حاجة الدعوة إلى البذل والتضحية
عبد الحكيم بن محمد بلال
لا تُنال المعالي بالأماني، ولا تقوم الدعوات إلا على ألوان البذل والتضحية بشتى صنوفها. وإذا عُرف أن ابتلاء الدعاة سنة ماضية تبين أن الدعوة الحقة لا تقوم بلا تضحية.
والمراد بالتضحية: التبرع بالشيء دون مقابل(1)؛ كالتضحية بالنفس أو المال أو العمل أو الوقت أو الجاه أو العلم أو المنصب... أو غير ذلك، حتى يظن الإنسان أن لا حق له فيما زاد على حاجته الضرورية، فيبذل جهده في تقويم ذلك دون مقابل مادي يناله مكافأة على تبرعه، وإنما يرجو بذلك كله وجه الله - تعالى -، ونصرة دينه(2).
وهذا المعنى نفسه هو المقصود من الجود والبذل، وإن كان غلب إطلاق الجود على إنفاق المال الكثير، بسهولة من النفس، في الأمور الجليلة القدر الكثيرة النفع كما ينبغي، وهو لا شك من أعظم أبوابه، والمال عماد لكثير من أعمال الخير المتعدية التي لا تقوم إلا به.
إلا أن المراد بالكلمة أوسع من ذلك؛ فإن هذا المعنى جزء من معناها الواسع الذي يشمل المراتب الآتية أيضاً:
1 - الجود بالنفس، وهو أعلى مراتب الجود.
2 - الجود بالرياسة، وامتهانها في سبيل نفع الخلق ودعوتهم.
3 - الجود بالوقت والراحة والنوم واللذة، فيتعب ويسهر ويجهد نفسه.
4 - الجود بالعلم وبذله، وهو أفضل من الجود بالمال، ومنه تعليم الناس، وإجابة السائلين بما يشفيهم، وهي زكاة العلم.
5 - الجود بالنفع بالجاه؛ كالشفاعة، والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وهذا زكاة الجاه.
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه؛ كخدمة بدنية، وكلمة طيبة، وفكرة نافعة.
7 - الجود بالعِرض، والتصدق على من شتم أو قذف أو اغتاب.
8 - الجود بالصبر والاحتمال وكظم الغيظ. وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 - الجود بالخلق الحسن والبشاشة والبسطة. وهو أعظم مما قبله.
10 - الجود بترك ما في أيدي الناس، وترك الالتفات إليه والتعرض له بالحال أو اللسان(3).
وهكذا يتاح للفقير أن يضحي بجوانب أخرى تكون الدعوة - في بعض الأحايين - أشد احتياجاً إليها من المال، وهذا مما لا يتاح للغني ذي الوفرة من المال الذي تشغله تنمية ماله؛ فإذا تصدق بشيء منه اكتفى به عن الجود بغيره. ثم للفقير أن ينال مثل أجره بحسن نيته، وصدقه فيها مع الله - تعالى - كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغني الجواد والفقير المتمني للغنى ليعمل مثل عمله فقال: ((فهما في الأجر سواء))(4)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والنية أمر يعلمه الله من القلوب، ولكن من أدلتها الظاهرة الحرص على إنفاق القليل حال الضراء.
وكما يقع الجود من الأفراد فإنه أيضاً يحصل من المجتمعات والدعوات والجماعات.
منزلة الجود والتضحية:
الجود والتضحية شعبة من شعب الإيمان، وخير وسيلة لشكر نعم الله التي لا تحصى؛ لأنها استعمال للنعم في محبة الله - عز وجل - ، كما أن استعمالها في غير الطاعة أو الشح والبخل بها كفران لها.
والأدلة في مدح هذه الخصلة متكاثرة، لكن أبرزها في الدلالة على المقصود تلك الآيات التي تصف المؤمنين بالإنفاق في حالات تعكس قوة يقينهم، واستقرار هذه الصفة في نفوسهم. وإنفاق المال صورة من أبرز صور الجود، لكنها جزء قليل منه. ومن تلك الأدلة: قوله - تعالى -: (ويٍطًعٌمٍونّ الطَّعّامّ على حٍبٌَهٌ) [الإنسان: 8] أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام؛ ولكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، ومثله قوله: (وآتى المال على حبه) [البقرة: 177].
- قوله - عز وجل - في وصف المتقين المسارعين إلى الخيرات: (الذين ينفقون في السراء والضراء) [آل عمران: 134] أي: في عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئاً.
ومن اعتاد الإنفاق في الشدة هان عليه في حال الرخاء والسعة. فالإنفاق حال العسر تدريب للنفس على البذل وحب الآخرين، وتحرير لها من سلطان الشح. والمشاهد أن من يشح بالقليل حال فقره يشح بالكثير حال غناه(5).
- قوله - تبارك وتعالى -: (ويؤثرون على أنفسهم لو كان بهم خصاصة) [الحشر: 9]، وهذا المقام أعلى من الذي قبله (ويطعمون الطعام على) [الإنسان: 8]، فإن المحب للمال قد لا يكون محتاجاً ولا مضطراً إليه بخلاف هؤلاء، كفعل الصدّيق - رضي الله عنه - لما تصدق بكل ماله.
والإيثار: أكمل أنواع الجود، ولا يكون إلا من خلق زكي ومحبة لله - تعالى - مقدمة على شهوات النفس ولذاتها.
وفي مقابل الحث على البذل فقد عظم الله - عز وجل - قبح الشح وشناعته في قوله: (ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، وهذا يشمل وقايتها من الشح في جميع ما أمر به العبد، فيفعله منشرح الصدر، ويترك النهي ولو دعته نفسه إلى فعله فلا يكون بين هذه النفس وبين الامتثال إلا العلم بالأمر، ووصول المعرفة إليه، والبصيرة بأنه مُرْضٍ لله - تعالى -، فيحصل الفوز والفلاح(6).
وهذا يوضح أن الشح بشيء مما أوتيه الإنسان وكان في وسعه وطاقته مذموم جداً وسبيل الفلاح ترك الشح، وهو أمر يعني: سماحة النفس وطيبها في فعل أوامر الله - تعالى -، ونفع الخلق بكل وسيلة متاحة.
تضحيات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس جوداً كما وصفه بذلك صحابته. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة"(7).
فهو - صلى الله عليه وسلم - في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وجوده دائم كالريح المطلقة التي لا تهب إلا بالخير والرحمة دائماً، ونفع جوده يعم الغني والفقير كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه من الأرض الطيبة أو غير الطيبة.
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مباركاً أينما كان، وهو أسوة الدعاة والمصلحين.
وقد كان جوده متنوعاً شاملاً لكل أنواع الجود. ويعجز المرء على وصف بذله وتضحياته لأجل الله - عز وجل - وهو أمر لا يخفى يدركه جيداً من تأمل سيرته، وسير سنته، وأكثر النظر فيها، ولأجل التمثيل فقط أسوق هذه النصوص:
- عن أنس - رضي الله عنه - قال: "ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة"(8). وصُوَرُ جوده بالمال يضيق عنها المقام، ويكفي أنه أعطى أناساً ألحوا عليه مع أحقية غيرهم خشية أن يسألوه بالفحش، أو يصفوه بالبخل(9)، فما أحرى هذا بالتأمل الطويل!
- وعنه قال: "إن كانت الأَمَةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتنطلق به حيث شاءت"(10)، فكان - صلى الله عليه وسلم - باذلاً لجاهه ووقته وراحته وماله... في مرضاة الله - تعالى - ونفع الخلق.
كان يمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يحصل غاية ما يريده من الجاه، ونيل الرئاسة والشرف، والتمتع بزهرة الدنيا من النساء وسائر الملذات، وتحصيل الراحة والرفاهية ورغد العيش، ولكنه ترك كل ذلك لله - عز وجل - وضحى بكل ما آتاه الله - عز وجل - فبذل نفسه وماله، ووقته وجهده، وجاهه وراحته، وأرخص كل ذلك في سبيل الله.
وقد بدأت معه رحلة المعاناة منذ صعد الصفاة، وأنذر عشيرته الأقربين، فوصفوه بالسحر والجنون بعد أن كان الصادق الأمين، وأوذي وأصحابه أشد الأذى، وابتلوا أعظم البلاء، فصار يعرض نفسه على القبائل في الحج يطلب حمايته ليبلِّغ دين الله، وقصد الطائف لعله يجد بغيته، فرجع مُدمى القدمين طريداً، وحوصر وأصحابه وأنصاره في الشعب ثلاث سنين حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع. ويعاني الصحابة من صنوف البلاء وألوان الشدائد ما لا يخفى، ويواجه بعضهم الموت؛ كآل ياسر، وخباب، وبلال.
ويخرج بعض أصحابه إلى الحبشة طلباً للنصرة، ويصبرون على مفارقة الأهل والأولاد والأوطان، ويتسامعون بإسلام بعض الصناديد المشركين، فيعود بعضهم إلى مكة ليجدوا أشد مما كانوا يعانون، ثم يعودون ثانية إلى الحبشة، ومعهم آخرون في رحلة عناء أخرى. ثم يأذن الله بالهجرة إلى المدينة، ويهاجر - صلى الله عليه وسلم - وسائر أصحابه، ثم يكابدون الغربة، وكثرة الأعداء، وأذى المنافقين واليهود، وقتال الأهل والعشيرة.
وقد كان لكثير من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - صفحات طويلة من البذل والتضحيات، فيهجر مصعب - رضي الله عنه - النعيم والدعة ويهاجر داعية إلى الإسلام في المدينة، ويعرِّض علي - رضي الله عنه - نفسه للهلاك بنومه في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - عشية الهجرة، ويرمي البراء نفسه بين الأعداء في حديقة الموت فيفتح الله للمسلمين بسببه، ويُعرِض أبو الدرداء –رضي الله عنه- عن التجارة تفرغاً لمجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتقبل خالد بن الوليد –رضي الله عنه- التنازل عن منصبه طاعة لأمير المؤمنين، ويتنازل أبو عبيدة –رضي الله عنه- عن إمرة الجيش لعمرو بن العاص –رضي الله عنه- جمعاً لكلمة المسلمين، ويرفض الحسن بن علي –رضي الله عنهما- الخلافة درءاً للفتنة وجمعاً للكلمة، ويقبِّل عامر بن عبد الله –رضي الله عنه- رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى المسلمين... (11).
ولم يخلُ تاريخ النساء العظيم من روائع بالجود والتضحية؛ فقد ضحت أم سلمة –رضي الله عنها- بشمل الأسرة، وتحملت فراق الزوج والولد في سبيل الهجرة، ولا يخفى جهد أسماء وعناؤها أثناء الهجرة، ولا تضحيتها بابنها عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- في سبيل نصرة الحق.
يتبع