لماذا قتل الخضر الغلام رغم صباه؟




المسألة:
قوله تعالى﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾(1).
لماذا قتل الخضر الغلام رغم صباه ولمجرَّد الخشية من كفره وطغيانه في المستقبل؟ وهل ذلك يبرِّرُ جواز قتله؟
الجواب:
منشأ الاستيحاش من قتل الغلام مجموعة أمور:
الأمر الأول: أنَّه كان غلاماً والمُستظهَر بدواً من لفظ الغلام هو أنَّه كان صبياً لم يجترح ذنباً يُصحِّح قتله، ولو كان قد اجترح ذنباً فإنَّه لا يسوغ قتله نظراً لصباه.
الأمر الثاني: إنَّ التعليل الذي برَّر به العالم قتل الغلام هو الخشية من أن يَفتنَ أبويه في المستقبل عن دينهما، وذلك لا يُصحِّح شرعاً ولا عقلاً قتله لأنَّه من إيقاع العقوبة قبل الذنب.
الأمر الثالث: يتعلق بتتمة التعليل من قتل الغلام وهو إرادة أن يُعوِّض الله تعالى الأبوين بولدٍ آخر يكون خيراً منه زكاةً وأقرب رحما، فذلك لو كان تعليلاً فإنَّه لا يتم لأن تعويض الأبوين بولدٍ أكثر صلاحاً لهما لا ينفي بشاعة قتل الأوّل.
أمّا الجواب عن الأمر الأول:
فهو أنَّ الظاهر من الآية الشريفة أنَّ الغلام لم يكن صبياً بل كان شاباً، وذلك بقرينة قوله تعالى على لسان موسى (ع) ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾(2) فإنَّ الآية المباركة تعبِّر عن أنَّ منشأ استيحاش موسى (ع) من قتل الغلام هو أنَّ العالم قتله دون أن يكون الغلام قد قتل نفساً، وذلك إنما يناسب كون الغلام بالغاً، إذ لو لم يكن بالغاً لما ساغ قتله حتى لو كان قد قتل نفساً، إذ أن الصبي لا يُقتصُّ منه.
وبتعبيرٍ آخر لو كان الغلام صبياً لكان المناسب أن يحتجَّ موسى (ع) على العالم بالقول إنَّك قتلت نفساً طاهرة لا تُؤاخذ على ذنب.
لا أن يحتجَّ عليه بأنَّه قتل نفساً بغير نفس، وذلك ما يعبِّر عن أنَّ الغلام كان مؤهلاً للعقوبة والقصاص، غايته أنَّ فعلية الاستحقاق كانت منوطة بثبوت أنَّه قد اجترح ما يُوجب القصاص، وعدم ثبوت ذلك هو ما أوجب استيحاش نبيِّ الله موسى (ع).
وبهذه القرينة يصح استظهار كون الغلام شاباً ولم يكن صبياً، ودعوى أنَّ لفظ الغلام ظاهر في الصبي إما لأنَّه موضوع لمعنى الصبي أو لأنَّه كثيراً ما يُستعمل في الصبي ليست تامّة، وذلك لأنَّنا وان كنَّا نسلِّم بانَّ لفظ الغلام يُستعمل كثيراً في الصبي، إلا أننا لا نُسلِّم بانَّ لفظ الغلام حقيقة في الصبي، إذ لم يثبت ذلك، والاستعمال أعمُّ من الحقيقة والمجاز، على أنَّ استعمال لفظ الغلام في الرجل كثير أيضاً كما لا يخفى على المتابع لاستعمالات العرب، فقد أفاد الأزهري كما في المصباح المنير أن ذلك الاستعمال فاش في كلام العرب(3).
ويمكن تأييد صحة استعمال لفظ الغلام في غير الصبي بما ذكره اللغويون(4) فيما هو الأصل الاشتقاقي للفظ الغلام، حيث أفادوا أنَّ أصل غلام من الغلمة، والمراد من الغلمة هو شدة الشهوة، فيقال غلم واغتلم أي اشتدَّ شبقه وهاجت شهوته، وذلك إنما يناسب البالغ دون الصبي.
على انَّه لو سلَّمنا أنَّ لفظ الغلام موضوع للصبي فإنَّ ذلك لا يمنع من استظهار إرادة الشاب من الآية المباركة بعد أن كانت القرينة المذكورة مقتضية لذلك.
واللفظ قد يُستعمل في غير ما وضع له ويكون المعرِّف للمعنى المستعمل فيه اللفظ هو القرينة أو القرائن المحتفَّة به.
وأما الجواب عن الأمر الثاني:
فهو أنَّ الغلام كان كافراً، والعالم إنما كان يخشى من أن يُرهق الغلامُ أبويه بطغيانه وكفره أي يؤذيهما بسبب طغيانه وكفره، ويحتمل أن يكون المراد هو الخشية من أن يفتن أبويه عن إيمانهما ويحملهما على الطغيان والكفر، وذلك بأن يدعوهما للكفر والتجاوز لحدود الله عز وجل أو أن يمارس المعاصي والموبقات فيضطَّر أبواه للدفاع عنه وذلك لحبِّهما له.
وعلى أيِّ تقدير فالآية معبِّرة عن كفر الغلام، ولا يصح وصف الغلام بالكفر إلا مع افتراض بلوغه ورشده إذ أن الصبي لا يوصف بالكفر خصوصاً إذا كان أبواه مؤمنين.
وأما منشأ استظهار كفر الغلام من الآية المباركة فهو أنَّ الخشية إما أن يكون المراد منها العلم أي علمنا أنَّه سيرهقهما طغياناً وكفراً، أو يكون المراد منها الخوف، أي أننا نخاف أن يُرهقهما طغياناً وكفراً، أو يكون المراد من الخشية هو الكراهة أي كرهنا أن يرهقهما طغياناً وكفراً.
فلو كان الاحتمال الأول هو المتعيَّن لكان معنى ذلك هو كفر الغلام فعلاً أي حين قتله، إذ لا يصح تبرير قتله بالعلم بكفره إذا كبر وأنه سوف يُرهق أبويه طغياناً وكفراً.
فالعالم كان بصدد الكشف عن منشأ قتل الغلام وانَّ قتله إياه كان على وفق الموازين الشرعية والمنطقية، ومن الواضح أن العلم الغيبي بكفر الغلام مستقبلاً لا يُسوِّغ قتله فعلاً بحسب الموازين الشرعية والمنطقية وانَّ ذلك من الظلم القبيح الذي تتنزه ساحة المولى وساحة الأولياء عن ارتكابه.
ولو كان المبرِّر لقتله هو كفره إذا بلغ وكبر لما انقطع على موسى (ع) الجواب ولاعترض بأنَّ ذلك لا يسوِّغ القتل، فسكوته وعدم اعتراضه رغم إحاطته بالضوابط الشرعية والعقلائية وتصدي العالم لتفسير عمله وفقاً للضوابط الظاهرية، كلُّ ذلك يؤكد أنَّ الغلام كان كافراً ومؤهَّلاً للعقوبة.
والشيء الوحيد الذي خفي عن موسى وأحاط به العالم هو كفر الغلام واقعاً واستحقاقه للقتل، فمنشأ استيحاش موسى (ع) من قتل الغلام هو عدم اطلاعه على كفر الغلام فلما أخبره أنَّ الغلام كان كافراً وكان سيُرهق أبويه طغياناً وكفراً أذعن، وذلك لعلمه بأنَّ العالم قد تعرَّف على واقع الغلام بإخبار الله عز وجل.
ولو كان الاحتمال الثاني هو المتعيَّن وانَّ المراد من الخشية هو الخوف لكان ذلك أيضاً معبِّراً عن رشد الغلام وكفره، إذ لا معنى للخوف لو لم يكن الغلام كافراً، ووجود بوادر الكفر لا تصحِّح قتله لما ذكرنا من أن ذلك من الظلم المستقبَح.
ولو كان الاحتمال الثالث هو المتعيَّن وكان المراد من الخشية هو الكراهة لكانت الآية أيضاً ظاهرة في كفر الغلام واستحقاقه للقتل بل يكون ظهورها في ذلك أوضح إذ أنها حينئذٍ تكون ظاهرة في أنَّ الغلام كان يرهق أبويه طغياناً وكفراً ونحن نكره ذلك وهو ما دفعنا لقتله.
والمتحصَّل أنَّ الآية المباركة دالة على أنَّ الغلام كان كافراً فكان مستحِّقاً للقتل وذلك درءاً للمفسدة المترتِّبة على وجوده، ويؤكد ذلك أنَّ العملين الآخرين اللذين قام بهما العالم في محضر موسى (ع) كان لغرض درء مفسدة منتظَرة، فلو لم يخرق السفينة لصادرها الملك الذي يأخذ كلَّ سفينة غصباً، ولو أنَّه لم يقوِّم الجدار لضاع كنز اليتيمين.
وأما الجواب عن الأمر الثالث:
فيتضح مما ذكرناه من أنَّ قتل الولد كان عن استحقاق فلا بشاعة في قتله، وأما قوله تعالى من سورة الكهف ﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾(5) فلم يكن تعليلاً وإنما هو تعبير عن أنَّ إرادة المولى اقتضت تعويض الأبوين بولدٍ صالح يكون خيراً لهما من الولد الأول.
المجيب: الشيخ محمد صنقور
………………………… ………………………… ..
1- سورة الكهف آية رقم 80.

2- سورة الكهف آية رقم 74.

3- مجمع البحرين- الشيخ الطريحي- ج3 ص327، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير- أحمد بن محمد بن علي الفيومي- ص452.

4- الصحاح- الجوهري- ج5 ص1997، معجم مقاييس اللغة- أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا- ج4 ص387، تاج العروس- الزبيدي- ج17 ص519، القاموس المحيط- الفيروز آبادي- ج4 ص157، لسان العرب- ابن منظور- ج12 ص439.

5- سورة الكهف آية رقم 81.