تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 41

الموضوع: الأندلس من الفتح إلى السقوط

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (21) حال المسلمين في الأندلس في آخر الفترة الأولى من عهد الولاة



    بعد موقعة بلاط الشهداء وانسحاب الجيش الإسلامي وعودته إلى الأندلس، قامت للمسلمين قائمة جديدة، فقد قام فيهم عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله، وتولى الولاية من سنة (116هـ) إلى سنة (123هـ)، وكان عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله آخر المجاهدين بحق في فترة عهد الولاة الأول.
    ولقد خير بين إمارة الشمال الإفريقي كله وبين إمارة الأندلس، فاختار إمارة الأندلس؛ لأنها الملاصقة لبلاد النصارى، فهي أرض جهاد، فاختار أرض الأندلس، وقاد المعارك في بلاد فرنسا في خلال سبع سنوات أكثر من سبع حملات، ثم كان ينزل إلى الأسرى بنفسه ويعلمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى بصورة مباشرة.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»، فكيف بألفين من الرجال الذين أسلموا على يد هذا المجاهد عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله؟!
    ثم استشهد في سنة (123هـ)، وباستشهاده انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    (22) حال المسلمين في الأندلس في الفترة الثانية من عهد الولاة


    في الفترة الثانية من عهد الولاة من سنة (123هـ - 138هـ) يبدأ عهد جديد، وبذور هذه الفترة بدأت في موقعة بلاط الشهداء من حب للغنائم، ومن تفضيل للعنصرية والقبلية.

    وفي أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة جداً، والغنائم ضخمة جداً، فقد فتحت الدنيا وكثرت الأموال، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها»، فحين فتحت زهرة الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها تأثر الإيمان، وتبعاً لتأثر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة جداً، وحدثت انقسامات كثيرة في الأندلس، فحدثت انقسامات بين العرب والبربر، وهذه البذور كانت موجودة منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسهم، فحدثت انقسامات بين المضريين والحجازيين، وحدثت انقسامات بين العدنانيين والقحطانيين، فالعدنانيون هم أهل الحجاز، والقحطانيون هم أهل اليمن، فكانت هناك حروب وخلافات وشقاقات كثيرة بين أهل اليمن وبين أهل الحجاز، ثم حدثت انقسامات أخرى بين أهل الحجاز أنفسهم، أي: بين الفهريين والأمويين، وبين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز أنفسهم بعضهم على بعض، وكخطوة لاحقة لأمر حب الدنيا وظهور العصبية ظهر أمر جديد وهو تولي ولاة ظلموا الناس، وألهبوا ظهورهم بالسياط.


    فهذه تداعيات يوصل بعضها إلى بعض، فظهر على سبيل المثال رجل اسمه عبد الملك بن قطن، ملأ الأرض ظلماً وجوراً، فقسم الناس بحسب العنصرية والقبلية، وأذاق الآخرين ألواناً من العذاب، ولم يعط من الغنائم للبربر، ولم يعط لغير المضريين، فانقسم الناس عليه وانقلبوا، وظهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وتولى الحكم من سنة (130 هـ - 138هـ) يعني: آخر ثمان سنوات في عهد الولاة، فانفصل بالكلية عن الخلافة الأموية، وادعى أن الإمارة في الأندلس إمارة مستقلة، وأذاق الناس العذاب ألواناً، فحدثت انكسارات كثيرة جداً، وثورات عديدة في أرض الأندلس، وتفككت إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين ثورة في داخل بلاد الأندلس.


    وسبحان الله! فقد كنت منذ قليل أتحدث عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفرنسا، ثم ها هي العنصرية وها هو ظلم الولاة يسلم الناس إلى هذه الثورات، وكرد فعل طبيعي جداً ترك الناس الجهاد، وتوقفت الفتوحات في فرنسا، وتوقفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، والتي كان فيها مجموعة من النصارى متمركزين منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وهذه قاعدة وسنة من سنن الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا».


    وجاء في حديث أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».
    وهكذا لما ترك المسلمون الجهاد سلط الله عليهم ذلاً، فانقسموا على أنفسهم وانشغلوا بأنفسهم، وتركوا الجهاد في فرنسا، والأندلس.


    وباختصار شديد فإن خلاصة النصف الثاني من عهد الولاة، ونظراً لتفاعل أمور الدنيا والقبلية وظلم الولاة وترك الجهاد كان الوضع في سنة (138هـ) كما يلي: أولاً: فقدان كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة سبتمانيا، والتي فتحت بسرية من سرايا موسى بن نصير أول الفتح.


    ثانياً: ظهور مملكة نصرانية اسمها مملكة ليون في المنطقة الشمالية الغربية عند منطقة الصخرة.


    ثالثاً: ظهور يوسف بن عبد الله الفهري الذي أعلن انفصال الأندلس عن الخلافة العباسية القائمة في ذلك الوقت.


    رابعاً: انقسام الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة وثورات لا نهائية، كل يريد التملك والتقسيم بحسب العنصر والقبيلة.



    خامساً: ظهور فكر الخوارج عن طريق الذين جاءوا من الشام، وانضم إليهم البربر، فالبربر كانوا يعانون من الظلم الشديد من يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ بسبب العنصرية بين العرب والبربر، فاضطروا إلى اتباع هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح، فأجمع المؤرخون نتيجة هذه العوامل جميعاً أن الإسلام بالفعل كاد أن ينتهي من الأندلس، وذلك في عام (138هـ).









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (23) قصة دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس





    مما زاد من خطورة الموقف الحدث الجسيم الذي حدث في الأمة الإسلامية في سنة (132هـ) وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، وكان قيام الخلافة العباسية قياماً دموياً رهيباً، وانشغل العباسيون بحرب الأمويين، وضاعت قضية الأندلس تماماً من الأذهان، وهكذا أصبح أمر الأندلس يحتاج إلى معجزة حتى ينصلح الحال، ومن فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على المسلمين أن حدثت المعجزة بالفعل في ذي الحجة من سنة (138هـ)، والتي منّ الله بها على المسلمين، وهي دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رحمه الله إلى أرض الأندلس.

    لقد دخل إلى أرض الأندلس حين سقوط خلافة بني أمية سنة (132هـ) كما ذكرنا، فقد حدث في ذلك العام قتل لكل مرشحي الخلافة من الأمراء وأبنائهم وأحفادهم من قبل العباسيين إلا قليلاً، ومن هؤلاء القليل عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور، الذي حكم من سنة (105هـ - 125هـ)، كان عمر عبد الرحمن بن معاوية في ذلك الوقت 19 سنة فقط، وكان يعيش في منطقة العراق، وكان لديه أخ صغير يبلغ من العمر (13) سنة، وكان عبد الرحمن بن معاوية وأخوه الوليد بن معاوية مطلوبين للقتل.



    وفي يوم من الأيام يجلس عبد الرحمن بن معاوية في بيته في العراق، فدخل عليه ابنه وكان عمره أربع سنوات، وهو يبكي فزعاً وكان عبد الرحمن بن معاوية في عينه رمد، وكان معتزلاً في غرفة داخل البيت، فأبعد الطفل عنه وأخذ يسكنه فلم يسكن الطفل بما يسكن به الأطفال، ولكنه ظل فزعاً مرعوباً، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد في خارج البيت رايات الدولة العباسية السود تعم القرية جميعاً، فعلم أنه مطلوب، فأخذ معه النقود وأخذ الوليد بن معاوية، وترك النساء والأطفال وكل شيء وراء ظهره؛ لأن العباسيين لم يقتلوا نساء ولا أطفالاً، إنما كانوا يقتلون كل من بلغ وكان مؤهلاً للخلافة، ثم هرب عبد الرحمن بن معاوية وأخوه حتى وصلا إلى نهر الفرات، فوجدوا القوات العباسية تحاصر النهر، فألقيا بأنفسهما في النهر وأخذا يسبحان، فناداهما العباسيون أن ارجعا ولكما الأمان، فـ الوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية كان قد تعب من السباحة في نهر الفرات، فقال له عبد الرحمن بن معاوية: لا تعد يا أخي! أخشى أن يقتلوك، فقال: قد أعطونا الأمان، فعاد إليهم، فأمسك به العباسيون وقتلوه أمام أخيه عبد الرحمن بن معاوية، فعبر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من شدة الحزن، ثم اتجه نحو المغرب إلى بلاد القيروان؛ لأن أخواله كانوا من البربر، فهرب إلى أخواله، وقصة هروبه طويلة جداً، فقد عبر بلاد الحجاز ومصر ثم ليبيا ثم القيروان، ولما وصل إلى القيروان وهو يبلغ من العمر (19) عاماً، وجد هناك ثورة كبيرة جداً للخوارج على رأسها عبد الرحمن بن حبيب في الشمال الإفريقي كله، وقد استقل بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية التي قامت في سنة (132هـ)، وكان عبد الرحمن بن حبيب أيضاً يسعى للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية؛ لأن هناك كراهية شديدة بين الخوارج وبين الأمويين، لأن أصل ظهور الخوارج هو خلاف بين سيدنا علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما؛ لأن علي بن أبي طالب ارتضى أن يحكم كتاب الله سبحانه وتعالى بينه وبين معاوية بن أبي سفيان في موقعة صفين المشهورة، فظهر فكر الخوارج من ساعتها، فهم يكرهون بني أمية بشدة، فبمجرد أن وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه، فهرب من جديد إلى برقة في ليبيا، ومكث هناك أربع سنوات كاملة مختبئاً عند بعض أخواله، حتى سنة (136هـ)، وكان عمره آنذاك (23) سنة، فجلس يفكر: ماذا أعمل؟ هل أظل مختفياً طيلة العمر، أم ظهر من جديد؟ وإن ظهر في أي قطر من أقطار المسلمين فهو مطلوب الرأس، إن ظهر في الشام قتله العباسيون، وإن ظهر في الشمال الإفريقي قتله عبد الرحمن بن حبيب.
    أيظل مختبئاً في مكانه وهو سليل الخلفاء والأمراء؟!


    أيظل مختبئاً في مكانه والأمويون في كل مكان يقتلون ويذبحون إن عرف بمكانهم، أم يحاول أن يقيم للأمويين مجداً من جديد؟!
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (24) أسباب اختيار عبد الرحمن بن معاوية لبلاد الأندلس

    لقد خطر في ذهن عبد الرحمن بن معاوية أن يذهب إلى الأندلس، لأنها أصلح الأماكن لاستقباله وذلك لعدة أسباب:
    أولاً: أن الأندلس أبعد رقعة في بلاد المسلمين عن الدولة العباسية.

    ثانياً: أنه يفصل بين الأندلس وبين العباسيين مضيق جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط، وهي في قارة مختلفة تماماً، فمن الصعب أن يصل إليها العباسيون إلا بعد فترة من الزمان.


    ثالثاً: أن الوضع في الأندلس ملتهب جداً، وقد تحدثنا عنه في الفترة الثانية من عهد الولاة، وهي الفترة التي هرب فيها عبد الرحمن بن معاوية إلى برقة في ليبيا، ففي هذه الفترة كانت ثورات كبيرة جداً في أرض الأندلس، وخلافات كبيرة جداً بين كل القبائل، والناس تكره بشدة يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي يحكم هذه البلاد مستقلاً بها عن الدولة الأموية ثم عن الدولة العباسية بعد قيام الدولة العباسية، ثم ظهرت مملكة ليون في الشمال، وهي أيضاً تحارب المسلمين، ثم ظهر الخوارج في الشمال الإفريقي وهم يحاربون الأندلس، وهكذا أصبحت أرض الأندلس أرضاً ملتهبة تماماً.


    وفي هذا الجو استطاع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد، فلو كانت البلاد تبايع الخلافة العباسية أو الخوارج ما استطاع أن يدخلها.
    إذاً: الأندلس أنسب الأماكن لاستقبال عبد الرحمن بن معاوية على وعورتها.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (25) خطة عبد الرحمن بن معاوية لدخول الأندلس

    بدأ عبد الرحمن بن معاوية يخطط لدخول الأندلس في سنة (136هـ) بما يلي: أولاً: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم في بلاد الأندلس.
    ثانياً: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس عن طريق مولاه بدر.
    والحق أن كثيراً من الناس كانوا يحبون الدولة الأموية منذ عهد ولاية معاوية بن أبي سفيان على الشام في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب، وخلافة عثمان بن عفان وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فقد كان أهل الشام جميعاً، وكان المسلمون في أقطار العالم الإسلامي المختلفة يحبون بني أمية حباً شديداً على مر العصور، فقد اشتهر بنو أمية بالسخاء الشديد، والسياسة والحكمة واكتساب الناس، وحسن معاملتهم والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد وما إلى ذلك من الأمور، فكان لبني أمية في داخل بلاد الأندلس كثير من المريدين والمحبين من القبائل الأخرى المختلفة.
    ثالثاً: في ذكاء شديد راسل البربر يطلب معونتهم ومساعدتهم.
    وقد كان البربر على خلاف كبير جداً مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ لأنه فرق بين العرب والبربر، فالبربر يريدون أن يتخلصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية.
    رابعاً: بدأ يراسل كل الأمويين في الحجاز وفي مصر وفي السودان وفي أماكن كثيرة جداً من الأرض التي هربوا إليها، ويعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول بلاد الأندلس، ويطلب معونتهم ومددهم وهكذا بدأ يجمع الناس ويجمع الأفكار معه لتنفيذ فكرة عجيبة جداً، وهي أن يدخل وهو وحيد بمفرده مستصحباً لعزمه فقط إلى أرض الأندلس، وهذا أمر في منتهى الغرابة جداً، وهذا كان في سنة (136هـ) وكان قد بلغ من العمر (23) عاماً.
    وبالفعل بدأ في تجميع الأعوان حتى سنة (138هـ) أي: أن مدة التجميع استغرقت سنتين.
    وفي سنة (138هـ) يأتي له رسول من عند مولاه بدر من الأندلس يقول له: إن الوضع قد تجهز لاستقبالك هناك في بلاد الأندلس، فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: اسمي غالب التميمي، فاستبشر باسمه فقال: الحمد لله! غلبنا وتم أمرنا.
    وبدأ يعد العدة ويجهز السفينة التي تأخذه منفرداً إلى بلاد الأندلس، فركب السفينة ونزل على ساحل الأندلس بمفرده، فاستقبله مولاه بدر، وانطلق معه إلى قرطبة، وكان يحكم هذه البلاد في هذه الآونة يوسف بن عبد الرحمن الفهري.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (26) موقعة المسارة

    موقعة المسارة بين عبد الرحمن بن معاوية ويوسف بن عبد الرحمن الفهري
    لما دخل عبد الرحمن بن معاوية أخذ في تجميع الناس من حوله من محبي الدولة الأموية من البربر وكثير من القبائل المعارضة لـ يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد جاءه بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة، ومع ذلك لم يكن العدد كافياً يستطيع به أن يغير من الأوضاع، ففكر في اليمنيين؛ لأنهم كانوا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فـ يوسف بن عبد الرحمن الفهري من مضر من الحجاز، وعبد الرحمن بن معاوية أيضاً من مضر من بني أمية، أي: أن كلاهما من الحجاز.


    فبدأ يراسل اليمنيين، فقبلوا أن يتحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية، وكان على رئاسة اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقر الرئيسي لهم إشبيلية، وكانت إشبيلية مدينة كبيرة جداً من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إشبيلية، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، واتفقا على أن يقاتلا سوياً ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وده، ويطلب منه أن يسلِّم له الإمارة؛ لأنه حفيد هشام بن عبد الملك أصل الخلافة الأموية، ويكون رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، ولكن يوسف بن عبد الرحمن الفهري رفض ذلك كلياً، وجمع جيشاً له، وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية، فاجتمع عبد الرحمن بن معاوية مع اليمنيين ومن معه من القبائل المختلفة في حرب يوسف بن عبد الرحمن الفهري وذلك في موقعة كبيرة عرفت في التاريخ باسم موقعة المسارة، وفي لفظ: موقعة المصارة، (بالسين أو بالصاد)، وقد كان هذا في ذي الحجة سنة (138هـ).


    وكان من المؤسف جداً أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات والفتن والانقلابات جعل الحل العسكري والحل بالسيف هو الحل الحتمي في ذلك الوقت.


    دارت موقعة كبيرة بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري ومعه جيش كبير، وجيش عبد الرحمن بن معاوية ويعتمد في الأساس على اليمنيين، فسمع أبو الصباح اليحصبي بعض المقالات من اليمنيين أن عبد الرحمن بن معاوية غريب على البلاد، وهو على فرس أشهب وعظيم، وإن حدثت هزيمة هرب من ساحة القتال وتركنا للفهريين، فبلغ عبد الرحمن بن معاوية هذا الكلام، وكان عمره آنذاك (25) عاماً، فذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي وقال له: إن هذا الجواد سريع الحركة ولا يمكنني من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيني بغلتك فعلت، فأعطى الجواد السريع إليه وأخذ البغلة يقاتل عليها، فقال اليمنيون: هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب، هذا رجل يريد أن يموت في ساحة المعركة، فبقي معه اليمنيون وقاتلوا قتالاً شديداً، ودارت موقعة عظيمة جداً، وانتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية ومن معه، وهزم يوسف بن عبد الرحمن الفهري من أرض المعركة بجيشه الكبير، وفر يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكعادة الناس في ذلك الزمن أن يتابع المنتصرون المنهزمين حتى يقتلوهم ويقضوا على الثورة، فبدأ اليمنيون يجهزون أنفسهم حتى يتتبعوا الجيش الفار، لكن عبد الرحمن بن معاوية يقف لهم ويمنعهم من تتبع الفارين ويقول قولة خالدة: لا تتبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم.
    يقصد أن يستبقوهم للنصارى، فإن الموقعة الرئيسية ستكون مع النصارى، فإن هؤلاء الذين قاتلوننا في يوم من الأيام سيصبحون من جنودنا، وسيصبحون أعواننا على غيرنا من النصارى في ليون وفي فرنسا وما إلى ذلك.


    كان عنده فكر واسع وجديد جداً، ونظرة متسعة تشمل كل بلاد الأندلس، وتشمل كل أوروبا، بل وفي نظري أنه ينوي إعادة بلاد الشام بعد ذلك إلى أملاك الأمويين، وقد امتاز في حربه ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري بما يلي: أولاً: ليس في قلبه غل ولا حقد على من كان حريصاً على قتله منذ دقائق معدودات.

    ثانياً: الفهم العميق للعدو الحقيقي وهم النصارى في الشمال.
    ثالثاً: إذا جاز له شرعاً أن يقاتلهم لتجميع الناس حول راية واحدة، فلا يجوز له شرعاً أن يتتبعهم وأن يقتل الفار منهم، أو يجهز على جريحهم، أو يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام، وليس لهم حكم المشركين، والباغي في الإسلام لا يتتبع الفار منه، ولا يقتل أسيره، ولا يجهز على جريحه، بل ولا تؤخذ منه الغنائم وهكذا، فقد كان عنده فقه وعلم وسعة اطلاع وفهم عميق جداً، وهو لم يبلغ من العمر إلا خمسة وعشرين سنة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (27) موقف العباسيين من الإمارة الأموية بالأندلس

    لن نستفيض في شرح الثورات ضد عبد الرحمن الداخل وماذا حصل في كل ثورة؟
    فالكتب فيها تفصيلات كثيرة، لكن أقف عند ثورة واحدة لأهميتها في فهم هذا الانفصال الذي حصل للأندلس عن الخلافة العباسية، هذه الثورة حدثت في سنة (146هـ)، أي: بعد حوالي ثمان سنوات من استلام عبد الرحمن بن معاوية للحكم في بلاد الأندلس، قام بها رجل اسمه العلاء بن مغيث الحضرمي، أرسله أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية ويضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية، وهذا بالنسبة لـ أبي جعفر المنصور أمر طبيعي، يريد أن يضم بلاد الأندلس؛ لأنها البلاد الوحيدة من بلاد المسلمين التي هي منشقة عن الخلافة العباسية الكبيرة.
    جاء العلاء بن المغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي، وعبر إلى الأندلس، وقام فيها بثورة ينادي بدعوة العباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها الخليفة أبو جعفر المنصور الذي يعتبر الخليفة العباسي الثاني، أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح.

    دارت حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وبين عبد الرحمن بن معاوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي أن العلاء بن المغيث الحضرمي قد قتل، وأن جيشه قد هزم هزيمة منكرة، فقال أبو جعفر المنصور: قتلنا هذا البائس، بتكليفه بحرب عبد الرحمن بن معاوية، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمح، ويقصد به عبد الرحمن بن معاوية، وليس لنا أمل في حربه، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.

    ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر ولا مرة واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمى عبد الرحمن بن معاوية بـ صقر قريش، وقد اشتهر في التاريخ بـ صقر قريش، كان أبو جعفر المنصور جالساً مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له: أنت، فقال: لا.
    فعددوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان وأسماء من بني أمية.
    فقال: لا، بل عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفرداً بنفسه مؤيداً برأيه مستصحباً لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلداً أعجمياً، فجمع الأنصار وجند الأجناد، وأقام ملكاً بحسن تدبيره وشدة عزمه.

    هكذا كان أبو جعفر المنصور معجباً بـ عبد الرحمن بن معاوية، لكنه إعجاب اضطرار، لا بد أن في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين أشياء وأشياء على هذا الانفصال الطويل بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية على مر العصور، لماذا يحارب عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي الزاهد الذي أقام دولة قوية جداً في بلاد الأندلس؟

    ولماذا ينفصل عن الخلافة العباسية؟ والتحليل الصادق هو أن الدولة العباسية هي التي أخطأت خطأ فاحشاً في حق الأمويين بقتلهم، وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، إذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقوا الاستبدال، فليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من المفترض أن تحتوي الدولة العباسية هذه الطاقات الأموية وتوظفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو غيرها من بلاد المسلمين، وكان من المفترض ألا تفرط في قتل المسلمين من بني أمية، وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
    ما المانع أن تقيم الحد على من يستحق أن يقتل من بني أمية، ثم تترك وتستوعب الآخرين؟!

    ما المانع أن تعطي بني أمية بعضاً من الملك، كإمارة مدينة أو إمارة ولاية، فقد كانوا خلفاء وأبناء الخلفاء، حتى يستوعبوهم في داخل الصف؟ انظر إلى عبد الرحمن الداخل في موقعة المسارة وهو يقول للناس: اتركوهم لا تتبعوهم؛ لأنه كان يريد أن يضمهم إلى جيشه بعد ذلك، هكذا كان يجب على العباسيين أن يتركوا الأمويين تحت عباءتهم، حتى يستطيعوا أن يكونوا جنداً لهم، تخيل أن شخصاً مثل عبد الرحمن بن معاوية بهذا الفكر وهذا النضوج وهذا الجهاد يكون عوناً للخلافة العباسية، لكنه أصبح ضد الخلافة العباسية؛ بسبب هذا القتل المفرط من الدولة العباسية في بدء نشأتها.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط


    (28) موقف عبد الرحمن الداخل من الثوار في الأندلس

    ذكرنا فيما سبق كيف دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس، وكيف سيطر على الموقف هناك، وضم إليه جميع القبائل، كذلك سيطر على جميع الثورات، وأقام ملكاً لبني أمية في أرض الأندلس، بعد قصة فرار طويلة من العباسيين، ومن الخوارج في المغرب.

    ما زالت هناك بعض التعليقات على موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله من الثائرين، هل يجوز له أن يحارب الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟


    الجواب
    أن موقفه سليم جداً في حرب الثائرين داخل أرض الأندلس؛ لأن جميع أهل الأندلس قد أجمعوا على أن يكون أميراً للبلاد، ودليل ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عرفجة رضي الله عنه في صحيح مسلم يقول:«من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، فأراد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان»، فلذلك كان موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله صارماً مع من أراد الثورة؛ ليقمع هذه الانقلابات المتكررة في أرض الأندلس في ذلك الزمن، لكن من الإنصاف أن نذكر أنه كان رحمه الله يبدأ دائماً بالصلح، وبالاستمالة إلى السلم، ويكره الحرب إلا إذا كان مضطراً رحمه الله، والثورات التي حدثت في بدء ولاية عبد الرحمن الداخل رحمه الله كان ثمنها غالياً في بداية دخوله، وفي أول أربع سنوات من دخوله من سنة (138) إلى سنة (142) من الهجرة سقطت كل مدن المسلمين في فرنسا، بعد أن حكمت بالإسلام مدة (47) سنة متصلة، منذ أيام موسى بن نصير وحتى هذه اللحظات، فإن من سنن الله الثوابت أنه إذا انشغل المسلمون بأنفسهم كانت الهزيمة أمراً حتمياً.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (29) أعمال عبد الرحمن الداخل في الأندلس بعد قمعه للثورات

    لما دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس وقمع هذه الثورات بدأ يفكر فيما هو بعد ذلك.

    أولاً: اهتم بالأمور الداخلية في أرض الأندلس اهتماماً كبيراً جداً، فبدأ بإنشاء جيش قوي، واعتمد فيه على ما يلي: أولاً: اعتمد على أهل البلاد الملقبين بالمولدين؛ فإن عموم أهل الأندلس كانوا من أهل الأندلس الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وأحبوا عقيدته، فـ عبد الرحمن الداخل لما رأى أن غالب الشعب من أهل الأندلس أنفسهم اعتمد في جيشه عليهم.


    ثانياً: اعتمد في جيشه على كل الفصائل والقبائل الموجودة في أرض الأندلس، وضم إليه كل الفصائل المضرية سواء من بني أمية أو من غير بني أمية، كما ضم إليه كل فصائل البربر، وهم قبائل كثيرة جداً، وكان يضم رءوس القوم حتى يؤثروا في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمانية، مع علمه أن أبا الصباح اليحصبي يدبر له مكيدة، وصبر عليهم صبراً طويلاً حتى تمكن من الأمور تماماً، ثم تخلص منه بعد (11) سنة كاملة من توليه الحكم في البلاد.
    وكان في جيش عبد الرحمن الداخل رحمه الله الصقالبة، وهم أطفال نصارى اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوروبا ورباهم تربية إسلامية عسكرية صحيحة منذ أن اشتراهم، وليس في أفكارهم أي فكر أو اتجاه معين أو دين معين، فرباهم على الإسلام التربية الكاملة الشاملة، من حيث صحة العقيدة وصحة العبادات وصحة الفهم، والجهاد في سبيل الله، لذلك كان هؤلاء عماد الجيش عند عبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده من خلفاء وأمراء بني أمية.
    وصل تعداد الجيش الإسلامي في أواخر عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله إلى مائة ألف فارس غير الرجالة، فهذا جيش ضخم جداً، على الرغم من أنه دخل البلاد وحيداً.


    ثالثاً: اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله اهتماماً كبيراً بالجانب الديني ونشر العلم وتوقير العلماء، واهتم بالقضاء وبالحسبة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم أعماله أنه بنى مسجد قرطبة الكبير، وأنفق على بنائه ثمانين ألفاً من الدنانير الذهبية، وتنافس الخلفاء من بعده في زيادة حجمه حتى اكتمل بناؤه على مدى عهد ثمانية من خلفاء بني أمية.

    رابعاً: اهتم كثيراً بالإنشاء والتعمير وبناء الحصون والقلاع والقناطر، وربط أول الأندلس بآخرها؛ وأنشأ أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس، وأنشأ الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وأنشأها على غرار الرصافة التي كانت موجودة في الشام، والتي أنشأها جده هشام بن عبد الملك رحمه الله، وأتى لها بالثمار العجيبة من كل بلاد العالم، فإن نجحت زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في بلاد الأندلس جميعاً.

    خامساً: كان عبد الرحمن الداخل رحمه الله يعلم أن الخطر الحقيقي من قبل دولة ليون في الشمال الغربي من بلاد الأندلس، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فبدأ هذا الرجل العجيب في تنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشاً ثابتة في هذه الثغور الملاقية لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأعلى، وهو ثغر سرقسطة في الشمال الشرقي مواجهاً لفرنسا، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأوسط، ويشمل مدينة سالم ويمتد حتى طليطلة، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأدنى، وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
    وكانت له عادة عظيمة جداً تعلمها من أجداده وآبائه في بلاد الشام، وهي عادة الجهاد المستمر بصورة منتظمة ودائمة في كل عام، حيث كانوا يجاهدون في الصيف حين يذوب الجليد، وكانت الجيوش تسمى الصوائف، كانت تخرج إلى الشمال كل عام لهدف الإرباك الدائم للعدو، وهذا ما يسمونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.
    وقد جعل الصوائف أمراً ثابتاً يتناوب عليه كبار قواد الجيش كل عام.


    سادساً: كان رحمه الله كبير الاهتمام بالجيش، فقد كان يقسم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يعطيه بكامله للجيش، والقسم الثاني: لأمور الدولة العامة، من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع وغير ذلك، والقسم الثالث: يدخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.
    اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله أيضاً بإنشاء دور الأسلحة؛ فأنشأ مصانع للسيوف، وللمنجنيق، وأشهرها مصانع طليطلة وبرديل.

    سابعاً: اهتم أيضاً رحمه الله بإنشاء أسطول بحري قوي، وإنشاء أكثر من ميناء، وفي عهده تم إنشاء ميناء طرطوشة وألمارية وإشبيلية وبرشلونة وغيرها من الموانئ.
    يقول المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (30) صفات عبد الرحمن الداخل ورجاحة عقله

    ذكر ابن حيان الأندلسي في وصف عبد الرحمن الداخل قال: كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغاً مفوهاً، شاعراً محسناً، سمحاً سخياً، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمعة والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، فهو مثال رائع للقائد المسلم، فإنه مع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه رحمه الله.
    وهذه حياة المؤمنين الصادقين؛ فأعمال الخير دائماً أكثر من الأوقات، وقد يتعجب المرء أحياناً لما يجد شباباً في سن عبد الرحمن الداخل أو رجالاً أكبر من عبد الرحمن الداخل يقضون الساعات الطويلة أمام شاشات التلفاز وفي المقاهي والنوادي في غير مصلحة لا له ولا للمسلمين، وأتعجب أين وقت التعلم والتفكر في الدين والدنيا؟ أين وقت الصلاة والقيام والذكر والقرآن؟ أين وقت عيادة المرضى وشهود الجنائز وصلة الأرحام وبر الوالدين؟ أين وقت خدمة الناس والقيام على مصالحهم؟ أين وقت تتبع أخبار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟

    فـ عبد الرحمن الداخل كانت همومه عظيمة، ومع ذلك كان يقوم بكل هذا، ولو وكل أحداً ما لامه أحد، وكان مع شدته وحزمه وجهاده وقوته شاعراً محسناً رقيقاً مرهف المشاعر، ومع كونه ذا هيبة عظيمة عند أوليائه وأعدائه، فإنه يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه قليل الطمأنينة، وشديد الحذر لا يمنعه ذلك من الاختلاط بالناس، ومن السير في وسطهم دون حراس يعزلونه عن الشعوب، وكيف يمتنع من شعبه وهو المحبوب بينهم المقرب إلى قلوبهم؟ حتى خاطبه مقربوه في ذلك، وأشاروا عليه ألا يخرج وسط الناس كثيراً حتى لا يتبسطوا معه، لكنه تذكر عمر بن الخطاب حينما قال فيه القائل: حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر انظر إلى همته وقد أتى مطارداً مشرداً مطلوب الرأس تجري وراءه قوى الأرض جميعاً من عباسيين في المشرق وخوارج في المغرب، ونصارى في الشمال وثورات في الداخل، فإذا به يؤسس هذا البنيات القوي المتين، وهذه الدولة العظيمة ذات المجد التليد.
    وكان رحمه الله يحافظ على شعور الناس جميعاً، يحكى أنه طلب منه أحد الناس أمراً أمام الناس، فقضاه له، ثم قال له: وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كيما نستر عليك؛ وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية.
    فكان يربي الناس على أن يرفعوا حاجتهم في البداية لرب العالمين سبحانه وتعالى، ويربيهم أن الله سبحانه وتعالى يملكهم جميعاً.
    وكان يأمرهم بأن ترفع الحاجة إليه في رقعة، حتى يستر عليه حاجته، ولا يشمت فيه أعداؤه.

    دخل عليه أحد الجنود في يوم انتصارهم على النصارى، فتحدث معه الجندي بأسلوب فيه إساءة أدب وفيه رفع صوت، فأخذ عبد الرحمن الداخل يعلمه، فقال له: يا هذا! إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه، عليك بالسكينة والوقار، فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر، فأغضب عليك، فإذا بالجندي يرد عليه رداً في منتهى الذكاء؛ فيقول له: أيها الأمير! عسى الله أن يجعل عند كل زلة مني نصراً لك فتغفر لي زلاتي، فقال الأمير عبد الرحمن الداخل رحمه الله: هذا ليس اعتذار جاهل، وقربه إليه ورفع من شأنه.
    فقد ألغى الضغينة تماماً من قلبه، واستفاد منه لما رأى من ذكائه وقدرته على التصرف في مثل هذه الأمور.

    وظل فترة طويلة يختبر أبناءه، أيهم يصلح للإمارة الابن الأكبر سليمان أم الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل، وبعد اختبارات كثيرة واستشارات واستخارات استقر رأيه على الابن الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل فولاه العهد مع كونه أصغر من أخيه، حيث كان هشام يشبه بـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في علمه وعمله وتقواه.

    وظل عبد الرحمن الداخل يحكم البلاد من سنة (138) هجرية إلى سنة (172) هجرية، أي: أنه حكم قرابة (34) عاماً.
    كانت بداية تأسيس ما يسمى بعهد الإمارة الأموية في بلاد الأندلس، والتي استمرت من سنة (138) هجرية إلى سنة (316) هجرية، وهذه الفترة تقسم إلى ثلاث فترات رئيسية: الفترة الأولى: فترة قوة ومجد وحضارة وعز وهيمنة على ما حولها من المناطق، واستمرت مائة عام أي: من سنة 138 إلى (238) هجرية.

    الفترة الثانية: فترة ضعف، واستمرت (62) سنة، أي: من سنة (238) إلى سنة (300).
    الفترة الأخيرة: وهي من سنة (300) إلى ما بعدها، وسنتحدث عنها بعد ذلك

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (31) الفترة الممتدة من ولاية عبد الرحمن الداخل إلى آخر ولاية حفيده الحكم

    بدأ عهد القوة من سنة (138) إلى سنة (238) للهجرة، بدأ هذا العهد بإمارة عبد الرحمن الداخل رحمه الله، ثم خلفه من بعده ثلاثة أمراء.
    الأمير الأول: هشام بن عبد الرحمن الداخل؛ والذي حكم من سنة (172) إلى (180) هجرية، وكان رحمه الله عالماً محباً للعلم، أحاط نفسه رحمه الله بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس؛ لأنه نشر اللغة العربية بمجهود وافر وعظيم، حتى أصبحت اللغة العربية تدرس في معاهد اليهود والنصارى في داخل أرض الأندلس؛ ونشر المذهب المالكي بدلاً من مذهب الأوزاعي، وكانت له صولات وجولات كثيرة جداً مع ممالك النصارى الشمالية.

    الأمير الثاني: الحكم بن هشام فإنه تولى الإمارة من بعد والده هشام بن عبد الرحمن الداخل من سنة (180) إلى سنة (206)، لكنه لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جده، كان قاسياً جداً؛ فقد فرض الكثير من الضرائب، واهتم بالشعر، وبالصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ وكان يحرق بيوت الثائرين، ويطردهم إلى خارج البلاد، ومن أشهر الثورات التي قمعها: ثورة قوم يسمون بالربض، والربض منطقة في جوار قرطبة، ثار أهلها ثورة كبيرة على الحكم بن هشام فأحرق ديارهم وطردهم خارج البلاد، ومن تدبير الله سبحانه وتعالى؛ أنه لما طردهم إلى خارج البلاد، انتقلوا بسفنهم إلى جزيرة كريت في البحر الأبيض المتوسط، فأسسوا فيها مملكة إسلامية ظلت قائمة مائة سنة متصلة، لكنه مع كل هذه الأمور لم يوقف حركة الجهاد في الشمال؛ لأن الجهاد كان عادة عند الإمارة الأموية، سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، فقد كانت له انتصارات وعليه هزائم، وكنتيجة طبيعية تماماً لهذا الظلم الذي كان من قبل الحكم بن هشام، فإن العلاقة ساءت بين الحاكم والمحكوم، سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ كبرشلونة، وأصبحت إمارة نصرانية صغيرة جداً في الشمال الشرقي، وعرفت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا، بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد، لكن من فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على الحكم بن هشام أنه في آخر عهده تاب وأناب واستغفر، واعتذر للناس عن ذنوبه، واختار من أبنائه أصلحهم وإن لم يكن الأكبر ليكون ولياً لعهده، ومن حسن خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهو في كامل قوته وبأسه، وظل عامين على هذه التوبة قبل أن يموت.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (32) ولاية عبد الرحمن الأوسط

    تولى من بعد الحكم بن هشام ابنه عبد الرحمن الثاني المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط، فإن عندنا الأول هو عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وهذا هو الثاني، والثالث هو المعروف في التاريخ بـ عبد الرحمن الناصر، حكم عبد الرحمن الأوسط بن الحكم من سنة (206) إلى سنة (238) من الهجرة، أي: استمر حكمه إلى آخر عهد القوة في عهد الإمارة الأموية، وكانت فترة حكم عبد الرحمن الأوسط فترة جيدة جداً في تاريخ الأندلس؛ فقد استأنف الجهاد من جديد ضد النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدة، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، ومحباً للناس رحمه الله.

    فقد تحققت في حياته ثلاثة أمور:

    الأمر الأول: ازدهار الحضارة العلمية في بلاد الأندلس؛ فقد انتشر العلماء في كل مجال، وكان أشهر هؤلاء العلماء عباس بن فرناس رحمه الله الذي يعتبر أول من حاول الطيران في العالم، وسبحان الله! فإنه صار ضحية هذه المحاولة، وقد كانت له اختراعات كثيرة؛ فقد اخترع آلة لتحديد الوقت، واخترع آلة تشبه قلم الحبر، ونحن قد نستصغر مثل هذا الاختراع، لكن كانت له أهمية كبيرة جداً في ذلك الزمن؛ أما هذا الزمن الذي انتشر فيه العلم والتعليم، فإن الجميع يحتاجون إلى مثل هذا الذي ينسخ لهم بسرعة مثل القلم الحبر، وهو أول من اخترع الزجاج من الحجارة.

    واستقدم عبد الرحمن الأوسط العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي، حتى استقدمهم من بغداد، وجاءوا إلى بلاد الأندلس وعظمهم وكبرهم، ورفع من قيمتهم، وأسس في سنوات مكتبة قرطبة العظمية، وشاع التعليم في كل بلاد الأندلس.


    الأمر الثاني: اهتمامه الشديد بالحضارة العمرانية والاقتصادية، فقد ازدهرت التجارة في عهده جداً وكثرت الأموال، حتى إن جميع المؤرخين يذكرون أنه لم يكن هناك في الأندلس عادة التسول، فقد كانت عادة التسول منتشرة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى، أما في الأندلس فلم تعرف أصلاً هذه العادة لكثرة الأموال.


    وتقدمت وسائل الري في عهد عبد الرحمن الأوسط بشكل رائع، وتم رصف الشوارع، في هذا العمق القديم في التاريخ، وكانت أوروبا في جهل وظلام عميق، فأقام عبد الرحمن الأوسط القصور المختلفة والحدائق الغناء، ووسع في المعمار حتى أصبحت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهد عبد الرحمن الثاني رحمه الله.


    الأمر الثالث: هو ما يسمى بغزوات الفايكنج أو غزوات النورمن، وهم أهل إسكندنافيا في ذلك الوقت، وهذه بلاد تضم الدنمارك والنرويج وفنلندا والسويد، فقد كانت تعيش في همجية مطلقة، وكانوا يعيشون على حرب العصابات؛ وفعلت ما يسمى بغزوات الفايكنج، وهي غزوات إغارة على بلاد العالم في أماكن مختلفة متفرقة، ليس لها هم إلا جمع المال وهدم الديار وما إلى ذلك، فهجمت على أشبيلية في سنة (230) من الهجرة؛ في عهد عبد الرحمن الثاني وكان قوام الجيش الإسكندنافي في هذه الموقعة (54) سفينة؛ فدخلوا إشبيلية، فأفسدوا فيها فساداً كبيراً، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامة، كل الجيوش المادية تدخل أي بلاد فتفسد فيها إفساداً عظيماً، وشتان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم؛ فقد دخل هؤلاء فدمروا إشبيلية تماماً، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراض نسائها، وهكذا في غيرها من البلاد؛ كشذونة وألمارية ومرسية، حتى أشاعوا الرعب فيها.
    فجهز عبد الرحمن الثاني رحمه الله جيوشه، ودارت بينه وبينهم معارك ضارية استمرت أكثر من مائة يوم كاملة، ومنّ الله على المسلمين بالنصر، وغرقت (23) سفينة كاملة للفايكنج، وعادوا إلى بلادهم خائبين.
    فقد استفاد من الأخطاء التي كانت سبباً في دخول الفايكنج إلى هذه البلاد، فكان رد فعله لهذا الحدث الكبير ما يلي: أولاً: أنشأ سوراً ضخماً جداً حول أشبيلية، وأشبيلية تقع على نهر الوادي الكبير، ونهر الوادي الكبير يصب في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جداً أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من السفن من المحيط الأطلنطي إلى أشبيلية، لذلك حصنها تحصيناً ظلت بعده من أحفظ حصون الأندلس بصفة عامة.
    ثانياً: أنشأ أسطولين قويين جداً، فجعل أحدهما في الأطلسي، والآخر في البحر الأبيض المتوسط، حتى يدافع عن سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار؛ حتى تصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا، وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية، والذي فتحها للمرة الأولى هو موسى بن نصير رحمه الله؛ وكان ذلك قبل فتح بلاد الأندلس في سنة (91) من الهجرة، ثم سقطت جزر البليار في يد النصارى في عهد الوالي الثاني الحكم بن هشام لما انحدر حال المسلمين هناك، ثم أعاد من جديد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله فتح جزر البليار في سنة (234) من الهجرة،

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (33) أسباب ضعف الدولة الأموية في الأندلس
    انفتاح الدنيا على المسلمين في الأندلس
    أولاً: انفتاح الدنيا على المسلمين وكثرة الأموال في آخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد زادت الأموال بشدة وازدهرت التجارة، ولم يوجد هناك في البلاد فقير، وفتن الناس بالمال.

    وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»،
    فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المؤمنين من هذه الفتنة؛ كان يقول صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال»،

    وكان يقلل صلى الله عليه وسلم كثيراً من قيمة الدنيا؛ كان يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (34) ظهور نجم زرياب

    ظهور "نجم زرياب" وما صاحبه من ترف وحب للملاهي في المجتمع الأندلسي
    ثانياً: السبب الثاني لضعف الإمارة الأموية في الفترة الثانية: هو زرياب، مطرب من مطربي بغداد، تربى في بيت الخلفاء في بغداد، وكان يغني لهم، وكان معلمه هو إبراهيم الموصلي، وهو كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت، ومع مرور الوقت لمع نجم زرياب هناك في بغداد، فغار منه إبراهيم الموصلي فدبر له مكيدة، فطرد من البلاد، فخرج من بغداد متجهاً صوب المغرب، حتى وجد ضالته في الأندلس؛ أرض غنية جداً، فيها أموال كثيرة، وقصور، وحدائق، هذه البلاد هي التي تستقبل المطربين في ذلك الزمن، مع أن الأندلس إلى هذه الفترة لم يكن فيها غناء.


    فلما وصل زرياب أرض الأندلس استقبلوه وعظموه وأكرموه، وأدخلوه على الخلفاء، وفي بيوت عامة، ونواديهم؛ فأخذ يغني للناس، ويعلمهم ما قد تعلمه هناك في بغداد، ولم يكتف زرياب بتعليمهم الغناء، وتكوين ما يسمى بالموشحات الأندلسية المشهورة، لكنه بدأ يعلمهم فنون الموضة؛ فقال للناس: هناك لبس خاص بالصيف، ولبس خاص بالشتاء، ولبس خاص بالربيع، ولبس خاص بالخريف، ولبس خاص بالمناسبات العامة، كما هو الحال في أرض بغداد، ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، فأخذوا يتعلمون من زرياب، وأخذ يعلمهم فنون الطعام، كل يوم أكلة جديدة، وصنف جديد وهكذا تعلم الناس ألواناً كثيرة من الطعام، ثم أخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء، وحكايات الأساطير والروايات وما إلى ذلك، حتى تعلق الناس به بشدة، وتعلق الناس بالغناء، وكثر المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الرجال، ثم انتقل إلى غيرهم وهكذا.


    في هذا الوقت الذي دخل فيه زرياب إلى أرض الأندلس، كان في عهد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، الذي اهتم بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه للأسف ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور؛ مع أن النهضة العلمية كانت موجودة وكان العلماء كثيرين، إلا أن كلام زرياب صرف الناس عن سماع العلماء إلى سماع زرياب، وصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصص السلف الصالح إلى سماع حكايات زرياب العجيبة وأساطيره الغريبة، بل صرف الناس عن سماع القرآن إلى سماع أغانيه، وهذا ليس عجيباً وليس جديداً، فإنه لما ظهرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هناك رجل اسمه النضر بن الحارث، وكان من رءوس الكفر في مكة، ولما رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس بالقرآن فيتأثرون ويبكون ويؤمنون بهذا الدين، ذهب إلى بلاد فارس؛ وقطع أميالاً كثيرة، وقضى هناك فترة طويلة؛ ليتعلم هناك حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلم الأساطير التاريخية، واشترى مغنيتين وعاد إلى بلاد مكة، فإذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له المغنيتين تغنيان له مما عرفه في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار حتى تلهياه عن هذا الدين، وهكذا ظل يفعل كحرب مضادة للدعوة الإسلامية في بلاد مكة، فأنزل الله فيه قرآناً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [لقمان:6]، ويقسم عبد الله بن مسعود رحمه الله أنها ما نزلت إلا في الغناء.

    فالشيطان لا ينام ولا يهدأ، حتى في وجود هذه النهضة العلمية، قال تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وكلما زاد الاهتمام بالدين كلما نشط الشيطان؛ عن طريق زرياب ومن سار على نهج زرياب إلى يومنا هذا، ونحن ننظر في رمضان كلما ارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وكلما تعلقت قلوبهم بالمساجد زاد الشيطان في أثره وفي مفعوله، فيضع الناس على طريق غير التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهم.

    فلو أخذنا عينة عشوائية من الناس وسألناهم إن كانوا يحفظون من الأغاني أكثر أم القرآن، أو يحفظون قصص الأفلام والمسلسلات أكثر أم قصص الأنبياء والصحابة والفتوح الإسلامية وما إلى ذلك؟ فالأمر خطير جد خطير.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (35) ظهور شخصيات تحارب الإسلام

    ظهور شخصيات تحارب الإسلام
    السبب الثالث: سبب متكرر في التاريخ وهو عمر بن حفصون الأندلسي شبيه جون قرنق، ولا أظن أنكم لا تعرفون جون قرنق! عمر بن حفصون هذا هو رجل من المولدين، أي: من أهل الأندلس الأصليين، ونحن عندما نلاحظ في الأسماء، ونجد في آخر الاسم واو ونون، نعرف أن هذا الرجل أندلسي من أهل الأندلس الأصليين؛ كانوا يضيفون واو ونون في آخر الكلمة؛ نحو: حفصون، سعدون، زيدون وما إلى ذلك، أو يضيفون واو وسين بدل واو ونون، نحو: عمروس أو ما إلى ذلك.


    فـ عمر بن حفصون كان رجلاً قاطع طريق من أهل الأندلس الأصليين، وكانت له عصابة كبيرة نسبياً، فقد كان معه أربعون من الرجال، واشتد خطره لما بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله، وزاد حجمه جداً وبدأ يثور في منطقة الجنوب، والناس في هذه المنطقة كانت ترهبه بشدة، فأخذ يجمع حوله الأنصار، فزاد في الحجم جداً حتى سيطر على كل جنوب الأندلس، فقد كان مسلماً من أرض الأندلس، ولكي يؤيد قوته في آخر عهده عمل شيئاً لن يتكرر في تاريخ الأندلس إلا قليلاً؛ فقد تحول من الإسلام إلى النصرانية سنة (286) من الهجرة، أي: بعد حوالي (22) سنة من ثورته مسلماً انقلب إلى نصراني، وسمى نفسه صمويل، وبدأ يستعين ببلاد النصارى في الشمال، وسبب هذا الانقلاب كأنه يريد أن يأخذ التأييد من مملكة ليون الشمالية، فانقلب على عقبيه وأصبح نصرانياً، فتركه بعض المسلمين، لكن نال من تأييد مملكة ليون، وتزامن مع هذا الموقف توقف الجهاد في ممالك النصارى، فبدأت مملكة ليون تتجرأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال، وعمر بن حفصون أو صمويل من الجنوب، وهذا ما تفعله أمريكا واليهود الآن مع جون قرنق المتمرد في جنوب السودان، فإن هدفهم واضح جداً، وهو أنهم يمدون جون قرنق بالسلاح والخطط والخرائط والأغذية والأموال والمؤن وما إلى ذلك، وكل هذا يهدف إلى ضرب السودان من الداخل، من أجل أن تنشغل بنفسها فتضعف القوة التي في داخلها، ثم يوقفون المد الإسلامي من بلاد السودان إلى بلاد وسط إفريقيا.


    هذه خطة قديمة كما ذكرنا، فقد حدثت في بلاد الأندلس مع عمر بن حفصون ورغبوه في الانقلاب إلى النصرانية، فتحول إلى صمويل ليضرب الأندلس من الداخل، وحدثت من قبل ذلك بكثير في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما راسلت قريش عبد الله بن أبي ابن سلول في المدينة المنورة، وشجعته كثيراً على أن يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطرده من بلاده وما إلى ذلك.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    الفترة الثانية في الدولة الأموية في الأندلس وأسباب ضعفها

    بوفاة عبد الرحمن الأوسط رحمه الله بدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو عهد الضعف في الإمارة الأموية، من سنة (238) إلى سنة (300) من الهجرة، أي: حوالي (62) سنة، تولى من بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط ثم اثنين من أولاده: المنذر ثم عبد الله، لكن الإنسان في الحقيقة يتعجب كثيراً، كيف بعد هذه القوة العظيمة والبأس الشديد والهيمنة على أرض الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وهذا السقوط وهذا الانحدار؟! إنه ليس من سنن الله أن تسقط الأمم فجأة، إن الأمر يكون متدرجاً على فترات طويلة، ففي العهد الثاني للولاة حصلت الثورات والمكائد والتي بدأت بوفاة عبد الرحمن الأوسط؛ والسبب وراء ضعف الولاة كان فيما يلي: أولاً: انفتاح الدنيا وكثرة الغنائم، ثانياً: القبلية والقومية، ثالثاً: ظلم الولاة، رابعاً: ترك الجهاد، لكن كل هذا كانت له بذور في أواخر عهد القوة من عهد الولاة، بدأت هذه البذور أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء.
    ولكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن ندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف والأمراض التي أدت إلى هلكة أو ضعف الدولة الأموية في عهد الإمارة الثاني فبعد هذا الضعف الشديد، وهذه العوامل المتفاعلة، وهذه الفترة الطويلة نسبياً؛ (62) سنة من الضعف، نحلل الوضع في بلاد الأندلس في سنة (300)، أي: زمن انتهاء عهد الضعف أو أواخر عهد الضعف في بلاد الأندلس، فيما يلي: أولاً: وجود ثورات لا حصر لها في الأندلس؛ بل واستقلالات في كثير من المناطق، وأشهر هذه الاستقلالات استقلال صمويل أو عمر بن حفصون بجنوب الأندلس، حيث كون ما يشبه الدويلة في هذه الرقعة من بلاد الأندلس، وضم إليه الكثير من الحصون، حتى ضم إليه كل حصون إستجّة وجيان، التي كانت من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وصارت غرناطة في حوزة عمر بن حفصون، واتخذ له عاصمة سماها ببشتر في الجنوب بجوار ألمارية على ساحل البحر الأبيض المتوسط.


    ثانياً: الثورة الثانية الكبيرة في أشبيلية أثارها رجل اسمه ابن حجاج، وهذه الثورة كانت تمد وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قرطبة.
    ثالثاً: ثورة في شرق الأندلس في منطقة بلنسية.
    رابعاً: ثورة في منطقة سراقسطة في الشمال الشرقي، أدت إلى استقلال إمارة سراقسطة عن الإمارة الأموية في قرطبة، وثورة في غرب الأندلس يقودها رجل اسمه عبد الرحمن الزليقي، وثورة في طليطلة وهكذا.
    وكل هذه الثورات أدت إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية لا تسيطر في كل بلاد الأندلس إلا على مدينة قرطبة وما حولها من بعض القرى، وهكذا انفرط العقد تماماً في سنة 300 من الهجرة، وتوزعت البلاد بين كثير من القواد، كل يحارب الآخر، وكل يبغي ملكاً ومالاً ودنيا.


    خامساً: أنه في الشمال تكونت مملكة نصرانية ثالثة بالإضافة إلى مملكة ليون التي تكونت لما ضعف المسلمون في عهد الولاة الثاني، وكانت نواتها هي منطقة الصخرة التي لم تفتح لـ موسى بن نصير ومن معه في بدء الفتح، كانت مملكة ليون في الشمال الغربي من البلاد، وتكونت مملكة صغيرة اسمها مملكة أراجون في عهد الحكم بن هشام الذي تميز بالظلم فحدثت له هزائم، وكانت مملكة أراجون في الشمال الشرقي للبلاد، وعاصمتها برشلونة.


    وتكونت إمارة ثالثة انفصلت عن مملكة ليون وهي: إمارة نافار، وفي بعض الكتب العربية تكتب نبارة، وهي الآن ما يعرف في أسبانيا بإقليم الباسك الذي فيه خلافات كثيرة، ومحاولة الانشقاق عن أسبانيا الآن.
    هذه الثلاث الممالك النصرانية اجترأت كثيراً على البلاد الإسلامية، فقد كانت تخاف المسلمين في عهد الإمارة الأموية الأول، أما بعد ذلك فقد بدأت تهاجم شمال الأندلس، وبدأت تسيطر على بعض البلاد الإسلامية، بل وبدأت تقتل من المسلمين المدنيين في هذه المدن الشمالية في بلاد الأندلس.


    سادساً: أن ولي العهد للأمير الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قد قتل؛ واسم الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، واسم ولي العهد المقتول هو محمد بن عبد الله قتله أخوه المطرف بن عبد الله، فعندما يتفرق المسلمون وينشغلون بدنياهم، وبالأغاني والطرب، وبأنفسهم هكذا تكون العاقبة، فقد قتل ولي العهد، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة؛ ثورات في الداخل، وحكومات نصرانية في الشمال تهجم على المسلمين، وليس للبلاد ولي عهد، وزاد الأمور خطورة بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب كانت من أشد الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة الفاطمية أو المسماة بالدولة العبيدية؛ التي ظهرت في سنة (296) من الهجرة، يعني: قبل سنة (300) بأربع سنوات فقط، ظهرت هذه الدولة في بلاد المغرب العربي وكانت دولة شيعية خبيثة جداً.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (37) الخلافة الأموية
    الرد على من يقول: إن أمر الدولة الأموية بالجهاد كان تجنباً للثورات والانقلابات الداخلية:

    نفتح سوياً صفحة جديدة في هذا التاريخ الطويل، وقبل أن ندخل في هذه الحلقة فإن بعض الإخوة اشتكوا من كثرة المعلومات في الدروس السابقة، وتلاحق الأسماء والتواريخ، فهذه دراسة لثمانمائة سنة من تاريخ الأمة الإسلامية، والحق أنك تحتاج إلى سماع الحلقة أكثر من مرة لاستنباط الدروس، وقد لا نقف أحياناً على بعض الدروس في بعض المواقف، ويترك للأفراد الاستفادة منها بقدر حاجتهم، فعلى سبيل المثال: صفات عبد الرحمن الداخل؛ فلو جلست مع نفسك أياماً ما استطعت أن تكفيه حقه، ولا أن تدرس صفاته دراسة كافية وافية.


    فبعض الأسئلة جاءت بخصوص الحلقات السابقة.
    فمنها هذا السؤال وهو: ما زال يعتقد أن الصوائف -وهي خروج الدولة الأموية للجهاد في سبيل الله كل صيف، كانت سواء في فترة الشام أو في فترة حكمهم لبلاد الأندلس، لم تكن إلا لإخراج الشباب من البلاد إلى الثغور وذلك لإفراغ الشحنات، وبذلك يتجنبون الثورات والانقلابات والتمرد في داخل البلاد، فهل هذا حقيقي وصحيح؟ أولاً: الرد على هذا السؤال هو أنني حزنت حزناً شديداً، أن أرى هذا الفهم لفتوحات الدولة الأموية الكثيرة، بأن يقلب كل حسن إلى قبيح، وكل خير إلى شر، فلماذا الطعن في فتوحات بني أمية، وأياديهم البيضاء على المسلمين لا تنقطع؟ ماذا كان سيقع لو أن بني أمية لم يدخلوا إلى ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية جميعاً؛ أوزباكستان وكازاخستان والشيشان وأذربيجان وأفغانستان والهند وغيرها من البلاد التي ظلت تحكم بالإسلام قروناً طويلة بفضل هذا الدخول؟

    ولماذا الطعن في الأمثلة الجميلة والصور الرائعة، كـ موسى بن نصير، والقول بأنه ما ذهب إلى بلاد الأندلس بجيشه إلا غيرة من طارق بن زياد رحمه الله؟
    ولماذا الطعن في عبد الرحمن الداخل، والقول بأنه لم يذهب إلى الأندلس إلا طلباً للملك وللسيادة والسلطان؟ ولماذا تشويه هذه الصور للشباب، وهي صور قلما تتكرر في تاريخ الأمم؟
    ثانياً: أن المستشرقين ومن على شاكلتهم من أبناء المسلمين يقيسون التاريخ الماضي بأفكار الحاضر، فقد رأوا في هذه الآونة أن السياسة لا تستغني عن الغش والخداع والغدر والرشوة والمؤامرة والمكيدة، والعلمانيون لا يتخيلون أبداً أن يبذل الإنسان نفسه وماله وجهده ووقته من أجل الآخرين، أو من أجل شيء غير منظور، كالجنة مثلاً، لذلك من المستحيل عليهم أن يفهموا هذه النماذج الطاهرة، التي ما تكررت إلا في التاريخ الإسلامي فقط.

    ثالثاً: هناك سنة من سنن الله الثوابت، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، فلو كان سعي بني أمية كله في هذه الفتوح لمجرد إلهاء الشعوب عن الملك، وإلهاء الشباب عن الثورات والمؤامرات، وليس في نواياهم الجهاد والدعوة وحب الإسلام، أكان يصلحه الله؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»؛ فقد علمنا انهزام المسلمين عند الأخطاء القلبية، فقد هزم المسلمون في أحد لخطأ قلبي، قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، وهزم المسلمون في حنين لخطأ قلبي أيضاً، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، وهذا على كرامة هذا الجيش من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فإذا حقق الأمويون هذا النصر الراسخ لقرون خلت، أليس هذا دليلاً على خيريتهم؟ هل اطلع هؤلاء الطاعنون على قلوبهم، فوجدوا فيها خبثاً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148].


    رابعاً: ليس معنى هذا أنه لا توجد في بني أمية أخطاء أبداً، بل يجب أن نشير إلى أخطائهم، ولكن في حجمها، وقد أشرنا في الدروس السابقة إلى أخطاء ملموسة في عهد الإمارة الأموية، أدت إلى ظهور عهد الضعف في الإمارة الأموية، وستظهر أخطاء أخرى، وقد تكون جسيمة وتؤدي إلى هلكة، وإلا لاستمر بنو أمية إلى هذه الآونة، لكن من سنن الله سبحانه وتعالى أنه من أفسد يهلك، فمن عدم الإنصاف أن ننظر بعين واحدة إلى الأخطاء ولو قلت، ونهمل الحسنات ولو تعاظمت.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (38) موقف الشرع من الفن الغنائي

    هذا سؤال بخصوص قصة زرياب وأثره على المجتمع الأندلسي؟
    إن الفن ليس حراماً مطلقاً كما أنه ليس حلالاً مطلقاً، بل هناك شروط إن لم تتوافر في الفن أصبح حراماً، فالله سبحانه وتعالى ذكر في أواخر سورة الشعراء وهو يستثني الشعر الحلال من الحرام، يقول سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226].
    ثم يستثني سبحانه وتعالى فيقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227].


    فالاستثناء ألا يتعارض العمل الأدبي شعراً كان أو غيره مع الإيمان والعمل الصالح، حتى لو وصل هذا الأدب أو هذا العلم أو هذا الشعر إلى أرقى جوائز الأدب في العالم، فإن كان يعارض الشرع والإيمان والعمل الصالح فإن الله سبحانه وتعالى سيحبطه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].


    أما الاستثناء الثاني: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية أيضاً: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء:227]، فلا يلهي هذا العمل الأدبي صاحبه أبداً عن ذكر الله في كل أحواله؛ لأن الأصل هو ذكر الله، والفرع هو قول الشعر أو ما شابهه من أعمال الفن الجائز.


    ثم يكمل سبحانه وتعالى فيقول: {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]، أي: أن يستخدم شعره وأدبه في الدفاع عن الإسلام والنفس والوطن، وتحسين الصورة للشرق والغرب، ودفع الشبهات وغيرها.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (39) فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس

    حال الحكام في فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس
    هذا سؤال أخير عن طبيعة الحكام في فترة الضعف في عهد الإمارة الأموية في الأندلس والتي استمرت من (238هـ - 300هـ)؟

    الجواب
    أن الأمراء الذين حكموا في هذه الفترة ثلاثة وهم: محمد بن عبد الرحمن الأوسط، والمنذر بن محمد وعبد الله بن محمد، فقد كان محمد بن عبد الرحمن الأوسط عاقلاً رزيناً مجاهداً، خفف الأعباء المالية عن الناس واهتم بالعلماء، أما المنذر بن محمد فقد كان فارساً شجاعاً وقائداً متميزاً، ولم يحكم إلا سنتين فقط، ثم مات وهو في حصار إحدى حركات التمرد، أما عبد الله بن محمد فإنه كان متقشفاً عادلاً رحيماً محباً للناس ينظر في المظالم بنفسه.


    إذاً: كان الأمراء على درجة عالية جداً من التقوى والعدل والرحمة والجهاد، ومع ذلك ضعفت الأمة، والملحوظة الغريبة أنه يسأل: لم لم تسقط الأمة في عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي تميز في معظم فترات حياته بالظلم والقسوة، ولكنها سقطت في عهد هؤلاء الذين تميزوا بالتقوى والعدل والرحمة والجهاد؟

    ولتبرير هذا التباين أرى بعض الأمور، وقد يكون هناك تبريرات كثيرة جداً، لكن أكتفي باستنتاجين: الأول: أن هؤلاء الأمراء كانوا يتصفون بضعف القيادة، وسوء الإدارة باستثناء المنذر بن محمد، بينما تميز الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل -على الرغم من ظلمه- بحسن الإدارة وقوة الشخصية.

    إذاً: القائد لا بد أن تجتمع له مع التقوى الكفاءة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع المهام على أصحابه، كان يعطي هذا قيادة الجيوش، وهذا قراءة القرآن، وهذا الأذان، وهذا إمامة الصلاة، وهكذا كان يوزع عليهم الأمور بحسب كفاءتهم وقدرتهم على العمل، مع أن الجميع من الأتقياء.
    إذاً: الكفاءة مطلوبة مع التقوى.


    الثاني وهو هام جداً: أن الشعب في عهد الحكم بن هشام كان قد ربي على أعلى درجات التربية، وذلك في عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وفي عهد ابنه هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي شبهوه بـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فلم تسقط الإمارة في عهد الحكم بن هشام، بل إنه قد تاب من ظلمه في آخر عامين من حياته تأثراً بشعبه الذي كان غالبه على التقوى.


    بينما الشعب في عهد الضعف كان شعباً متراخياً، ربي على الدعة والخنوع والطرب والمال وحب الدنيا وكثرة الغنائم وما إلى ذلك، فحتى إن تولى الصالحون فإن الأمة ستسقط، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث».
    والخبث كثر في عهد الإمارة الأموية الثاني، حتى أصبح عموم الشعب من الخبثاء، ومن محبي الدنيا والدعة والخنوع، وهذا يبين دور تربية الشعوب على حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط

    (40) ما كانت عليه الإمارة الأموية سنة 300هـ

    أما ما كانت عليه الإمارة الأموية في فترة الضعف سنة (300هـ)، فكان كما يلي:
    أولاً: وجود حركات تمرد في معظم مناطق الأندلس؛ كان من أشهرها حركة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون الذي تنصر في سنة (286هـ).
    ثانياً: الحكومة الأموية المركزية لا تملك إلا قرطبة فقط، وما حولها من القرى، وهذا يمثل تقريباً أقل من عشر مساحة الأندلس في ذلك الوقت.
    ثالثاً: شمال الأندلس كانت به ثلاث ممالك نصرانية: أراجون، ونافار، وليون، وأكبرها مملكة ليون، وكانت هذه الممالك قد بدأت تجترئ على الحدود الشمالية الأندلسية وتهجم عليها، بل واحتلت بعض المدن الإسلامية في الشمال، مثل: مدينة سالم.
    رابعاً: أن الأمير عبد الله بن محمد وهو آخر الأمراء كان قد مات في سنة ثلاثمائة من الهجرة، وابنه الأكبر محمد الذي كان مرشحاً للخلافة كان قد قتل، وخلف وراءه طفلاً عمره ثلاثة أسابيع فقط.
    خامساً: الدولة العبيدية الشيعية المسماة بالفاطمية ظهرت وبقوة في المغرب، فقد بدأ ظهورها في عام (296هـ) وهي تؤيد عمر بن حفصون وتدعمه بالسلاح عن طريق مضيق جبل طارق.
    سادساً: روح سلبية رهيبة تستولي على الناس في كل ربوع الأندلس، أنه لا أمل في الإصلاح.
    سابعاً: الأمر في بلاد العالم الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الأحوال في بلاد الأندلس، فقد تمزق العالم الإسلامي إلى دويلات كثيرة متفرقة.


    في هذا الجو المليء بالفتن، وهذه التركة المثقلة بالهموم حدث أمر غريب ولكنه متوقع، فقد زهد جميع أبناء عبد الله بن محمد المرشحين للخلافة عن الحكم، لأن الحكم تركة مثقلة بالهموم، ولا يصلح فيهم أحد لهذا الأمر، فقدموا حفيد عبد الله بن محمد، حفيد الأمير الأخير عبد الله بن محمد، وهو ابن القتيل محمد بن عبد الله، الذي قتل منذ اثنتين وعشرين سنة، وهذا الحفيد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، وكان يبلغ من العمر في ذلك الوقت اثنين وعشرين عاماً فقط، وهو الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الناصر.


    يقوم عبد الرحمن الناصر بأمر الإمارة، فإذا به يغير الضعف إلى قوة، والذل إلى عزة، والفرقة إلى وحدة، والهوان إلى مجد وسيادة وسلطان، وهي خطوات بحق لا بد أن تدرس بعناية.
    فهذا الرجل لو كان في زماننا لكان في السنة الرابعة في الجامعة على أقصى تقدير، فقد كانت طاقة الشباب لديهم كبيرة جداً، وأحياناً قد يبخس الشباب نفسه، أو يبخس المجتمع، وسبحان الله! فإن الإسلام دين عجيب، وهذه الأمة أمة ولادة، فإن موسى بن نصير فتح الأندلس وهو في الخامسة والسبعين من عمره، ومع ذلك كانت له روح الشباب في هذا السن المتقدم.
    أما الشاب عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فقد ضم إلى فورة الشباب حكمة الشيوخ، رحمه الله وأكثر من أمثاله.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •