من أعذار المتقاعسين
يحيى بن إبراهيم اليحيى
ومن أعراض هذا المرض أيضاً: التهويلُ والمبالغةُ، واستعمال العدسةِ المكبرةِ للتفتيش عن صغائرِ الغَير.
قال أبو هريرة رضي الله عنه:" يبصر أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجذلَ أو الجذعَ في عين نفسه".
إبرازُ الشخصياتِ المتقاعسةِ وتعليلُ النفس بهم، وأنه ليس الوحيدَ في هذا المجال: ونسي هذا الأخ بأنه يدفن وحدَه، ويبعثُ يوم القيامة وحده، وسيقفُ بين يدي الله وحده، فيومئذ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ...(52) [سورة غافر] نسي هذا أنه في مضمار مسابقة، وقد لام الله تعالى القاعدين فقال سبحانه: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ... (87) [سورة التوبة]. قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد:" ولقد صحبته عشرين سنةً صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس"[ مناقب أحمد لابن الجوزي ص140]. وذكر جرير بن عبد الحميد:" أن سليمان التيمي لم تمر ساعةٌ قطُّ عليه إلا تصدقَ بشيء، فإن لم يكن شيءٌ، صلى ركعتين"[ سير أعلام النبلاء 6199].
الحساسيةُ المرهفةُ من النقدِ أو اللومِ: فالبعض لا يريدُ أن يلامَ أو يحاسبَ، أو ينتقدَ، فإذا واجه ذلك؛ تأثرَ وانقطعَ عن العمل، إما بالشعور بالإحباطِ بأنه لا يحسنُ، أو أنه وصل إلى مقامٍ لا ينبغي أن ينتقدَ، أو أن مثلَ فلان كيف يوجهُهُ وينتقدُهُ.. وأين هذا من عمر رضي الله عنه حيث قال: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا!. وقال بلال بن سعد لصاحبه:" بلغني أن المؤمن مرآةُ أخيه، فهل تستريبُ من أمري شيئاً؟"[ زهد ابن المبارك /485] . وقال بعض السلف:" من حق العاقلِ أن يضيفَ إلى رأيه آراءَ العلماء، ويجمعَ إلى عقلِهِ عقولَ الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقل الفردُ ربما ضل".
قد يتساقط أناسٌ بسبب أنه لا يذكرُ عملُهم أو ينوهُ به أو يحمدون عليه: وكأن عملَهم للناس، كأن يقول: ليس هنا أحدٌ يقدرُ الجهودَ، أو ينظر في النتاج، أو يحترمُ العاملين، وما عندنا أحد ينزلُ الناسَ منازلَهم!! وصدق الربيع بن خيثم رحمه الله حيث قال:" كل ما لا يراد به وجهُ الله ؛ يضمحل"[ طبقات ابن سعد 6/186]. وقال ابن الجوزي:" والصدقُ في الطلب منارٌ أين وجد يدلُّ على الجادة وإنما يتعثرُ من لم يخلص"[ صيد الخاطر ص355].. قال تعالى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9) [سورة الإنسان].
تفريغُ الطاقة في التناجي: بأن يناجي شخصاً بأن شيخَه ليس مؤهلاً، أو ليس عندَه برامجُ تواكبُ التطور، أو لا جديدَ عنده، فإذا وافقه صاحبُهُ على ذلك انتقل إلى آخر، فيحدثه بمثل ذلك الحديث.
وليس عنده بدائل يطرحُها ولا برامجُ يقترحها، وإنما حمله الحسدُ، أو السآمةُ من العمل، أو حبُّ الرياسة والظهور، أو لا يريد أن ينقطعَ عن القافلة وحده .. قال السري: ما رأيت شيئاً أحبطَ للأعمال، ولا أفسدَ للقلوب، ولا أسرعَ في هلاك العبد، ولا أدومَ للأحزان، ولا أقربَ للمقت، ولا ألزمَ لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبدِ لنفسه، ونظرِهِ في عيوب الناس".
وتنافر القلوب لا يتعدى الأسباب التالية: فلتةُ لسان، أو هفوةٌ لم تغتفر، أو ظنٌّ متوهم.
قال ابن القيم رحمه الله: من قواعد الشرع، والحكمة أيضاً، أن من كثرت حسناتُه وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهرٌ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، وعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماءِ القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث.
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:[ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ] رواه البخاري ومسلم.
وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من جَسَّ عليه، وعلى المسلمين، وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدراً، فدل على أن مقتضى عقوبتِهِ قائمٌ، لكن منع من ترتبِ أثرِهِ عليه ما له من المشهد العظيمِ، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات، ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقةَ العظيمةَ قال:[ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ] رواه الترمذي وأحمد. وقال لطلحة لما تطأطأ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة:[ أَوْجَبَ طَلْحَةُ] رواه الترمذي وأحمد " [مفتاح دار السعادة 1/176] .
من ذا الذي ترضا سجاياه كلُّها كفى المرءَ نبلاً أن تعد معايبُه
12 - التنقلُ في الأعمال الخيرية على هيئة المذواق: كلُّ يوم في عمل، وله كل يوم منهجٌ وطريقةٌ، يمدح ذاك العملَ حيناً، ثم ينتقل إلى غيره مقدماً الجديدَ عليه حيناً آخر، وفي الأخيرِ يسقط؛ لأنه لا يرضيه شيءٌ وقد جرب كلَّ ميدان! ولو أخذ ما يناسبه والأفضلَ في حقه؛ لنال خيراً كثيراً، قال ابن القيم: وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطنُ له: وهو أنه قد يكون العملَ المعيَّنُ أفضلَ منه في حق غيره، فالغني الذي بلغ له مالٌ كثيرٌ ونفسُه لا تسمحُ ببذل شيء منه فصدقتُه وإيثارُه أفضلُ له من قيام الليل وصيام النهار نافلة، والشجاع الشديد الذي يهاب العدوُّ سطوتَهُ: وقوفُهُ في الصف ساعة، وجهادُهُ أعداءَ الله أفضلُ من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالمُ الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرقَ الخير والشر: مخالطتُهُ للناس، وتعليمُهم ونصحهم في دينهم أفضلُ من اعتزاله، وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح . ووليُّ الأمر الذي قد نصبه الله للحكم بين عباده: جلوسُهُ ساعةً للنظر في المظالم، وإنصافِ المظلومِ من الظالم وإقامةِ الحدود ونصرِ المحقِّ وقمعِ المبطل أفضلُ من عبادة سنين من غيره، ومن غلبت عليه شهوةُ النساء فصومه له أنفعُ وأفضلُ من ذكر غيره وصدقته"[ عدة الصابرين لابن القيم / 93].
التنقل بين الشيوخ أو الجماعات أو الأفكار: قال عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل" . فيملُّ فيتركُ الخيرَ كله، أو يصابُ بشكوك واضطراب في آرائه وأفكاره وتوجهاته، فيصبح يشك في كل من حوله.
فالثباتُ على منهج سليم فيما يعود على الإنسان من خيري الدنيا والآخرة؛ يقي الإنسانَ من التردد والتغيرِ؛ والتنقلِ والحيرة.
فإذا علمت أنك على الحقِّ، ومتمسكٌ بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومتبعٌ لمنهج السلف الصالح؛ فلا يضيرك مخالفةُ غيرك, ولا يضعفك عن مسيرك فتنةٌ، ولايوقفُك عنه ابتلاء.
الخوف والهلع من المخلوقين: فتتحول مراقبتُهُ وخوفُهُ ورجاؤه إلى الخلق، ويوسوس له الشيطان في كلِّ عمل أو حركةٍ بأنه مؤاخذٌ به ومؤدبٌ عليه، فيترك كثيراً من الأعمال الصالحة، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر؛ فتتطبعُ نفسُه ذلك، حتى لا يتمعر وجهُه في ذات الله أبداً!! قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175) [سورة آل عمران] . "إن من غفلتِكَ عن نفسك، وإعراضِك عن الله، أن ترى ما يسخطُ اللهَ فتتجاوزه، ولا تأمرَ فيه ولا تنهى عنه، خوفاً ممن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً"[الجواب الكافي لابن القيم / 44].
ضعفُ الصلة بالله تعالى: فيقلُّ نصيبُهُ من نوافل الصيام والصلاة والصدقة، فإذا قل زادُهُ، وانتهى وقوده؛ تعطل من العمل، ولهذا كان السلف الصالح من أحرص الناس على تربية أنفسهم على التزود من الطاعات.
الـزواج: وكثيراً ما يقع لمن تأخر عن الزواج، أو من يعدد بعد زوجة تؤذيه، فينشغلُ بلذة الشهوةِ عن الدعوة.
عدم التوازنِ في جوانب العبادةِ وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه: كما قال صلى الله عليه وسلم:[ فَقَالَ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ] رواه البخاري والترمذي-واللفظ له- .
[فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ] فينشغل بجوانب الخير وطرقه، وينسى بعضَ الواجبات عليه، أو يغفلُ عنها، أو يهملها، أو لا يلقي لها بالًا. وفجأة يرى نفسه- مثلاً- مفرطاً في بر الوالدين وصلة الأرحام، أو في جانب ولده وأهله، وأنه لم يقم بتربيتهم على الوجه المطلوب، أو غير ذلك من الأمور؛ فيحمٍلُ ذلك على انشغالِهِ بالدعوة، فيفتر ويتركها.
ولو أن هذا الأخَ وازنَ بين الواجبات والمستحبات، وأعطى كل ذي حق حقه ونصيبَهُ؛ ما ترك شيئا من طرقِ الخير وأهملَهُ.
دخولُهُ في عمل لا يتلاءمُ مع شخصيته وتكوينه وطاقاته وقدراته: فيفشل، فيصاب بإحباط؛ فيدع العمل، ولا يحاول التغيير. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ـ متباينين في الطاقات والقدرات، وكل أخذ بالعمل الذي يحسنه، وما رؤي أحد منهم عاطلاً عن العمل، فخالد سيف الله المسلول، وأقرؤكم أُبَي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وهذا أبو ذر رضي الله عنه من أكبر المؤثرين في الدعوة، حتى أسلمت جلُّ غفار على يديه، ومع ذلك لا يصلح للإمارة كما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يريد عملاً يتوافق مع خواطره وتخيلاته: وهذا العمل غيرُ متمثل في واقعه، أو غيرُ ممكن تطبيقه؛ فتتحول نظراتُهُ وخواطرُهُ إلى خيالات مثالية، ويعتذر بها عند كل من يطلب منه أن يشارك في خير، أو إصلاح. . قال ابن مسعود:" إذا أراد الله بعبد خيراً سدده وجعل سؤاله عما يعينه وعلّمه فيما ينفعه"[ الإبانة 1 / 419].
يتبع