قواعد الغلبة والندرة وتطبيقاتها الفقهية
د. عزيزة بنت مطلق بن محمد الشهري[*]
ومعنى القاعدتين:
معنى القاعدة الأولى: الأصل أن النادر الذي يقل وقوعه جداً لا حكم له في نفسه, وإنما الحكم للغالب, دون النادر, لكن إذ استمر هذا النادر ودام يعطى حكم الغالب؛ لأنه لم يعد نادرا وقد استمر، فيلحق بالقسم الأول, ومن أمثلة ذلك: المستحاضة الدائمة –وهي حالة نادرة– إذا استمر بها الدم وقت صلاة كاملاً، فإنها تصلي مع وجود الحدث، ولا تقضي الصلاة، تنـزيلاً للنادر منـزلة الغالـب نظراً لاستمراره. وكمن فُتحت لـه فتحة في جنبه ليخرج منها الغائط، وهي حالة نادرة, فإنه يعامل معاملة المعذور تنـزيلاً للنادر منـزلة الغالب([118]).
ومعنى القاعدة الثانية: عكس القاعدة الأولى فالنادر المؤقت الذي ليس بدائم يلزم فيه القضاء, ومثلوا له بالمربوط على خشبة يصلي ثم يعيد الصلاة إذا فك من قيده ([119]).
وبعد هذا التتبع لألفاظ القاعدة فإنني سوف أختار نص قاعدة المجلة (العبرة للغالب الشائع لا للنادر م42) ليكون عليه مدار البحث من حيث الاستدلال والتطبيق سواء فيما ألحق به من الفروع, أو ما استثني منه, أو ما ألغي فيه الأمران معا الغالب والنادر؛لشهرة هذا الإطلاق, ولاستيعابه حكم الغالب والنادر معاً, وللنص فيه على أن الغلبة المعتبرة هي الغلبة الشائعة.
وأما الصياغة الإنشائية (الاستفهامية) التي تشعر بالخلاف في أصل القاعدة وذلك بسبب اختلاف الترجيح في الفروع فيظهر لي ضعفها؛ إذ ظاهرها المساواة في النادر بين إلحاقه بالغالب وبين إفراده بحكم خاص به مع اتفاقهم على أن النادر الدائم يأخذ حكم الغالب, وهذه المنهجية الاستفهامية في صياغة بعض القواعد التي يدخل تحتها ما شاء الله من الفروع وإن ند عنها البعض غير دقيقة؛ إذ القواعد في جملتها ترد عليها المستثنيات, وفي مقدمها القواعد الخمس الكبرى صيغت بالجزم مع وجود المستثنيات, وها هو السيوطي يذكر جملة من القواعد في الكتاب الثالث في: القواعد المختلف فيها([120]), منها هذه القاعدة, وقاعدة العبرة بصيغ العقود أو معانيها؟ وهل يجتهد من يقدر على اليقين أو يأخذ بالظن ؟مع أن لهذه القواعد من القوة ما يستلزم صياغتها بأسلوب الجزم فاعتبار المعاني في العقود أولى من التسوية بين المعنى واللفظية عند الجمهور, وإن كانت الشافعية تغلب اللفظية في أكثر التطبيقات, ومن قدر على اليقين فلا مساغ له شرعاً أن يعمل بالظن هذا في التقعيد, وإن برزت بعض الصور فتظل شذوذاً لا يؤثر في عمومية القاعدة, وإلا صِيغت جل قواعد الفقه بالصياغة ذاتها, ولو تتبعنا قواعد الفقه في كتب القواعد الفقهية لوجدنا عدداً غير يسير منها صيغ بصيغة الجزم, مع أن بعضها مستثنياتها قد تربو على تطبيقاتها, فها هو السيوطي يذكر خمساً وأربعين قاعدة متفق عليها وأطلق عليها "قواعد كلية", والحقيقة أن عدداً من تلك القواعد مختلف فيها فمثلا قاعدة: "من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه"([121]), وهي نادرة الفروع عند الشافعية حتى قيل: بأن الصور الخارجة عن القاعدة عندهم أكثر من الداخلة فيها -بل عند التحقيق لم يدخل تحتها إلا فرع واحد-وهو حرمان القاتل من الميراث- واضطروا لتقييدها فأصبحت صياغتها على هذا النحو: "من استعجل شيئا قبل أوانه ولم تكن المصلحة في ثبوته عوقب بحرمانه" بل حاول الروكي أن يعيد الصياغة فصاغها صياغة دقيقة "من سعى إلى إبطال قصد الشارع عوقب بنقيض قصده"([122]) لكنها تختلف عن السابقة من حيث المضمون, إذ مدلولها منع المقاصد المضادة لمقاصد الشارع, ومع هذا فقد وردت بتلك الصياغة الجازمة.
والذي أخلص إليه أن اختيار الفرق بين القواعد المتفق عليها والمختلف فيها الصياغة بأسلوب الجزم أو الاستفهام يعد اختلافا شكلياً؛ لا يمكن الاعتماد عليه في إثبات أن هذه القاعدة متفق عليها بين المذاهب أو حتى في المذهب الواحد, أو إعطاء مزية لتلك التي صيغة بتلك الصياغة على الأخرى, وسوف أقصر البحث فيما يتعلق بقواعد الغلبة والندرة وبيان أصلها وموقف الفقهاء منها وتطبيقاتها في المباحث التالية, وأما ما يتعلق بقواعد التقريب والكثرة فلعلها تفرد بدراسة خاصة مستقلة.
المبحث الثاني
الأصل فيها وطبيعة موقف الفقهاء من إلحاق النادر بالغالب
إن أهمية القاعدة الفقهية وقوتها مستمدة من مصادرها الشرعية النقلية والعقلية, فمنها تستمد جذورها, كما يثمر منها الحكم الجزئي, ويستمد حجيته, والاستدلال بها استدلال بأصلها ومصدرها, وبذلك يظهر عظيم أثرها في التفقه والتفقيه, وسوف أتناول هذا الموضوع في مطلبين:
المطلب الأول
أصل القاعدة (العبرة للغالب الشائع لا للنادر م42)
من المعلوم ضرورة أن القواعد الفقهية لم تكن وليدة الصدفة, أو يوم وليلة, وإنما هي نتاج سبر مصادر الشريعة فمنها ما كان نصه من جوامع كلم النبي صلى الله عليه و سلم, ومنها ما استنبطه العلماء من النص المباشر, ومنها ما كان ثمرة دراسة وفهم للنصوص الشرعية المعللة مأخوذة من عللها وفقهها, أو من استقراء النصوص الشرعية, وهذه القاعدة تعد قاعدة فقهية اجتهادية مستنبطة:
أولا: من استقراء([123]) النصوص الشرعية تبين أن الشارع يلحق الصورة النادرة بالغالب يقول القرافي([124]): "اعلم أن الأصل اعتبار الغالب وتقديمه على النادر وهو شأن الشريعة, كما يقدم الغالب في طهارة المياه, وعقود المسلمين, ويقصر في السفر ويفطر بناء على غالب الحال, وهو المشقة, ويمنع شهادة الأعداء والخصوم؛ لأن الغالب منهم الحيف, وهو كثير في الشريعة لا يحصى كثرة", ويقول الرازي في المحصول عند ذكر دليل القائلين بقياس الطرد في مسالك العلة([125]): "استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب". ويقول ابن النجار في شرح الكوكب المنير في الموضوع السابق([126]): "إن الاستقراء يدل على إلحاق النادر بالغالب، وهذا ضعيف؛ لأنه ليس كل نادر يلحق بالغالب لما يرد عليه من النقوض".
قلت: وهو مع ضعفه كدليل على إثبات قياس الطرد([127])؛ إلا أنه لا يمنع من صحته لتقعيد الفقه؛ لأن القواعد الفقهية تصح بالاستقراء التام والناقص, وأغلبها إنما ثبتت بالاستقراء الناقص؛ إذ هي قواعد أغلبية, والكلية فيها نادرة, وقد يستأنس ببعض النصوص من القرآن والسنة للدلالة على اعتبار هذا الأصل منها:
قوله تعالى في شأن الخمر والميسر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) (البقرة: ٢١٩), فقد حرم الله الخمر والميسر بعد أن أخبر بقوله: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا), فحكم بالغالب فيهما وهو الإثم وألغى النادر وهو المنافع.
قوله تعالى: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) (المؤمنون:١٠٢: ١٠٣), فحكم بالغالب من عمله وألغى النادر.
3- قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (النساء: ٢٥), قال الكيا الهراسي عن الشافعي في عدم جواز نكاح الأمة لمن تحته حرة[128]: "الظاهر من وجود النكاح الطول والأمن, فلا مبالاة بنكاح نادر لا يفضي إلى ذلك, بل يحسم الباب".
قوله صلى الله عليه و سلم لحمنة بنت جحش ل: (فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ, ثُمَّ اغْتَسِلِىي حَتَّى إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا وَصُومِى, فَإِنَّ ذَلِك َيُجْزِئُكِ, وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي في كُلّ ِشَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ, وَكَمَا يَطْهُرْنَ, مِيقَاتَ حَيْضِهِنَّ, وَطُهْرِهِنَّ)([129]) لما شكت إليه بانها تستحاض حيضة كثيرة, فردها صلى الله عليه و سلم للأمر الغالب من عادة النساء وأحوالهن, وإلحاق هذه الصورة النادرة بالغالب من عادة النساء وهي ستة أو سبعة أيام.
قوله صلى الله عليه و سلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِىّي حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) رواه أبو داوود من حديث علي t, وبنحوه عن عائشة ل ([130]).
وجه الدلالة: لما كان العقل هو مناط التكليف فقد جعل الشارع البلوغ هو الموجب للتكليف؛لأن الغالب اقتران البلوغ البدني -المضبوط بالعلامات الظاهرة- بالنضج العقلي الغير مضبوط, فكان البلوغ هو مظنة الحكم الشرعي, ولا يضره انخرامه ببعض الصور النادرة التي تتقدم عليه في النضج العقلي أو تتأخر عنه, وجرى الحكم على الغالب المعتاد. والأمثلة على هذا النحو في السنة كثيرة لا تخفى.
ثانيا: ومما لا أرى غضاضة في الاستدلال به في هذا المقام أمور منها:
- الإجماع: ولست أقصد بالإجماع هنا الإجماع على القاعدة بشقيها إعمال الغالب وإهدار النادر فهو بعيد المنال, ولكن ما قصدته نقل إجماعات في جزئيات يجمعها عامل مشترك. وهو العمل بالغالب, يقول الريسوني عند استدلاله لنظرية التقريب والتغليب([131]): "والإجماع في هذه القضية إجماعات, ولكنها جميعا تلقىحول عنصر مشترك وهو العمل بالغالب. فقد أجمع العلماء –إلا من لا يؤبه له– على العمل بخبر الواحد, وهو في بعض الحالات على الأقل يفيد الصحة والصدق على الغالب, وأجمعوا على العمل بالترجيح, الذي هو الأخذ بالغالب من المتعارضين, وأجمعوا على صحة الاجتهاد الظني. وهو قائم على أن المجتهد يقول بما غلب على ظنه, والإجماع على صحة العمل بالظن وعلى العمل بالأدلة الظنية, وعلى صحة الاجتهاد الظني, هذا الإجماع يرجعه بعض العلماء إلى عهد الصحابة, ويعتبرون إجماع الصحابة هو أقوى دليل على العمل بالظن في المجال الفقهي.."
- الضرورة والبداهة: يقول الريسوني -أيضا– في الموضع السابق([132]): "إن الضرورة الواقعة, والبداهة العقلية, تدفعان إلى الأخذ بالغالب, وتشيران إلى أنه الصواب الممكن. وما دام هو الصواب الممكن, فإنه هو المطلوب وهو المتعين, والأخذ به هو الصواب ولو احتمل الخطأ في باطن الأمر الذي لا علم لنا به..".
المطلب الثاني
طبيعة موقف الفقهاء من إلحاق النادر بالغالب
إن هذه القاعدة تتفرع عن قاعدة العادة محكمة, كما يوردها كثير ممن ألف في القواعد, ويجعلونها ضابطاً من ضوابط العرف مع قاعدة (إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت (م41) مع أن بينهما –في نظري- بونا شاسعاً فالقاعدة المذكورة آنفا حقيقتها ضابط من ضوابط العرف, وهو أن يكون العرف مطرداً أو على الأقل غالباً, أما العرف المشترك فلا يصح مستنداً ودليلاً يرجع إليه في بناء الأحكام الشرعية ومعاملات الناس وإثبات الحقوق والواجبات, والعرف النادر من باب أولى ألا يلتفت إليه. أما (قاعدة العبرة بالغالب الشائع لا للنادر م42) فهي أوسع رحابا من أن تكون مجرد ضابط للعرف يقول علي الندوي([133]): "هذه قاعدة مهمة مشهورة من قواعد الفقه الإسلامي, وهي أعم من الضابط المعروف المقرر في مجال العرف: (إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت) ولذا لا يصح القول إنهما متحدتان على الإطلاق, ومن المعلوم أن التأسيس أولى من التأكيد, والحقيقة أن فحوى الصياغة يأبى أن تكون مترادفتين".
فجريان العرف الغالب جزء من مدلول القاعدة, وكذلك المصلحة الغالبة جزء من مضمونها؛ ودلالات ألفاظ اللغة والشارع كلها تحمل على الغالب؛ بل تقعيد القواعد من أساسها مبني على هذه القاعدة؛ لأن الشريعة العادلة الخالدة جاءت على وفق السنن الكونية, وسنة الله في التكاليف تكون على غالب الأحوال, دون التعرض للتفصيل في كل ما يخرج عن هذا الغالب, ولهذا نص المحدثون والفقهاء على أن المقصود من العموميات في نصوص الشريعة الأحوال العادية الغالبة المعروفة, والمشتهرة بين الناس في معاشهم وحياتهم, يقول ابن حجر في فتح الباري([134]): "الكلام إنما هو جار على الغالب المعتاد وأما...الصورة النادرة فليست مقصودة"
وقال الشوكاني([135]): "شرعية الشفعة إنما هي لدفع الضرر وهو إنما يحصل في الأغلب مع المخالط في الشيء المملوك أو في طريقه ولاضرر على جار لم يشارك في أصل ولا طريق إلا نادراً, واعتبار هذا النادر يستلزم ثبوت الشفعة للجار مع عدم الملاصقة؛ لأن حصول الضرر قد يقع في نادر الحالات, كحجب الشمس, والاطلاع على العورات ونحوهما..والضرر النادر غير معتبر؛ لأن الشارع علق الأحكام بالأمور الغالبة", وقال ابن عابدين: "والعبارات حيث أطلقت تحمل على الشائع الغالب دون الخفي النادر"[136]
وقال القرافي في الذخيرة([137]): "الأصل ألا تبنى الأحكام إلا على العلم لقوله تعالى﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦], لكن دعت الضرورة للعمل بالظن لتعذر العلم في أكثر الصور, فتثبت عليه الأحكام؛ لندرة خطئه, وغلبة إصابته والغالب لا يترك للنادر, وبقي الشك غير معتبر إجماعاً...", وقال في الفروق([138]): "القاعدة: أن الدائر بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى", وقال أيضا[139]: "إن حمل اللفظ على النادر خلاف الظاهر, فيحمل على الغالب", وقال ابن الشاط في حاشيته على الفروق السابق([140]): "والأحكام الشرعية واردة على الغالب لاعلى النادر", ويقول العز بن عبد السلام([141]): "فصل: في الحمل على الغالب والأغلب في العادات ولذلك أمثلة منها: إن من أتلف متقوماً فإنه يلزمه ضمانه بقيمته من نقد البلد، أو من غالبه إن كان فيه نقود، أو من أغلبه إن كان فيه نقود بعضها أغلب من بعض... ومنها: وجوب الفطرة من غالب قوت البلد", وقال ابن عبد الهادي في مغني ذوي الأفهام([142]): "العبرة بالغالب, والنادر لا حكم له", وهذا هو الأصل في الشريعة كما ذكر القرافي([143]) ويعتبر الشاطبي الغالب الأكثري في الشريعة كاعتبار العام القطعي؛ وهذا هو الشأن في الكليات الاستقرائية التي لا يقدح فيها تخلف بعض الجزئيات([144]).
من خلال النقولات السابقة يتقرر لنا أن إعمال الغالب هو الأصل إلا في مسائل استقل الغالب فيها بحكم خاص به يخالف حكم الغالب, بل قد يلغى الأمران معاً (الغالب والنادر) -كما سيظهر خلال البحث- ولكن هذه المسائل تظل استثناءات من الأصل العام, ومن المعلوم أن القواعد الاستقرائية لا تخلو من شذوذ, وهذا الشذوذ؛لأمر يقتضه الحال من الخروج عن القياس إلى الاستحسان, إما تيسيراً على العباد, لوجود العنت والمشقة بالحكم بالغالب, أو لتحصيل مصلحة لهم راعت الشريعة تحقيقها, أو أخذاً باليقين وعدم اعتبار الطارئ لقلته أو عدم إمكان التحرز منه, أو إبقاء لمصالحهم, وحفظا على حقوقهم, أو صونا لكرامتهم وأنسابهم, أو دفع الرعب عنهم, وهذا العمل بالنادر أحيانا لا يتم جزافاً, أو وفق الأهواء والرغبات بل هو مضبوط وفق قواعد شرعية معتبرة, وضوابط معروفة([145])عند أهل العلم الراسخين فيه, لعله يتضح بعضا منها خلال هذا البحث إن شاء الله.
المبحث الثالث
تعارض الأصل والغالب
ويعبر الفقهاء بالظاهر عن الغالب قال السيوطي([146]): "ذكر تعارض الأصل والظاهر", والمقصود بالأصل: دليل الاستصحاب, كقولهم: "الأصل براءة الذمة"([147]), و"الأصل بقاء ما كان على ما كان"([148]), و"ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين"([149]) هذه القاعدة صياغتها عند المالكية بأسلوب استفهامي "إذا تعارض الأصل والغالب:هل يؤخذ بالأصل أو الغالب "يشعر بوجود خلاف حول مضمونها يقول المقري:" إذا تعارض أصل وظاهر فللمالكية في المقدم منهما قولان"([150]). المقصود من هذه القاعدة: هل نتمسك دائما بالأصل مهما كان؟, ونتجاهل قوة الغالب وظاهر الأمر؟, أم أننا نعمل بالظاهر الأشد تماسكاً, ونعتبر الأصل قد انتقض بكثرة الخروق؟.
هذه المسألة فيها تفصيل لأهل العلم, إذ تتبعوا التعارض فوجدوه لا يخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: أن يستند الغالب إلى سبب منصوب شرعاً (حجة شرعية) كالشهادة, واليد في الدعوى, فيجب ترجيحه على الأصل من غير خلاف بين الفقهاء؛ لأنه صادر من الشارع فيتعين ترجيحه. قال ابن رجب: "إذا تعارض الأصل والظاهر فإن كان الظاهر حجة يجب قبولها شرعا كالشهادة والرواية والإخبار فهو مقدم على الأصل بغير خلاف"([151])
ومن الأمثلة على هذه الحالة:
إذا ادعى شخص حق له على آخر, وشهد بصحة الدعوى عدلان؛ فإن الغالب (الظاهر) صدق الشاهدين, والأصل براءة ذمة المدعى عليه. فتعارض في هذه المسألة الغالب مع الأصل فيقدم الغالب بالإجماع على الأصل؛ لأنه حجة ثابتة بالشرع([152]).
إذا شهد شاهدان عدلان ببراءة ذمة من اشتغلت ذمته بدين ونحوه, فإنه يبرأ بهذه الشهادة([153])؛ مع أن الأصل أن ذمته شغلت بيقين فلا تبرأ إلا بيقين؛ ولكن لما شهدت البينة ببراءة الذمة وهو الغالب قدمت بالإجماع على الأصل؛ لأن الغالب هنا ثابت بالشرع.
إخبار الثقة بطلوع الفجر في رمضان, فإنه يحرم الطعام والشراب والجماع, وإن كان الأصل خلافه وهو بقاء الليل([154]).
إخبار الثقة بدخول وقت الصلاة, أو إخباره بنجاسة الماء وإن كان الأصل خلافه([155]).
قبول قول المرأة في انتهاء حيضها وانقضاء عدتها بالقروء, في أقل ما يمكن, وإن كان الأصل يقتضي خلافه([156]).
الحالة الثانية: إذا لم يكن الغالب كذلك بل كان مستنده العرف أو العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة الظن ونحو ذلك. فله ثلاث حالات:
1- يقدم الأصل ولا يلتفت إلى الغالب, وضابطه: أن يعارض الأصل احتمال مجرد.
2- يقدم الغالب على الأصل, وضابطه:أن يكون الظاهر سبباً قوياً منضبطاً.
3- وتارة يستويان في القوة, فيكون ترجيح أحدهما على الآخر محل اختلاف الفقهاء([157])؛ لأن اختيار الأصل في مثل هذه الحالة مع إهدار النظر في الغالب ليس هو الصواب دائماً, بل قد يكون الظاهر أقوى دلالة على حكمة التشريع ومقاصده, قال السبكي ([158]): "فإن عارض الأصل ظاهر فقيل: قولان دائماً. وقيل:غالباً. وقيل: أصحهما اعتماد الأصل دائماً. وقيل: غالباً. والتحقيق: الأخذ بأقوى الظنين "واختار الزركشي ضابط الترجيح في المنثور ما قاله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: "يجب النظر في الترجيح كما في تعارض الدليلين, فإن تردد في الراجح فهي مسائل القولين, وإن ترجح دليل الظاهر عمل به, أو دليل الأصل عمل به"([159])
ومن أمثلة القسم الأول:
إذا تيقن الطهارة في ماء أو ثوب أو أرض أو بدن, ثم غلب على ظنه زوال الطهارة؛ فإنه يبني على الأصل, وهو الطهارة إلى أن يتيقن زواله، ولا يكتفي في ذلك بغلبة الظن ولا غيره، فيقدم الأصل على الغالب هاهنا([160]).
وكذلك لو تيقن حدثاً أو نجاسةً وغلب على ظنه زوالها, فإنه يبني على الأصل وهو الحدث أو النجاسة, ومثلها من ظن طلاقاً أو عتقاً أو صلى ثلاثاً أو أربعاً فإنه يعمل في كلٍّ بالأصل ولا يلتفت إلى الغالب([161]).
"أجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح, حتى يُعلم يقين وفاته مادام على الإسلام"([162]), عملا بالأصل, وهو بقاؤه حياً إلى أن يثبت عكسه مع أن الظاهر في الأسير الذي انقطع خبره الموت.
إذا ادعى شخص عرف بالصلاح والتقوى أن له دينا على آخر, فإن الظاهر يصدقه؛ لأنه في الظاهر لن يدعي ما ليس له. ولكن الأصل مع المدعى عليه, وهو براءة ذمته, فلا تشغل إلا بيقين, فيحكم بالأصل ولا يلتفت إلى الغالب في هذه الحالة([163]).
ومن أمثلة القسم الثاني: تقديم الغالب على الأصل.
إذا نام المتوضئ نوما ثقيلا فإن وضوؤه ينتقض؛ لأنه مظنة خروج الحدث, وهذا من باب تقديم الغالب, وإن كان الأصل عدم خروجه وبقاء الطهارة, فقدم الغالب على الظاهر([164]).
المستحاضة المعتادة ترجع إلى عادتها, وإن لم تكن لها عادة فإلى تمييزها، وإن لم يكن لها عادة وتمييز رجعت إلى غالب عادة النساء, وهي ست أو سبع على الصحيح؛ لأن الظاهر مساواتها لهن، وإن كان الأصل عدم فراغ حيضها حينئذ([165]).
إذا شك شخص بعد الفراغ من الصلاة في ترك ركن منها, فإنه لا يلتفت إلى الشك، وإن كان الأصل عدم الإتيان به, وعدم براءة الذمة, لكن الظاهر من أفعال المكلفين للعبادات أن تقع على وجه الكمال فيرجح هذا الظاهر على الأصل([166]).
من قال لزوجته أنت طالق ثم ادعى سبق اللسان, فإنه لا يصدق ظاهراً إلا بقرينة؛لأن الظاهر من كلام العاقل أنه لا يتكلم إلا عن قصد, فالأصل هنا ضعيف -وهو عدم القصد- لوجود المعارض -وهي التهمة لحرمة الأبضاع- وبقي الظاهر سالماً من المعارضة فقدم([167]).
أمثلة القسم الثالث: اختلاف الترجيح:
الشيء الذي لا تتيقن نجاسته, ولكن الغالب فيه النجاسة, كأواني وثياب مدمني الخمر, وملابس الكفار, وما ينسجونه؛ لأنهم لا يتحرزون من النجاسات, فهل يحكم بالغالب وهو النجاسة, فيحكم بعدم الجواز أو الأصل وهو الطهارة فيحكم بالجواز, محل خلاف بين الفقهاء([168]).
اختلف الفقهاء في حكم الصلاة في المقبرة القديمة المشكوك في نبشها فهل يحكم بنجاستها؟ لأن الغالب نبشها فيقدم الغالب على الأصل وتحرم الصلاة فيها, أو بطهارتها؟ لأن الأصل عدم النبش فيحكم بالطهارة استصحاباً للأصل([169]).
ولو كان هناك خلوة شرعية واتفق الزوجان على وجودها ثم اختلفا في الوطء ففي المسألة قولان: الأول: تصديق المنكر; لأن الأصل عدمه. والثاني: تصديق المدعي للوطء; لأن الظاهر من الخلوة الوطء غالباً ([170]).
الزوجة تعيش مع زوجها سنين طويلة, ثم تدعي عليه عدم النفقة طوال هذه المدة والزوج ينكر الدعوى, وليس هناك بينة لأحدهما. فعلى الاعتبار الأول (الأصل): القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم قبضها للنفقة كسائر الديون. وعلى الاعتبار الثاني (الغالب) القول قول الزوج؛ لأنه الظاهر من حاله والمعتاد بين الناس([171]).
ويرتبط بهذه القاعدة قاعدتان أخريان وهما: تعارض أصلين, وتعارض غالبين, فإنه يقدم أرجحهما([172]):
مثال تعارض أصلين:
شخص أدرك الإمام وهو راكع، فكبر وانحنى وشك هل بلغ الحد المعتبر قبل ارتفاع الإمام؟, اعتباران, الأول: أنه مدرك للركعة؛ لأن الأصل بقاء ركوعه، والثاني: لم يدرك الركعة؛ لأن الأصل عدم الإدراك([173]).
إذا ظهر بالمبيع عيب واختلف العاقدان هل حدث عند المشتري أو عند البائع, باعتبار أن الأصل سلامة المبيع القول قول البائع؛ لأن الأصل السلامة ولزوم البيع بالتفرق. والاعتبار الثاني الأصل إشغال ذمة البائع: فالقول قول المشتري؛ لأن الأصل عدم القبض المبرئ([174]).
ومثال تعارض غالبين:
إذا أقرت المرأة بالنكاح وصدقها المقر له بالزوجية, فعلى الاعتبار الأول: قبول الإقرار؛ لأن الظاهر صدقهما فيما تصادقا عليه, وعلى الاعتبار الثاني: إن كانا مقيمين في بلد معين طولبا بالبينة, لمعارضة هذا الظاهر بظاهر آخر, وهو أن المستوطنين بالمدن والقرى يعرف حالهما غالباً, ويسهل عليهما إقامة البينة([175]).
أن يختلف الزوجان في متاع البيت, وتكون يد كل واحد منهما ظاهرة, فعلى الاعتبار الأول: الغالب فيما كان خاصاً بالرجال أنه ملك للزوج وما كان خاصاً بالنساء فهو من ملك الزوجة نظراً للظاهر المستفاد من العادة الغالبة, والغالب الثاني: أن من كانت يده ظاهرة في ملك شيء فهو له, لأن وضع اليد من أسباب الملك فيسوى بينهما بغض النظر عن ما يخص أحدهما([176]).
بقي أن أشير في نهاية هذا المبحث إلى أن فقهاء كل مذهب أدلوا بدلوهم في المسائل السابقة استدلالاً ومناقشةً وترجيحاً, وليس هدف البحث تتبع أقوالهم وأدلتهم في كل مسألة, ولكن يتضح أمر مشترك بينها جميعاً, وهو أن العمل عند العلماء يكون بأقوى الدليلين من وجهة نظر المجتهد, فبالرغم من أن الظاهر(الغالب) حجة شرعية في مواطن كثيرة, إلا أنه لا يقوى في بعض المواطن على دفع الأصل المعارض له فيهدر ويتمسك بالأصل, والعكس صحيح, ومثل ذلك يقال في تعارض الأصلين, وتعارض الظاهرين, وهنا تتفاوت درجات الفقه عند العلماء.
هذا والحديث عن تعارض الأصل والغالب يسوق البحث سوقا للبحث في حكم النادر الذي يتجاذبه الأصل والغالب, ولست أقصد بحكم النادر الحكم الشرعي التكليفي, ولكن المقصود بحكمه هل يأخذ حكم الغالب من جنسه مطلقا؟, أم أنه ينفرد بحكم خاص به ؟, وهل يلحق بالأصل أم بالغالب, وهذا ما سوف يناقش في المبحث الآتي.
المبحث الرابع
حكــم النــادر
من خلال المباحث السابقة ترددت أمثلة لبعض المسائل النادرة والقارئ الكريم قد لاحظ أن عدداً منها قد أخذ حكم الغالب, وبعضاً منها أخذ حكماً مغايراً لحكم الغالب خاصاً به وفي هذا المبحث سوف يناقش حكمه مع التمثيل؛ لأنه قد يلتبس على بعض الناس قولهم: "النادر لا حكم له" أنه لا يوجد حكم شرعي للنوادر،وهذا غير مقصود إطلاقاً من قولهم, إذ لا تكون مسألة من غير حكم شرعي. وحكم النادر لا يخلو من أن يكون واحداً من ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: اعتبار الغالب وتقديمه على النادر, فيلحق النادر بالغالب من جنسه فيكون لهما الحكم الشرعي نفسه.
الاحتمال الثاني: استقلال النادر بحكم خاص به مغاير لحكم الغالب, وهو ما يسمى عند الفقهاء إلحاق النادر بنفسه.
الاحتمال الثالث: إلغاء الغالب والنادر معاً. ذكر القرافي في الفرق التاسع والثلاثين والمائتين بين قاعدة ما اعتبر من الغالب وبين ما ألغي من الغالب هذه الحالات الثلاث مع التمثيل لكل حالة, وأطال النفس في الحالتين الثانية والثالثة ووافقه بعض العلماء -ممن من جاء بعده- ممن كتبوا في القواعد([177]).
الحكم الأول: إلحاق النادر بالغالب من جنسه, فيأخذ حكمه الشرعي, وهذا هو الأصل، وتطبيقاته في الفقه الإسلامي لا تنحصر, والأمثلة عليه كثيرة جداً وسوف أقتصر على بعضها طلباً للاختصار:
المثال الأول: الخارج من السبيلين من النجاسة المعتادة كالبول والغائط والريح, فهذا ينقض الوضوء إجماعا([178]), وهذا هو مخرجه المعتاد, إما إذا حدث وخرجت النجاسة السابقة من غير المخرج المعتاد وكان خروجها من فتحة تحت السرة مع انسداد المخرجين الأصليين, فإن هذه الصورة النادرة تلحق بالغالب واتفق الفقهاء على انتقاض الوضوء في هذه الصورة([179])؛ لأنه لا بد للإنسان من موضع يخرج منه البول والغائط، فإذا انسد المخرج المعتاد وانفتح آخر دون السرة كان ذلك بمنـزلة الأصلي فيلحق به في الحكم إجراء للنادر مجرى الغالب. وكذا الحكم في دم الاستحاضة فهو نادر غير معتاد في نقض الطهارة, فيقول عامة أهل العلم كدم الحيض والنفاس المعتادين إلا في قول ربيعة الرأي([180]).
المثال الثاني: الغالب في أحوال النساء أن ينقطع عنهن الدم في مدة الحمل، وربما وجد الدم في حال الحمل خلافاً للغالب وهو نادر جداً, فيخرج الدم على صفة الحيض وقدره، من أول شهر في الحمل إلى آخر شهر, فهل يعد هذا الدم حيضاً أم لا؟.
والقول الراجح في المسألة وهـو قـول جمهـور التـابعـين منهـم: سعـيـد بـن المسـيـب وعطاء وسفيان الثوري, والأوزاعي وابن المنذر وأبو ثور([181]), وقـول الحنفيـة، وقـول عنـد الشـافعيـة، وهو مذهب الحنـابلـة([182]) أن الدم الذي تراه الحامل أثناء حملها استحاضة، وأن الحامل لا تحيض؛ لأن الحمل زمن لا يعتادها الحيض فيه غالباً، فلم يكن ما تراه فيه حيضاً، قال أحمد: "إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم"([183]). وهذا القول يؤيده الطب الحديث إذ يرى الأطباء: أن الدم الذي تراه الحامل أثناء حملها استحاضة، وأن الحامل لا تحيض بحال, وأن ما تراه المرأة من الدم هو في حقيقته دم خلاف طبيعة الحيض, ويسمونه الحيض الكاذب, حتى ولو كان في موعده، ويرون أن نزوله عائد لأسباب عصبية وظيفية فحسب([184]).
المثال الثالث: إذا سافر الشخص سفراً مباحاً فإنه يجوز له الفطر بإجماع العلماء, وهذا الجواز يعم كل مسافر سواء أكان قادرا على الصوم, أم عاجزاً, وسواء أكان في سفره مشقة, أم لم تكن عليه مشقة, كسفر المرفهين من الناس في الأجواء المعتدلة والذين لا تلحقهم أدنى مشقة في سفرهم, والسفر اليوم بالطائرة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية([185]): "لم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر, بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر", وغالب الحال في السفر المشقة فيقصر في السفر, ويفطر بناء على هذا الغالب ويلحق به السفر النادر الذي لا مشقة فيه وإن كان موجوداً([186]).
المثال الرابع: الغالب في النساء أن البنت تخلق ببكارتها, فلو خلقت البنت بدونها -وهو نادر– فإنها تعامل معاملة الأبكار في الاستئذان عند التزويج, فتلحق بجنسها, وتستأذن كما تستأذن الأبكار بالاتفاق؛ إذ الأصل في البنات البكارة فتلحق الأنثى المخلوقة بدونها بالأبكار من حيث الاستئذان, ومكث الزوج عندها سبعاً عند الزفاف, وقدر المهر إذا كانت في بلد يفرق فيه بين مهر البكر والثيب, ويلحق بها من زالت بكارتها بغير جماع, كمن زالت بكارتها بأصبع أو وثبة أو حيضة قوية, ونحو ذلك, فحكمها حكم الأبكار حقيقة؛ لعدم المباضعة؛ ولأنها لو زنت أقيم عليها حد البكر, لكنها ليست عذراء([187]).
المثال الخامس: ترد شهادة العدو على عدوه, والخصوم بعضهم على بعض إذا كانت الخصومة على أمر دنيوي كشهادة المقتول وليه على القاتل؛ لأنهم متهمون, والغالب في حالهم عدم الإنصاف والجور, وقد يكون من الأعداء من لا حيف عنده ولا جور في الشهادة؛ فألغي لندرته وعمل بالغالب في قول أكثر الفقهاء, منهم: ربيعة والثوري وإسحاق, ومالك والشافعي وأحمد, وهو قول معتمد عند الحنفية اختاره المتأخرون, وفي قول عند الحنفية: تقبل شهادة العدو إلا إذا فسق بها([188]).
الثاني: إلحاق النادر بنفسه, بمعنى أن له حكمه الخاص به الذي ينفرد به عن جنسه, فيكون مستثنى من القاعدة, وفيه يقول القرافي: "ما ألغي فيه الغالب، وقدم النادر عليه، وأثبت حكمه دونه رحمة بالعباد"([189]) ومثل له بعشرين مثالاً على حد قوله([190]), منها ما هو محل اتفاق, ومنها ما كان على الراجح -في نظره-, أكتفي منها بخمسة أمثلة:
1- الغالب في المواليد أنهم يولدون بعد مدة حمل تسعة أشهر, فلو وضعت المرأة مولوداً بعد خمس سنين من زوج طلقها فالغالب أن الحمل كان من سفاح, والنادر أن يكون تأخر في بطن أمه كل هذه المدة, ومع ندرة الاحتمال الثاني إلا أن الشرع أثبته, وألغى الاحتمال الأول رحمة بالعباد لحصول الستر عليهم, وصون أعراضهم عن هتكها.
وأجاب على هذا المثال ابن حزم في الرد على القائلين بأن الحمل قد يزيد عن تسعة أشهر: "ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر؛ لقول الله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥ ], قال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَا ُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: ٢٣٣], فمن ادعى أن حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهراً فقد قال الباطل والمحال"[191], ثم قال بعد أن ساق القصص والأخبار التي رويت في ذلك وهي: "راجعة إلى من لا يصدق، ولا يعرف منه ولا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا"[192], وقال القرطبي: "وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أمر النساء"[193], وقال الشوكاني -وهو ممن أغرب في المسألة فلم ير حداً لأكثر الحمل-: "لم يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أكثر مدة الحمل أربع سنين"[194]
هذه المسألة تنازع فيها الفقهاء ونسبت لهم أقوال كُثر ويمكن إجمالها في ثلاثة أقوال رئيسة:
القول الأول: أكثر مدة الحمل تسعة أشهر وهي المدة المعهودة, وهو قول الظاهرية وأكثر الباحثين, وبه صدر قرار المجمع الفقهي, وإن كان قرار المجمع الفقهي بأن أكثره سنة للاحتياط, لما يقد يقع من خطأ في الحساب[195].
القول الثاني: إن الحمل يمكن أن يمتد لعدد من السنوات, على خلاف بينهم في تحديد عدد السنين, فذهب محمد بن عبد الحكم واختاره ابن رشد إلى أن أكثر الحمل سنة[196] ومذهب الحنفية أن أكثره سنتان[197], ومذهب الشافعية والحنابلة أن أقصى الحمل أربع سنين, وهو قول مشهور عند المالكية[198], والقضاء عند المالكية على أن أكثر الحمل خمس سنين[199].
القول الثالث: لا حد لأكثر الحمل، فإذا ظهر بالمرأة حمل أو وجدت القرائن الدالة على الحمل كالحركة في البطن فإننا ننتظر وإن طالت المدة، أما إذا مضت التسعة أشهر ولم يظهر بها علامات الحمل فلا انتظار؛ لأن الأشهر التسعة هي المدة الغالبة, وبه قال أبو عبيد والشوكاني[200].
عند تأمل أدلة الفقهاء في المسألة وجدت أنها اجتهادات من العلماء بناء على حالاتٍ لحمل امتد عند بعض النساء سمعوا عنها أو شاهدوها؛ إذن الدليل:الوجود والاستقراء من عادة بعض النساء, ولكن المعتاد المعروف وهو غالب أحوال النساء الحمل مدة تسعة أشهر, وشرع الله وحكمه يكون مع المعتاد الغالب من الأحوال لا مع نوادرها الوشواذها هذا إن ثبت؛ ولهذا حصل بينهم وحصل خلاف كبير في تحديد ضابط زمني, فأين شرع الله الذي ألغى فيه الغالب وهو اعتبار هذا الحمل من الزنى وأعمل فيه النادر؟!, وإلحاق نسب طفل ممن هو ليس له بمجرد دعوى لا تقوم على أساس علمي أو شرعي -بل الدليل العلمي على خلافه وتذكر الإحصائيات الطبية أن نسبة الوفاة تتزايد عند المواليد بزيادة مدة الحمل عن الأسبوع الثاني والأربعين بسب تليف المشيمة وعدم إمدادها للجنين بالغذاء الذي يحتاجه- وفتح الباب لضعيفات الإيمان لارتكاب الفاحشة بعد الطلاق أو موت الزوج بسنوات ثم ادعاء أن الحمل حصل من الزوج بدعوى أن الحمل قد يمتد لسنوات عديدة.
ويجاب عن تلك الروايات إن صحت, بأنه توهم من المرأة وهو ما يسمى بالحمل الكاذب لمدة من الزمن, ثم يكون هناك حمل حقيقي فتظن أن بداية حملها منذ توهمت, وقد يعززه إذا كان هناك ظهور لبعض الأسنان[201].
2– إذا تزوج رجل بامرأة فولدت لستة أشهر, فهذا الولد من الجائز أن يكون من وطء قبل العقد (زنى)، وهو الغالب أو من وطء بعده، وهو النادر فإن غالب الأجنة لا توضع إلا لتسعة أشهر.
ولو تأملنا المثال السابق لوجدنا أن الحكم بلحوق نسب الولد بالزوج ليس من باب تقديم النادر على الغالب, ولكن الظاهر معارض بدليل أقوى منه وهو الإجماع حيث أجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر, فلو ولدت لأقل من ستة أشهر لم يلحق بالزوج, وبعد الستة أشهر يلحق به([202]), ومستند الإجماع الدليل المركب من قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥] مع قوله تعالى: ﴿ﮪوَالْوَالِدَ اتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: ٢٣٣]
وجه الدلالة: إذا كان الحمل والإرضاع معاً مدة ثلاثين شهراً, وكانت مدة الرضاع منه سنتين, كان الباقي من المدة وهو ستة أشهر متعينًا للحمل, وهذا هو الموافق للواقع حيث ولد أناس لستة أشهر وعاشوا, وهو المنقول في كتب التاريخ والسير والطب, وإن كان نادراً([203]).
ويقول الأطباء المحدثون أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, إلا أن المولود لها نادراً ما يعيش في الأحوال العادية, ويحتاج لعناية طبية خاصة, ومع تقدم مجالات الطب ووجود الحاضنات الطبية أصبح بالإمكان إيجاد فرصة أكبر لمثل هؤلاء الخدج في الحياة، يقول الطبيب أحمد كنعان: "ويتفق أهل الطب والفقهاء حول أقل مدة الحمل، إذ تؤكد الشواهد الطبية أن الجنين الذي يولد قبل تمام الشهر السادس لا يكون قابلا للحياة"([204]).
والذي أريد الوصول إليه من سوق هذه المسألة بدليلها هو أن إعمال الغالب في النادر وإلحاقه به في الحكم إذا كان النادر يمكن حمله على الغالب ولم يوجد دليل أقوى منه يعارضه أما إذا وجد دليل أقوى في المسألة فلا شك في تقديم أقوى الدليلين وأمضى الحجتين, وليس هذا من تقديم النادر على الغالب بل هو من تعارض الغالب مع ما هو أقوى منه فيلحق النادر بالأقوى منهما.
3- طين المطر الذي يقع في الطرقات, والوحل في الشوارع والممرات, الغالب عليه النجاسة والنادر السلامة منها, وإن كنا لا نرى عينها؛ إذ الشوارع تدوسها الدواب في الغالب ومع نزول المطر تختلط النجاسة به, ولا بد أن يصيب المارة شيئا من النجاسة, ومع ذلك ألغى الشارع حكم الغالب, وأثبت حكم النادر, توسعة على الناس ورحمة بهم([205])؛ وأجاز الشارع للناس الصلاة من غير غسل لثيابهم وأبدانهم إذا كانت النجاسة غير متيقنة أو تحققت لكنها يسيرة, أما إذا ظهرت بالثوب أو البدن نجاسة فاحشة وتحقق الشخص من وجودها وجب غسلها([206]). الذي ذكره العلامة القرافي ليس -في نظري- من إلغاء الغالب وتقديم النادر عليه, بل هو من تقديم الأصل على الغالب؛ لأن الأصل في الأرض الطهارة, حتى يثبت بيقين خلافها فالمسألة على ذلك من باب التعارض بين الأصل المستصحب والغالب, وترجيح الأصل عليه([207]) لما فيه من التيسير على الناس والرحمة بهم ورفع الحرج عنهم, فيأخذ النادر حكما خاصاً به يختلف عن حكم الغالب من جنسه وهو ما يسميه الفقهاء حكم نفسه.
4- جواز الصلاة في ثياب الفساق من المسلمين الذين لا يتحرزون عن النجاسات, كشاربي الخمر -مثلا- ما لم يتأكد من إصابة النجاسة عينها, ومن المعلوم أن شارب الخمر يفقد عقله ولا يتحرز غالباً من النجاسة في حال سكره, والنادر هو احتياطه من النجاسات حال سكره ومع ذلك جاز استعمال ملابسه, وكذلك ما يصنعه الفساق الذين لا يتحرزون من النجاسات ويباع في الأسواق من الأطعمة والأواني والمنسوجات([208]) وهذا في قول عامة العلماء, بل وحتى ما يصنعه المشركون ويلبسونه على الراجح من أقوال أهل العلم([209])؛ لأن الطهارة في الأشياء أصل والنجاسة عارضة, فتبقى الأشياء على الأصل حتى يعلم حدوث النجاسة, وإن كان الظاهر هو النجاسة, لكن الطهارة ثبتت بيقين, واليقين لا يزول إلا بيقين مثله, فيترجح الأصل غلى الغالب.
5- إذا ادعى الرجل الصالح التقي على الفاجر الظالم درهماً, فالغالب صدقه, والنادر كذبه, ومع ذلك قدم الشرع حكم النادر على الغالب, مع أن الظاهر يصدق قوله, والنادر كذبه وجعل الشرع القول قول الفاجر لطفاً بالعباد, بإسقاط الدعاوى عنهم([210]), هذه المسألة يتجاذبها غالب: وهو ما ذكره العلامة القرافي, وأصل: وهو براءة الذمة, وكون المدعى عليه فاسقاً لا ينافي براءة ذمته فألزم التقي بالبينة في دعواه, فالمدعي لا يستحق على غيره شيئاً لمجرد الدعوى مهما كان صلاحه وتقواه وورعه, وجانبه ضعيف يحتاج إلى ما يدعمه من البينات, فالقاضي ليس له إلا البينات الظاهرة, أما بواطن الأمور فأمرها لله وليس أمام القضاء هنا إلا الحكم ببراءة الأصل إذا لم توجد البينة والقاعدة: "أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر"([211]). فقدم الأصل لقوته ورجحانه على الظاهر.
ومن خلال الأمثلة السابق وغيرها يمكن أن اخلص إلى أن الشارع إذ يعطي النادر حكماً خاصاً به مغايراً لحكم الغالب لوجه يقتضيه لكونه وافق معنى آخر أقوى من الغالب (الظاهر) وليس من باب تقديم النادر على الغالب, إذ النادر يوافق أصل شرعي معتبر فيكون الأصل والنادر متوافقان ومقابلان للظاهر, فتكون المسألة من باب تعارض الأصل والغالب وليس تعارض الغالب والنادر, ولهذا ختم القرافي -رحمه الله- في نهاية المطاف بقوله: "ونظائر هذا الباب كثيرة في الشريعة, فينبغي أن تتأمل وتعلم, فقد غفل عنها قوم في الطهارات فدخل عليهم الوسواس, وهم يعتقدون أنهم على قاعدة شرعية, وهي الحكم بالغالب, فإن الغالب على الناس والأواني والكتب وغير ذلك مما يلابسونها لنجاسة فيغسلون ثيابهم وأنفسهم من جميع ذلك, بناء على الغالب وهو غالب كما قالوا, ولكنه قدم النادر الموافق للأصل عليه وإن كان مرجوحاً في النفس وظنه معدوما لنسبة للظن الناشئ عن الغالب"([212]), فوضح أن الترجيح كان بالأصل لا بالنادر.
الثالث: إهمال الغالب والنادر معاً: وهو المراد بقول القرافي: "وقسم يلغيان فيه معاً" وفي هذا القسم يذكر القرافي عشرين مثالاً –أيضا– يرى أن الشارع أهمل الغالب والنادر سواء بسواء([213]), وأكتفي بسوق بعض منها وهي توضح المقصود.
"الأول: الغالب صدق شهادة الصبيان في الأموال إذا كثر عددهم جداً, والنادر كذبهم فأهملهم الشرع ولم يعتبر صدقهم ولا قضى بكذبهم؛ رحمة بالعباد ولطفاً بالمدعى عليه.
الثاني: الغالب صدق الجمع الكثير من جماعة النسوان في أحكام الأبدان والنادر كذبهم لا سيما مع العدالة, فألغى صاحب الشرع صدقهن ولم يحكم به ولا حكم بكذبهن؛ لطفا بالمدعى عليه.
الثالث: الغالب صدق الجمع الكثير من الكفار والرهبان والأحبار إذا شهدوا والنادر كذبهم فألغى صاحب الشرع صدقهم؛ لطفا بالمدعى عليه ولم يحكم بكذبهم.
الرابع: الغالب صدق شهادة الجمع الكثير من الفسقة والنادر كذبهم فلم يحكم الشرع بصدقهم؛ لطفا بالمدعى عليه"([214]).
وإذا تأملنا الأمثلة السابقة التي ذكرها العلامة القرافي فإننا نلاحظ أن الغالب تعارض مع أصول شرعية معتبرة في الدعوى والشهادات فأهمل الغالب والنادر معاً في الشريعة حسماً للاضطراب في الأحكام وتحقيقاً للعدل بين الناس وصيانةً لأعراضهم وسترا ًعليهم.
وما ذكره لا إشكال فيه إذا كان عدد الشهود قليلاً لم يصل إلى حد التواتر, فمن المعلوم أن شهادة الصبيان في الأموال غير مقبولة؛لأن شرطها العدالة ومن شرط العدالة البلوغ([215]), وأما شهادة النساء منفردات في الحدود والقصاص فلا تقبل بالاتفاق, ومع الرجال لا تقبل –أيضا– في قول جمهور أهل العلم, وهو قول الأئمة الأربعة([216]) وحكاه ابن المنذر إجماعا في الحدود([217]), وروي عن عطاء وحماد وهو مذهب الظاهرية القول بجوازها([218]) -ولكل من القولين وجهته, وبسط الأدلة تراجع في كتب الفقه([219])- ولم تقبل شهادة الكافر على المسلم بالاتفاق في غير جواز الوصية في السفر إذا لم يوجد غيره([220]), والفاسق لعدم توافر العدالة فيهما وهي شرط معتبر في الشهادة فلا تقبل على الإطلاق بدونه؛ لقوله تعالى: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) [البقرة: ٢٨٢], وقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)[الطلاق: ٢], والشاهد المرضي: المسلم العدل([221]). أما إذا وصلت الشهادة إلى حد التواتر وهو ما تفيده عبارة: "الجمع الكثير" فإن الظن بصدق المئات من الكفار أو الفساق أو النساء أو الصبيان يحدث بأكثر من الظن الذي يحدث بشهادة عدلين ذكرين, فالإمام مالك قبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراحات والقصاص دون غيرها, مخالفاً بذلك جمهور أهل العلم في الجراحات التي تقع بينهم, وإجازة الإمام مالك لها من باب إجازته قياس المصلحة([222]), وقد يحدث أن تعتدي امرأة على أخرى أمام جمع من النساء كبير في فناء مدرسة, أو محفل نسائي كبير, فتزهق نفسها أو تتعرض لجراحات ولا يوجد بالمكان رجل, مع مشاهدة الجمع الكبير من النسوة اللائي يحيل العقل تواطؤهن على الكذب, مع كثرتهن وعدم وجود غرض لهن, فهل تلغى هذه الشهادة وتهدر قيمتها القضائية ؟, وأنقل نص ما نُقل عن الحموي في شرحه عن الحاوي القدسي وغيره من علماء الحنفية في تكملة رد المحتار([223]): "تقبل شهادة النساء وحدهن في القتل في الحمام فيحكم الدية؛ لئلا يهدر الدم، ومثله في خزانة الفتاوى. وفي خير مطلوب خلافه....فالأظهر ما في الحاوي وخزانة المفتين لمسيس الحاجة".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى([224]): "ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز فيغيرها, كما تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال, حتى نص أحمد على قبول شهادتهن في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة مثل الحمامات والعرسات, ونحو ذلك", وما كتبه ابن القيم في طرق إثبات الأحكام عند القاضي في كتاب الطرق الحكمية في الطريق العشرون: الحكم بالتواتر وإن لم يكن المخبرون عدولاً ولا مسلمين([225]): "والتواتر يحصل بخبر الكفار والفساق والصبيان, وإذا كان يقضى بشهادة واحد مع اليمين وبدونها بالنكول وبشهادة المرأة الواحدة, حيث يحكم بذلك, فالقضاء بالتواتر أولى وأحرى وبيانا لحق به أعظم من بيانه بنصاب الشهادة".
والذي أجد نفسي تطمئن إليه أن الدم لا يهدر والحق لا يضيع إذا وجد عدد كبير جداً من الشهود ممن ذكر سابقاً, ممن لا تقبل شهادتهم, لانتفاء العلة التي لم تقبل شهادتهم لأجلها مع تواتر عددهم, وانتفاء ما يوجب الغلط منهم, وانتفاء التهمة, وإن كانت شهادتهم في الأصل لا تفيد الظن المقبول شرعا؛ لما يعتريها من الضعف الذي يؤثر على قبولها في المواطن المذكورة شرعاً والمعروفة وبعضها ًمحل إجماع من العلماء -وكفى به حجة - وأترك الخوض في تفصيل هذه المسألة وبحثها؛ لأن مجال هذا البحث التقعيد وليس بسط المسائل بأدلتها.
المبحث الخامس
كيفية حمل النادر في الخطاب الشرعي
عندما تكلمت عن معنى القاعدة وذكرت أن مدلولها واسع جداً ولا يليق بها أن تكون مجرد ضابط من ضوابط العرف وسوف أوضح في هذا المبحث جزءاً من مدلول القاعدة فيما يتعلق بالنصوص الشرعية وكيفية التعامل معها في مسألتين شهيرتين([226])
المسألة الأولى: كيفية حمل أقوال النبي صلى الله عليه و سلم المحتملة للتشريع وغيره. بمعنى هل تحمل أقواله على الغالب من حاله وهو الفتوى أم تحمل على معانٍ أخرى ؟.
المسألة الثانية: مدى دخول الصورة النادرة في الخطاب الشرعي.
المطلب الأول
كيفية حمل أقوال النبي صلى الله عليه و سلم المحتملة للتشريع وغيره
لقد كانت مهمة النبي صلى الله عليه و سلم الأولى والرئيسة تبليغ شريعة الله الخالدة للعالمين -وما أعظمها من مهمة!- وقد بلغها على أكمل وجه وأعظم بيان, وإليه عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم المرجعية في الفتوى بحكم أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم, ولم تكن تلك هي وظيفيته الوحيدة التي تقلدها, بل كان هو الحاكم الذي يسوس الدولة الإسلامية الفتية, والقاضي المحنك الذي يفصل بين الخصوم, فكانت له سلطة الحكم, والسياسة, والقضاء بين الخصوم, والإمامة, وعلى ذلك جاءت سنته القولية والفعلية وتقريراته على وجوه أربعة:
1ـ تصرُّف مقطوع بكونه صدر منه صلى الله عليه و سلم على وجه الإفتاء وبيان شرائع الدين للأمة مثل: بيان أحكام العبادات، كالصلاة والزكاة والصيام والحج, فهذا النوع عام في حق جميع المسلمين, يجب عليهم امتثاله دون الحاجة إلى إذن من إمام أو قاض وهو الأصل والغالب فيما صدر عن النبي صلى الله عليه و سلم من السُّنن.
2ـ تصرُّف قطع العلماء بكونه صدر منه صلى الله عليه و سلم على وجه القضاء والفصل بين الخصوم. مثل تسليم الحقوق، وفسخ الأنكحة، فهذا النوع حقٌّ للقاضي لا يؤذن فيه إلا لمن كانت له ولاية قضاءٍ بلا خلافٍ يُذكر عن أهل العلم.
3- تصرّفات صدرت منه صلى الله عليه و سلم بمقتضى الحكم والسياسة والإمامة العظمى أيضا بدون خلاف يذكر, مثل: قسمة الغنائم، وقيادة الجيوش وتوزيع أموال بيت المال في المصالح, إقامة الحدود الشرعية، وإقطاع الأراضي, وهذا النوع لم يكن أحد يستطيع التصرف فيه إلا بإذنه صلى الله عليه و سلم, فهو حقّ للحاكم لا يؤذن فيه للأفراد بلا خلافٍ يذكر كذلك بين أهل العلم.
4ـ تصرّف صدر منه صلى الله عليه و سلم ليس بصريح في إرادة واحد من الوجوه المتقدمة، فهو يحتمل أكثر من وجه, وهو ما حصل فيه الخلاف بين الفقهاء.
وهذه ثلاثة أمثلة وقع الخلاف بين العلماء في حقيقة تصرف النبي صلى الله عليه و سلم فيها:
1- حديث جابر بن عبد الله م: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِي لَهُ)([227]), فذهب مالك والشافعي وأحمد([228]): إلى أنه تصرّف بالفُتيا، فلكل أحد حق في إحياء الأرض الميتة من غير توقُّف على إذن الحاكم, إذا لم تكن مملوكة لأحد, ولم تتعلق بها مصالح الناس, ولا يرتفقون بها, خلافا لأبي حنيفة [229] الذي اشترط للإحياء إذن الإمام، فلا يحل لأحد أن يقتطع شيئا من الأراضي إلا بإذن الإمام.
2- حديث عائشة م إنَّ هند بنت عُتْبة قالتْ: "يَا رَسُول َاللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُل ٌشَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَايَعْلَمُ" فَقَالَ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَك ِبِالْمَعْرُوفِ )([230]), وقد اختلف العلماء في قول النبي صلى الله عليه و سلم هذا, هل كان تصرفاً بطريق الفتوى فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به, أم هو قضاء منه فلا يجوز لأحد أن يأخذ حقه أو جنسه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض؟, فذهب أبو حنيفة إلى أنه فتوى, ومشهور مذهب مالك والشافعي وأحمد أنه قضاء, فللقاضي أن يقضي مع غيبة المدعى عليه([231]).
3- حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: (من قتلَ قتيلاً لهُ عليه ِبيِّنةٌ سلَبَهُ)([232]), وقد اختلف العلماء في هذا الحديث, هل كان تصرف النبي صلى الله عليه و سلم فيه بصفته إماماً للمسلمين, فلا يستحقُّ القاتل السَّلب إلا بإذن الإمام إن رأى أن المصلحةً تستدعيه, أم أنه فتوى نبوية للحكام يجب عليهم السير في ركابها؟, فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه سياسة يفعله الإمام إذا رأى المصلحة في ذلك, وإذا لم ينفل فليس للقاتل إلا سهمه, واشترط مالك أن يكون ذلك النفل بعد أن تضع الحرب أوزارها([233]) خلافًا للشافعي وأحمد, فعندهم كل من قتل قتيلا أعطي سلبه دون اشتراط إذن الإمام فيكون ذلك من قبيل الفُتيا النبويّة للحكّام([234]), وفي المسألة تفاصيل ليس هذا محل بسطها.
والمختار في هذا اعتبار هذه الصور تشريع وفتوى مع الأخذ في الاعتبار أنه صلى الله عليه و سلم المفتي القاضي والمفتي المنظم للدولة, فلا تفصل تصرفاته في هذه الصور عن موقعه في التبليغ عن الله -عز وجل-؛ لأن حاله صلى الله عليه و سلم هو التبليغ عن الله شرعه سواء أكان قضاء يقضيه بين الخصوم أم سياسة تنظيمية ينتهجها ما لم يدل دليل على خلاف ذلك؛ لأننا إذا جردنا تصرّفاً من تصرّفاته صلى الله عليه و سلم من اعتبار الرسالة مصدرًا ملحوظًا فيه, أمكن الالتباس في شأنه بالاختصاص؛ لأنه إذ يفعل كل ذلك يفعله بصفته الرسول الإمام الموكول إليه أمر البيان والتطبيق والقدوة, ولا يختلف موقعه في هذا من مجال إلى آخر, قال القرافي في الفروق([235]): "الغالب في تصرفه صلى الله عليه و سلم الفتيا والتبليغ, والقاعدة أن الدائر بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى", وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام([236]):" فإذا صدر منه تصرف حمل على أغلب تصرفاته وهو الفتيا ما لم يدل دليل على خلافه".
المطلب الثاني
مدى دخول الصورة النادرة في عموم الخطاب الشرعي
من المعروف أن اللفظ العام: "هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد"([237]) لكنه في بعض الحالات يطلق اللفظ العام، وتكون هناك بعض الأفراد النادرة، التي لا يتبادر إلى الذهن إرادتها، ولا تخطر ببال المتكلم, أو السامع, كما يوجد بعض الأفراد التي لم يقصدها المتكلم في كلامه، فهل تدخل هذه الصورة النادرة، بناء على استغراق اللفظ لجميع ما يصلح له ندر أو اشتهر، قصده، أم لم يقصده، أم لا تدخل، بناء على ندرتها وعدم قصدها ؟.
تحرير المسألة([238]):
اتفق الأصوليون على أن هذه الصورة النادرة، والصورة التي لم تقصد تدخل في العموم قطعاً إذا قامت القرينة على قصدها، وتخرج منه قطعاً، إذا قامت القرينة على عدم إرادتها, وبقي ما إذا لم تقم القرينة التي تدل على إفادة أيّ من المعنيين, وذلك كالفيل في الصورة النادرة، فإنه ذو خف، وقد تقع المسابقة به إلا أنها نادرة، فهل يدخل الفيل في عموم قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (لاَ سَبَقَ إِلاَّ في نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ)([239]), فيشمله الحكم، ويصح السبق به، بناء على عموم اللفظ وتناوله، أم لا يدخل بناء على ندرته. وبناء عليه هل تدخل البلاد البعيدة عن الحجاز في عموم وجوب الصوم بطلوع الفجر, والفطر بغروب الشمس؛حتى لو بلغ نهارها الساعة والساعتين؟!.
اختلف الأصوليون في دخول الصورة النادرة تحت العموم, على قولين:
القول الأول: إن الصورة النادرة تدخل تحت العموم، لصدق اللفظ عليها([240]), وهذا قول أكثر الأصوليين([241])، وظاهر كلام الغزالي([242]) ونصره الشنقيطي في أضواء البيان([243]) بقوله: "وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد, فحكم الظاهر أنه لا يعدل عنه، بل لا يجب العمل به إلا بدليل يصلح للتخصيص. وقد كان الصحابة y يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك.. ومما يوضح ذلك: أن الخنثى صورة نادرة جداً، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع".
القول الثاني: إن الصورة النادرة لا تدخل تحت العموم؛ لأنها لا تخطر بالبال غالباً([244]), وسنة الله في تشريعاته أن تكون على غالب الأحوال دون الخارج عن غالبها, وهذا قـول بعض الأصوليـين([245])، وظاهر كـلام الشافعي([246])، وقطـع به إمـام الحرمين([247]).
واعترض عليه: إن القول بأن الصورة النادرة لا تخطر بالبال لا يتماشى في خطاب الله تعالى، إذ لا تخفى عليه خافية. وأما إخراجها من صيغة العام في خطاب النبي صلى الله عليه و سلم مبني على أن دلالة الصيغ على موضوعاتها يتوقف على الإرادة ([248]).
وأجيب على الاعتراض: بأن كلام الله تعالى منزل على لسان العرب وأسلوبهم, إذ العرب هي المخاطبة بالقرآن وقد نزل بلغتهم وبما يعرفونه وألفاظ الشرع تحمل على عرف العرب فإذا جاء فيه لفظ عام تحته صورة نادرة وعادة العرب إذا أطلقت ذلك اللفظ لا تمر تلك الصورة ببالها فهذه الصورة ليست داخلة في مراد الله تعالى من هذا اللفظ, وإن كان عالما بها؛ لأن هذا اللفظ يطلق عند العرب ولايراد به هذه الصورة, وكذلك النبي صلى الله عليه و سلم لا يخاطب قومه بشيء لا يستحضرونه, فلا تقع مرادة بكلامه ولا مشمولة بلفظه([249]).
وقد ذكر الشافعية للمسألة -وهم أكثر من أثارها- أمثلة منها:
- مس الذكر المقطوع, هل ينتقض به الوضوء أم لا ؟
الصحيح من المذهب أنه ينقض الوضوء، بناء على دخول الصورة النادرة في عموم قوله صلى الله عليه و سلم: (من مسّ ذكره فليتوضأ)([250]), وقيل: لا ينتقض, بناء على عدم دخولها فيه([251]).
- جماع الميتة, هل يوجب الغسل أم لا ؟
الصحيح: أنه يوجبه، بناء على دخول الصورة النادرة في عموم قوله صلى الله عليه و سلم: (إذا التقى الختانان وجب الغسل)([252]), وقيل: لا يوجبه، بناء على عدم دخولها فيه([253]).
- إذا استمر المتبايعان مدة طويلة، ولم يتفرقا, فهل يبقى الخيار أم ينقطع ؟.
الصحيح: بقاء الخيار، بناء على دخول الصورة النادرة في عموم قولـه صلى الله عليه و سلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)([254]), وقيل: ينقطع بناء على عدم دخولها فيه([255]).
الترجيح:
الذي يظهر لي -والله أعلم– ترجيح القول الأول، وهو القول بأن الصورة النادرة تدخل تحت العموم؛ لشمول العام والمطلق للصور النادرة, فالعام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص من كتاب أو سنة, لشمول اللفظ لها وصدقه عليها, إذ الشرع عام لكل زمان ومكان والمسلمون مأمورون بتبليغ الشرع, وهذا ما فهمه الصحابة في مسألة الخنثى السابقة وإجماعهم على توريثه. ولكن مع القول بدخول الصورة النادرة في العموم لابد من التنبيه من أن العلماء لا يختلفون في تخصيص الصور النادرة إذا دل دليل على تخصيصها, وعليه فالخلاف إذن في أن العام مخصوص بهذه الصورة, أو عام أريد به الخصوص.
المبحث الخامس
الضوابط الفقهية الـتي تضبط تقديم الغالب وإلحاق النادر به
وفي هذا المبحث يطيب لي أن أتقدم بذكر ضوابط لهذه القاعدة علّها تضبط للفقيه أمره, وتمسك بزمام مسائل فقهه, وهذا المبحث يعد من الأهمية بمكان؛ لأن القاعدة كما اتضح لنا مترامية الأطراف فيها شيء من الشذوذ -أحياناً- إذا اعتبرنا العبرة للغالب على نص قاعدة المجلة بنصها المعروف: "العبرة للغالب الشائع لا للنادر" أو خلافية إذا نظرنا للنادر من زاوية الشذوذ كما ذكرها الشافعية: "النادر هل يلحق بنفسه أو بجنسه" ومن هنا كان لزاماً أن تضبط القاعدة ببعض الضوابط والقيود منها:
أن تكون المسألة التي يحكم فيها بالغالب من المسائل التي يجوز فيها الحكم بالظن, أما مسائل الاعتقاد, وأصول الدين, وكليات الشريعة وأصولها فهي أمور قطعية لا مجال فيها للقول بغلبة الظن.
ألا يعارض العمل بالغالب ما هو أقوى منه، فإذا حصل العلم واليقين بطل الظن والتخمين، مثل اليقين الحاصل بالتواتر, ومثل تعارض الغالب مع أصل أقوى منه كما مر بنا في مبحث تعارض الأصل والغالب.
أن يتعذر اليقين التام والضبط في المسألة, فننتقل حينئذ للعمل بالغالب, أما إذا أمكن اليقين فلا مجال للعمل بما دونه, مثال يوضح هذا الضابط استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة, فلو كان الشخص مسافراً, ولا مسجد هناك, ولا مرشد, فله أن يتحرى ثم يعمل بغلبة ظنه, أما إذا كان في القرى والأمصار التي يوجد بها من ساكنيها من المسلمين من يمكنه أن يرشده, فلا مجال للتحري, بل الواجب عليه السؤال, والتأكد من اتجاه القبلة في البلد يقيناً.
أن لا يوجد مع كلٍ من الأصل والغالب ما يعتضد به ويتقوى به, ويصلح أن يكون مرجحاً, فيقدم الغالب على الأصل.
إذا كان الغالب حجة شرعية, يجب قبولها شرعا كالشهادة, والرواية, والأخبار فيقدم على الأصل "براءة الذمة" في الدعوى والبينات بالاتفاق.
إذا كان النادر دائماً فإنه يدخل في عموم الغالب؛ لأن النادر الدائم يلحق بالغالب, وقد نبه الزركشي إلى هذا الضابط([256]).
إذا كان النادر يندرج تحت اللفظ في الظاهر, لكن المعنى لا يساعده فهنا تتجاذبه آراء الفقهاء كل حسب ما يترجح له, أما إذا ساعده المعنى فيحتمل القطع بدخوله في عموم اللفظ.
تقييد إلحاق النادر بالغالب على خلاف الأصل بثلاثة قيود:
القيد الأول: إذا خالف الغالب الأصل, وكان الخلاف مطردا ًفالنادر يلحق بالغالب, ويقدم على الأصل. مثال: الماء الخارج من مجرى قضاء الحاجة في الحمام؛ لاطراد العادة بالبول في الحمامات, فيحكم بنجاسته.
القيد الثاني: أن تكثر أسباب الغالب, فإذا كانت نادرة لم ينظر إليها مثاله: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث, لا يجب عليه الوضوء بالاتفاق عند الشافعية بخلاف ما يغلب على الظن نجاسته ففيه قولان عندهم.
القيد الثالث: أن لا يوجد مع الغالب أو النادر ما يقويه ويعضده, فإذا وجد مع أحدهما ما يقويه ترجح حينئذ([257]).
المبحث الخامس
تطبيقات قواعد الغلبة والندرة
تطبيق القاعدة هو ثمرتها الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين, ويتبين في زمرتها وحدة المناط, وإن اختلفت موضوعاتها وتباينت أبوابها, وكلما ضمت القاعدة مسائل منثورة من أبواب فقهية متنوعة كلما اتسمت بالقوة والصلابة, واكتسبت الشهرة والواقعية, والتكامل في البنية, ويمكن تناول تطبيقات القاعدة في إطارين فقهيين.
المطلب الأول
تطبيقات منثورة في كتب الفقه والقواعد
هذه القاعدة لها تطبيقات كثيرة جداً في كتب الفقه الإسلامي, وتشمل معظم أبواب الفقه, العبادات, والمعاملات, والأحوال الشخصية, وفي الجنايات, وفي القضاء, وقد مر بعضاً منها في ثنايا البحث, ولكن تتميماً للفائدة, وكما جرت العادة في كتابة القواعد, سوف أسرد عدداً من الأمثلة على هذه القاعدة([258]).
1- قدر فقهاء الحنفية سن اليأس من الحيض للمرأة بخمس وخمسين سنة؛ لأن الغالب من حال النساء انقطاع الحيض عند هذا السن([259]).
جواز الاستئجار على الإمامة والأذان وتعليم العلوم الشرعية, لعدم تفرغ الناس وكسل أغلبهم عن القيام بها مجانا دون مقابل, مع أنه يوجد في الأمة من يقوم بها احتساباً دون مقابل, لكنه نادر([260]).
3- إن من ملك خمساً من الإبل سنة وجب عليه الزكاة فيها, وتقدر بشاة من غالب شياه البلد([261]).
4- الغالب على عقود المسلمين الصحة, فتحمل على الصحة ما لم يدل دليل على الفساد[262].
5- يغتفر في المعاملات المالية الغرر اليسير, إذا كان الغالب فيها السلامة؛ لأن العلة من تحريم الغرر ما يترتب عليه من عدم الرضا, والخصام والنزاع بين المسلمين, فإذا كان الغرر يسيراً فاحتمال وقوع الخلاف والنزاع نادر, فيكون الحكم على الأغلب, دون الاحتمال النادر([263]).
6- الغالب في أموال المسلمين أنها حلال ومن كسب طيب, والحرام من غصب وربا ونحوهما قليل, لذلك يجوز التعامل مع المسلم في البيع والشراء دون حاجة لبحث أو سؤال عن كيف كسب تلك الأموال؛ لأن الغالب في الأموال الحل, والحرام قليل فيحكم بالأعم الأغلب.
7- الأصل أن المال الموجود بيد المسلم أنه ملكه, وأنه من كسب حلال, وهذا بناء على الغالب من حال المسلم, وقد يوجد مال حرام بيد المسلم, وقد يوجد معه ما ليس ملكا له, ولكنه نادر, فالعبرة إذن بالغالب من أحوال المسلمين فيبنى الحكم عليها([264]).
8- لو باع شخص بدراهم أو دنانير وأطلق نزل على النقد الغالب في البلد, ولو كان في البلد أكثر من نقد وجب البيان في العقد, وإذا باع ولم يبين والحال ما سبق, فإن البيع باطل([265]).
9- لو اشترى شخص شيئا في الذمة وأطلق العقد ولم يقيده بنفسه أو غيره وكان وصياً على مال يتيم, وولياً على ولده الصغير, ووكيلاً على مال غيره, فإن عقد الشراء ينصرف إليه دون غيره؛ لأن الغالب من تصرفاته التصرف لنفسه ولا ينصرف لغيره إلا بالنية([266]).
10- جوز المتأخرون من الحنفية للدائن استيفاء دينه من غير جنس حقه, مع أن المتقدمين كانوا يمنعون ذلك, لغلبة العقوق وأكل الحقوق([267]).
11- الغالب في الصغار غير البالغين عدم حسن التصرف, وقد يوجد من صغار السّن من يحسن التصرف, ويدرك حقيقة الأمور, ويميز تمييزاً صحيحا بين الحسن والأحسن فضلا عن الحسن والسيء, ومع ذلك فإن الشرع لم يصحح عقودهم بناء على الغالب من حالهم, ومن وجد منه حسن التصرف فهو نادر, فلا يلتفت إليه في بناء الأحكام الشرعية إذ الأحكام الشرعية تبنى على الغالب([268]).
12- الحكم ببلوغ من بلغ سن الخامسة عشرة؛ لأن هذا السن هو السن الشائع للبلوغ, وإن كان بعض الناس لا يبلغ إلا بعد هذه السن, لكنه نادر فلا يلتفت إليه, إذ العبرة بالغالب الشائع[269].
13– يجوز اشتراط الحصاد على العامل في عقد المزارعة, أو على صاحب الأرض, ولو كانت مؤنة الحصاد في بعض الأوقات غير معلومة؛ لأن الغالب أن الزرع يكون على العادة, وتخلف ذلك في بعض الأوقات نادر والنادر لا حكم له([270]).
14- القول قول الصانع والعامل مع يمينه, عند الاختلاف بينه وبين صاحب العين, بعد الفراغ من العمل, مع أن القول قول منكر العقد بالإجماع؛ ولكن عُدل هنا عن الأصل؛ لأن الغالب فيما يدفع لأهل الصنائع الاصطناع بمقابل, وليس الإيداع أو العمل مجانا؛ والقول بالإيداع نادر لا حكم له[271].
15- إذا أتلف شخص مالاً متقوما لغيره وجب عليه ضمانه بقيمته من نقد البلد([272]).
16- إن من لم يجد الطول في النكاح فعليه بالصوم, فإن الصيام في الغالب يكسر شهوة الفرج، وإن وجد من يزيد بالصوم شبقه لكنه نادر، وأحكام الدين تبنى على الشائع الغالب، وأما النوادر من الأحوال فلا تعتبر.
17– لا يجوز للزوج السفر بالزوجة من بلدها الذي تزوجها فيه إلا برضاها حتى وإن أعطاها الصداق المعجل كاملا؛ لأن الغالب من الأزواج الإضرار بالزوجات في العصور المتأخرة[273].
18- إذا أنكرت الزوجة تسليمها كل المعجل من صداقها, لم تسمع دعواها, مع أن الأصل معها, إذ القول قول المنكر للدعوى مع يمينه, لكن هنا القول قول الزوج؛ لأن الغالب أن المرأة لا تسلم نفسها لزوجها إلا بعد تسلمها كامل الصداق المعجل([274]).
19- إذا اختلف الزوجان في ملكية متاع المنزل, فالقول قول من يصلح له المتاع, وللزوج, فيما عدا ذلك؛ لأن الغالب أن ما يصلح للزوج فهو له, وما يصلح للزوجة فهو لها[275].
20- المرأة التي حبلت وليس لها زوج, ولم تدع شبهة, فالغالب أن حملها كان من سفاح, والاحتمال النادر أن يكون حملها بوطء شبهة أو مع إكراه, فيحكم عليها بالحد على المأثور عن الخلفاء الراشدين والأشبه بأصول الشريعة؛ لأن الأصل إلحاق الفرد النادر بالغالب, والاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها([276]).
21- الحكم بموت المفقود إذا مرت تسعون سنة من عمره؛ لأن الغالب أن الناس لا يعيشون أكثر من هذه السن, وإن كان بعض الناس يعيشون أكثر من التسعين لكنه نادر والعبرة بالغالب([277]).
22- تجب الإبل في الدية في مال الجاني في القتل العمد, أو على العاقلة في قتل الخطأ, وتكون من غالب إبل البلد([278]).
23- إن سباع البهائم الغالب فيها الناب, وقد توجد سباع بدون ناب لكنه نادر[279].
24- إن الكلب المعلم إذا كان في الغالب لا يأكل من الصيد كان ما يصيده حلالاً، أما إذا كان الغالب أنه يأكل مما صاده فليس بمعلم, ولا يعتبر ما أمسكه حلالاً، وإذا كان أكله نادرًا أو عدم الأكل نادرًا, فالنادر لا يعتبر في بناء الأحكام الشرعية.
25- قال المتأخرون من الحنفية: ليس للقاضي أن يقضي بعلمه؛ لأن الغالب من القضاة فساد حالهم ([280]).
نماذج لبعض التطبيقات المعاصرة.
الأمثلة من النوازل الفقهية التي استجدت مشكلاتها في هذا العصر كثيرة منها ما كان مبناه العرف والعادة الغالبة, ومنها ما كان منشأه المصلحة الغالبة, واقتصرت على بعض النماذج التي تجلي المقصود:
1- الإفتاء في المسائل الفقهية المستجدة ينبغي أن يكون اجتهاداً جماعياً, وهذا المسلك أحرى بالصواب, وأبعد عن لوثة الخطأ, وأقنع وأرقى وأكمل, وينبغي أن يكون الإلزام برأي الأغلبية في الاجتهاد الجماعي الصادر عن مجمعية فقهية علمية معتبرة متخصصة في الإقليم إلزاما قضائيا, وعملياً, إذ الغالب أن الحق معها, أما علمياً فكل له اجتهاده, وكذلك الحال في قضايا الأمة العامة التي تتعلق بالأمة أو الدولة, وتتعلق بالسياسة والحكم والسلم والحرب, ويتحمل الإسلام تبعات الفتوى فيها, ويتلظى المسلمون بنارها إذا انحرفت عن مسارها الصحيح, وقد يترتب عليها كوارث أو حروب أو مقاطعات دولية, تدفع الأمة ثمنها.
2- إرسال الأولاد الصغار للدراسة والتربية في مدارس وجامعات البلاد الكافرة والإقامة الطويلة في تلك المحاضن مع ضعف في التربية الإسلامية, والحصانة الشرعية القويمة, فالغالب من هؤلاء التأثر بمعتقدات وأفكار وأراء ومناهج المربين لهم, مما يؤثر سلباً على معتقداتهم, وتربيتهم, وقد ينتج عنه في الغالب الاستخفاف بالدين, إن لم يصل للكفر, وإن وجد نادراً من لم تتغير هويته الإسلامية لكنه نادر, فالحكم بمنع السفر لمثلهم متعين, إذ العبرة بالغالب والنادر لا حكم له.
3- استعمال مكبرات الصوت لرفع الأذان, لما فيه من المصلحة الشرعية من إعلان الصلاة والدعوة إليها, وهذا فيه مصلحة غالبة, وقد يحصل مفسدة محتملة ونادرة من إزعاج للأطفال والنائمين من المعذورين, فلا يمنع استعمال المكبرات بدعوى نادرة؛لأن العبرة بالمصلحة الغالبة.
4- الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية التي تنعدم فيها العلامات الفلكية الظاهرة في فترات من السنة, فتقدر فيها أوقات الصلاة بالزمن بأقرب البلاد إليها, وهو أشهر الأقوال في المسألة, وفي قول بمكة المكرمة أو المدينة, وكذلك البلدان التي يكون ليلها طويلاً جداً, أو نهارها, بحيث يصوم الناس ساعتين أو ثلاث في فصل الشتاء, ويصومون معظم اليوم في فصل الصيف, من العلماء من رأى أن هؤلاء يصومون كما يصوم الناس في مكة؛إذ هي أم القرى, أو المدينة, أو أقرب البلاد المعتدلة إليهم؛لأنه قد جرت سنة الله في التكاليف أن ترد على غالب الأحوال، دون أن تتعرض لبيان حكم ما يخرج على هذا الغالب, فتلحق هذه البلاد بغيرها من البلاد المعتدلة([281]).
5- ذهب عدد من العلماء إلى جواز شراء أسهم الشركات المساهمة التي غالب أنشطتها الأصلية مباحة, ولكنها تتعامل بالربا عرضا وعند الحاجة؛ لأن كل شيء أفسده الحرام والغالب عليه الحلال فلا بأس ببيعه؛إذ الحكم للأغلب.
6- الواجب على الطبيب قبل إجرائه عملية جراحية لمريضة أن يضع نصب عينية مدى احتمالية نجاح العملية فإن كانت نسبة النجاح كبيرة في الغالب, مع احتمالية نادرة لعدم نجاحها أقدم عليها, إذ العبرة للغالب والعكس صحيح.
7- وكذلك الواجب عند صرف دواء معين للمريض فإنه ينظر لما غلبت فائدته, أما إذا كان نفع أناس محدودين, وفي المقابل أضر بالكثرة الكاثرة, فلا يجوز له صرف هذا الدواء.
8- الحكم بجواز الإجهاض وإقدام الطبيب عليه إذا كان في بقاء الحمل موت الأم في الغالب.
9- المريض إذا أفاق من البنج لا يلزمه الغسل؛ لأن الغالب أنه لا يحصل منه إنزال في حال الإغماء.
10- من شروط جواز نقل وزراعة الأعضاء من جسم إنسان حي إلى آخر أن يكون نجاح كل من عمليتي النـزع والزرع محققًا في العادة أو غالبًا.
الخاتمة والتوصيات:
من خلال هذا البحث توصلت لعدة نتائج من أبرزها:
1- إن قواعد الغلبة والندرة ذات صياغات متعددة, ولعل أضبط وأشمل صياغة لها صياغة مجلة الأحكام العدلية: "العبرة للغالب الشائع لا للنادر" وهي التي كانت محل البحث.
2- إن القاعدة تعد من القواعد الاجتهادية الاستنباطية الثابتة بالاستقراء لنصوص الشريعة.
3- نص العلماء على أن المقصود من العموميات في نصوص الشريعة الأحوال الغالبة.
4- في تقديم الأصل على الغالب أو تقديم الغالب على الأصل إذا لم يكن مع أحدهما مستند من النص الشرعي يرجع إلى قوة الغالب أو الأصل وفي هذا تختلف أفهام الفقهاء.
5- الأصل في النادر أن يلحق بالغالب, وقد يتخلف هذا الحكم لوجود معارض قوي, لكنه يظل استثناء وشذوذ من القاعدة ولا يؤثر في عمومها, بل قد يهمل الغالب والنادر معاً ويحكم في المسألة بحكم آخر مخالف لحكمهما.
6- الأصل في أقوال النبي صلى الله عليه و سلم المحتملة للتشريع وغيره حملها على التشريع؛ مع الأخذ في الاعتبار أنه صلى الله عليه و سلم المشرع والحاكم والقاضي فلا تفصل أحواله.
7- إن الصور النادرة تدخل في عموم النص الشرعي ما لم يدل دليل على تخصيصها.
8- ضرورة مراعاة الضوابط الفقهية التي تضبط تقديم الغالب وإلحاق النادر به؛ حتى لا تضطرب المسائل عند الفقيه.
9- اشتمال القاعدة على عدد كبير من التطبيقات الفقهية مما يعطيها الأهمية والواقعية.
يتبع