نشأة التفسير الفلسفي وتطوره ونماذجه
هشام منور
مع توسع الفتوحات الإسلامية للبلاد والشعوب والأمم والحضارات الأخرى، ودخول العديد من أبناء تلك الشعوب والحضارات في دين الله أفواجاً، اعتمدت الحضارة الإسلامية مبدأ تمثل إنجازات الحضارات والشعوب والبلدان المفتتحة أولاً، ثم استيعابها ضمن النسيج الحضاري العلمي والمعرفي الإسلامي، والإضافة عليها تالياً بعد أن تهيئ لأبناء الحضارة الإسلامية من المعارف والعلوم والخبرة والدربة ما يؤهلهم لذلك. ولذا، لم تتنكر الحضارة الإسلامية لإنجازات الأمم والشعوب والحضارات السالفة، بقدر ما اعترفت بمكانتها وأهمية نتاجاتها العلمية، ووظفتها في بناء صرحها الحضاري الخاص والمميز فيما بعد.
في ظل الظروف والملابسات المتقدمة، ترجمت كتب الفلسفة والمنطق وغيرها من الفنون والعلوم، من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، ويرجع الفضل الأكبر في هذا العمل إلى العباسيين، إذ أنهم نظموا الترجمة الإسلامية وشجعوها. فبدأ المنصور هذه حركة الترجمة، وتعهدها أبناؤه وأحفاده من بعده، وبلغ بها المأمون ـ خاصة ـ القمّة، وأضحت (بغداد) صرحاً علمياً يحج إليها الطلاب من كل مكان.
ولكي يحقق العباسيون غايتهم، استخدموا طائفة من الفرس والهنود والصابئة والنصارى، الذين كانوا على اتصال وثيق بالدراسات القديمة، فنقلوا إلى اللغة العربية كتب الفلاسفة اليونان، وعلوم الهند والفرس وفلسفاتهم. وقرأ بعض المسلمين هذه الكتب الفلسفية، فلم يرقهم ما فيها من نظريات وأبحاث، «لأنهم وجدوها تتعارض مع الدين ولا تتفق معه بحال من الأحوال، فكرسوا حياتهم للردّ عليها ومناظرتها، وتحذير الناس منها، وكان على رأس هؤلاء: الإمام الغزالي(1)، والفخر الرازي(2)، الذي تعرض في تفسيره لنظريات الفلاسفة التي تبدو في نظره متعارضة مع الدين، ومع القرآن على الأخص، فردها وأبطلها بمقدار ما أسعفته الحجة، وانقاد له الدليل»(3).
وقرأ بعض المسلمين هذه الكتب فأعجبوا بها إعجاباً كبيراً، رغم ما فيها من نظريات قد تبدو متعارضة مع نصوص الشرع القويم، وتعاليمه التي لا يلحقها الشك، ولا تحوم حولها الشبهة. ويمكن تفسير ذلك وتعليله بأنهم وجدوا أن في مقدورهم أن يوفقوا أو يوائموا بين (الحكمة) و(العقيدة)، أو بين (الفلسفة) و(الدين)، وأن يبينوا للناس أجمعين أن (الوحي) لا يناقض (العقل) في شيء، وأن (العقيدة) الصحيحة إذا استنارت بضوء (الحكمة)، تمكنت من النفوس، وثبتت أمام الخصوم.
وقد قادهم اعتقادهم المتقدم ذاك إلى الخوض في الفلسفة وفروعها ومجالاتها، فبذلوا كل ما يستطيعون من جهد وعلم ومعرفة ليصلوا الفلسفة بالدين، ويؤاخوا بينهما. وقد نجح بعض من فلاسفة المسلمين في تحقيق ذلك في بعض الجوانب والميادين، وبنسبة تكاد أن تكون معقولة، ولكنه نجاح إن أرضى بعض المسلمين فقد أغضب الكثير منهم، ذلك «لأنهم لم يصلوا في توفيقهم إلا إلى حلول وسطى، صوروا فيها التعاليم الدينية تصويراً يبعد كثيراً عن الصور الثابتة المأثورة، ومثل هذه الحلول لا تصلح للتوفيق بين جانبين متقابلين وطرفين متنافرين، ولذلك لم يجد الغزالي، ومن لفّ لفه، صعوبة في الرد على هؤلاء الفلاسفة الموفقين، وإبطال محاولاتهم»(4)، التي ظنوا أنهم أرضوا بها الجانبين على حد سواء.
- طرق الفلاسفة في التوفيق بين الدين والفلسفة:
لقد كان للفلاسفة الموفقين بين الدين والفلسفة طريقتان يسيرون عليها في توفيقهم:
الطريقة الأولى: فهي طريقة التأويل للنصوص والحقائق الشرعية، بما يتفق مع الآراء الفلسفية، ومعنى هذا إخضاع تلك النصوص والحقائق إلى هذه الآراء حتى تسايرها وتتماشى معها.
أما الطريقة الثانية: فهي شرح النصوص والحقائق الشرعية بالآراء والنظريات الفلسفية، ومؤدى هذا أن تطغى (الفلسفة) على (الدين) وتتحكم في نصوصه، وهذه الطريقة أخطر من الأولى وأكثر منها شراً على (الدين)(5).
- الأثر الفلسفي في تفسير القرآن:
إن علماء المسلمين لم يكونوا جميعاً على مسافة واحدة وموقف موحد وواحد بالنسبة للآراء الفلسفية، بل وجد منهم من وقف منها موقف الرفض وعدم القبول، كما وجد منهم من وقف موقف الدفاع عنها والقبول لها:
أما الفريق المعاند للفلسفة والمعادي لها، فإنه لما فسّر القرآن الكريم، اصطدم بهذه النظريات الفلسفية وواجه آراءها التي كانت ذائعة في زمانه، فرأى أن من واجبه، كمفسر، أن يعرض لهذه النظريات ويمزجها بالتفسير، إما على طريق الدفاع عنها وبيان أنها لا تتعارض مع نصوص القرآن الكريم، وذلك بالنسبة للنظريات الصحيحة عنده والمسلمة لديه، وإما على طريق الرد عليها، وبيان أنها لا يمكن أن تساير نصوص القرآن، وذلك بالنسبة للنظريات التي لا يسلّم بها.
وهو في الحالة الأولى يشرح القرآن الكريم بما يوافق هذه النظريات التي لا يراها متعارضة مع (الدين). وفي الحالة الثانية، لا يمشي على ضوء النظريات الفلسفية في تفسيره، بل يفسر النصوص على ضوء (الدين) و(العقل) وحدهما، دون أن يكون للرأي الفلسفي دخل في شرح النص القرآني وبيان معناه، وممن فعل هذه في تفسيره الإمام الفخر الرازي.
وأما الفريق المسالم للفلسفة، المصدق بكل ما فيها من نظريات وآراء، فإنه لما فسر القرآن الكريم، سلك طريقاً خطيراً. إذ أنه وضع الآراء الفلسفية أمام عينيه، ثم نظر من خلالها إلى القرآن الكريم، فشرح نصوصه وفق ما تمليه عليه نزعته الفلسفية المجردة من كل شيء إلا من التعصب الفلسفي.
ووجدنا أنفسنا أمام شروح لبعض آيات القرآن الكريم، هي في الحقيقة شروح لبعض النظريات الفلسفية، قصد بها تدعيم الفلسفة وخدمتها على حساب القرآن الكريم، الذي هو أصل (الدين) ومنبع تعاليمه.
نماذج من التفسير الفلسفي
تقدم معنا أن للتفسير الفلسفي مسلكان رئيسيان، أحدهما واجه الفلسفة والفلاسفة، وحاول تفنيد نظرياتها ومبادئها، والتوفيق، ما أمكن، بينها وبين الشريعة. والآخر تبنى مقولات الفلسفة ونافح عنها، وحاول تأويل الآيات القرآنية بما يتناسب مع هذه الآراء والمبادئ الفلسفية.
ونستطيع التمثيل للاتجاه الأول بتفسير (مفاتح الغيب) للفخر الرازي، والتفاسير التي نسجت على منواله، شرحاً واختصاراً واستفادة (تفسير البيضاوي وغيره).
وفيما يلي عرض نماذج للمسلك الثاني في التفسير الفلسفي للقرآن الكريم، وهو المسلك الذي فسّر القرآن بالفلسفة، وحاول تأويل النصوص بما يوافقها ويؤيد نظرياتها وآراء فلاسفتها.
أولاً: تفسير الفارابي:
يعدّ كتاب الفارابي (فصوص الحكم) نموذجاً بارزاً لهذا النوع من كتب التفسير، بالمعنى الذي تقدم بيانه. فقد فسّر الفارابي، المتوفى سنة 339 للهجرة، بعض الآيات القرآنية، والحقائق الشرعية تفسيراً فلسفياً محضاً.
فمن ذلك: أنه يفسر الأولية والآخرية الواردة في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (سورة الحديد: 3). تفسيراً أفلطونياً مبنياً على القول بقدم العالم، فيقول: إنه «الأول من جهة أنه منه ويصدر عنه كل موجود لغيره، وهو أول من جهة أنه بالوجود لغاية قربه منه، أول من جهة أن كل زماني ينسب إليه بكون، فقد وجد زمان لم يوجد معه ذلك الشيء، ووجد إذ وجد معه لا فيه».
ويفسّر معنى (الآخرية) بقوله: «هو الآخر؛ لأن الأشياء إذا لوحظت ونسبت إليه أسبابها ومباديها وقف عنده المنسوب، فهو آخر لأنه الغاية الحقيقية في كل طلب، فالغاية مثل السعادة في قولك: لم شربت الماء؟، فتقول: لتغيير المزاج، فيقال: ولم أردت أن يتغير المزاج؟ فتقول: للصحة، فيقال: لم طلبت الصحة؟ فتقول: للسعادة والخير، ثم لا يورد عليه سؤال يجب أن يجاب عنه، لأن السعادة والخير تطلب لذاته لا لغيره... فهو المعشوق الأول، فلذلك هو آخر كل غاية، أول في الفكرة آخر في الحصول، هو آخر من جهة أن كل زمان يتأخر عنه، ولا يوجد زمان متأخر عن الحق»(6).
ويشرح (الظاهر) و(الباطن) في قوله تعالى: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (سورة الحديد: 3). فيقول: «لا وجود أكمل من وجوده، فلا خفاء به من نقص الوجود، فهو في ذاته ظاهر، ولشدة ظهوره باطن، وبه يظهر كل ظاهر، كالشمس تظهر كل خفي وتستبطن لا عن خفاء»(7).
كما يشرح هذه الجملة مرة أخرى، فيقول: «هو باطن؛ لأنه شديد الظهور، غلب ظهوره على الإدراك فخفي، وهو ظاهر من حيث أن الآثار تنسب إلى صفاته، وتجب عن ذاته فتصدق بها»(8).
ويفسر (الوحي) بقوله: «والوحي لوح من مراد الملك للروح الإنسانية بلا واسطة، وذلك هو الكلام الحقيقي، فإن الكلام إنما يراد به تصوير ما يتضمنه باطن المخاطب في باطن المخاطب ليصير مثله. فإذا عجز المخاطب عن مسّ باطن المخاطب بباطنه، مسّ الخاتم الشمع فيجعله مثل نفسه، اتخذ فيما بين الباطنين سفيراً من الظاهرين، فتكلم بالصوت أو كتب أو أشار. وإذا كان المخاطب لا حجاب بينه وبين الروح اطلع عليه اطلاع الشمس على الماء الصافي فانتقش منه، لكن المنتقش في الروح من شأنه أن يسبح إلى الحس الباطن إذا كان قوياً، فينطبع في القوة المذكورة فيشاهد، فيكون الموحى إليه يتصل بالملك باطنه، ويتلقى وحيه الكلي بباطنه»(9).
كما يشرح (الملائكة) بأنها: «صورة علمية، جواهرها علوم إبداعية قائمة بذواتها، تلحظ الأمر الأعلى فينطبع في هويتها ما تلحظ، وهي مطلقة، لكن الروح القدسية تخاطبها في اليقظة، والروح البشرية تعاشرها في النوم»(10).
ثانياً: من تفسيرات إخوان الصفا
من الشروح والتأويلات الفلسفية للقرآن أيضاً ما نجده في (رسائل إخوان الصفا)، الذين لا يزال العلماء يجهلون الكثير عن تاريخ نشأتهم وتكوينهم، وإن رجح بعضهم صلتهم بالباطنية الإسماعيلية.
فمن ذلك أنهم يشرحون (الجنة) و(النار) بما يفهم منه أن (الجنة) هي عالم الأفلاك، وأن (النار) هي عالم ما تحت فلك القمر، وهو عالم الدنيا، ففي حديثهم عن تجرد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك، يقررون أنه لا يمكن الصعود إلى ما هناك بهذا الجسد الثقيل الكثيف، إذ «إن النفس إذا فارقت هذه الجنة، ولم يعقها شيء من سوء أفعالها، أو فساد آرائها، وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها، فهي هناك في عالم الفلك في أقل من طرفة عين بلا زمان، لأن كونها حيث همتها أو محبوبها، كما تكون نفس العاشق حيث معشوقه. فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد، ومعشوقها هو الملذات المحسوسة المموهة الجرمانية، وشهواتها هذه الزينات الجسمانية، فهي لا تبرح من ههنا ولا تشتاق الصعود إلى عالم الأفلاك، ولا تفتح لها أبواب السماء ولا تدخل الجنة مع زمرة الملائكة، بل تبقى تحت فلك القمر، سائحة في قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة، تارة من الكون إلى الفساد، وتارة من الفساد إلى الكون: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (سورة النساء: 56). {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (سورة النبأ: 33)، ما دامت السموات والأرض، لا يذوقون فيها برد عالم الأرواح الذي هو الروح والريحان، ولا يجدون لذة شراب الجنان المذكور في القرآن: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (سورة الأعراف: 50) الظالمين لأنفسهم، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنة في السماء، والنار في الأرض»(11).
ومن ذلك أنهم يفسرون (الملائكة) بأنها كواكب الأفلاك، «إن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته...خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه، وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه»(12).
كذلك يرى إخوان الصفا «أن نفس المؤمن بعد مفارقة جسدها تصعد إلى ملكوت السماء وتدخل في زمرة الملائكة، وتحيا بروح القدس، وتسبح في فضاء الأفلاك، في فسحة السموات، فرحة، مسرورة، منعمة، متلذذة، مكرمة، مغتبطة»، ويقولون: إن ذلك هو معنى قول الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (سورة فاطر: 10)(13).
ويشرح إخوان الصفا (الشياطين) شرحاً فلسفياً بحتاً لا يتفق مع ما جاء به الدين، فيرون أن: «الله أشار إلى النفوس ووساوسها بقوله: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (سورة الأنعام: 112). فشياطين الجن هي النفوس المفارقة الشريرة التي قد استجنت عن إدراك الحواس، وشياطين الإنس هي النفوس المتجسدة المستأنسة بالأجساد»(14). و«أمثال النفوس التي ذكرناهاـ يعنون النفوس الخبيثة ـ هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالعقل»(15).
كما يفهمون أن تسمية الله الشهداء في قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} (سورة النساء: 69). بهذا الاسم إنما هو لشهادتهم تلك الأمور الروحانية المفارقة للهيولى، ويعنون بها جنة الدنيا ونعيمها(16).
يتبع