قال ابن القيم رحمه الله - في "بدائع الفوائد" فإنَّ الشيطانَ إنما يَتَسَلَّطُ على ابنِ آدمَ، ويَنالُ منه غَرَضَه من هذه الأبوابِ الأربعةِ،[فضولِ النظَرِ و الكلامِ و الطعامِ و مُخالَطَةِ الناسِ ]فإنَّ فُضولَ النظَرِ يَدعو إلى الاستحسانِ ووقوعِ صورةِ الْمَنظورِ إليه في القلْبِ والاشتغالِ به والفِكرةِ في الظَّفَرِ به، فمَبدأُ الفِتنةِ من فُضولِ النظَرِ، كما في الْمُسْنَدِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ للهِ أَوْرَثَهُ اللهُ حَلَاوَةً يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)) أو كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالحوادثُ العِظامُ إنما كلُّها من فُضولِ النظَرِ، فكم نَظرةٍ أَعْقَبَتْ حَسَراتٍ لا حَسرةً، كما قالَ الشاعرُ:
كلُ الحوادثِ مَبْدَاها من النظَرِ ... ومُعْظَمُ النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كم نَظرةٍ فتَكَتْ في قلْبِ صاحبِها ... فتْكَ السهامِ بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ
وقالَ الآخَرُ:


وكنتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَك رائدًا ... لقَلْبِكَ يومًا أَتْعبَتْك المناظِرُ
رأيتَ الذي لا كُلُّه أنت قادِرٌ ... عليه ولا عن بعضِه أنت صابِرُ
وقالَ المتنَبِّي:


وأنا الذي جَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُه ... فمَنِ الْمَطالَبُ والقتيلُ القاتلُ؟!
ولي في أبياتٍ:


يا راميًا بسهامِ اللحْظِ مُجْتَهِدًا ... أنت القتيلُ بما تَرْمِي فلا تُصِبِ
وباعِثَ الطرْفِ يَرتادُ الشفاءَ له ... تَوَقَّهُ إنه يَرْتَدُّ بالعَطَبِ
تَرجُو الشفاءَ بأحداقٍ بها مَرَضٌ ... فهل سَمِعْتَ بِبُرْءٍ جاءَ من عَطَبِ
ومُفْنِيًا نفسَه في إِثرِ أَقْبَحِهم ... وصْفا لِلَطْخِ جمالٍ فيه مُسْتَلَبِ
وواهبًا عُمْرَه في مِثلِ ذا سَفَهًا ... لو كنتَ تَعْرِفُ قدْرَ العُمْرِ لم تَهَبِ
وبائعًا طِيبَ عيْشٍ ما لَه خَطَرٌ ... بطَيْفِ عيشٍ من الآلامِ مُنْتَهَبِ
غُبِنْتَ واللهِ غَبْنًا فاحشًا فلو اسـ ... ـتَرْجَعْتَ ذا العَقْدَ لم تُغْبَنْ ولم تَخِبِ
ووَارِدًا صَفْوَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ... أمامَك الوِرْدُ صَفْوًا ليس بالكَذِبِ
وحاطِبُ الليلِ في الظلماءِ مُنْتَصِبًا... لكلِّ داهيةٍ تُدْني من العَطَبِ
شابَ الصِّبَا والتصابِي بعدُ لم يَشِبِ... وضاعَ وَقْتُك بينَ اللهوِ واللعبِ
وشَمْسُ عُمْرِك قد حانَ الغروبُ لها... والضيُّ في الأفُقِ الشرقيِّ لم يَغِبِ
وفازَ بالوَصْلِ مَن قد فازَ وانْقَشَعَتْ... عن أُفْقِه ظُلماتُ الليلِ والسُّحُبِ
كم ذا التخلُّفِ والدنيا قد ارْتَحَلَتْ... ورُسْلُ ربِّك قد وافَتْكَ في الطلَبِ
ما في الديارِ وقد سارتْ ركائِبُ مَن... تَهواهُ للصَّبِّ من سُكْنَى ولا أَرَبِ


فأَفْرِشِ الْخَدَّ ذَيَّاك الترابَ وقُلْ ... ما قالَه صاحبُ الأشواقِ في الحقَبِ
ما رَبْعُ مَيَّةَ مَحفوفًا يَطُوفُ به... غَيلانُ أَشْهى له من رَبعِكَ الْخَرِبِ
ولا الخدودُ وقد أُدْمِينَ من ضَرَجٍ... أَشْهَى إلى نَاظِرِي من خَدِّكَ التَّرِبِ
منازِلاً كان يَهواها ويَأْلَفُها... أيَّامَ كان منالُ الوَصْلِ عن كَثَبِ
فكُلَّمَا جُلِيَتْ تلك الرُّبوعُ له... يَهْوِي إليها هَوِيَّ الماءِ في صَبَبِ
أَحْيَا له الشوقُ تَذكارَ العُهودِ بها... فلو دعا القلْبَ للسُّلوانِ لم يُجِبِ
هذا وكَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يأْلَفُه... وما له في سواها الدَّهْرَ من رَغَبِ
ما في الْخِيامِ أخو وَجْدٍ يُريحُك إن... بَثَثْتَه بعضَ شأنِ الحبِّ فاغْتَرِبِ
وأَسْرِ في غَمَرِاتِ الليلِ مُهْتَديًا... بنفحَةِ الطِّيبِ لا بالنارِ والحطَبِ
وعادِ كلَّ أَخِي جُبْنٍ ومَعْجَزَةٍ... وحارِبِ النفْسَ لا تُلقيكَ في الْحَرَبِ
وخُذْ لنفسِكَ نورًا تَستضِيءُ به... يومَ اقتسامِ الْوَرَى الأنوارَ بالرُّتَبِ
فالْجِسْرُ ذو ظُلماتٍ ليس يَقْطَعُه... إلا بنورٍ يُنَجّي العبْدَ في الكُرَبِ

والمقصودُ - أنَّ فُضولَ النظَرِ أصلُ البلاءِ، ---------------------- وأمَّا فُضولُ الكلامِ فإنها تَفْتَحُ للعبْدِ أبوابًا من الشرِّ، كلُّها مَداخِلُ للشيطانِ، فإمساكُ فُضولِ الكلامِ يَسُدُّ عنه تلك الأبوابَ كلَّها، وكم من حَرْبٍ جَرَّتْها كلِمَةٌ واحدةٌ، وقد قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعاذٍ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ في النَّارِ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)). وفي التِّرمذيِّ أنَّ رجلًا من الأنصارِ تُوُفِّيَ فقالَ بعضُ الصحابةِ: طُوبَى له. فقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَا يُدْرِيكَ فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بَمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يَنْقُصُه)).
وأكثرُ المعاصي إنما تَوَلُّدُها من فُضولِ الكلامِ والنظَرِ، وهما أَوْسَعُ مَداخِلِ الشيطانِ؛ فإنَّ جَارِحَتَيْهِما لا يَمَلَّانِ ولا يَسْأَمَانِ، بخلافِ شَهوةِ البطْنِ فإنه إذا امْتَلَأَ لم يَبْقَ فيه إرادةٌ للطعَامِ، وأمَّا العينُ واللسانُ فلو تُرِكَا لم يَفْتُرَا من النظَرِ والكلامِ فجِنَايَتُهما مُتَّسِعَةُ الأطرافِ كثيرةُ الشُّعَبِ عَظيمةُ الآفاتِ، وكان السلَفُ يُحَذِّرُونَ من فُضولِ النظَرِ كما يُحَذِّرونَ من فُضولِ الكلامِ، وكانوا يَقولون: ما شيءٌ أَحْوَجَ إلى طولِ السجْنِ من اللسانِ.
وأمَّا فُضولُ الطعامِ - فهو داعٍ إلى أنواعٍ كثيرةٍ من الشرِّ - فإنه يُحَرِّكُ الْجَوارحَ إلى الْمَعاصي، ويُثْقِلُها عن الطاعاتِ، وحَسْبُك بهذين شَرًّا، فكم من معصيةٍ جَلَبَها الشِّبَعُ وفضولُ الطعامِ وكم من طاعةٍ حالَ دونَها؛ فمن وُقِيَ شرَّ بَطْنِه فقد وُقِيَ شرًّا عظيمًا، والشيطانُ أَعْظَمُ ما يَتَحَكَّمُ من الإنسانِ إذا مَلَأَ بطْنَه من الطعامِ.
ولهذا جاءَ في بعضِ الآثارِ: ضَيِّقُوا مَجارِيَ الشيطانِ بالصوْمِ. وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)) ولو لم يكنْ في الامتلاءِ من الطعامِ إلا أنه يَدْعُو إلى الغَفْلَةِ عن ذِكْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وإذا غَفَلَ القلْبُ عن الذكْرِ ساعةً واحدةً جَثَمَ عليه الشيطانُ ووَعَدَه ومَنَّاهُ وشَهَّاهُ وهَامَ به في كلِّ وادٍ؛ فإنَّ النفْسَ إذا شَبِعَتْ تَحَرَّكَتْ وجالَتْ وطَافَتْ على أبوابِ الشهواتِ، و إذا جاعَتْ سَكَنَتْ وخَشَعَتْ وذَلَّتْ.
وأمَّا فُضولُ الْمُخالَطَةِ - فهي الداءُ العُضالُ الجالِبُ لكلِّ شرٍّ، وكم سَلَبَت الْمُخالَطَةُ والمعاشَرَةُ من نِعمةٍ، وكم زَرَعَتْ عن عَداوةٍ، وكم غَرَسَتْ في القلْبِ من حَزَازَاتٍ تَزولُ الجبالُ الراسياتُ وهي في القلوبِ لا تَزولُ، فُضولُ المخالطَةِ فيه خَسارةُ الدنيا والآخرةِ، وإنما يَنبغِي للعَبْدِ أن يَأْخُذَ من المخالَطَةِ بِمِقدارِ الحاجةِ، ويَجعلَ الناسَ فيها أربعةَ أقسامٍ متى خَلَطَ أحدُ الأقسامِ بالآخَرِ، ولم يُمَيِّزْ بينَهما دَخَلَ عليه للشرِّ:
أحدُها: مَن مُخالَطَتُه كالغذاءِ لا يَسْتَغْني عنه في اليومِ والليلةِ، فإذا أَخَذَ حاجَتَه منه تَرَكَ الْخُلطةَ، ثم إذا احتاجَ إليه خالَطَه، هكذا على الدوامِ، وهذا الضَّرْبُ أعَزُّ من الكِبريتِ الأحمَرِ، وهم العُلماءُ باللهِ وأَمْرِه ومَكايِدِ عَدُوِّه وأمراضِ القلوبِ وأَدْوِيَتِها، الناصحونَ للهِ ولكتابِه ولرسولِه ولِخَلقِه، فهذا الضرْبُ في مُخالَطَتِهم الربْحُ كلُّه.
القِسمُ الثاني: مَن مُخالَطَتُه كالدواءِ يُحتاجُ إليه عندَ الْمَرضِ فما دُمْتَ صحيحًا فلا حاجةَ لك في خُلطتِه، وهم مَن لا يُسْتَغْنَى عن مُخالطَتِهم في مَصلحَةِ المعاشِ وقِيامِ ما أنت مُحتاجٌ إليه من أنواعِ الْمُعاملاتِ والْمُشارَكاتِ، والاستشارةِ والعِلاجِ للأدواءِ ونحوَها، فإذا قَضَيْتَ حاجَتَكَ من مُخالَطَةِ هذا الضرْبِ بقِيَتْ مُخالطتُهم من القِسمِ الثالثِ: وهم مَن مَخالَطَتُه كالداءِ على اختلافِ مَراتبِه وأنواعِه وقوَّتِه وضَعْفِه.
- فمنهم مَن مُخالطَتُه كالداءِ العُضالِ والمَرَضِ الْمُزمِنِ، وهو مَن لا تَرْبَحُ عليه في دِينٍ ولا دنيا، ومع ذلك فلا بدَّ من أن تَخْسَرَ عليه الدينَ والدنيا أو أحدَهما؛ فهذا إذا تَمَكَّنَتْ مُخالَطَتُه واتَّصَلَتْ فهي مَرَضُ الموتِ الْمَخوفُ.
- ومنهم مَن مُخالطتُه كوَجَعِ الضِّرْسِ يَشْتَدُّ ضَربًا عليك؛ فإذا فارَقَكَ سكَنَ الألَمُ.
- ومِنهم مَن مُخالَطَتُه حُمَّى الرِّبْعِ وهو الثقيلُ البَغيضُ الذي لا يُحْسِنُ أن يَتكلَّمَ فيُفِيدَك ولا يُحْسِنُ أن يُنْصِتَ فيَستفيدَ منك، ولا يَعرِفُ نفسَه فيَضَعَها في مَنزِلتِها، بل إنْ تَكَلَّمَ فكلامُه كالْعِصِيِّ تَنْزِلُ على قلوبِ السامعينَ مع إعجابِه بكَلَامِه وفَرَحِه به، فهو يُحَدِّثُ من فيه، كُلَّمَا تَحَدَّثَ ويَظُنُّ أنه مِسْكٌ يَطيبُ به المجلِسُ، فإن سَكَتَ فأَثْقَلُ من نصفِ الرَّحَا العظيمةِ التي لا يُطاقُ حَمْلُها، ولا جَرُّها على الأرْضِ.
ويُذْكَرُ عن الشافعيِّ - رَحِمَه اللهُ – أنه قالَ: ما جَلَسَ إلى جانبي ثقيلٌ، إلا وَجَدْتُ الجانِبَ الذي هو فيه أَنْزَلَ من الجانِبِ الآخَرِ.
ورأيْتُ يومًا عندَ شَيخِنا -قَدَّسَ اللهُ رُوحَه- رَجُلًا من هذا الضَرْبِ، والشيخُ يَحملُه، وقد ضَعُفَت القُوَى عن حَمْلِه، فالْتَفَتَ إليَّ، وقالَ: مُجالَسَةُ الثقيلِ حُمَّى الرِّبْعِ.
ثم قالَ: لكن قد أَدْمَنَتْ أَرواحُنا على الْحُمَّى؛ فصارَتْ لها عادةً أو كما قالَ.
وبالجُملةِ فمُخالَطَةُ كلِّ مخالِفٍ حُمّى للروحِ فعَرَضِيَّةٌ ولازِمَةٌ، ومِن نَكَدِ الدنيا على العَبْدِ أن يُبْتَلَى بواحِدٍ من هذا الضَّرْبِ، وليس له بُدٌّ من مُعاشَرَتِه ومُخالَطَتِه فلْيُعَاشِرْه بالمعروفِ حتى يَجعَلَ اللهُ له فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
القِسمُ الرابعُ: مَن مُخالَطَتُه الْهُلْكُ كلُّه، ومُخالَطَتُه بمنزِلَةِ أَكْلِ السُّمِّ، فإن اتَّفَقَ لآكلِه تَرياقٌ، و إلا فأَحْسِنِ اللهَ فيه العزاءَ، وما أَكثَرَ هذا الضَّرْبَ في الناسِ، لا كَثَّرَهُمُ اللهُ، وهم أَهْلُ البِدَِع والضلالةِ الصادُّون عن سُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الداعون إلى خِلافِها، الذين يَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ ويَبغونَها عِوَجًا، فيَجعلون البِدْعَةَ سُنَّةً والسُّنَّةَ بِدْعَةً، والمعروفَ مُنْكَرًا والمنكَرَ مَعروفًا:
- إن جَرَّدْتَ التوحيدَ بينَهم قالُوا: تَنَقَّصْتَ جَنابَ الأولياءِ والصالحينَ!!
- وإن جَرَّدْتَ الْمُتابَعَةَ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالُوا: أَهْدَرْتَ الأئمَّةَ المتبوعينَ!!
- وإن وَصَفْتَ اللهَ بما وَصَفَ به نفسَه، وبما وَصَفَه به رسولُه من غيرِ غُلُوٍّ ولا تَقصيرٍ قالُوا: أنت من الْمُشَبِّهِينَ !!
- وإن أَمَرْتَ بما أَمَرَ اللهُ به ورَسولُه من المعروفِ ونَهَيْتَ عمَّا نَهَى اللهُ عنه ورَسولُه من الْمُنْكَرِ قالُوا: أنت من الْمُفتنِين!!
- وإن اتَّبَعْتَ السنَّةَ وتَرَكْتَ ما خالَفَها قالُوا: أنت من أَهْلِ البِدَعِ الْمُضِلِّينَ!!
- وان انْقَطَعْتَ إلى اللهِ تعالى وخَلَّيْتَ بينَهم وبين جِيفةِ الدنيا قالُوا: أنت من الْمُلَبِّسِينَ !!
- وإن تَرَكْتَ ما أنت عليه واتَّبَعْتَ أهواءَهم فأنت عندَ اللهِ من الخاسرينَ وعندَهم من المنافقينَ!!
فالحزْمُ كلُّ الحزْمِ التماسُ مَرضاتِ اللهِ تعالى ورسولِه بإغضابِهم، وأن لا تَشتغلَ بإعتابِهم ولا باستعتابِهم، ولا تُبالِي بذَمِّهِم ولا بُغْضِهم، فإنه عينُ كمالِك كما قالَ:
وإذا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي من نَاقِصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأنِّيَ كاملُ
وقالَ آخَرُ:
وقد زَادَنِي حُبًّا لنفسي أنني ... بَغيضٌ إلى كلِّ امرئٍ غيرِ طائلِ
فمَن كان بوَّابَ قلْبِه وحارسَه من هذه الْمَداخلِ الأربعةِ التي هي أَصْلُ بلاءِ العالِمِ، وهي فُضولُ النظَرِ والكلامِ والطعامِ والمخالَطَةِ، واستَعْمَلَ ما ذَكَرْناه من الأسبابِ التسعَةِ التي تُحْرِزُه من الشيطانِ؛ فقد أَخَذَ بنصيبِه من التوفيقِ، وسَدَّ على نفسِه أبوابَ جَهنَّمَ، وفَتَحَ عليها أبوابَ الرحمةِ وانغَمَرَ ظاهِرُه وباطنُه، ويُوشِكُ أن يَحْمَدَ عندَ الْمَماتِ عاقِبَةَ هذا الدواءِ؛ فعندَ الْمَماتِ يَحْمَدُ القومُ التُّقَى، وفي الصباحِ يَحْمَدُ القومُ السُّرَى، واللهُ الْمُوَفِّقُ لا ربَّ غيرُه و لا إلهَ سِواهُ).