نعمة الأمن
سالم جمال النهداوي
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستَعِينه ونستَغفِره، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، الملك الحقُّ المبين، ربُّ العالمين، وإلهُ الأوَّلين والآخِرين، وقيُّوم السماوات والأرَضين، يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل.
وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، النبيُّ المُصطَفى، والرسول المُجتَبى، الصادق الأمين، البشير النذير، والسراج الأزهر المنير، أرسله الله - تعالى - رحمةً للعالمين؛ فشرَحَ به الصدور، وأنارَ به العقول، فتَح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله - تعالى - وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
عباد الله: إنَّ نِعَم الله - عز وجل - علينا كثيرة جدًّا، لا نستطيع عدَّها أو حصرها؛ قال - تعالى -: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34]، وقال - تعالى -: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان: 20].
نعم؛ نعمُه كثيرة، وآلاؤه عظيمة، لو جلَسنا نُعدِّدها ما استطعنا، لكن هنالك نعمة في غاية الأهميَّة والخطورة ربما لا نشعُر بها، ولا نُعيرها اهتِمامنا كثيرًا، إنها نعمة الأمن والأمان، فيجبُ علينا إدراك قيمة هذه النِّعمة، وأنْ نتذكَّرها، وأنْ نعرف كيف نُحافِظ عليها، وأنْ نحذر من أسباب زوالها. خاصَّة وأنَّ أعداءنا يُحاوِلون جادِّين زعزعة استِقرار بلادنا وأمننا، مستغلِّين في ذلك بعضًا من أبناء هذا الوطن، بتلويث أفكارهم وتحريضهم على ما يضرُّهم ولا ينفعُهم، فيجب علينا أنْ نعرف قدرَ هذه النِّعمة جيدًا، وأنْ نحافظ عليها بشتى أنواع الوسائل حتى نأمنَ في دِيننا ودِيارنا.
وقد قمتُ بتقسيم هذا الموضوع إلى ستة عناصر، وهي كالآتي:
1 - أهمية الأمن في حياة الفرد والمجتمع.
2 - خطورة انفلات الأمن.
3 - أسباب غِياب نعمة الأمن.
4 - الحدود والتعزيرات في الشريعة الإسلامية لحفظ أمْن المجتمعات واستقرارها.
5 - وسائل حفظ الأمن.
6 - أهمية الأمن والأمان في رخاء الشعوب واستقرارها.
1- أهميَّة الأمن في حياة الفرد والمجتمع:
إنَّ نعم الله - عز وجل - على عباده كثيرة، وآلاؤه لا تعدُّ ولا تُحصَى؛ قال - تعالى -: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34].
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: "يُخبِر الله - عز وجل - عن عجْز العباد عن تَعداد النِّعم، فضلاً عن القيام بشُكرها، كما قال طلْق بن حبيب - رحمه الله -: "إنَّ حقَّ الله أثقل من أنْ يقوم به العباد، وإنَّ نِعَمَ الله أكثر من أنْ يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توَّابين وأمسوا توَّابين". وفي "صحيح البخاري": أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهُمَّ لك الحَمد غير مَكفيٍّ، ولا مُوَدَّعٍ، ولا مُستَغنًى عنه ربَّنا)).
وقد رُوِي في الأثر: أنَّ داود - عليه السلام - قال: "يا رب، كيف أشكرك وشُكري لك نعمةٌ منك عليَّ؟ فقال الله - تعالى -: الآن شَكرتَنِي يا داود"؛ أي: حين اعتَرفتَ بالتقصير عن أداء شُكر النِّعَم. وقال الشافعي - رحمه الله -: "الحمد لله الذي لا يُؤدَّى شُكر نعمة من نعمه، إلا بنعمةٍ تُوجب على مؤدى ماضي نعمه بأدائها، نعمة حادثة توجبُ عليه شكره بها".
وقال القائل في ذلك:
لَوْ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنِّي لَهَا لُغَةٌ *** تُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيتَ مِنْ حَسَنِ
لَكَانَ مَا زَادَ شُكْرِي إِذْ شَكَرْتُ بِهِ *** إِلَيْكَ أَبْلَغَ فِي الإِحْسَانِ وَالْمِنَنِ[1]
لكن هنالك نعمة لا يستطيع فردٌ أو أسرةٌ، أو بلد أو أمَّة أن تعيشَ بدونها، نعمةٌ لا يهنأ العيش بدونها، ولا يقرُّ قرارٌ عند فَقْدها، إنها النِّعمة التي يبحَثُ عنها الكثير، المسلم وغير المسلم، الصغير والكبير، الغني والفقير، هي نعمةٌ لا يُوجَد أعظم ولا أجلُّ منها إلاَّ نعمة واحدة (الإسلام)، إنها نعمة الأمن والأمان. هذه النعمة امتنَّ الله بها على قريش حين أعرضوا عن دِين محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال - سبحانه -: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)[القصص: 57]، وذكرهم بأحوال الذين فقَدُوها من حولهم؛ فقال - عزَّ مِن قائل -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ...)[العنكبوت: 67] الآية، ثم جعلها لعظمها داعيًا لهم إلى الإيمان؛ فقال - جلَّ ذِكرُه -: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3 - 4].
وحين خاطب المولى - سبحانه - صحابةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ذكَّرهم أيضًا وامتنَّ عليهم بنصره لهم وإيوائه: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال: 26].
إنَّ مِن أعظم نِعَمِ الله - عز وجل - على بني الإنسان - بعد نعمة الدِّين والإسلام - نعمة الأمن والاستقرار. إنَّ حاجة الإنسان للأمن والاطمئنان كحاجته إلى الطعام والشراب والعافية للأبدان، كيف لا وقد جاء الأمنُ في القرآن والسنة مَقرُونًا بالطعام الذي لا حياة للإنسان ولا بقاء له بدونه؟! وقد امتنَّ الله به على عباده، وأمرهم أنْ يَشكُروا هذه النِّعَم بإخلاص العبادة له؛ فقال - تعالى -: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3 - 4]، وقال - تعالى - في الوعد بحسن الجزاء وعظيم المثوبة للمؤمنين: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
إذا عَمَّ الأمنُ البلادَ، وألقى بظلِّه على الناس، أَمِنَ الناس على دينهم، وأَمِنَ الناس على أنفسهم، وأَمِنَ الناس على عقولهم، وأمِنُوا على أموالهم وأعراضهم ومحارمهم، ولو كتَب الله الأمن على أهل بلد من البلاد، سارَ الناس ليلاً ونهارًا لا يخشَوْن إلا الله.
وفي رِحاب الأمن وظلِّه تعمُّ الطمأنينة النُّفوس، ويسودُها الهُدُوء، وتعمُّها السعادة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أصبح آمنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدُّنيا بحذَافِيرها)).
إِذَا اجْتَمَعَ الإِسْلاَمُ وَالقُوتُ لِلْفَتَى *** وَكَانَ صَحِيحًا جِسْمُهُ وَهْوَ فِي أَمْنِ
فَقَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيعًا وَحَازَهَا *** وَحَقٌّ عَلَيْهِ الشُّكْرُ للهِ ذِي الْمَنِّ
والناس في هذه الحياة لهم مَآربُ شتَّى، وأحوالٌ متعدِّدة، تختلف أديانهم وتوجُّهاتهم، وتختلف رغباتهم، إلا أنَّ هناك أمورًا هم جميعًا مُجمِعون على طلبها والبحث عنها، بل هي غاية كثيرٍ منهم، ويظهر هذا الأمر جليًّا وواضحًا في المطلب الذي يُكابِد من أجله شعوبٌ، ويسعى لتحقيقه فئامٌ كثيرون، إنَّه الأمن على النفس والمال والولد. الأمن في الأوطان مطلب الكثير من الناس، بل هو مطلب العالم بأَسْرِه، حياةٌ بلا أمن لا تساوي شيئًا، كيف يعيش المرء في حالةٍ لا يأمن فيها على نفسه حتى من أقرب الناس إليه؟! خوف وذعر وهلع وترقُّب وانتظارٌ للغد، لا يفكر الإنسان في شيءٍ إلاَّ في حاله اليوم، ليس عنده تفكيرٌ في مستقبل، وما كان ذلك إلاَّ بسبب فقدان الأمن.
عباد الله: أوَّل مَطلَب طلَبَه إبراهيم من ربِّه - سبحانه - هو أنْ يجعل هذا البلد آمِنًا؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]، ويقول في آيةٍ أخرى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[البقرة: 126].
فانظُروا هاتين الآيتين، فإبراهيم طلَب في الآية الأولى تحقيقَ الأمن؛ حتى يتحقَّق له عبادة الله على الوجْه الصحيح؛ (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]؛ لأنَّ الإنسان في حال الفِتنة والقلاقل يشغله الخوفُ عن عبادة ربِّه، وربما زاغَ كثيرًا عن الحقِّ، ألم يخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنَّ المتمسِّك بدينه في آخِرِ الزمان حين تكثُرُ الفتن كالقابض على الجمر؟! أمَّا الآية الثانية فطلب إبراهيم تحقيق الأمن، ثم قال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)[البقرة: 126]؛ لأنَّ بلدًا لا أمن فيه كيف تستقيم للناس فيه أرزاقُهم؟! وهذا الواقع أمامكم ما إن تُعلَن حرب أو فتنة في بلد، حتى ينقل أرباب الأموال أموالهم إلى بلدانٍ أخرى، وما علموا أنَّ الحِفاظ على النفس أولى من الحِفاظ على المال، فالنفس تزولُ، والمال غادٍ ورائح، ولكن: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20].
عباد الله، الأمن مَطلَب الجميع، ولقد كانت قريش في الجاهلية قد جعلتْ نفسها مسؤولةً عن أمْن مكة والحجيج الوافدين إليها، حتى إذا جاء حاج فتعامَل مع أحد المقيمين في مكة ثم ظلَمَه حقه، نادَى هذا الرجل على أهل مكة بأعلى صوته طالبًا حقَّه، فاجتمعت قريش بأفخاذها وقبائلها في دار عبدالله بن جُدعان، فتحالفوا على ألاَّ يُظلَم في مكة غريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه.
روى البيهقيُّ وغيرُه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جُدعان حِلفَ الفضول، أمَا لو دُعِيت إليه اليومَ لأجبتُ، وما أحبُّ أنَّ لي به حمر النَّعم وأنِّي نقضته)). ولما دخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فاتِحًا، أمَر أنْ يُنادِي مناد: ((مَن دخَل المسجد الحرام فهو آمِن، ومَن دخَل دارَه فهو آمِن، ومَن دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِن))؛ لأنَّ الناس إذا أمِنُوا على أنفسهم اطمأنُّوا، وزالَ عنهم الرعب، وعادت إليهم عقولهم.
2- خطورة انفلات الأمن:
وإذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يَهنَأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفَزَعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد، ويُمنَع المسلم من إظهارِ شعائر دينه؛ قال - سبحانه -: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)[يونس: 83]، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتُهجَر الديار، وتُفارَق الأوطان، وتَتفرَّق الأُسَر، وتُنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتَبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرِّزق، وتتبدَّل طِباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب، ويُلقَى الشحُّ، ويُبادَر إلى تصديق الحَبَر المخوف وتكذيب خبر الأمن. باختِلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وتُرمَّل نساء، ويُيَتَّم أطفال. إذا سُلِبتْ نعمةُ الأمن فشا الجهلُ، وشاع الظُّلم، وسلبتِ الممتلكات، وإذا حَلَّ الخوفُ أُذِيقَ المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع؛ قال - سبحانه -: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]، قال القرطبي - رحمه الله -: "سَمَّى الله الجوعَ والخوفَ لباسًا؛ لأنَّه يُظهِر عليهم من الهُزال وشُحوبة اللون وسوءِ الحال ما هو كاللباس".
الخوفُ يَجلِب الغمَّ، وهو قرين الحُزْن؛ قال - جل وعلا -: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].
قال معاوية - رضي الله عنه -: "إيَّاكم والفتنة، فلا تهمُّوا بها، فإنها تُفسِد المعيشةَ، وتُكدِّر النِّعمة، وتورثُ الاستئصال".
إنَّ استِقرار المجتمع المسلم الذي يهنَأ فيه بالطعام ويستسيغ الشراب، ويكون نهاره معاشًا ونومه سباتًا وليله لباسًا - لا يمكن أنْ يتحقَّق إلاَّ تحت ظلِّ الأمن، وقديمًا قيل: الأمن نصف العيش، إنَّ مَطلَب الأمن يسبق مطلب الغذاء، فبِغَيْر الأمن لا يُستَساغ طعامٌ، ولا يُهنَأ بعيش، ولا يُنعَم براحة، قيل لحكيمٍ: أين تجدُ السرور؟ قال: في الأمن، فإنِّي وجدت الخائف لا عيش له.
عبادَ الله، إنَّ أوَّل مَطلَبٍ طلَبَه إبراهيم - عليه السلام - من ربِّه هو أنْ يجعَلَ هذا البلد آمِنًا؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]، وفي آيةٍ أخرى قدم - عليه السلام - في دعائه لربِّه نعمة الأمن على نعمة العيش والرزق؛ فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)[البقرة: 126].
وكذلك العكس أيها الإخوة، فإذا سلَب الله بعزَّته وقُدرته وحِكمته الأمنَ من بلد ما، فتصوَّر كيف يكون حالُ أهله، لو خرَج ابنك إلى الشارع لا تأمن عليه، لو ذهبتْ بنتك إلى المدرسة خشيت ألاَّ ترجع إليك، لو ذهبتَ أنت إلى العمل جلست على مِقعَد العمل قَلِقًا على نسائك ومَحارِمك في المنزل، إضافةً إلى سرقات البيوت وسرقة السيارات وقُطَّاع الطُّرُق في السفر وغيرها كثير، كم من البلاد الآن عاقَبهُم الله - جل وعلا - بنَزْعِ الأمن من بلادهم، فعاشَ أهلها في خوفٍ وذُعر، في قلقٍ واضطراب، ليل نهار، لا يهنَؤُون بطعام، ولا يتلذَّذون بشراب، ولا يرتاحون بمنامٍ، كلٌّ ينتظر حَتْفَه بين لحظةٍ وأخرى، عَمَّ بلادَهم الفوضى، وانتشر الإجرامُ، لا ضبْط ولا أمن، فنسأل الله - عز وجل - أنْ يرحمنا برحمته، وألاَّ يوصلنا إلى هذه النهاية.
أيها الناس، كم من البلاد حولَكم عاقبهم الله بنزْع الأمن والأمان من بلادهم، فعاشَ أهلُها في خوف وذُعر، في قلقٍ واضطراب، لا يهنَؤُون بطعام، ولا يتلذَّذون بشراب، ولا ينعمون بنوم، الكل ينتظر حَتْفَه بين لحظةٍ وأخرى! أيها المسلمون، إنَّ مكانة الأمن كبيرة، وكان نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل شهرٌ جديد ورأى هلاله سأل الله أنْ يجعَلَه شهر أمن وأمان، فيقول: ((اللهمَّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبُّ وترضى))؛ أخرجه الترمذي.
وفي الحديث الآخر يُذكِّر - صلى الله عليه وسلم - الناس بهذه النعمة فيقول: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سِربِه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه - فكأنما حِيزَتْ له الدنيا))؛ أخرجه الترمذي.
يتبع