دور التوحيد في تحرير العقل والنهوض بالأمة
تمهـيد
إن نظرة عابرة في عقائد الأمم وأخلاقها تجعلنا ندرك حجم المأساة التي عاشها العقل ويعيشها على مدار التاريخ، إذ ما من أمة من الأمم إلا وقد ضربت لها بسهم في إذلال العقل وامتهانه، والكفر به وإغفاله، حتى بلغت بعض الأمم من عداوة العقل وتعطيله أعلى منازل السفه، وأوغلت في الجهل والترهيب من الفكر بحيث صارت نسبتها إلى العقل ضربٌ من العبث.
بعض تلك الأمم عبد حجراً، وبعضهم عبد بشراً، وبعضهم عبد بقراً، وبعضهم عبد ناراً، وبعضهم عبدا كوكبا، وبعضهم عبد مولودا، وبعضهم عبد فقيرا ضعيفا، بل وصل بعضهم إلى ألا إله أصلا يموتون ويحيون ولا يهلكهم إلا الدهر. وأمثال هؤلاء لا تجوز نسبتهم لعقل ينفعهم ويتسبب في نجاتهم، قال الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ (الأعراف:179)
لقد قامت كل تلك الأديان سالفة الذكر على الإغلاق، والمصادرة لحق العقل في التفكير ومع الأسف يدين بها ملايين البشر حتى اليوم، و يغلق دونهم باب المعرفة والفهم لما يدينون به حتى أنهم لا يستطيعون تحرير معتقداتهم فضلا عن تفهمها " فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وأمه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر، ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا" (هداية الحيارى).
ورغم ما يزعمه البعض من أننا نحيا عصر العقل والفكر والتقدم والتحرر، إلا أنهم يعيشون تحت احتلال تلك الأديان، وإن كان بعضهم بادر إلى رفض سلوك تلك الأديان المشين تجاه العقل، وجاءت صور متعددة لمناهضة هذا التعسف في رفض العقل والتحكم في التعامل مع الناس بين قوانين الحرمان وصكوك الغفران، كان من تلك الصور الثورة الغربية على الكنيسة وعلى الكهنوتية التي قضت بتقليص دور الكهنة والرهبان، ومنع احتكارهم للكتب المقدسة لديهم فأعيد طبعها وتعميمها، ثم كان من صور تلك المناهضة بروز الكتب والأبحاث التي نقضت تعاليم تلك الكتب وشككت في أصولها بعدما أثبتت تناقضها.
ومع كل هذا التحول الفكري والتحرر العقلي ظلوا يعتبرون أنفسهم من أبناء تلك الأديان الباطلة، وقد يتعصبون لها ويقيمون الحروب من أجلها، ولم يعالج أكثرهم الأمر معالجة صحيحة بالدخول في الدين الحق، بل هربوا إلى العلمانية التي تعلم النفاق، فالمرء يتدين في دور العبادة لإله ثم يخلعه على عتباتها لينتقل إلى غيره.
وبينما يعجب المرء من هؤلاء ، ويتساءل عن أسباب ذلك التعلق بتلك الأديان الباطلة ، يفاجأ بأنها هي هي نفس أسباب مكذبي الأنبياء الذين كانوا يركبون النوق والحمير، ويسيرون حفاة يقطعون الصحاري سيرا على الأقدام ، الذين كانوا يتحججون فيها بميراث الآباء والأجداد ، والخوف من ضياع السؤدد ، والترفع عن مخالطة الأراذل الضعفاء ، مما يعني أنهم لم يواكبوا تقدم الآلات العصرية التي صنعوها بأيديهم والتي يعد تطورها شيئا مذهلا .
وبكل ثقة يمكننا القول إنه لم يلق العقل تقديره واحترامه ووقاره اللائق به منذ بدء الخلق قط، إلا في دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وفي دعوة أتباعهم رضوان الله تعالى عليهم. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الاسراء:70) "وهذا من كرمه عليهم وإحسانه الذي لا يقادر قدره، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرمهم بالعلم والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة" (تفسير السعدي)
فمن يوم خلق الله آدم عليه السلام، لم يتركه الله هكذا حتى أقامه على العلم، قال سبحانه ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا..﴾ (البقرة:31) فعلى ضوء الخلق والعلم عاش آدم عليه السلام وزوجه وذريته على منهج العبودية لله وتوحيده جل وعلا، حتى جاء الشرك بعد أن ولج الناس أبواب البدع، وعاد دور الرسل من جديد، ليبينوا للناس دينهم ويأمروهم بالتوحيد، ويثبتوا لهم أن العقل الصحيح يسفه ما وقعوا فيه من الكفر والشرك، ويثبت أن الحق في لزوم سبيل التوحيد، فحرروا العقل من معتقلات الكفر وسجون الشرك وسلاسل الإلحاد، وخلصوه من تهمة السكوت على عبادة الأوثان، ومنافقة الساجدين للفئران والبقر والصلبان.
لقد اتخذت شريعة الإسلام أساليب متنوعة لتحرير العقل كان من أهم تلك الأساليب ما يلي:
أولاً: تحريم كل ما يؤدي إلى الإضرار به أو تعطيله كالمسكرات والمخدرات، حيث جاء تحريم المسكرات باعتبار أنها أكبر الوسائل لامتهان العقل وتعطيله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)..﴾ المائدة
وروى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ﴿ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ﴾ رواه مسلم. وعنه أيضا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ﴿الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ﴾ رواه البخاري
ثانياً: تحفيز العقل وتنشيطه بتكثير النصوص الشرعية التي حثت على التفكر والتدبر والتعقل والتذكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وفي الكون والأمم السابقة واللاحقة، وكذلك في الأحكام الشرعية المبنية على التيسير ورفع الحرج مع تزكية النفس وتطهير القلب، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ (الحج:46)
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت:43) ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (الانبياء:10) ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ (المؤمنون:68) ﴿هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ابراهيم:52)
ثالثا: وكذلك تخليص الناس من عقدة الخوف من مفارقة الموروثات التي بان للناس مخالفتها للعقل الصحيح. قال سبحانه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ﴾ (البقرة:170)
كانت هذه بعض الأساليب العامة التي استخدمها الإسلام لتحرير العقل من القيود التي وضعته فيها الملل والأديان والمذاهب المنحرفة الأخرى، وقد أدى ذلك إلى تفعيل دور العقل في الرسالة التي لم تعتمد فقط على الشحنات الروحية المبنية على العاطفة، حتى ضمت إليها قوة الحجة ووضوح البرهان وقوة الدليل وظهور الدلالة، فأقام التوحيد والإيمان مع العقل علاقة غاية في الترابط والقرب يصورها بعض أهل العلم بقوله: "الوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين فإذا حجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله كما أن المبصر لا ينتفع بعينيه إذا عاش في ظلمة فإذا أشرقت الشمس وانتشر ضوءها انتفع بناظريه وكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت واهتدت﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾ (الحج 46 ) ". (الرسل والرسالات عمر سليمان الأشقر 39)
كان من الممكن أن يكون خطاب الله المنزل في كتابه والوارد على ألسنة رسله أوامر ملزمة، لا تلجأ مطلقا إلى التكييف والتحفيز العقلي، لكن الأدلة الشرعية والمناظرات الرسالية، كانت تسلك مسلكا آخر اختلطت فيه المخاطبة بمسلمات العقل، مع المخاطبة بأوامر الشرع عبر خطاب يمس القلب وتطمئن له النفس، ولا يغيب فيه الشعور بالرحمة والشفقة واللطف فيه.
وهذه بعض صور هذا الخطاب الإيماني المعتمد على الحجج العقلية:
أولا: إثبات استحالة عدم وجود الله
قال سبحانه ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) ﴾ (الطور)ينبه الله عز وجل وهو يدل على نفسه سبحانه أنه لا يمكن لأي أحد أن يخلق بدون خالق، كما لا يمكن أن يخلق نفسه، أو أن يكون هو من خلق السماوات أو الأرض.
بهذه المسلمات العقلية خاطبت رسالة التوحيد من لا يؤمن بوجود الله من الشيوعيين الملحدين حديثا وأصولهم الدهرية القديمة الذين ﴿ َقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ (الجاثـية:24)
وهذا الخطاب التقى تماما مع النظرة العقلية البشرية، فعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع!! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه. (تفسير ابن كثير الآية 21 البقرة)
ثانيا: إثبات أن الخالق والمدبر لشؤون العباد هو المستحق للعبودية وحده
قال سبحانه: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..(10) ﴾ (إبراهيم) فكأن رسالة التوحيد التي أتى بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، تنبه على أن استحقاق خالق السماوات والأرض للعبادة ضرورة عقلية لا تقبل الشك ، وقد قامت عليها البينات القالطعات والحجج الواضحات، ومثل ذلك قول الله جل وعلا:﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60).... .﴾ (النمل)
ثالثا: إثبات استحالة وجود الشركاء
قال نبي الله يوسف عليه السلام: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) ﴾ (يوسف) قال سبحانه: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾(المؤمنون:91) وقال جل ذكره ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر:29)
فهذا خطاب عقلي بديع قضى على فكرة الشرك بأبسط مثال وأوضح عبارة حيث أبطل نظرية الشرك مستندا إلى صور مألوفة ومشهودة من تشاكس الشركاء وعلو بعضهم على بعض.
رابعا: إثبات أن من كان عاجزا لا سلطان له، لا يستحق أن يكون معبودا.
لا يمكن أن يتصور العقل أبدا أن يكون الإله لا سلطان له على عباده أو لا يملك لهم الرزق، بمعنى أنهم خارجون عن سيطرته، أو لا قدرة له على إدارة شؤونهم ، فما الذي يعطيه الحق لكي يكون معبودا ؟ ، وهذا الخطاب هو الذي أعجز به الرسل كل من عبد غير الله، قال الله جل ذكره: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ (البقرة:258)
وهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام أيضا يقول : ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (العنكبوت:17)
خامسا: إثبات أن الإله لا يمكن أن يكبره أو يحيط به شيء ولا يغيب عن حاجة عباده لخروج غيره عليهم
قال سبحانه :﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)...﴾ (الأنعام)
فها هي الكواكب تنزوي أمام بعضها الأشد منها إضاءة وقوة ويتعاقب ظهورها بتعاقب الليل والنهار فكيف يكون بعضها أولى من بعض بالعبادة.
سادساً: إثبات أنه إن كان من تمسك بالموروثات فعلينا بالآباء الأولين حيث كان والدنا آدم عليه السلام وزوجه وأبناءه ولم يكن ساعتها أصنام ولا أوثان ولا صلبان ولا بوذا ولا المسيح ولا عزير ولا غيرها مما عبد بعد ذلك بالباطل، فإن لم يكن هؤلاء موجودون ساعتها فكيف يكونون آلهة بعدها، فهذا موسى عليه السلام يقيم الحجة
على فرعون وملئه ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾( الشعراء:26)﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾( الدخان:8)
وهذا ما يتوافق مع أصل الفطرة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ..﴾ (البخاري 4402). وفي رواية ﴿مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهُ لِسَانُهُ﴾ (مسلم 4805). قال النووي رحمه الله في شرح الحديث من صحيح مسلم: "وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَهِيمَة تَلِد الْبَهِيمَة كَامِلَة الْأَعْضَاء لَا نَقْص فِيهَا، وَإِنَّمَا يَحْدُث فِيهَا الْجَدْع وَالنَّقْص بَعْد وِلَادَتهَا"
وبنظرة عقلية نجد اتفاق ذلك أيضا مع ما يقوم به أتباع الديانات الفاسدة من تعميد المولود أو تغطيسه ودق الصلبان وغيرها على جسده، وذلك لأنه يولد على الفطرة التي كان عليها آدم عليه السلام ، فلا يولد مولود وعلى يده صليب ولا وشم ولا غير ذلك.
سابعا: نكارة القول بأن لله ولدا وإنكار ألوهية عيسى عليه السلام وأمه
كيف يكون إلها من يأكل الطعام ولا يملك لنفسه شيئا من الله إن أراد أن يهلكه ، هذه النظرية العقلية اليسيرة نجدها معتبرة بحذافيرها في قول الله جل ذكره : ﴿... فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً..﴾
(المائدة:17)، ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ..﴾ (المائدة:75) ، ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ..﴾ (يونس:68) فالإله يكون مستغنيا عن الطعام والشراب وعن الصاحبة والأولاد.
يتبع