ظاهرة المنادمة, الجذور التاريخية في عصر ما قبل الإسلام


وإلى نهاية العصر الأموي- دراسة تحليلية




أ. سهام ميلاد عمار[*],

د. عزم الفاهيمي قمارو الزمان[*]

ملخص البحث:

أن نشأة المنادمة كانت بدايتها عند الفرس والروم ، ونقلت إلينا عن طريق الغساسنة حينما أرادوا أن يقلدوا الفرس والروم في ملكهم، وبدأت علامات هذا الظهور تندرج تحت مسمى النديم والمسامر والجليس، وأخذت تلك المسميات تفترق في المعنى بمجيء الإسلام فالنديم هو للشراب، والجليس هو للعلم، وحرم الإسلام النديم وأبقى على الجليس، ثم جاء عهد الخلفاء الراشدين الذين ساروا على منهاج النبوة في منع النديم والحرص على الجليس، وبمجيء الدولة الأموية بدأت إمارات النديم تظهر شيئاً فشيئاً، بين مد وجزرٍ وتعاقب الخلفاء الأمويين، فتارة نراها في أوجها، وتارة تضعف وتختفي حسب قوة إيمان الخليفة.

Abstract:

The genesis of Almnadmh had its beginning when the Persians and the Romans, and transmitted to us through Ghassanid when they wanted to imitate the Persians and the Romans in theirs, and began signs of this emerge fall under the name of Nadeem and Almsamer and likeness, and I took those Titles diverge in meaning the coming of Islam Valendam is to drink, and likeness is for information purposes, and the campus of Islam Nadim and kept the likeness, and then came the era of the Caliphs who walked on a platform of prophecy in preventing Nadeem and concern for the likeness, and the coming of the Umayyad dynasty began Emirates Nadeem show little by little, between the tide and punish the Umayyad caliphs, Sometimes we see it in its heyday, and sometimes weaken and disappear by faith in the power of the Caliph.
المقدمة:

تناول هذا البحث الحديث عن ظاهرة المنادمة، بدايتها ونشأتها، وحددت الباحثة جذور تلك الظاهرة من خلال الدراسة التاريخية، وأوضحت المفهوم الذي شاع في تلك العصور، وقد بينت الباحثة في هذا الفصل انتقال هذه الظاهرة من الفرس والروم إلى بلاد العرب، وأسباب ذلك الانتقال، وكيف أن العرب في العصر الجاهلي أبقوا على تلك المفاهيم التي رافقت المنادمة، حتى جاء الإسلام وألغى ذلك المفهوم واستبدله بالجليس، وبين الإسلام معنى الجليس، وقسمه إلى صالح وطالح، وأوضحت أحاديث النبي e هذا المعنى واضحاً، وظلت هذه الظاهرة خامدة النار حتى جاء العصر الأموي، وذلك في ثلاث مطالب، لكل عصر مطلب.
المطلب الأول

المنادمة قبل الإسلام

تشير الدراسات إلى أن بدايات ظهور المنادمة كانت عند ملوك الفرس حيث عني الفرس بتقريب الجلساء والندماء فجمعوا حولهم رجالاً عديدين اتخذوهم سمّاراً ومحدثين، منادمين أو مغنين ومضحكين، وقد كانوا يرون ذلك من علامات كمال الملوك، فقد أيقن بهران جور (240-438م) أن ابنه قد أصبح رجلاً عاقلاً مؤهلاً لوراثة الملك من بعده عندما طلب الدّواب والآلات والمطاعم والندماء بعد أن كان قد يئس منه لفساد سيرته واستهتاره واستخفافه بالأمور[1].
واصطحب ملوك الفرس المؤانسين والمحدثين والملهين في حلّهم وترحالهم، وكانت العادة إذا خرج بعضهم لسفر أو نزهة ألا يفارقه خلع للكساء، وأموال للصلات، وسياط للأدب، وقيود للعصاة وسلاح للأعداء، وحماة يكونون من ورائه ومن بين يديه، ومؤنس يفضي إليه بسره، وعالم يسأله عن حوادث أمره[2], واهتم الأكاسرة بندمائهم فأردشير بن بابك يقول: حقيق على كل ملك أن يتفقد وزيره ونديمه، وحاجبه وكاتبه، فإن وزيره قوام الملك، ونديمه بيان معرفته، وكاتبه وكيل معرفته، وحاجبه برهان سياسته[3].
ونظم ملوك الفرس بالطهم تنظيماً دقيقاً فوضعوا الرسوم التي تقيد بها كل من حضر مجالسهم، وكان أردشير أول من رتب الندماء فجعلهم ثلاث طبقات: فكانت الأساورة وأبناء الملوك في الطبقة الأولى، وكان مجلس هذه الطبقة من الملك على عشرة أذرع من الستارة، ثم الطبقة الثانية وكان مجلسها من هذه الطبقة على عشرة أذرع، ورجالها هم بطانة الملك وندمائه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم، ثم الطبقة الثالثة وكان مجلسهم على عشرة أذرع من الثانية، وهم المضحكون وأهل الهزل والبطالة[4].
وحافظ من تلاه من الملوك على هذا الترتيب، ولكن لما جاء بهرام جور قرر مراتب الأشراف وأبناء الملوك وسدنة بيوت النيران والنساك والزهاد وطبقات العلماء بالديانة وأنواع المهن الفلسفية على حالها, وغير طبقات المغنين، فرفع من كان في الطبقة الوسطى إلى العليا، والطبقة الدنيا إلى الوسطى، وغير المراتب على حسب إعجابه بالمطرب له منها، وبذلك أفسد ما رتبه أردشير في طبقات الملهين، وسلك من جاء بعده من الملوك هذا المسلك حتى جاء كسرى أنو شروان فردّ مراتب المغنيين إلى ما كانت عليه أيام أردشير[5], وكان من غير المسموح به للندماء أن ينتقلوا من طبقة إلى أخرى إلا إذا لوحظ في أحدهم ما يؤهله إلى ذلك، وعندها يعرض أمره على الملك بعد اختبار القضاة، فإن رأوه مستحقاً أمر الملك بإلحاقه بغير طبقته[6].
ولم يسمح الملوك لندمائهم أن يتجاوزوا المراتب المخصصة لهم، ويروى أن كسرى جلس للناس يوماً فدخل عليه رجل من خاصته فنحاه وأمر أن يقام من المجلس ويحجب عنه سنة، لأنه تعدى المرتبة التي رسمت له[7], كما أن الملوك إذا غضبوا على أحد ندمائهم أزالوه عن المرتبة التي هو فيها إلى مرتبة أدنى منها.
وقد اتصل بعض العرب من عراء وسواهم بالبلاط البيزنطي، فامرؤ القيس يفخر بمنادمة قيصر الروم قائلاً:
ونادمت قيصر في ملكه فاوجهني وركبت البريدا[8].
كما أن قس بن ساعدة جالس القيصر وحادثه، وهكذا فقد شهدت بلاطات الأمم القريبة من الجزيرة العربية جلساء وندماء عديدين ونستطيع القول إن بعض تقاليدها قد انتقل إلى الجزيرة العربية من خلال وفود العرب التي كانت ترتاد بلاطي الفرس والروم، أو بلاط المناذرة الذين كانوا أتباعا للفرس والغساسنة الذين كانوا أتباعا للروم، حيث كانوا مرتبطين بهم سياسياً وحضارياً، فشهد بلاط الحيرة منادمات يمكن أن تكون صدى لما كان يحدث عند الفرس, وكان جذيمة الأبرش لتيهه وذهابه بنفسه لا ينادم إلا الفرقدين، ولكن لما جاء مالك وعقيل بابن أخته عمرو بن عدي احتكم لهما فطلبا منادمته فنادماه أربعين سنة، يشاركانه شرابه ويحدثانه[9].
وورد في الأخبار أن عمرو بن هند قرب شعراء عديدين، فالمثقب العبدي مدحه ونادمه[10]،كما اتصل به الحارث بن حلزة الذي ألقى معلقته أمامه، كما وفد عليه ونادمه عمرو بن قميئة[11]، وطرفة بن العبد الذي كان يفضله على عمرو بن كلثوم، ويروى انه هجا عمرو بن هند فأرسل إلى عامله في البحرين فقتله[12]، ونادمه عمرو بن كلثوم الذي قتله وقال معلقته التي يتحدث فيها عن فتكه به، وقام ملوك المناذرة بالبحث عن الجلساء والمحدثين فالمنذر كان يستدعي رواة من فارس يسردون عليه سير الملوك وتواريخهم، وهذا ما ساعده على الاطلاع على حياتهم وما رافقها من مجالسات ومنادمات، وشغف المناذرة بمحادثة الرجال ومنادمتهم، وتتحدث حرقة بنت النعمان عن لذة أبيها فتقول: إدمان الشراب، ومحادثة الرجال)[13].
وقد شهد بلاط النعمان بن المنذر وفود رجال العرب، فجالسه خالد بن جعفر بن كلاب ونادمه، كما اضطر إلى منادمة بعض الشجعان ليأمن غاراتهم أمثال سعد بن صخر الأسدي[14].
ويعتبر النابغة الذبياني أشهر الشعراء المتصلين به، وكان يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده[15].
وقرب النعمان علقمة بن عبدة الفحل ونادمه[16]، واتصل به المنخل اليشكري، وتأثر بلاط الغساسنة بالحضارة البيزنطية ولكن جوارهم للمناذرة، تنقل بعض الجلساء والندماء بين البلاطين أسهما في نقل بعض رسوم البلاطين أحدهما إلى الآخر.
المطلب الثاني

المنادمة في عهد الرسول e والخلفاء الراشدين

حلّت المجالسة مكان المنادمة حينما جاء الإسلام، وذلك لأن الإسلام حرّم شرب الخمر، ولم يرد عن النبي e استعمال لفظتي (المنادمة والنديم)، وإنما روي عنه e استعمال لفظتي (المجالسة والجليس)، ويروى عن النبي e أنه قال: (المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل)[17], أبي موسى الأشعري t قال: قال رسول الله e: (مَثَلُ الجليس الصالح وجليس السوء؛ كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافح الكِير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)[18]، وجلساء الرسول e كانوا من الصحابة الأخيار وكان بينهم شعراؤه الأنصاريون الثلاثة، وهم: كعب بن مالك، حسان بن ثابت، عبد الله بن رواحة، الذين تعرضوا لشعراء قريش[19]، ويعتبر حسان شار الرسول الأول، وكان عندما يأمره بالرد على شعراء قريش يقول له: يا حسان، أجب عن رسول الله، ويضيف الرسول e قائلاً: اللهم أيده بروح القدس[20].
وكان الرسول e يحب أن يسمع أهاجيه في قريش، وتعلق الرسول e بأبي بكر الصديق t، ولشدة ارتباطه به قال عليه الصلاة والسلام: لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي[21].
وبعد وفاة الرسول e، وبداية عصر الخلفاء الراشدين، قام خلطاؤهم بدور الجلساء والوزراء، فأبو بكر الصديق t، كان يستشير من الصحابة الذين كانوا يفتون في أيامه، وهمك عمر بن الخطاب، عبد الرحمن بن عوف، زيد بن ثابت،معاذ بن جبل، أبي بن كعب، كما كان يجالسه ويكتب له عثمان بن عفان وزيد بن ثابت[22] .
وكان القراء أصحاب مجالس عمر بن الخطاب ومشورته، وكان يستدعي بعض من يشرح ما يشكل على جلسائه، كما أنه يطلب موعظة رجال الصحابة أمثال أبي ذر الغفاري t[23]، وقد لاحق عمر t الندماء شاربي الخمر، ورفع حدهم إلى ثمانين جلدة[24], وقد اختص علي بن أبي طالب t عبد الله بن العباس رضي الله عنه فكان جليسه ومستشاره.
وهكذا نرى بأن صور المنادمة اختفت بمفهومها الذي شاع في العصر الجاهلي الذي سبق ظهور الإسلام، لأن الإسلام جاء بقيم وتعاليم، حرمت شرب الخمر الذي كان صفة ملازمة للنديم إبان العصور السابقة، فمجالس الرسول e كانت مخصصة لبحث ما يهم الإسلام والمسلمين، وأحاديثه كانت تتناول كل ما يسهم في ترسيخ هذا الدين, وكذلك في عهد الخلفاء الراشدين إذا جلسوا كان حديثهم عن الدين وتعلمه وتعليمه، ونشر تعاليمه.
فبهذا كانت المجالس تختلف عن مجالس الملوك السابقين عرباً وغير عرب، فبعد أن كان الشراب مادة مجالس الملوك وذوي السلطان، أصبحت الأحاديث مادة المجالس في العصر الإسلامي، واختفى الشراب منها، ويمكن أن نضيف أن مجالس العصر الإسلامي التي خلت من تعقيدات بلاط الملوك وأصبحت البساطة هي الصفة المميزة لها، فخضعت لمجموعة الآداب والقيم التي جاء بها الإسلام.
المطلب الثالث

المنادمة في العصر الأموي

وفي هذا العصر رست قواعد الحكم الوراثي، وهذا ما دفعهم إلى محاولة تقليد ملوك الأمم الأخرى، حيث كان مروان بن الحكم يقرب أرطأة بن سهية، وقد دخل عليه لما اجتمع له أمر الخلافة وفرغ من الحروب التي كان متشاغلاً بها، فهنأه وكان خاصاً به فأنشده مادحاً
تشكى قلوصي إلي الوجى تجر السريح وتبلي الخداما
تزور كريمـــــــــــ اً له عنـــــــــــــ ـــدها يد لا تعد وتهدي السلاما
فكساه مروان وأمر له بصلة[25].
كما كان مروان يقرب أبا خالد حكيم بن حزام، الذي دخل عليه يوماً فهلل له صدر المجلس حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم طلب منه مروان أن يحدثه عن غزوة بدر[26]، وارتاد مجلس عبد الملك بن مروان شعراء عديدون، ولكنه اختص منهم الأخطل، الذي كان يدخل عليه ثملاً، حتى أنه أنشده مرة:
إذا ما نديمي علني ثم علني ثلاث زجاجات لهن هدير
دخلت أجر الطرف زهواً كأنني عليك أمير المؤمنين أمير[27].
وعبد الملك الذي أبدى عدم رضاه عن هذه الأبيات، لم يعترض عليها، لأنها قيلت في الخمر وفي النديم، ولكن بسبب قول الأخطل عيك أمير المؤمنين أمير، وهكذا أصبح شعر الخمر الذي يتحدث عن النديم والمنادمات يسمع في مجالس الخليفة، ويعتبر عامر الشعبي الذي حمل إليه على دواب البريد وأجرى له رزقاً شهرياً أشهر جلسائه ومحدثيه، ويروى أن عبد الملك كتب إلى الحجاج، إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه، ولم يكن عندي شيء ألذه إلا مناقلة الأخوان للحديث، وقبلك عامر الشعبي فابعث إليه يحدثني[28]، ولما دخل على عبد الملك وجد الأخطل عنده، وكان لا يعرفه، ودار حوار بين الثلاثة حول أشعر الشعراء، وتداولوا شعراً للقطامي والخنساء، وتمكن عنده الشعبي حتى أصبح أول داخل وآخر خارج، وبقي كذلك سنين وجعله في ألفين من العطاء، ثم بعثه إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب إليه: يا أخي إني قد بعثت إليك الشعبي، فانظر هل رأيت مثله قط؟[29].
ولم يخل بلاط عبد الملك من المضحكين أمثال عطاء[30]، وكذلك لم يخل بلاطه من المغنيين، إذ استمع لغناء ابن مسحج واهتز طرباً لذلك[31]، وكان عبد الملك شغوفاً بالشعر وروايته لكونه ذا ملكة نقدية مكنته أن يصدر أحكاماً على ما يدور في مجلسه منه، وكثيراً ما كان يطلب من جلسائه أن يتخيروا بعض الأبيات المشهورة للمناظرة، وكان يعطي حكمه فيها، ويروى أنه كان في سمره مع أهل بيته وخاصته، فقال لهم: ليقل كل واحد منكم أحسن ما قيل من الشعر، وليفضل من رأى تفضيله، فانشدوا وفضلوا، فقال بعضهم، امرؤ القيس، وقال بعضهم، الأعشى، فلما فرغوا قال: أشعر الناس والله من هؤلاء الذي يقول، وأنشد لمعن بن أوس:
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس له حلم[32].
والمناظرات الشعرية بين الشعراء كانت متعة عبد الملك، وقد كانت سبب ارتباط الشعراء بلاط على نطاق واسع، إذ نلاحظ إن البارزين من شعراء العصر بدأوا يتقربون منه ويتنافسون بين يديه لإظهار قدرتهم الشعرية وتفوقهم، وكان عبد الملك يقف منهم موقف الحكم، وعندما اجتمع جرير مع الفرزق في مجلس عبد الملك، قال الفرزدق: النوار بنت مجاشع طالق إن لم أقل بيتاً لا يستطيع ابن المراغة أن ينقضه أبداً، ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً، فقال عبد الملك ما هو؟ فقال:
فإني أنا الموت الذي هو واقع بنفسك فانظر كيف أنت مزاوله
وما أحـــــــــــد يا ابن الأتان بوائل من الموت إن الموت لا شك نائله
فاطرق جرير قليلاً ثم قال: أم حرزة طالق منه ثلاثاً، إن لم أكن نقضته وزدت عليه، فقال عبد الملك: هات، فقد والله طلق أحدكما لا محالة، فأنشد:
أنا البدر يغشى نور عينيك فالتمس بكفيك يا ابن القين هل أنت نائله
أنا الدهر يفنى الموت والدهر خالد فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله
فقال عبد الملك: فضلك والله يا أبا فراس، وطلق عليك[33].
وشاعت في عصر عبد الملك العطايا الثمينة التي ظهرت في مجالسه حيث كان يضع الجوائز لمن ينشد الشعر ويطربه أو يأتي بالحِكَمِ فيبكيه، ومنها عندما اجتمع في مجلسه جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك وأحضر بين يديه كيساً فيه خمسمائة درهم وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيكم يغلب فله الكيس، ولا أعطى الكيس لجرير لأنه مدح نفسه بشعر أعجب به عبد الملك وقال له خذ الكيس، لعمري إن الموت يأتي على كل شيء[34].
وتبع الوليد بن عبد الملك (86-96ه) إثر أبيه وسار على نهجه في التقريب بين الشعراء والبذل لهم والعطاء، ولكن ساد في زمانه تقريبه لأهل الوعظ والإرشاد، وكان يأنس بمجالسهم وأحاديثهم[35]، أما سليمان بن عبد الملك (96-99ه) فقد أعلن صراحة عن حاجته إلى نديم يجالسه حيث قال: ما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤنة التحفظ فيما بيني وبينه[36]، ولم تشر الروايات إلى أنه اختص بجليس أو نديم بعينه على الرغم مما ذكره ابن خلكان وروى عنه أنه جالس عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير واتخذه نديماً[37]، وقد اتصل به من الشعراء جرير والفرزدق والخطل وكانوا ينشدونه ويسمرون عنده[38]، وقد رعى سليمان المغنيين وشجعهم وأجاز بعضهم، ويروى أنه جمعهم عندما قدم إلى المدينة, وسبق بينهم ببدرة، فاز فيها ابن سريج[39].
وانتقلت الخلافة بعده إلى عمر بن عبد العزيز وتحولت وجهة البلاط إلى العودة إلى ما كان عليه عهد الصحابة من الالتزام وتطبيق شعائر الإسلام، فزالت مسألة المنادمة ورجعت قضية المجالسة الحسنة، ولعل مما تذكره الكتب من ذلك قوله عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان عالماً ثقة صدوقاً من أهل الفقه، قال الخليفة عمر بن عبد العزيز عنه حينما أراد مجالساً له: لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إليّ من الدنيا، وأضاف: والله لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بإلف دينار من بيت الله، فقال جلساؤه: يا أمير المؤمنين تقول هذا مع تحريّك وشدة تحفظك؟ فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف، إن في المحادثة معه تلقيحاً للعقل وترويحاً للقلب وتسريحاً للهم وتنقيحاً للأدب[40]، ثم تسلم الحكم يزيد بن عبد الملك فاختلف البلاط وعادت مظاهر المنادمة وظهرت بقوة، ولعل أهم أسباب هذا التحول هو اتصال حماد الرواية (ت155) بيزيد بن عبد الملك، فهو أول نديم من أصل غير عربي اتصل بالبلاط الأموي، ويمكن اعتباره ممن أسهموا في انجراف البلاط الأموي في تيار العبث في هذه المرحلة من حكم يزيد، وتعتبر هذه المرحلة من آثار المنادمة في الخلفاء، وكان يزيد بن عبد الملك متعلقاً بالمغنيين، ويروى أنه قال لمعبد المغني(ت126)، إني أوثر الطرب على كل شيء[41]، وجاء من بعده خلفه هشام بن عبد الملك الذي أعاد للبلاط هيبته ولم يرض بما فعل سالفه، فلم يدع المنادمين من الدخول إلى مجلسه وألغى الشرب وساد الوقار في بلاطه بعهد حكمه، ولعل البلاط الأموي بين شد وجذب ومد وجزر فكلما تسلم خليفة الحكم أضفى على البالط صبغته التي يصطبغ بها فإن كان من أهل العلم كان مجلسه حافلاً بالعلم والعلماء وإن كان من أهل اللهو والمجون تجد عنده من هم على شاكلته يسمرون عنده وينادمونه، ولعل هذا المد والجزر ظهر جلياً بين فترة حكم عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عيد الملك وكذلك بين هشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي جعل بلاطه عبارة عن لهو وملذات كما كان هو، وافتتح مجلسه عندما تولى الخلافة بعقد جلسة لكل المنادمين عندما علم بموت هشام بن عبد الملك، وصورها بأبيات من الشعر قال فيها:
طاب يومي ولذ شرب السلافة إذ أتى نعي من الرصافة
وأتانا البــــــــــــ ــريد ينعى هشـــــــــاماً وأتانا بخـــــــــــــ ـــــاتم للخلافة
فاصطبحنا من خمر عانة صرفاً ولهونا بقينـــــــــــ ـــــــــــــة عزافة
ولعل الباحثة تشير إلى أن شخصية الوليد تأثرت بشيئين مهمين كان لهما الدور البالغ في تصرفاته وبلاطه وهما:
أولاً: دور مؤدبه عبد الصمد ابن عبد الأعلى[42] في انغماس الوليد في الشراب والمنادمة[43].
ثانياً: اتصاله بحماد الراوية اتصالاً وثيقاً ليس لخليفة سبقه مثل ذلك فكان ينادمه على الطرب والشراب.
ولعل دوافع خفية كانت وراء اتصال حماد الرواية بالوليد بن عبد الملك، حيث أنه كانت له اتصالات أخرى بأشخاص عرفوا بالزندقة في ذلك العهد مما يقودنا إلى القول بأنهم عملوا من خلال الندماء على إضعاف ذلك العهد الذي امتاز بالعلم بغية إسقاط الدولة.
ولعل ميزة أخرى ظهرت في زمن الوليد بن يزيد، وهي أن ما تعارف عليه البلاط هو منادمة الخليفة لجلسائه داخل البلاط، غير أن الوليد نادم ابن عمه محمد بن سليمان بن عبد الملك خارج البالط في الأديرة البعيدة خارج مجلسه وتعد هذه الحادثة جديدة في البالط الذي لم يعهد مثل ذلك سابقاً[44].
وكذلك ظهور الأثر الفارسي في مجالس منادماته[45]، ولعل المد والجزر الذي تحدثنا عنه سابقاً ظهر جلياً بعد تولي مروان بن محمد (127-132ه) الخلافة وحاول أن يعيد إلى مجالس البلاط هيبته، فبرز المحدّثون في مجلسه، وقد أختص منهم الجعد بن درهم، ولقب على إثره الخليفة بالجعدري نسبة له.
وهكذا فإن البلاط في العصر الأموي كان حافلاً بجلساء وندماء من الشعراء والحدثين والوعاظ والمغنين والمضحكين الذين شملهم برعايته، وبهذا كان للبلاط الأموي دور في نمو الحركة الأدبية والفكرية والعلمية.

هوامش البحث:




[*] باحثة بمرحلة الدراسات العليا، بقسم التاريخ والحضارة، الجامعة الوطنية الماليزية.

[*] رئيس قسم الدراسات العربية والحضارة الإسلامية، بالجامعة الوطنية الماليزية


[1]. نشوار المحاضرة ج4 ص284 .

[2] التاج ص72.

[3] انظر عهد أردشير ص103.

[4] التاج ص23-24.

[5] مروج الذهب ج1 246.

[6] المصدر السابق ج1 ص269.

[7] المصدر السابق ج1 ص269- 270.

[8] ديوان امرؤ القيس ص88.

[9] الأغاني ج15 ص213. عيون الأخبار ج1 ص274.

[10] الشعر والشعراء ص147.

[11] الأغاني ج18 ص140.

[12] الموشح 110-111.

[13] العقد الفريد ج6 ص221.

[14] المستطرف في كل مستظرف ج1 ص58-59.

[15] الأغاني ج11 ص29.

[16] تاريخ الأدب العربي ج1 ص96-97.

[17] أخرجه الحاكم في المستدرك, وصححه (المستدرك 4/189).

[18] متفق عليه. (صحيح البخاري 2/741, صحيح مسلم 4/2026).

[19] الأغاني ج4 ص137-138.

[20] فتح الباري في شرح صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب الشعر في المسجد.

[21] المصدر السابق، باب فضائل الصحابة.

[22] الوزراء والكتاب ص15.

[23] أدب الدنيا والدين ص109.

[24] الأحكام السلطانية ص216.

[25] الأغاني ج13 ص31-32.

[26] الأغاني ج4 ص186-187.


[27] ديوان الأخطل ص154.

[28] وفيات الأعيان ج3 ص13-14.

[29] الأغاني ج11 ص22-26.

[30] العقد الفريد ج4 ص31.

[31] الأغاني ج3ص282-284.

[32] زهر الآداب ج2 ص817-818.

[33] ذيل الأمالي ص66-67.

[34] بدائع البدائع ج1 ص16-17.

[35] العقد الفريد ج1 ص70-71.

[36] عيون الأخبار ج1 ص308.

[37] وفيات الأعيان ج2 ص424-425.

[38] العقد الفريد ج5 ص384

[39] الأغاني ج7ص63.

[40] وفيات الأعيان ج3 ص115.

[41] الأغاني ج1 ص68.

[42] الأغاني ج7 ص8-9.

[43] المصدر السابق ج8 ص217.

[44] الأغاني ج7 ص23-24.

[45] الأغاني ج7 ص61.
المصادر والمراجع:
التنوخي, أبو علي المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم داود البصري، نشوار المحاضرة وأخبار الذاكرة،1391 هـ.
الجاحظ, أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي، تحقيق: أحمد زكي باشا،التاج لأخلاق الملوك، المطبعة الأميرية – القاهرة.
الدينوري, أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، عيون الأخبار، دار الكتب العلمية –بيروت.
الدينوري, أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة, الشعر والشعراء،دار الحديث– القاهرة.
المرزباني، أبو عبيد الله بن محمد بن عمران بن موسى،الموشح، بيروت.
ابن عبد ربه, أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم الأندلسي، العقد الفريد، دار الكتب العلمية – بيروت.
أبو الفتح, شهاب الدين محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي، المستطرف في كل مستظرف، عالم الكتب – بيروت.
شوقي ضيف، أحمد شوقي عبد السلام ضيف، تاريخ الأدب العربي، دار المعارف- بيروت.
الماوردي. أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، أدب الدنيا والدين، دار مكتبة الحياة، 1986م

الماوردي. أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الأحكام السلطانية، دار الحديث– القاهرة.