كتاب الفقيه والمتفقه للحافظ الخطيب البغداي (463هـ)


اسم الكتاب:

كما هو موجود على ظهر النسخ الخطية للكتاب: " الفقيه والمتفقه "، وهذا الاسم موافق لمضمون الكتاب؛ ويفهم من مقدمة المؤلف، حيث قال: .. وأذكر من أصول الفقه وتثبيت الحجاج ومحمود الرأي ومذمومه وكيفية الاجتهاد وترتيب أدلته والآداب التي ينبغي أن يتخلق بها الفقيه والمتفقه..

وقد ذكره عدد من أهل العلم بهذا الاسم؛ كالنووي في تهذيب الأسماء واللغات، وابن الدمياطي في المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، والذهبي في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء، والزركشي في عدة مواضع من البحر المحيط، والشوكاني في إرشاد الفحول، وغيرهم.

توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه:

قد دل على ثبوت نسبة هذا الكتاب إلى مؤلف أمور كثيرة، من أهمها:

•. وجود اسم الكتاب - منسوباً للخطيب البغدادي - على ظهر النسخ الخطية للكتاب، وكذلك السماعات الموجودة في نهاية أجزاء النسخ الخطية للكتاب.

2. أسانيد المؤلف في هذا الكتاب، هي أسانيد الخطيب في كتبه الأخرى.

3. أن العلماء الذين ترجموا للخطيب، قد ذكروا هذا الكتاب ضمن تصانيف الخطيب؛ ومنهم: ابن قاضي شهبه، وابن الجوزي في المنتظم، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات، وياقوت في معجم الأدباء، والذهبي في" التذكرة" وفي" سير أعلام النبلاء"، وابن الدمياطي في المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وغيرهم. وكذلك العلماء الذين صنفوا في الأصول؛ كالزركشي في المحيط، والشوكاني في إرشاد الفحول.

4. وكذلك قد نسبه له أصحاب كتب الفهارس والأثبات؛ كالمالكي في فهرسته، وحاجي خليفة في" كشف الظنون"، والبغدادي في هدية العارفين.

الباعث على تأليف الكتاب:

قال الدكتور محمود الطحان في كتابه " الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث " (ص225- 229): يبدو أن الباعث على تأليف هذا الكتاب ما ذكره في باب:" أن مثل العلماء كمثل النجوم". في معرض الكلام على حديث:" نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً....". فبين أن أكثر كتبة الحديث في زمانه، ليس عندهم علم بفقه الحديث الذي يحملونه، ولا يهمهم من الحديث إلا جمعه، وهذا ما حمل أهل البدع من المتكلين، ومن غلب عليه الرأي من المتفقهين، أن يطعنوا في أهل الحديث، ويشبهوهم بالزوامل التي تحمل الأسفار على ظهورها، ولا تعلم منها شيئاً. كان ذلك بسبب قلة بصيرة أهل زمنه بما جمعوه، وعدم حضورهم مجالس الفقهاء، وذمهم أصحاب القياس مطلقاً، وعدم تمييزهم بين محمود الرأي ومذمومه، ثم تقليدهم أهل الرأي في المسائل التي تعرض لهم، فوقعوا في تناقض شنيع، فحق أن يطلق فيهم القول الفظيع، وهذا ما قاله الخطيب (2/360): فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه قد يحمل الحديث من يكون له حافظا، ولا يكون فيه فقيها، وأكثر كتبة الحديث في هذا الزمان بعيد من حفظه، خال من معرفة فقهه، لا يفرقون بين معلل وصحيح، ولا يميزون بين معدل من الرواة ومجروح، ولا يسألون عن لفظ أشكل عليهم رسمه، ولا يبحثون عن معنى خفي عنهم علمه، مع أنهم قد أذهبوا في كتبه أعمارهم، وبعدت في الرحلة لسماعه أسفارهم، فجعلوا لأهل البدع من المتكلمين، ولمن غلب عليه الرأي من المتفقهين طريقا إلى الطعن على أهل الآثار، ومن شغل وقته بسماع الأحاديث والأخبار، حتى وصفوهم بضروب الجهالات، ونبزوهم بأسوإ المقالات، وأطلقوا ألسنتهم بسبهم، وتظاهروا بعيب المتقدمين وثلبهم، وضربوا لهم المثل، بقول الشاعر:

زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري المطي إذا غدا بأحماله أو راح ما في الغرائر

كل ذلك لقلة بصيرة أهل زماننا بما جمعوه، وعدم فقههم بما كتبوه وسمعوه، ومنعهم نفوسهم عن محاضرة الفقهاء، وذمهم مستعملي القياس من العلماء، لسماعهم الأحاديث التي تعلق بها أهل الظاهر في ذم الرأي والنهي عنه، والتحذير منه، وأنهم لم يميزوا بين محمود الرأي ومذمومه، بل سبق إلى نفوسهم أنه محظور على عمومه، ثم قلدوا مستعملي الرأي في نوازلهم، وعولوا فيها على أقوالهم ومذاهبهم، فنقضوا بذلك ما أصلوه واستحلوا ما كانوا حرموه، وحق لمن كانت حاله هذه أن يطلق فيه القول الفظيع، ويشنع عليه بضروب التشنيع، فأبلغ مني ما ذكرته اغتماما، وأثر في معرفتي به اهتماما لأمرين: أحدهما: قصد من ذكرت بكبر الوقيعة، متقدمي أئمة أهل الحديث، القائمين بحفظ الشريعة، لأنهم رأس مالي، وإلى علمهم مآلي، وبهم فخري وجمالي، نحو:

مالك والأوزاعي، وشعبة، والثوري، ويحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي عبدالرحمن، وعلي بن المديني الأمين، وأحمد بن حنبل، وابن معين، ومن خلفهم من الأئمة الأعلام.. ثم أوضح الخطيب أن كل من طعن على أهل الحديث، هو أحد رجلين: إما عامي جاهل، أو خاص متحامل. أما الجاهل فمعذور. وأورد أقوالاً لبعض الأئمة، تدل على ذلك. وأما المتخصص- وهم في نظره أهل الرأي والمتكلمين- فبين أن أهل الرأي بنوا أكثر مسائلهم على أخبار ضعيفة واهية عند أهل النقل، فإذا سئلوا- أي أهل الحديث - بينوا ضعفها، وعدم صحة الاحتجاج بها، فيغتاظ أهل الرأي منهم، لأنهم هدموا لهم ما قد شيدوه، وعللوا ما ظنوا صحته واعتقدوه.

وأن المتكلمين معذورون في عيب أهل الحديث، لما بينهم من التباين، الباعث على البغضاء والتشاحن، واعتقادهم في جل ما ينقلونه، ومعظم ما يروونه ويتداولون إبطاله. ثم ختم الخطيب ذلك كله بنصيحة فذة جامعة، تَوجَّهَ بها لصاحب الحديث خاصة، ولجميع طلبة العلم عامة.. فقال رحمه الله (2/365): ورسمت في هذا الكتاب لصاحب الحديث خاصة، ولغيره عامة ما أقوله نصيحة مني له، وغيره عليه، وهو أن يتميز عمن رضي لنفسه بالجهل، ولم يكن فيه معنى يلحقه بأهل الفضل، وينظر فيما أذهب فيه معظم وقته، وقطع به أكثر عمره من كتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعه، ويبحث عن علم ما أمر به من معرفة حلاله وحرامه، وخاصه وعامه، وفرضه وندبه، وإباحته وحظره، وناسخه ومنسوخه، وغير ذلك من أنواع علومه قبل فوات إدراك ذلك فيه.

موضوع الكتاب وأقسامه:

قال الدكتور محمود الطحان في كتابه " الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث " (ص229- 234):

أما القسم الأول من الكتاب - بعد المقدمة- : فقد بدأه المصنف بذكر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم، في فضل التفقه والأمر به والحث عليه، والترغيب فيه، فساق حديث:" من يرد الله به خيراً يفقه في الدين". ثم أورده من عدة طرق، ثم ساق حديث: " تجدون الناس معادن، خيارهم ..." وأعقب ذلك بالكلام على تفضيل الفقه على مجالس الذكر، واستدل له بالأحاديث وبعض الآثار، ثم بين أن حِلَق الفقه هي رياض الجنة، وأن الفقه أفضل من كثير من العبادات، وأن الفقهاء أفضل من العباد، وأن الفقيه يشفع يوم القيامة، وأن فقيهاً واحداً أشد على الشيطان من ألف عابد، واستدل لكل ما مر من المعاني بالأحاديث والآثار. ثم ذكر بعض الآيات..

ثم ساق أحاديث وآثاراً، تدل على أن الله تعالى لا يخلي الوقت من فقيه أو متفقه. وبعدها ذكر أخبار من ارتفع من العبيد بالفقه، حتى جلس مجلس الملوك.

ثم ساق عدداً من الأحاد
منقول