هدايات سورة آل عمران
أحمد ولد محمد ذو النورين
بطاقة تعريفها:
- اسمها: آل عمران- طيبة [1] -الزهراء [2].
- عدد آياتها: مئتان بإجماع القراء [3].
- ما اختلف نزولا عن السورة من الآيات: السورة آياتها كلها مدنية [4].
ترتيبها نزولا: نزلت بعد البقرة وقبل الأحزاب، وعلى ذلك تكون السورة الثامنة والثمانين من حيث ترتيب نزولها [5].
- فضلها: لقد شاركت سورة آل عمران سورة البقرة في كثير من فضائلها، فهما الزهراوان اللتان تأتيان يومَ القيامةِ كأنهما غيايتان أو غمامتان أو فرقٌ من طيرٍ صوافّ تحاجّان عن صاحبِهما، وتقدمان القرآنَ وأهلَه يومَ القيامةِ: كما ورد في حديث أبي أمامةَ الباهليِّ -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((اقرؤوا الزهراوَين؛ البقرةَ وآلَ عمران فإنهما يأتيان يوم القيامةِ كأنهما غمامتانِ أو غيايتان أو كأنهما فرقانِ من طيرٍ صواف تحاجان عن أصحابهما))[6].
وكما جاء في حديث النَّواس بنِ سمعانَ -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يؤتى بالقرآنِ يومَ القيامةِ وأهلِه الذين كانوا يعملونَ به، تَقْدَمُهم سورةُ البقرة وآل عمران))- وضربَ لهما رسولُ الله ثلاثةَ أمثالٍ ما نسيتهن بعدُ. قال: ((كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما))[7].
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يعدون قارئ البقرة، وآل عمران من عظمائهم: كما ورد في حديث أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- أن رجلا كان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد كان قرأ البقرة وآل عمران وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا يعني عظم..))[8].
وقد احتوت كل من السورتين على اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب: كما جاء عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَفَاتِحَةُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الم اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ))[9].
وهما من السَّبعِ الأُوَل من القرآنِ اللواتي عد النبي -صلى الله عليه وسلم- آخذهن حبرا: كما جاء في حديث عائشةَ -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَنْ أخذََ السَّبعَ الأُوَلَ منَ القرآن فهو حبرٌ))[10].
كما أنهما من السبعِ الطِّوالِ التي أوتيها النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانَ التوراة: كما ورد في حديث واثلةَ بنِ الأسقعِ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أُعطيتُ مكانَ التوراةِ السبعَ...))[11].
ومن فضائلهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كثيراً ما يقرأُ في ركعتيِ الفجر بآيتين من السورتين المذكورتين، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) الآية التي في البقرة وفي الآخرة منهما (آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) التي في آل عمران"[12].
ومما اشتركت فيه آل عمران من الفضل مع غير البقرة: قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: ((إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)[النساء: 1]، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)[آل عمران: 102]، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)[الأحزاب: 70-71] [13].
ومما اختصت به آل عمران فضل خواتيمها، بدءا من قوله - تعالى -: (إن في خلق السموات والأرض...)[الآيات: 190-200]؛ ما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قَالَ: "بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَطُرِحَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وِسَادَةٌ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي طُولِهَا فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ) [14]. فشأن هذه الآيات عظيم، ذلك أن الويل لمن قرأها ولم يتفكرْ فيها، كما ورد في حديث عائشة -رضي الله عنها- حين طلب منها عبيد بن عمير أن تخبره عن أعجب ما رأت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فسكتتْ. ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي. قال: يا عائشة، ذريني أتعبدُ الليلةَ لربي، فقلت: والله إني لأحبُّ قربَكَ وأحب ما يسرُّك. قالت: فقام فتطهرَ، ثم قام يصلي قالت: فلم يزل يبكي، حتى بلَّ حِجْرَهُ. قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي حتى بلَّ لحيتَه قالت: ثم بكى حتى بلَّ الأرض فجاء بلالٌ يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسولَ الله تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبِك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزِلَتْ عليَّ الليلةَ آيةٌ؛ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها)(إن في خلق السماوات والأرض...) الآيات[15].
- ظروف نزولها: لقد شهد العام الثاني للهجرة النبوية تحولات جوهرية في تنظيم وتطور الدولة الإسلامية الفتية، فرغم وجود عهود مع أعدائها في الداخل من أهل الكتاب إلا أنهم ظلوا يطعنون في الإسلام ويخاصمون أهله، فلم تتوقف مناكفتهم يوما بحجج الوحي، ولم تهدأ مجادلتهم ببراهين العقل، وإن لم يكف ذلك من غلهم على دولة الإسلام، ولم يخفف من حملاتهم المغرضة عليها، ولكنها إقامة الحجة في إيضاح المحجة قبل اللجوء إلى السيف ولو تعلق الأمر بألد الأعداء وأعتى الخصوم.
في الوقت نفسه كانت الحرب العسكرية مع المشركين- بعد استفراغ كافة الوسائل الدعوية السلمية - قد بلغت ذروتها؛ حيث حمي الوطيس في غزوة بدر، في هذه الظروف نزلت سورة آل عمران لتؤكد منهج الإسلام في إلزام معتنقيه بالثبات على منهجه القرآني النبوي تحصينا للعقول المسلمة من زيغ الشبهات، وتشجيعا للأنفس المؤمنة ضد إرهاب العدو. فبينت الحق ودحضت الباطل وأزالت غبش مزاعم أهل الشرك من النوعين.
مقدمة عامة عن السورة (افتتاحية):
كانت المدينة المنورة محط أنظار كثير من أصحاب الديانات بعد الهجرة النبوية، وإن اختلفت مقاصد تلك الأنظار، وكان أهل الكتابين من أكثر الناس اهتماما وأشدهم حساسية تجاه الدعوة الجديدة، ذلك ما سطرته سورة آل عمران التي تعتبر من أكثر السور معالجة لطرق محاورة الخصوم من أهل الكتاب؛ إذ تجسدت فيها الروح الدعوية للقرآن، وتبين من خلالها أن الحوار منهج قرآني تقوم عليه روح الدعوة الإسلامية، بل هو حاديها وباعثها الذي يتأسس وقودها عليه، فكان موضوعها المحوري متمثلا في مناكفة أهل الكتاب ودحض خصومتهم للإسلام بالأدلة والبراهين وتعرية شبههم بموضوعية وإنصاف وعدل لم يعرف له التاريخ مثيلا، فلما زعموا أن عيسى -عليه السلام- ابن لله تعالى- من خلال الطرح الذي تقدم به الوفد الكنسي عند حضورهم إلى المدينة لمجادلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عقيدة التوحيد- سلك معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الطرق لإحقاق الحق و إزهاق الباطل، و إلزام الحجة بعد قيامها عليهم بجلاء في مستهل محاورتهم (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا...)، فأظهر ذلك السبيل الأقوم في شأن عيسى - عليه السلام -، وما كان من توفيق الله -تعالى- له في أداء رسالته وحفظه له من مكر اليهود ورفعه لدرجته في عليين؛ لتقرير العقيدة التي لا مرية فيها (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم). بهذه النصاعة وبذلك الوضوح تتوارد أسرار غائرة من تاريخ أهل الكتاب في ثنايا آيات السورة، وفي خضمها تعرض ما حل بالمسلمين يوم أحد من ابتلاء وقتل إثر مخالفة أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لتبرهن تاريخاً وواقعاً أن أصل المصائب مخالفة المرسلين، وبذلك يتبين الطريق ويتضح المنهج الذي أراده الله للبشرية جمعاء، ذلك المنهج الذي وجهت إليه السورة النفوس بتلك الوقائع والأحداث الحية، ذات الأثر البالغ في حياة الأمة الإسلامية، التي رفعت راية الحق، ومثلت حزب الله -تعالى-، واعتزت بالانتساب إليه وحده، حارسة لشعائره، مقيمة في ساحة عبادته: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل حبل جميعا ولا تفرقوا..)، إنه منهج يمتلك كشف ما يختلج في الأنفس: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير).
منهج يطرح ثلاثة خيارات أما الخصوم: "حفاوة بالمستجيبين له حقيقة، ومحاورة للمعرضين عنه ودعوتهم بالحسنى، وحزم وغلظة على المعتدين الذين يقفون في طريقه ويصدون عن سبيله"، إنه منهج الأمة المؤمنة الخاتمة، التي نبتت بذرتها الأولى في الجزيرة العربية؛ لتنطلق إلى أصقاع المعمورة مسددة بالوحي في تعاملها مع أعدائها وأصدقائها، وفي صراعها مع أهواء أتباعها وشهواتهم، أمة يقوم نظامها في شموليته على العدل والإنصاف حتى في تصنيفه للأعداء والخصوم: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله...) (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا...)، كذلك يعمل القرآن في تكوين حياة الشخصية المسلمة المتمسكة به في كل زمان وفي كل مكان؛ فيخاطبها في أصولها الوجدانية والفطرية وفي حقيقتها ومصيرها، وفي إطار ذلك يكشف القرآن حقيقة ومآل الكافرين: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)، لقد تحجرت قلوب الأعداء من يهود وغيرهم بما نشأ في نفوسهم من الحرص على نشر كل انحراف عقدي وأخلاقي: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم...)، مما عاد على أخلاقهم بالانتذال ومعاملاتهم بطيش الاستعظام للأنفس، حتى أنستهم أثرتهم الطافحة ربهم وألهاهم تشبعهم من الدنيا وعكوفهم على مطالبها عن النظر في عاقبة أمرهم، وأهل القرآن يحميهم ربهم بإيمانهم من ذلك كله؛ إذ يشيد فيهم الاستقامة على كل فضيلة ويبني فيهم كل خلق حسن الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين..)، ويجعل منهم بيئة قانتة مسارعة في الخيرات، بئة يشب أفرادها ويترعرعون في رعاية الوحي، بئة شعارها: (نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون...)، بئة يلتزم أهلها بالتواضع ورقة القلوب مع الله -تعالى- والحنو على عباده، بئة يلظ أهلها قائلين: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار...).
من أهم محاور السورة (بصمتها):
- في إطار صقل عقيدة المجتمع الإسلامي من ران الزيغ وغبش الشبه تبين السورة بطلان عقيدة النصارى وتعري التناقض الذي تقوم عليه، وتوضح بلا امتراء حقيقة عيسى -عليه الصلاة والسلام- : (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون..)، وعلى نفس النسق تؤكد السورة عجز اليهود عن الارتفاع إلى مستوى الوحي بانحرافهم عما جاءتهم به التوراة، وبما واجهوا به هذا القرآن من التكذيب والعناد، فاستحقوا عن جدارة نعت المكذبين، ذلك أن من كذب بأي من هذه الكتب المنزلة من عند الله -تعالى- فقد كذب بها جميعا وكان أولى الناس بالعذاب والنكال: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل.... ذو انتقام)، لقد واجهوا كلام الله -تعالى- بمقررات عقلية لا تتجاوز حد الإدراك البشري ولا تستعلي على مستوى العجز الإنساني، فتنكبوا سبيل العلم وعارضوا منهج ذوي الرسوخ من العلماء، الذين هم أفقه بعجز العقل البشري عن إدراك الحقائق التي تفوق طاقته وتكبر مستواه؛ لما يتسمون به من سلامة الفطر التي لا تلبث أن تصدق بالحق وتنقاد له وتطمئن إليه: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب).
لقد كشفت السورة عن الصراع المتجذر الذي احتدم منذ مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بين حملة الحق وحملة الباطل، صراع يقود المسلمون طرفه ذا العقيدة المستقيمة الناصعة ويقود أهل الكتاب والمشركون طرفه ذا العقائد المنحرفة المغبشة، المبنية على جعل الشركاء والأنداد لله -تعالى- ونسبة الأبناء والبنات له جلت عظمته، فهؤلاء وإن آمنوا أن الله هو الخالق الرازق إلا أنهم لم يؤمنوا أنه لا إله غيره وأنه لا يقبل من العبودية إلا ما كان خالصا له وحده، اعتقاداً وعملاً واتباعاً ومنهجاً، وأنه لا تحاكم إلا إلى شرعه ولا طاعة إلا لأمره: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام..)، يقول ابن تيمية: "وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ فَتَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَه ُ الْمُنَافِيَةَ لِلشِّرْكِ وَتَضَمَّنَتْ عَدْلَهُ الْمُنَافِيَ لِلظُّلْمِ وَتَضَمَّنَتْ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلذُّلِّ وَالسَّفَهِ وَتَضَمَّنَتْ تَنْزِيهَهُ عَنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ، فَفِيهَا إثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الْعَدْلِ وَإِثْبَاتُ الْحِكْمَةِ وَإِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ" [16]، لقد كان تجسيد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضوان الله عليهم- لهذا التصور عملاً وواقعاً وراء تأجج الصراع بعد الهجرة النبوية، خاصة حين صار اليهود طرفه الأكثر عنفاً والأعمق حقداً، والأشد رفضاً لقضاء الله وقدره، والأغور حسداً للعرب في اختصاص الله -تعالى - لهم بالرسالة الخاتمة، فذلك طبعهم المتعصب وتلك شيمتهم الكارهة للحق رغم محاجة الني -صلى الله عليه وسلم- لهم بالدليل والبرهان ومقابلته أذاهم بالحسنى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا...).
- لقد حقق الإسلام للنفس البشرية توازنها في تناول الشهوات والملذات، وأخضع ميلها إلى الاستكبار والغطرسة، وسما بها إلى معالي الأمور وكبريات القضايا وربطها بتحقيق شهوة لا منكد لها وقادها إلى استطعام لذة لا منغص لها واستعلى شأنها بشكل لا انحطاط بعده: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة.... قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار...).
- لقد عاش أهل الكتابين تناقضا عجيبا، وتحريفا مريبا لكتبهم، فكانت هناك حاجة ماسة لرسالة تبيّن للناس زيغهم وتكشف لهم ما كانوا يمارسونه من التبديل والتحريف وسوء الفهم والظلم في التطبيق أثناء الممارسة، وقد جاء القرآن بذلك فعرى الانحراف وقدم الأدلة ووضع البدائل.
- لقد نشأت هزيمة أحد بعدما كان من النصر فيها عن التفريط في تطبيق أوامر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، تلك المخالفة الناشئة عن سوء التقدير أو الطمع الناتج عن رؤية أكوام الغنائم التي أحرزها المسلمون في بداية المعركة. وأيا كانت الأسباب والدوافع فإن شؤم المعصية كبير وعقوبتها مؤلمة وآثارها سيئة، فلابد من الطاعة المطلقة لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- والتجرد المطلق لتنفيذ الأمر وأداء المهمة.
- في آخر السورة كانت هناك مراوحة في الحديث بين اليهود وعبدة الأوثان إشارة إلى أن جهاد الدعوة يطالهم جميعا: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا)، بعد أن تفرد الحديث لفضح عوار اليهود ليبين أن نفوسهم خالية من التقوى وأفئدتهم عارية من الإيمان: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء...).
- تشد السورة من أزر المؤمنين حين تؤكد الآيات أن الكفار وإن استعلوا واستكبروا وعاثوا فسادا فإن أمرهم إلى زوال وسلطانهم إلى اضمحلال: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)؛ فتيار الحق لا توقفه العقبات ولا تصده النكبات.
من هدايات السورة (فوائدها):
- كما هو الشأن بالنسبة لسورة البقرة افتتحت آل عمران بالأحرف المقطعة تنبيها إلى إعجاز هذا القرآن؛ فرغم أنه مؤلف من هذه الأحرف التي يدركها الجميع، إلا أنهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثله، لا في بلاغته اللفظية والتركيبية ولا في بلاغته المعنوية وسلطانه على القلوب ولا في إعجازه التاريخي والتشريعي، ولا في تحديده لوقائع لا تزال في رحم الغيب.
- إن التمسك بالمنهج والتزام المحجة البيضاء والثبات على المبادئ، رغم كثرة المعوقات وكآدة العقبات لهو الدلالة القاطعة على رسوخ الإيمان وكمال الاستسلام لله - عز وجل - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان... ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.. ، فمعوقات هذا الطريق كثيرة ومتنوعة وقواطعه تزلزل الأفئدة المهزوزة ببهارج الدنيا الناعمة وزخارفها المؤثرة، ودواعيها الدافعة إلى السعر إلى ملاذها غاية في القوة: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث...).
- إن تحديد الأهداف ووضوح الرؤية عوامل رئيسة للتحصين من تنكيب الجادة، ومن المقومات الأساسية لذلك الاستقلال والاعتزاز بالانتماء المنهجي الذي يجافي تقليد الأمم الأخرى ومصانعتها على حساب العقيدة: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين). (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ)، ذلك أن تجسيد الولاء لله -تعالى- واستيعاب المصاعب وعدم الاستسلام لها وحصافة التوجه إلى الأمثل والاقتداء بالأنجح في الطريق إلى الله -تعالى- يبعث الآمال في نفوس المؤمنين ويرفع روحهم المعنوية: (وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)، فالسائر على المنهج الرباني لا يعرف التعلق إلا بالله وحده، ولا يؤله إلا هو وحده لا شريك له، ولو كان الغير أعظم البشر فلا تعلق للسائرين على هذا الصراط بشخصه حياة أو موتا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم...).
- في إطار أطر النفس على الحق لابد من مراجعتها بين الفينة والأخرى وصبرها على الجادة وإرجاعها إلى الصراط السوي فور حيدتها عنه، ويتجلى ذلك في المسارعة بها إلى التوبة والانطراح بين يدي الله -سبحانه وتعالى- استغفارا وإنابة: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) (سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، وإزاء ذلك لابد من جرس ينبه النفس إذا غوت ويصيح في وجهها إذا زلت ويثبتها إذا استقامت ويواسيها إذا ضنكت ويبين لها مكامن الخطر وأسباب استحقاق العقوبة، وهو الأمر الذي لا يتأتى إلا بالصحبة الصالحة الناصحة التي تتأسس معها الروابط على الوشائج الإيمانية وتقوم معها الصلات على الأواصر الربانية النابذة للاختلاف والتنازع: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (فأصبحتم بنعمته إخوانا) (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون..).
- لابد من العمل بالحق واستمداد النصرة عليه من الله -تعالى- والاعتبار في ذلك بالأحداث: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء...)، والعمل بالحق يقتضي الدعوة إليه حتى يكمل الانتماء وتتم المهمة ويصدق الانتساب ويحصل الفلاح: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وكذلك فإن الاستقامة على الحق والتجسيد العملي له والحصانة من كيد الأعداء يحتاج إلى صبر لا يعرف ضجرا وتقوى لا يعتورها انحراف: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).
- إن الاستغفار بالأسحار يرفرف في قلب المؤمن بحرارة الإيمان ويصدح في نفسه بروح الإحسان ويعمق فيه بذور الخشية التي تزدهر في جو ندي بمعالم التنزل حين يصفو الفؤاد ويرق القلب وتعم السكينة وتبوح النفس بعوالجها الرهينة وخواطرها الرقراقة، ويعانقها الاستغفار فتقبل على باريها - عز وجل - فيلفها الاطمئنان ويعلو بها إلى الآفاق العلية والمنازل الرضية: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) (والمستغفرين بالأسحار).
يتبع