الإيمان: تعريفه حقيقته أركانه نواقضه
عبد الله بن فيصل الأهدل



أولاً: تعريفه:
لغةً: الإيمان مصدر لفعل آمن فإن تعدّى إلى مفعوله بدون واسطة كقوله - تعالى -: (وآمنهم من خوف) كان معناه إعطاء الأمان.
أما إذا تعدى إلى من يضاف إليه بصلة؛ إماّ اللام كقوله - تعالى -: (فآمن له لوط)) وقوله: (وما أنت بمؤمن لنا)، وإما الباء كقوله - تعالى -: (قولوا آمنا بالله) فمعناه لغة التصديق عند الجمهور.
ويرى ابن تيمية أن كلمة تصديق لا ترادف كلمة إيمان لغة، بل أقرب كلمة للمعنى اللغوي لكلمة إيمان هي كلمة إقرار... وعلى كلٍ لو فسرنا الإيمان لغة بأنه التصديق فلابد أن نعلم أمرين مهمين:
الأول: ليس المراد مجرد التصديق الذي هو اعتقاد صدق الخبر المسموع، بل التصديق الذي معه أمن واطمئنان من أي كذب بوجه من الوجوه فأنت مطمئن لهذا الخبر مقرّ به... ممّا ينشأ عنه لوازم العمل بموجب هذا التصديق والإقرار.
الثاني: أن التصديق لغة كما يكون بالقلب وحده ويكون باللسان وحده، ويكون بالقلب واللسان معاً يكون أيضاً بالجوارح.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)).
وقال - تعالى -: (يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) فعندما يفسر الإيمان في اللغة بأنه التصديق فلا يظن ظان أن التصديق مقصور على القلب..
شرعاً: الإيمان شرعاً له حالتان:
الحالة الأولى: اقترانه بالإسلام، كقوله - تعالى -: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولماّ يدخل الإيمان في قلوبكم).
وكما في حديث جبريل...
فالإيمان هنا شرعاً بمعنى المعتقد الجازم وهو الجانب الباطن من الدين ولذ فسره في حديث جبريل بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وبالقدر خيره وشره.
والحالة الثانية: إطلاقه ووروده في النصوص غير مقترناً بالإسلام. فهنا يراد به الدين كله ظاهره وباطنه. كما أن الإسلام إذا أطلق أريد به الدين كله، كقوله - تعالى -: (إن الدين عند الله الإسلام).
ومن النصوص الدالة على ذلك قوله - تعالى -: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً).
فذكر أشياء من أعمال القلوب كالوجل والتوكل وذكر أشياء من أعمال الجوارح كالصلاة والزكاة.
ومنها حديث وفد عبد قيس وفيه قال صلى الله عليه وسلم-: ((أمركم بالإيمان أتدرون ما الإيمان؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتعطوا الخمس من المغنم)) متفق عليه.
وكذا حديث: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)).
ففي أمثال هذه النصوص يراد بالإيمان الدين كله ظاهره وباطنه.
كما أن الإسلام عند الإطلاق يراد به الدين كله ظاهره وباطنه وعليه فيراد بالإسلام ما يراد بالإيمان في حال الإطلاق ولذا جاز إطلاق أحدهم على الآخر.
أماّ عند الاقتران؛ فإنه يراد بالإيمان الجانب الباطن من الدين المتعلق بالقلب والمعتقد ويراد بالإسلام الدين الظاهر المتعلق بالنطق بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان والله أعلم.
ولذا جاء في المسند مرفوعاً: ((الإيمان في القلب والإسلام علانية)) وفي سنده مقال.
ثانياًً: حقيقة الإيمان
حقيقة الإيمان المطلق - الذي يراد به الدين كله ظاهره وباطنه - أنه حقيقة مركبة من ركنين:
الأول: القول.
الثاني: العمل.
فهو قول و عمل لا يصح القول إلا بالعمل ولا العمل إلا بالقول وحكى الشافعي وغيره إجماع سلف الأمة على ذلك.
فالإيمان عند أهل السنة حقيقة مركبة من القول والعمل له شعب وأجزاء وأعلى وأدنى كما جاء في حديث: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه.
ولما كان الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل. وله أجزاء وأعلى وأدنى... فإنه إذا ذهب القول كله انتفت الحقيقة أي انتفى الإيمان.
وإذا ذهب العمل كله انتفت كذلك.
بخلاف ذهاب بعض العمل أو بعض القول الذي ليس شرطاً أو ركناً في الإيمان كالصلاة وإفراد الله بالدعاء فإنه يبقى بعضه الأخر.
كما أن الإيمان عند أهل السنة يزيد وينقص كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ودل عليه العقل والحس أيضاً.
أما أهل البدع فالإيمان عندهم حقيقة مفردة سواء الوعيدية كالخوارج، والمعتزلة، أو المرجئة كالأشاعرة.
إلا أن الوعيدية قالوا هو حقيقة مفردة من القول والعمل فإذا ذهب بعضه ذهب كله ولهذا يخرجون مرتكب الكبيرة من الإيمان.
أما عند المرجئة فهو حقيقة مفردة من القول فقط.
وأجمعت فرق المرجئة على إخراج العمل عن مسمى الإيمان وهم على درجات.
فالجهمية عندهم الإيمان هو: المعرفة.
الكرامية عندهم الإيمان هو: قول اللسان.
الأشاعرة عندهم الإيمان هو: قول القلب.
ومرجئة الفقهاء عندهم الإيمان هو: قول القلب واللسان.
ولذا من اكتفى بالقول عند المرجئة فهو مؤمن كامل الإيمان.
ثالثاً: أركان الإيمان:
أركان الإيمان المطلق أعني الذي يراد به الدين كله ظاهره وباطنه ركنان إجمالاً:
الأول: القول.
الثاني: العمل.
فالإيمان قول وعمل.
وأما تفصيلاً؛ فأربعة هي:
قول القلب - قول اللسان - عمل القلب - عمل الجوارح.
* باعتبار أن عمل اللسان يدخل في عمل الجوارح.
1- فقول القلب: المراد به اعتقاده وتصديقه وإيقانه وإقراره بأركان الإيمان وبكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) المائدة.
وكما جاء في حديث جبريل ((.. قال: ما الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الأخر وبالقدر خيره وشره.. )) رواه مسلم.
2- وقول اللسان: المراد به التكلم بكلمة الإسلام والإقرار بلوازمها، كما قال - تعالى -: (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإذا افعلوا، ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) متفق عليه.
3- وعمل القلب: المراد به إنقياد القلب وإذعانه بتحقيق أعمال القلوب من الإخلال لله بجميع أنواع العبادة من المحبة والخوف والتوكل والرضا، كما قال - تعالى -: (إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون... ).
وقوله: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).
وقوله: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).
والآيات الدالة على ذلك كثيرة، وقوله - صلى الله عليه وسلم-: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبمحمد نبياً وبالإسلام دينا).
والأحاديث الدالة على أعمال القلوب كثيرة.
4- وعمل الجوارح وعمل اللسان يدخل في عمل الجوارح والمراد بعمل الجوارح: الالتزام العملي الظاهر بفعل الواجبات، وترك المحرمات من حيث هي جنس.
أما بالنظر إلى آحاد هذه الواجبات والمحرمات فمنها ما هو ركن في الإيمان لا يصح إلا به: كالصلاة وإفراد الله بالدعاء. أو إذا كان من المحرمات فمثل الاستغاثة بغير الله أو تبديل شرع الله.
ومنها ما هو من واجبات الإيمان يصح الإيمان بدونها مثل بر الوالدين أو السرقة والزنا، لكن يستوجب معه العقوبة ويفوته كمال الإيمان الواجب.
ومنها ما هو مستحبات الإيمان كإماطة الأذى عن الطريق والسواك ونوافل الصلوات والصيام، فهذه لو تركها فإنه كمال الإيمان المستحب ولا يستوجب العقوبة.
فإذا نظرنا إلى عمل الجوارح كجنس فإنه ركن لا يصح الإيمان إلا به لدخول الأركان فيه.
وضابط ما هو ركن في الإيمان: كل عمل كفّر الشارع بفعله أو تركه كالسجود لصنم أو ترك الصلاة فإنه ركن في الإيمان أو شرط فيه.
فالخلاف بين الركن والشرط خلاف لفظي من جهة أن الإيمان لا يصح إلا بشروطه وأركانه والله أعلم.
وبهذا التقرير تبين خطأ من قال إن العمل شرط كمال لأنه لو كان شرط كمال سواء كان الكمال الواجب أو الكمال المستحب للزم أن يصح الإيمان بلا عمل لأنه إنما فاته الكمال، وهذا مخالف لإجماع السلف أن الإيمان ركنان قول وعمل لا يصح القول إلا بالعمل ولا العمل إلا بالقول، كما قال - تعالى -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً) الأنفال.
وقال - تعالى -: (وما كان الله ليضع إيمانكم) أي صلاتكم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون شعبه أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان).
وفي حديث وفد عبد القيس: ((آمركم بالإيمان أتدرون ما الإيمان. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتصوموا رمضان وتعطوا الخمس من المغنم)) متفق عليه.
أما أركان الإيمان المقترن بالإسلام والذي يراد به الجانب الباطن من الدين فهي ستة: "الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله - تعالى –".
نواقض الإيمان:
نواقض الإيمان المطلق أربعة تقابل أركانه:
1- فقول القلب ينقضه كفر التكذيب والجحد لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم - أو لمعلوم من الدين بالضرورة، قال - تعالى -: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه). قال - تعالى -: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم).
2- وعمل القلب: ينقضه كفر النفاق، والشرك والبغض لله أو للرسول صلى الله عليه وسلم أو لشيء من الدين. واعتقاد أن هناك شرعاً مثله أو أفضل منه أو أنه يجوز التحاكم إلى غير شرع الله، قال - تعالى -: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين). وقال - تعالى -((لئن أشركت ليحبطن عملك) وقال - تعالى - ذلك بأنهم كرهوا ما نزل الله فأحبط أعمالهم).
وقال - تعالى -: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبد إله واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).
3- وقول اللسان: ينقضه: سب الله وسب الرسول، وسب الدين وإن لم يستحل ذلك، قال - تعالى -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تعذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة.
ذلك لأن الشرع كفّر بهذه الأمور بنفس الفعل المكفر أو القول المكفّر.
4- عمل الجوارح وينقضه ترك جنس العمل أي كله أو ترك عمل كفّر الشرع بتركه، كالصلاة وفي سائر المباني نزاع مشهور بين السلف هي روايات عن الإمام أحمد. أعني التكفير بترك الزكاة أو الصوم أو الحج وإن لم يستحل. أو عمل عملاً كفّر الشرع بفعله مثل قتل نبي أو الإعانة عليه، أو دوس المصحف متعمداً، أو السجود للأصنام، أو تبديل شرع الله، وإن لم يستحل ذلك، قال - تعالى -: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين).
وقال - تعالى -: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين). وقال - تعالى -: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى).
وقال إسحاق ابن راهويه: "أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله أو قتل نبياً أو دفع شيئاً مما أنزل الله، فإنه كافر بذلك وإن كان مقراً بما أنزل الله".
تنبيه: الذنوب التي كفر الشارع بفعلها أو تركها لا يشترط فيها الاستحلال إنما يشترط الاستحلال في الذنوب غير المكفرة مثل الزنا والسرقة.