَقُومُ عليها الدول الغربية والشركات الأجنبية والمؤسسات الدولية، يساعدهم في ذلك عملاؤهم المحليين من الأقليات الدينية والمستغربين من المسلمين الذين تربوا في أحضان مدارسهم وجامعاتهم، كما يساعدهم في ذلك مؤسساتهم المنتشرة داخل العالم الإسلامي من المدارس الأجنبية والجامعات والملاحق الثقافية ووسائل الإعلام ومناهج التعليم الْمُغَرَّبَة، هذا فضلاً عن مراكز التفكير التي تُكَرِّس جهودها كلها من أجل القضاء على الإسلام أو احتوائه.
نفق التقليد الأعمى

ودخل العالم الإسلامي نفقاً لم يدخله من قبل، ألا وهو: نفق التقليد الأعمى للغرب، ذلك النفق الذي أخبرنا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أكثر من أربعة عشر قرناً؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم! قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» (صحيح البخاري:7320) وفي رواية «شبراً بشبر وذراعاً بذراع» (صحيح البخاري:7319).

أهمية البحث
وإن استقراء التاريخ الحضاري للأمة مع قراءة واقعها بدقة وموضوعية يَدُلُّ على أن التخلف والتراجع والوهن الحضاري جاء نتيجة البعد عن القيم والتعاليم الإسلامية، ومن هنا كانت أهمية البحث عن تعريف حركة التغريب وبيان تاريخها، مع بيان أهدافها ومظاهرها وحكمها في الشريعة، وبيان الوسائل التي استخدمتها من أجل تحقيق أهدافها، وفي النهاية محاولة اقتراح وسائل لمقاومتها.