الرد على شبهة كيف يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم في الأشهر الحرم؟

محمود طراد


للأشهر الحرم مقامها ومكانتها عند الله -تعالى-، بل هي من المواسم التي جعلها الله -تعالى- منة لعباده يستكثرون فيها من الخير، وقد أكد القرآن الكريم على قيمتها وفضلها، بل حرم الله -تعالى- فيها القتال، وسماها الأشهر الحرم، قال -تعالى- في القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} (البقرة: 217)، ولقد جاء في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل أهل ثقيف فيما يسمى بغزوة الطائف في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم، وكذلك قتل بعض الصحابة مشركاً في الأشهر الحرم واعترض المشركون اعتراضاً كبيراً لما حدث، ونزلت آية سورة البقرة في ذلك، فهل هناك تعارض بين الآية والحادثتين كما يدعي الطاعنون؟ لننتقل سوياً إلى الجواب.


لماذا سماها الله الأشهر الحرم

سميت الأشهر الحرم بهذا الاسم في القرآن الكريم قال -تعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 36)، يقول الإمام الطبري -رحمه الله-: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن, حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر وثلاثة متواليات، ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن أبي هريرة قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم, ثلاثة متواليات، ورجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان».

هل كان أهل الجاهلية يعظمون الأشهر الحرم فعلاً؟

كان أهل الجاهلية يتلاعبون بالأشهر الحرم إذا كان لهم في ذلك مصلحة، فيحرمون المحرم عاماً ويحرمون صفر عاماً أي يؤخرون الحرمة لشهر صفر، وقد حكى القرآن عنهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَه ُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة: 37)، عن ابن عباس: «إنما النسيء زيادة في الكفر»، قال: فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا, وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم, وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة, فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله. وبهذا يتبين أن الحرمة ما وافقت مصالحهم وأن الحل ما وافق مصالحهم.

الحادثة الأولى: قتل عبدالله بن جحش لرجل من المشركين

نزلت آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} الآية، بسبب خطأ وقع من عبد الله بن جحش وأصحابه، ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهم إلى نخلة، (موضع بين مكة والطائف)، يتحسسون له أخبار قريش، ولم يأمرهم بقتال، إلا أنهم لما نزلوا نخلة، مرّت بهم عير لقريش، تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي، ومعه ثلاثة نفر، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين، وفر الرابع، واستاقوا الأسيرين والعير؛ حتى قدموا المدينة، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنكر عليهم قائلًا: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، ومع هذا بعث المشركون يعيّرون المسلمين بما صنعوا، فأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبير}. ولذا كانت شبهتهم قديماً وحديثاً كيف يقتل الصحابة رجلاً في الشهر الحرام؟

وللجواب على التساؤل نقول:

لقد رد الله -تعالى- على المشركين في الآية، فقال: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} وفي هذه الكلمات «إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكَّتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو، فإن المشركين استعظموا فعلًا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر؛ لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيَّة بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حرامًا وحَرَّم لأجل حجها الأشهرَ الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحْرِياء بالتحميق والمذمة؛ لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعًا لغيرها».

حرمة الأشهر الحرم تبع للأحداث

إن حرمة الزمان إنما تكون تابعة للأحداث التي تحدث فيه؛ فإن حدث عدوان على المسلمين في الأشهر الحرم فهل يقول المسلمون: إنها الأشهر الحرم وليس لنا أن نرد العدوان؟ لا شك أن هذا غير معقول؛ ولهذا جاء الرد القرآني في السؤال: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} أي أن ما فعله المشركون من صد المسلمين عن الله -تعالى- وإيذائهم وإخراجهم المسلمين من المسجد الحرام هو الجرم الذي كان يرتكبه المشركون في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فيكون كل عمل من المسلمين ضدهم ردا للعدوان لا ابتداء منهم؛ لأن المسلمين لم يكونوا ليبدؤوا أحداً بقتال، فيسقط بذلك تحرز المشركين بحرمة الشهر، ويرتفع التعارض الموهوم بين الآية التي فيها حرمة الشهور وبين رواية قتل ذلك الرجل الذي نزلت بسببه الآية.

الحادثة الثانية: كانت غزوة الطائف في ذي القعدة

بعد أن قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - هوازن يوم حنين، تحصن من بقي منهم بالطائف فعدل إليها وحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق واستمر الحصار مدة أربعين يوماً، فلما كثر القتل في أصحابه انصرف ولم يفتحها، والسؤال هنا كيف يحاصر النبي ويقاتل في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم؟ وقد أجاب الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- بقوله: الجواب عن حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف، فإنهم هم الذين ابتدؤوا القتال، وجمعوا الرجال، ودعوا إلى الحرب والنزال، فعندما قصدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم، فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريباً من أربعين يوماً. وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام، فاستمر فيه أياما، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا هو أمر مقرر، وله نظائر كثيرة، والله أعلم، والمعنى أن القتال قد بدأ في شهر حال واستمر إلى شهر من الأشهر الحرم ولم يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - القتال في شهر حرام.

هل نسخ القتال في الأشهر الحرم؟

أما رد الاعتداء في الأشهر الحرم فهو جائز بلا خلاف، وأما ابتداء القتال في الأشهر الحرم فقد اختلف الأئمة فيه على رأيين: الأول وهو رأي الجمهور أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ، واستدلوا في ذلك بواقعة الطائف التي ذكرناها آنفاً، والثاني: أن تحريم القتال في هذه الأشهر لم ينسخ واستدلوا بقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}. وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- عن سورة المائة: (وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} (المائدة: 1)». ولعل جواب الإمام ابن كثير بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستكمل الغزوة التي بدأت في شهر حلال هو الأصوب والله أعلم، ولا يكون بذلك داع لطاعن يدعي تعارض الآية التي جاء فيها التحريم والأحاديث التي نقلت تاريخ تلك الغزوات.