إنَّ الحرية الحقيقية في ميزان الشرع هي حرية القلب، والعبودية الحقيقية هي عبودية القلب، فمن أخلص عبوديته لله عزّ وجل وخلص من عبودية الخلق فهذا هو الحرُّ حقيقة، وذلك لتحرُّر القلب من عبودية الخلق. والعكس من ذلك: من ترك عبادة الله عزّ وجل أو قصّر فيها فلا بدَّ أن تسترق القلب عبودية المخلوق حسب ما تعلَّق به القلب من العبوديات لما سوى الله عزّ وجل. أمّا عبودية البدن أو حريته فليست هي الميزان الحقيقي للعبودية والحرية، إذ قد يكون الإنسان مملوكاً لإنسان آخر، لكنه أخلص عبوديته لله عزّ وجل فصار بذلك حرَّاً من عبودية ما سوى الله عزّ وجل، وقد يكون الإنسان سيِّداً ملكاً لكنَّه في الحقيقة مسترق القلب عبداً لشهوته أو هواه أو زوجته أو منصبه أو جنوده وأتباعه. إذن فالمقصود بالحرية والعبودية هنا حرية القلب وعبوديته لا حرية البدن وعبوديته.

يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: ".. إذ الرقّ والعبودية في الحقيقة: هو رقُّ القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلب عبده، ولهذا يُقال: " العبد حرٌّ ما قنع والحرُّ عبدٌ ما طمع.. وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته، وحريته عمَّا سواه، فكما أنَّ طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي ما دام قلبه مستريحاً من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأمَّا إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً مستعبداً، متيماً لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب، فالحرية حريّة القلب والعبودية عبودية القلب، كما أنّ الغنى غنى النفس، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "ليس الغني عن كثرة العرض وإنّما الغنى غنى النفس"..".

ويقول في موطن آخر:"وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك وإن كان في الظاهر أميراً لهم متصرفاً بهم، فالناظر ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلَّق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرَّف بما تريد، وهو في الظاهر سيِّدها لأنَّه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها، وأنَّه لا يعتاض عنها بغيرها فإنَّها تحكم فيه حينئذٍ حكم السيِّد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه..".

ويقول في موطن ثالث عن مستعبد القلب لغير الله تعالى: "... فتارة تجذبه الصور المحرَّمة وغير المحرَّمة، فيبقى أسيراً عابداً لمن لو اتخذه هو عبداً له لكان ذلك نقصاً وعيباً وذمَّاً".

وتارة يجذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمَّه ولو بالحقّ.
وتارة يستعبده الدرهم والدينار وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبع هواه بغير هدى من الله.
ومن لم يكن مخلصاً لله عبداً له، قد صار قلبه مستعبداً لربِّه وحده لا شريك له، بحيث يكون هو أحبُّ إليه ممَّا سواه، ويكون ذليلاً خاضعاً له، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين".

ويقول -: "إنَّ الدينونة لله تعالى تحرِّر البشر من الدينونة لغيره، وتخرج النَّاس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك تحقِّق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك الكرامة اللتان يستحيل ضمانهما في ظلّ أي نظام آخر غير النظام الإسلامي.. والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شرّ ألوان العبودية لغير الله في كلّ جانب من جوانب الحياة، إنَّهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حدّ ولا ضابط".

ويقول الشيخ عبدالرحمن الدوسري - رحمه الله تعالى - في تفسير )إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاك نستعين( [الفاتحة: 5].

" بتحقيق العلم بمدلول )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( ينجو الإنسان ويسلم من الرقّ المعنوي الذي هو أفظع وأنكى من كلّ رق حسِّي؛ لأنَّ الرقّ الحسي يشعر به صاحبه، فيتمنى انتهاءه، ويسعى لإزالته والتخلص منه حسب مجهوده، ولكن الرقّ المعنوي لا يشعر به صاحبه، بل على العكس ينقلب تصوره له تحرراً وتقدماً، فيتمادى باستحسان حاله، دون أو يخالجه أدنى شيء من الامتعاض والإحساس.

... والمسلم المؤمن الصادق لا يرتبط في جميع أحوال سيره بعجلة أحد ولا تبعية أحد؛ لسلامته من الرقّ المعنوي بإخلاص مقاصده لله، وكونه مستعيناً به فقط، فلا يخشى من أيّ قوة، ولا يستعين بكتلة على كتلة أخرى، حتى لا يصغى إلى ما تمليه.

وأصحاب الرقّ المعنوي يعادون الحرّ الذي على هذه الشاكلة بدافع من طبيعتهم السافلة، أو بإملاء من أسيادهم الذين يركنون إليهم، ولا سبيل لتطهير قلوبهم من ذلك إلاّ بما يحرِّر أرواحهم من القيام بتحقيق مدلول: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(..".

ممَّا سبق يتضح لنا :

أنَّ الإنسان لا يبلغ الكمال والحرية الحقيقية حتى يتخلَّص من عبودية البشر ويلخص عبادته لله وحده لا شريك له بكلّ ما تعني العبادة من معانيها الشاملة، وقد وصل إلى هذا الكمال أنبياء الله عزّ وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم إمامهم نبيّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم، حيث خاطبه ربّه سبحانه في أعلى مقاماته التي وصل إليها، مقام تلقي الوحي، ومقام الإسراء، بوصف العبودية باعتبارها أرقى وأعظم وأشرف منزلة يرقى إليها الإنسان.

قال تعـالى: )الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا( [الكهف:1].

وقال عزّ وجل: )سُبحَانَ الذي أَسْرَى بعبدِه ليلاً( [الإسراء :1].

أنّ من علّق قلبه بمخلوق وأحبَّه وذلّ له وعلق عليه نفعه وضرَّه فقد سقط في ربقة الرقّ والعبودية له، وأصبح أسير القلب لمن تعلَّق به ذليلاً له، وهذه حقيقة الرقّ والأسر والذلّ، ولو كان فيما يظهر للنّاس سيِّداً حرَّاً طليقاً، إذ المأسور حقيقة من أسر قلبه عن ربِّه، والمحبوس من حبس قلبه عن عبادة ربِّه، وأسر القلب أعظم من أسر البدن.

والحرُّ حقيقة - هو من أخلص عبوديته لله عزّ وجل ورفض عبودية من سواه ولو كان مملوكاً أو مأسوراً أو مسجوناً أو تحت القهر والتعذيب؛ لأنَّ غاية ما يملكه المالك أو الآسر والقاهر هو جسد المملوك أو المأسور، أمَّا قلبه فلا يستطيعون عليه صرفاً ولا تحويلاً؛ لأنَّ فيه قوة رفض لا يملكون التصرُّف فيها، وذلك بما فيه من العبودية الخالصة لله عزّ وجل التي أورثت صاحبها الحرية والعزّة والشرف والاطمئنان، وهذا هو الذي يفسِّر لنا ذلك الثبات العظيم لأنبياء الله عزّ وجل ودعاته الصالحين وهم يتعرَّضون لصنوف الأذى والسجن والتعذيب.

إنَّ الذين يتشدَّقون وينادون بالحرية ويطالبون بتحقيقها في المجتمعات ثم هم ينشدونها في نظم جاهلية بعيدة عن المصدر الحقيقي للحرية، وهو عبادة الله عزّ وجل وحده لا شريك له، إنَّما هم ضالّون مضلّون صادُّون عن سبيل الله عزّ وجل، إذ لا حرية حقيقية إلا في نقل النَّاس من عبادة غير الله عزّ وجل إلى عبادة الله وحده، وبدون ذلك فهو الرقّ والاستعباد والذلَّة والشقاء مهما تشدَّق أصحاب هذه المطالب باسم حقوق الإنسان أو غيرها.

والواقع المرير الذي تعيشه البشرية اليوم أكبر شاهد على ذلك، حيث تحوَّلت البشرية اليوم إلى استعباد القوي للضعيف والكبير للصغير، وذلك على مستوى الأفراد والطوائف والدول، ثمَّ إذا نظرنا إلى الحرية التي يطالبون بها وجدنا معناها عندهم: التحرُّر من عبادة الله عزّ وجل وأوامره ونواهيه، وانطلاق النَّاس في حياتهم كالبهائم بل أضلّ، وهم بذلك قد ركسوا في الرقّ الحقيقي والعبودية الدنسة، حيث أصبحوا عبيداً لشهواتهم وكبرائهم ومناصبهم ونسائهم، فاستبدلوا بعبادة الله عزّ وجل التي فيها العزَّة والكرامة والحريّة عبادة بعضهم لبعض وعبادة الأهواء حيث الذلّة والمهانة والرقّ الحقيقي.----------------------------

إن ما يسمَّى بـ "تحرير المرأة"! هذا المصطلح الخبيث الذي يرفعه اليوم المتَّبعون للشهوات ويريدون أن يميلوا بالنَّاس ميلاً عظيماً، فماذا يقصدون بتحرير المرأة؟

الجواب ..

إنَّهم يقصدون بتحريرها هنا ذلك المفهوم الجاهلي الدنس - الذي يرمي إلى أن تتفلَّت المرأة من عبادة ربِّها عزّ وجل - ومن كلّ فضيلة وعفَّة وحياء؛ لتصبح مستعبدة رقيقة لشهوات الشياطين وبيوت الأزياء وصيحات الموضات التي تخلع عن المرأة أجمل شيء ركّبه الله عزّ وجل فيها وهو حياؤها وعفَّتها، فهل هذا هو تحرير المرأة ؟ أو هو إذلالها واستعبادها واسترقاقها؟!

إنَّ التحرُّر الحقيقي للمرأة ولغيرها - لا يكون إلا في هذا الدين الذي جاء لتحرير الإنسان من عبودية الأشخاص والأصنام والأهواء إلى عبودية الله عزّ وجل الواحد القهّار التي فيها وحدها العزَّة والكرامة والحرية والتحرير.

"... هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على النَّاس فرضاً، وتكلِّفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثمَّ تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلك لا يملكون إلاّ الخضوع لها، أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء.. والأزياء القصيرة، والأزياء الضيِّقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف.. إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ.. من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شركات الإنتاج، ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك..". ما هذا الاسترقاق المذلّ ؟-----------