التوكل
عبد العزيز بن سعد الدغيثر
التوكل عبادة عظيمة، يدل على صدق الإيمان، وثبات اليقين، وهو عملٌ قلبي يكسب صاحبه طمأنينة وثقة وانشراحاً، واعتماداً وتوكلاً، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً لازماً بالتوحيد، والمؤمنون هم المتوكلون، الذين جمعوا بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله -تبارك وتعالى-، ولأهمية هذا الموضوع في حياة المسلم فهذه وقفات في حقيقة التوكل.
تعريفه:
هو الاعتماد على الله -سبحانه وتعالى- في حصول المطلوب ودفع المكروه مع الثقة به وعمل الأسباب المأذون فيها.
علاقته بالتوحيد:
إذا أفرد العبد ربه -سبحانه- بالتوكل اعتمد عليه ووحده في حصول مطلوبه وزوال مكروهه فلا يعتمد على غيره.
أركان التوكل:
قال شيخ الإسلام في التحفة العراقية ما ملخصه: "التوكل المأمور به هو: ما اجتمع فيه مقتضي التوحيد والعقل والشرع.
* فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.
* ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل.
* والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع"(1).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "لا بدّ في التوكل من أمرين:
* الأول: أن يكون الاعتماد على الله اعتماداً صادقاً حقيقياً.
* الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها.
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب نقص توكله على الله، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه. ومن جعل اعتماده على الله ملغياً للأسباب فقد طعن في حكمة الله؛ لأن الله جعل لكل شيء سبباً، فمن اعتمد على الله اعتماداً مجرداً كان قادحاً في حكمة الله؛ لأن الله حكيم يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج"(2).
التوكل المنافي للتوحيد:
* الأول: التوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ كالتوكل على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر أو غيره؛ وهذا شرك أكبر.
* الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة، كمن يعتمد على شخص في رزقه ومعاشه ونحو ذلك، وهذا شرك أصغر، وهذا مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصول رزقه، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر؛ فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب بل جعله فوق السبب(3).
أدلة كون التوكل من الإيمان والتوحيد:
1- قوله -تعالى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(ال مائدة: 23)، فدلت الآية على أن التوكل من شروط الإيمان.
2- قوله –تعالى- : (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)( الأنفال: 2)، فدلت الآية على أن التوكل الكامل من صفات أهل الإيمان الكامل.
3- قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ)(ا لأنفال: 64)، ومعنى حسبك: كافيك، والمعنى: أن الله كافيك وكافٍ من معك لأنكم توكلتم عليه، بدلالة الآية الآتية.
4- قوله -تعالى-: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق : 3). قال بعض السلف: "جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه(4)، وجعل جزاء التوكل عليه في كفايته، فلم يقل: فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه -سبحانه- كافٍ عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل الله له مخرجاً وكفاه رزقه، ونصره"(5).
ومتى ما التفت العبد إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه كما في حديث: ((من تعلق شيئاً وكل إليه))(6). قال شيخ الإسلام: "وما رجا أحد مخلوقاً ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك، (7) (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(الحج: 31)" (8).
وفي الآية تنبيه على وجوب الأخذ بالأسباب لأنه قال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق : 2-3)، كما قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ)(ا لمائدة: 11)، فالأسباب من التقوى وقرنت بالتوكل.
5- ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل)(آل عمران: 173) قالها إبراهيم –عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد –صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)"(9).
6- وقد كان هذا بعد غزوة أحد حيث قتل من المسلمين من قتل وجرح من جرح، فأرسل أبو سفيان من يبلغ المسلمين بأن المشركين سيعودون ليستأصلوا المسلمين، فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل)(آل عمران: 173)، وأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسيروا بجراحاتهم إلى حمراء الأسد فانهزم المشركون وكفى الله المؤمنين القتال.
إذن هذه الكلمة تقال بعد فعل الأسباب، ويدل على هذا ما رواه أبو داود: أن رجلين اختصما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقضى على أحدهما فقال المقضي عليه: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)). قال شيخ الإسلام: "فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن أن يحرص على ما ينفعه ويستعين بالله"(10)، وهو مطابق لقوله -تعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الف اتحة: 5)، وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)(هود: 123).
وهذه الكلمة تقال في جلب المنفعة تارة، كما في قوله -سبحانه-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)(التو بة: 59)، وتقال في دفع المضرة تارة أخرى، كما في قوله -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)(آل عمران: 173)، وكما في قوله -عز وجل-: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره...)(الأنفال: 62)(11).
وليعلم أن الحسب لا يكون إلا لله -تعالى-، قال ابن القيم -رحمه الله-: "الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة، قال -تعالى-: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)(الأن فال: 62)، ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده. وأثنى الله على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)(آل عمران: 173)، ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله -تعالى-: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)(التو بة: 59)، فجعل الحسب له وحده، وجعل الإيتاء لله ورسوله... فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له -سبحانه وتعالى-".
التوكل الحق لا يكون لأهل البدع:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولا يكون للمعطلة أن يتوكلوا على الله ولا للمعتزلة القدرية"، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله -تعالى- والإنسان لا يعتمد إلا على من كان كامل الصفات المستحقة لأن يعتمد عليه، وكذلك القدرية لأنهم يقولون: إن العبد مستقل بعمله والله ليس له تصرف في أعمال العباد. ومن ثَمَّ تعرف أن طريق السلف هو خير الطرق وبه تكمل العبادات وتتم به أحوال العابدين".
التوكل لا يكون في مصالح الدنيا فقط:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه، ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الف اتحة: 5)، كما في قوله -تعالى-: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)(هود: 123)، وقوله: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(هود: 88) وقوله: (قل هو ربي لا إله إلا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)(الرعد: 30)" (12).
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بتوكل الإنسان، ووكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز ولم يتمكن من القيام بالعبادة، فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل... "(13). ولذا جاء في الدعاء المأثور: "اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين"(14).
التوكل لا التواكل:
مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو سيد المتوكلين إلا أننا نجده يأخذ بالأسباب الظاهرة، فكان يتزود لسفره ويلبس ما يقيه في الحروب من درع ومغفر ونحوهما، وتعجب من بعض المسلمين حين يترك الأسباب ويقول: توكلنا على الله، وهذا سوء فهم للتوكل، وقد حج أقوام بلا زاد فنزلت: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)[البقرة:197]، ولما حج بعض أهل اليمن بغير زاد وقالوا: "نحن متوكلون"، بلغ ذلك عمر –رضي الله عنه- فقال: "كذبتم، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في التراب وتوكل على رب الأرباب"(15).
الهوامش:
1 - مجموع الفتاوى (10/35).
2 - القول المفيد (2/87-88).
3 - القول المفيد (2/89).
4- رواه أحمد (18803) والترمذي (2072).
5- فتح المجيد (311).
6- رواه أحمد (18803) والترمذي (2072).
7- فتح المجيد (309).
8- مجموع الفتاوى (2/316).
9- رواه البخاري (4445).
10- مجموع الفتاوى (7/654).
11- مجموع الفتاوى (10/36).
12- مجموع الفتاوى (10/18).
13 - شرح التوحيد (2/88).
14- رواه أحمد (20043)، أبو داود (5085)، وصححه ابن حبان (946).
15- نسبه صاحب كنز العمال (4/129) إلى الحكيم الترمذي، وابن أبي الدنيا في التوكل والعسكري في الأمثال والدينوري في المجالسة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (8/238) إلى الحكيم الترمذي. ونسبه محقق الحث على التجارة (142) إلى الدميري في حياة الحيوان (1/666) وبنحوه عند البيهقي في الشعب