تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: نعمة الأمن

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,518

    افتراضي نعمة الأمن

    نعمة الأمن
    سالم جمال النهداوي



    إنَّ الحمد لله نحمده، ونستَعِينه ونستَغفِره، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له.
    وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، الملك الحقُّ المبين، ربُّ العالمين، وإلهُ الأوَّلين والآخِرين، وقيُّوم السماوات والأرَضين، يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل.
    وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، النبيُّ المُصطَفى، والرسول المُجتَبى، الصادق الأمين، البشير النذير، والسراج الأزهر المنير، أرسله الله - تعالى - رحمةً للعالمين؛ فشرَحَ به الصدور، وأنارَ به العقول، فتَح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسلم تسليمًا كثيرًا.
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
    (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
    أمَّا بعدُ:
    فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله - تعالى - وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
    عباد الله: إنَّ نِعَم الله - عز وجل - علينا كثيرة جدًّا، لا نستطيع عدَّها أو حصرها؛ قال - تعالى -: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34]، وقال - تعالى -: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان: 20].
    نعم؛ نعمُه كثيرة، وآلاؤه عظيمة، لو جلَسنا نُعدِّدها ما استطعنا، لكن هنالك نعمة في غاية الأهميَّة والخطورة ربما لا نشعُر بها، ولا نُعيرها اهتِمامنا كثيرًا، إنها نعمة الأمن والأمان، فيجبُ علينا إدراك قيمة هذه النِّعمة، وأنْ نتذكَّرها، وأنْ نعرف كيف نُحافِظ عليها، وأنْ نحذر من أسباب زوالها. خاصَّة وأنَّ أعداءنا يُحاوِلون جادِّين زعزعة استِقرار بلادنا وأمننا، مستغلِّين في ذلك بعضًا من أبناء هذا الوطن، بتلويث أفكارهم وتحريضهم على ما يضرُّهم ولا ينفعُهم، فيجب علينا أنْ نعرف قدرَ هذه النِّعمة جيدًا، وأنْ نحافظ عليها بشتى أنواع الوسائل حتى نأمنَ في دِيننا ودِيارنا.
    وقد قمتُ بتقسيم هذا الموضوع إلى ستة عناصر، وهي كالآتي:
    1 - أهمية الأمن في حياة الفرد والمجتمع.
    2 - خطورة انفلات الأمن.
    3 - أسباب غِياب نعمة الأمن.
    4 - الحدود والتعزيرات في الشريعة الإسلامية لحفظ أمْن المجتمعات واستقرارها.
    5 - وسائل حفظ الأمن.
    6 - أهمية الأمن والأمان في رخاء الشعوب واستقرارها.
    1- أهميَّة الأمن في حياة الفرد والمجتمع:
    إنَّ نعم الله - عز وجل - على عباده كثيرة، وآلاؤه لا تعدُّ ولا تُحصَى؛ قال - تعالى -: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34].
    قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: "يُخبِر الله - عز وجل - عن عجْز العباد عن تَعداد النِّعم، فضلاً عن القيام بشُكرها، كما قال طلْق بن حبيب - رحمه الله -: "إنَّ حقَّ الله أثقل من أنْ يقوم به العباد، وإنَّ نِعَمَ الله أكثر من أنْ يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توَّابين وأمسوا توَّابين". وفي "صحيح البخاري": أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهُمَّ لك الحَمد غير مَكفيٍّ، ولا مُوَدَّعٍ، ولا مُستَغنًى عنه ربَّنا)).
    وقد رُوِي في الأثر: أنَّ داود - عليه السلام - قال: "يا رب، كيف أشكرك وشُكري لك نعمةٌ منك عليَّ؟ فقال الله - تعالى -: الآن شَكرتَنِي يا داود"؛ أي: حين اعتَرفتَ بالتقصير عن أداء شُكر النِّعَم. وقال الشافعي - رحمه الله -: "الحمد لله الذي لا يُؤدَّى شُكر نعمة من نعمه، إلا بنعمةٍ تُوجب على مؤدى ماضي نعمه بأدائها، نعمة حادثة توجبُ عليه شكره بها".
    وقال القائل في ذلك:
    لَوْ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنِّي لَهَا لُغَةٌ *** تُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيتَ مِنْ حَسَنِ
    لَكَانَ مَا زَادَ شُكْرِي إِذْ شَكَرْتُ بِهِ *** إِلَيْكَ أَبْلَغَ فِي الإِحْسَانِ وَالْمِنَنِ[1]
    لكن هنالك نعمة لا يستطيع فردٌ أو أسرةٌ، أو بلد أو أمَّة أن تعيشَ بدونها، نعمةٌ لا يهنأ العيش بدونها، ولا يقرُّ قرارٌ عند فَقْدها، إنها النِّعمة التي يبحَثُ عنها الكثير، المسلم وغير المسلم، الصغير والكبير، الغني والفقير، هي نعمةٌ لا يُوجَد أعظم ولا أجلُّ منها إلاَّ نعمة واحدة (الإسلام)، إنها نعمة الأمن والأمان. هذه النعمة امتنَّ الله بها على قريش حين أعرضوا عن دِين محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال - سبحانه -: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)[القصص: 57]، وذكرهم بأحوال الذين فقَدُوها من حولهم؛ فقال - عزَّ مِن قائل -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ...)[العنكبوت: 67] الآية، ثم جعلها لعظمها داعيًا لهم إلى الإيمان؛ فقال - جلَّ ذِكرُه -: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3 - 4].
    وحين خاطب المولى - سبحانه - صحابةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ذكَّرهم أيضًا وامتنَّ عليهم بنصره لهم وإيوائه: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال: 26].
    إنَّ مِن أعظم نِعَمِ الله - عز وجل - على بني الإنسان - بعد نعمة الدِّين والإسلام - نعمة الأمن والاستقرار. إنَّ حاجة الإنسان للأمن والاطمئنان كحاجته إلى الطعام والشراب والعافية للأبدان، كيف لا وقد جاء الأمنُ في القرآن والسنة مَقرُونًا بالطعام الذي لا حياة للإنسان ولا بقاء له بدونه؟! وقد امتنَّ الله به على عباده، وأمرهم أنْ يَشكُروا هذه النِّعَم بإخلاص العبادة له؛ فقال - تعالى -: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3 - 4]، وقال - تعالى - في الوعد بحسن الجزاء وعظيم المثوبة للمؤمنين: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
    إذا عَمَّ الأمنُ البلادَ، وألقى بظلِّه على الناس، أَمِنَ الناس على دينهم، وأَمِنَ الناس على أنفسهم، وأَمِنَ الناس على عقولهم، وأمِنُوا على أموالهم وأعراضهم ومحارمهم، ولو كتَب الله الأمن على أهل بلد من البلاد، سارَ الناس ليلاً ونهارًا لا يخشَوْن إلا الله.
    وفي رِحاب الأمن وظلِّه تعمُّ الطمأنينة النُّفوس، ويسودُها الهُدُوء، وتعمُّها السعادة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أصبح آمنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدُّنيا بحذَافِيرها)).
    إِذَا اجْتَمَعَ الإِسْلاَمُ وَالقُوتُ لِلْفَتَى *** وَكَانَ صَحِيحًا جِسْمُهُ وَهْوَ فِي أَمْنِ
    فَقَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيعًا وَحَازَهَا *** وَحَقٌّ عَلَيْهِ الشُّكْرُ للهِ ذِي الْمَنِّ
    والناس في هذه الحياة لهم مَآربُ شتَّى، وأحوالٌ متعدِّدة، تختلف أديانهم وتوجُّهاتهم، وتختلف رغباتهم، إلا أنَّ هناك أمورًا هم جميعًا مُجمِعون على طلبها والبحث عنها، بل هي غاية كثيرٍ منهم، ويظهر هذا الأمر جليًّا وواضحًا في المطلب الذي يُكابِد من أجله شعوبٌ، ويسعى لتحقيقه فئامٌ كثيرون، إنَّه الأمن على النفس والمال والولد. الأمن في الأوطان مطلب الكثير من الناس، بل هو مطلب العالم بأَسْرِه، حياةٌ بلا أمن لا تساوي شيئًا، كيف يعيش المرء في حالةٍ لا يأمن فيها على نفسه حتى من أقرب الناس إليه؟! خوف وذعر وهلع وترقُّب وانتظارٌ للغد، لا يفكر الإنسان في شيءٍ إلاَّ في حاله اليوم، ليس عنده تفكيرٌ في مستقبل، وما كان ذلك إلاَّ بسبب فقدان الأمن.
    عباد الله: أوَّل مَطلَب طلَبَه إبراهيم من ربِّه - سبحانه - هو أنْ يجعل هذا البلد آمِنًا؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]، ويقول في آيةٍ أخرى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[البقرة: 126].
    فانظُروا هاتين الآيتين، فإبراهيم طلَب في الآية الأولى تحقيقَ الأمن؛ حتى يتحقَّق له عبادة الله على الوجْه الصحيح؛ (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]؛ لأنَّ الإنسان في حال الفِتنة والقلاقل يشغله الخوفُ عن عبادة ربِّه، وربما زاغَ كثيرًا عن الحقِّ، ألم يخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنَّ المتمسِّك بدينه في آخِرِ الزمان حين تكثُرُ الفتن كالقابض على الجمر؟! أمَّا الآية الثانية فطلب إبراهيم تحقيق الأمن، ثم قال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)[البقرة: 126]؛ لأنَّ بلدًا لا أمن فيه كيف تستقيم للناس فيه أرزاقُهم؟! وهذا الواقع أمامكم ما إن تُعلَن حرب أو فتنة في بلد، حتى ينقل أرباب الأموال أموالهم إلى بلدانٍ أخرى، وما علموا أنَّ الحِفاظ على النفس أولى من الحِفاظ على المال، فالنفس تزولُ، والمال غادٍ ورائح، ولكن: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20].
    عباد الله، الأمن مَطلَب الجميع، ولقد كانت قريش في الجاهلية قد جعلتْ نفسها مسؤولةً عن أمْن مكة والحجيج الوافدين إليها، حتى إذا جاء حاج فتعامَل مع أحد المقيمين في مكة ثم ظلَمَه حقه، نادَى هذا الرجل على أهل مكة بأعلى صوته طالبًا حقَّه، فاجتمعت قريش بأفخاذها وقبائلها في دار عبدالله بن جُدعان، فتحالفوا على ألاَّ يُظلَم في مكة غريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه.
    روى البيهقيُّ وغيرُه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جُدعان حِلفَ الفضول، أمَا لو دُعِيت إليه اليومَ لأجبتُ، وما أحبُّ أنَّ لي به حمر النَّعم وأنِّي نقضته)). ولما دخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فاتِحًا، أمَر أنْ يُنادِي مناد: ((مَن دخَل المسجد الحرام فهو آمِن، ومَن دخَل دارَه فهو آمِن، ومَن دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِن))؛ لأنَّ الناس إذا أمِنُوا على أنفسهم اطمأنُّوا، وزالَ عنهم الرعب، وعادت إليهم عقولهم.
    2- خطورة انفلات الأمن:
    وإذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يَهنَأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفَزَعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد، ويُمنَع المسلم من إظهارِ شعائر دينه؛ قال - سبحانه -: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)[يونس: 83]، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتُهجَر الديار، وتُفارَق الأوطان، وتَتفرَّق الأُسَر، وتُنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتَبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرِّزق، وتتبدَّل طِباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب، ويُلقَى الشحُّ، ويُبادَر إلى تصديق الحَبَر المخوف وتكذيب خبر الأمن. باختِلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وتُرمَّل نساء، ويُيَتَّم أطفال. إذا سُلِبتْ نعمةُ الأمن فشا الجهلُ، وشاع الظُّلم، وسلبتِ الممتلكات، وإذا حَلَّ الخوفُ أُذِيقَ المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع؛ قال - سبحانه -: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]، قال القرطبي - رحمه الله -: "سَمَّى الله الجوعَ والخوفَ لباسًا؛ لأنَّه يُظهِر عليهم من الهُزال وشُحوبة اللون وسوءِ الحال ما هو كاللباس".
    الخوفُ يَجلِب الغمَّ، وهو قرين الحُزْن؛ قال - جل وعلا -: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].
    قال معاوية - رضي الله عنه -: "إيَّاكم والفتنة، فلا تهمُّوا بها، فإنها تُفسِد المعيشةَ، وتُكدِّر النِّعمة، وتورثُ الاستئصال".
    إنَّ استِقرار المجتمع المسلم الذي يهنَأ فيه بالطعام ويستسيغ الشراب، ويكون نهاره معاشًا ونومه سباتًا وليله لباسًا - لا يمكن أنْ يتحقَّق إلاَّ تحت ظلِّ الأمن، وقديمًا قيل: الأمن نصف العيش، إنَّ مَطلَب الأمن يسبق مطلب الغذاء، فبِغَيْر الأمن لا يُستَساغ طعامٌ، ولا يُهنَأ بعيش، ولا يُنعَم براحة، قيل لحكيمٍ: أين تجدُ السرور؟ قال: في الأمن، فإنِّي وجدت الخائف لا عيش له.
    عبادَ الله، إنَّ أوَّل مَطلَبٍ طلَبَه إبراهيم - عليه السلام - من ربِّه هو أنْ يجعَلَ هذا البلد آمِنًا؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]، وفي آيةٍ أخرى قدم - عليه السلام - في دعائه لربِّه نعمة الأمن على نعمة العيش والرزق؛ فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)[البقرة: 126].
    وكذلك العكس أيها الإخوة، فإذا سلَب الله بعزَّته وقُدرته وحِكمته الأمنَ من بلد ما، فتصوَّر كيف يكون حالُ أهله، لو خرَج ابنك إلى الشارع لا تأمن عليه، لو ذهبتْ بنتك إلى المدرسة خشيت ألاَّ ترجع إليك، لو ذهبتَ أنت إلى العمل جلست على مِقعَد العمل قَلِقًا على نسائك ومَحارِمك في المنزل، إضافةً إلى سرقات البيوت وسرقة السيارات وقُطَّاع الطُّرُق في السفر وغيرها كثير، كم من البلاد الآن عاقَبهُم الله - جل وعلا - بنَزْعِ الأمن من بلادهم، فعاشَ أهلها في خوفٍ وذُعر، في قلقٍ واضطراب، ليل نهار، لا يهنَؤُون بطعام، ولا يتلذَّذون بشراب، ولا يرتاحون بمنامٍ، كلٌّ ينتظر حَتْفَه بين لحظةٍ وأخرى، عَمَّ بلادَهم الفوضى، وانتشر الإجرامُ، لا ضبْط ولا أمن، فنسأل الله - عز وجل - أنْ يرحمنا برحمته، وألاَّ يوصلنا إلى هذه النهاية.
    أيها الناس، كم من البلاد حولَكم عاقبهم الله بنزْع الأمن والأمان من بلادهم، فعاشَ أهلُها في خوف وذُعر، في قلقٍ واضطراب، لا يهنَؤُون بطعام، ولا يتلذَّذون بشراب، ولا ينعمون بنوم، الكل ينتظر حَتْفَه بين لحظةٍ وأخرى! أيها المسلمون، إنَّ مكانة الأمن كبيرة، وكان نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل شهرٌ جديد ورأى هلاله سأل الله أنْ يجعَلَه شهر أمن وأمان، فيقول: ((اللهمَّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبُّ وترضى))؛ أخرجه الترمذي.
    وفي الحديث الآخر يُذكِّر - صلى الله عليه وسلم - الناس بهذه النعمة فيقول: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سِربِه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه - فكأنما حِيزَتْ له الدنيا))؛ أخرجه الترمذي.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,518

    افتراضي رد: نعمة الأمن

    نعمة الأمن
    سالم جمال النهداوي

    3- أسباب غياب نعمة الأمن:
    إنَّ الله - عز وجل - سَنَّ سننًا في كونه، وحدَّ حُدودًا في شرعه، مَن خالَفَها أو تجاوزها فلا يلومنَّ بعد ذلك إلاَّ نفسه، ومِن ذلك أنَّه - سبحانه وتعالى - جعَلَ هناك حُدودًا، وأمر عِباده بحِفظ أشياء لو ضيَّعوها ولم يحفَظُوها كان عِقابهم سَلب الأمن منهم، فلننبِّه على بعض منها، فإذا كنَّا واقعين فيها نتدارَك ذلك بتوبةٍ نصوح، قبل أنْ يحلَّ بنا ما حلَّ بغيرنا، وإنْ لم نكنْ واقعين بها فالحمد لله، ولنحذَرْها ونتوقَّاها.
    أيها المسلمون، لقد أنعَمَ الله على كثيرٍ من الأمم بنعمة الأمن، لكنهم لَمَّا كفروا بنعمة الله وأعرَضُوا عن شرع الله، عاقبهم الله فبدَّل أمنهم خوفًا، فلا تسلْ عمَّا يحلُّ بهم بعد ذلك. يقول - سبحانه -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
    إنَّ دَوام النِّعَمِ وشُكرها مُقتَرنان، فكُفر النعمة يُعرِّضها للزَّوال، فالذنوب مُزيلةٌ للنِّعَم، وبها تحلُّ النِّقم؛ قال - سبحانه -: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الأنفال: 53].
    وقال - سبحانه - عن سبأ: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُم ْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)[سبأ: 18 - 19].
    عباد الله: إنَّ من الخطَأ قصرَ مفهوم الأمن على نِطاقٍ ضيِّق متمثِّل في مجرَّد حماية المجتمع من السرقة أو النَّهب أو القتل وأمثال ذلك، فمفهوم الأمن أعمُّ من ذلكم وأجلُّ، إنَّه يشمل التمسُّك بعقيدة التوحيد والبُعد عن الشرك وموالاة الأعداء، وتنحية شرع الباري - جلَّ شأنه - عن واقع الحياة، أو مزاحمة شرع الله بشرع غيره؛ (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[آل عمران: 83].
    الأمن بمفهومه الشامل يتمثَّل في حماية المجتمعات وحِفظها من الوُقُوع في الشبُهات والشهوات عبر دُعاة التغريب وما يبثُّ عبر الصحف والقنوات.
    أيها المسلمون، إنَّ الأمن على العقول لا يقلُّ أهميَّة عن أمن الأرواح والأموال، فكما أنَّ للأرواح والأموال لصوصًا، فإنَّ للعقول لصوصًا كذلك، ولصوص العقول أشدُّ خطرًا وأنكى جرحًا من سائر اللصوص.
    لماذا الحديث عن الأمن؟
    عباد الله: لا أُخفِيكم سِرًّا إذا قلت لكم: إنَّ الذي دفعني إلى التحدُّث في هذا الموضوع ما سمعت وسمعتم ممَّا يحصل في الآوِنة الأخيرة من كثْرة السطو على المنازل وكثْرة السرقة من المحلات التجارية وكسرها ليلاً، بل وسرقة السيارات. في خِلال الأسبوع الماضي وحده أكثر من ثلاثة بيوت ممَّن حولَنا كُسِرتْ وسُرِقتْ، إذًا كم يكون إحصائية الأسبوع الماضي وحدَه على مستوى المدينة، ثم ما حولنا من المدن، ثم على مستوى المنطقة، إلى أنْ نصل إلى مستوى البلاد، أتصوَّر أنها أرقام مُذهلة مروِّعة. حقًّا؛ إنَّ هذا الموضوع يُزعِج، وإذا لم يوضع له حدٌّ ونهاية فإنَّ العواقب لا تُحمَد عُقباها، ليس بعد ضَياع الأمن شيء، الإنسان يمكن أنْ يعيش وهو يُعانِي الفقر، الجوع، العطش، لكن لا يعيش مع الفَوضَى والقلاقل والاضطرابات؛ إذًا لا بُدَّ أنْ يسعى كلٌّ منَّا لتحقيق الأمن ودفْع أسباب نَزعِه، منها ما هو واجب الفرد، ومنها ما هو واجب المجتمع، ومنها ما هو واجب الدولة.
    4- الحدود والتعزيرات في الشريعة الإسلامية لحفظ أمن المجتمعات واستقرارها:
    لقد جمعتْ شريعةُ الإسلام المحاسنَ كلّها، فصانت الدِّينَ، وحفِظت العُقول، وطهَّرتِ الأموال، وصانت الأعراض، وأمَّنت النفوس، أمرتِ المسلمَ بإلقاء كلمة السلام والأمن والرحمةِ والاطمئنان على أخيه المسلم؛ إشارةً منها لنشرِ الأمن بين الناس. وأوجبت حِفظَ النفس حتى في مَظِنَّة أمنها في أحبِّ البِقاع إلى الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا مَرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سُوقنا ومعه نَبْلٌ، فليُمسِك على نِصالها - أو قال: فليقبِض بكفِّه - أنْ يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء))؛ متفق عليه. وحذَّرتْ من إظهارِ أسباب الرَّوع بين صُفوفِ المسلمين؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسِّلاح؛ فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانَ يَنزِع في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار))؛ متفق عليه.
    وحرَّمتْ على المسلم الإشارةَ على أخيه المسلم بالسِّلاح ولو مازحًا؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنَّ الملائكة تلعنُه حتى يدَعَها، وإنْ كان أخاه لأبيه وأمه))؛ رواه المسلم.
    قال الإمام النوويُّ - رحمه الله -: "هذا مبالغة في إيضاح عُموم النهي في كلِّ أحدٍ، سواء مَن يُتَّهَمُ فيه ومَن لا يتَّهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أم لا؛ لأنَّ ترويعَ المسلم حرامٌ بكلِّ حال".
    ودعا الإسلامُ إلى كلِّ عملٍ يبعَث على الأمن والاطمِئنان بين صُفوفِ أفراده، وأمَر بإخفاء أسباب الفَزَع في المجتمع؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلِمًا))؛ رواه أحمد.
    ولَمَّا دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكَّة عامَ الفتح، منح أهلَ مكَّة أعظمَ ما تتوُق إليه نفوسهم؛ فأعطى الأمانَ لهم، وقال: ((مَن دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِن، ومَن ألقَى السِّلاحَ فهو آمِن، ومَن دخل المسجدَ فهو آمِن))؛ رواه مسلم.
    وما شُرعت الحدود العادِلة الحازمة في الإسلام على تنوُّعها إلاَّ لتحقيقِ الأمن في المجتمعات.
    عباد الله: لقد جاءتْ تحذيراتُ الشريعة القاطعة وأصولُها الجامعةُ بالنهي الأكيدِ، والتحريم الشديد، عن كلِّ عدوان وإفسادٍ يخلُّ بالأمن أو يُؤثِّر على الاستقرار؛ قال - جل وعلا -: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)[الأعراف: 56]، وقال - سبحانه -: (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 81]. ولأهميَّة توفُّر الأمن شرعت الشريعة الأحكامَ الوقائيَّة والدِّفاعيَّة بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ؛ للحِفاظ على سَلامة تلك المقاصد من جهة الوجود والعَدم بما لم يأتِ له مثيلٌ، ولم يسبقْ له نظير، فمَن طبَّق هذه الأحكام وامتَثَل أمرَ الله فيها، تحقَّق له ما يبتَغِيه من الأمن. فالقصاص والحدود شُرِعتْ لإحكام الأمن، مَن قَتل بغير حقِّ قُتِل، ولو لم يُقتلْ لقامت الثارات، وصار كلٌّ يأخُذ حقَّه بيده، ومَن سرق قُطِع، ولو لم يُقطَع لصارت البلاد مَنْهَبَة؛ كلٌّ يأخُذ ما يَشاء ويذَر، ومَن حارَب وسعَى في الأرض بالفَساد يُروِّع عباد الله ويقتلهم ويأخُذ أموالهم، أُقِيمَ عليه حدُّ الحرابة بالتقتيل أو بالصلب، أو بالتقطيع من خِلاف، أو بالنفي من الأرض، ومَن شرب الخمر أو قذَف محصنًا جُلِدَ، وشُرِع التعزيرُ لولِيِّ الأمر؛ ليؤدب كل معتدٍ بما يردعه عن العودة إلى فعلته، فيأمن الناس ويطمئنُّون. بل بالغَت التوجيهات الشرعيَّة في الأمر بالحِفاظ على الأمن وعدمِ المساس به بتوجيهاتٍ عديدة وأوامر مُلزِمة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يُروِّع مسلمًا))؛ رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الألباني.
    ونهى - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُشهر السلاح على أرض المسلمين؛ فقال- صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُشِر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنَّه لا يَدرِي أحدكم لعلَّ الشيطانَ ينزع في يده؛ فيقع في حُفرة من النار))؛ متفق عليه.
    5 - وسائل حفظ الأمن:
    1 - المحافظة على تطبيق الحدود الشرعية:
    أنْ نحفظ ونُحافِظ على ما شرعه - تعالى - من إقامة الحدود على المُجرِمين التي فيها زجْر للناس؛ فالله - سبحانه وتعالى - قد شرع لنا وأمرنا بأنْ نُقِيم حدوده المنصوص عليها في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لكي ينزَجِر الناسُ عن الجرأة على المعاصي التي نهى الله - تعالى - عنها، ولكي يستقرَّ حال المجتمع، ولكي يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم.
    فلو أَمِنَ السارق بأنَّ يده لا تُقطَع، وأَمِنَ الزاني بأنَّه لن يُرجم، وأَمِنَ شارب المُسكِر بأنَّه لا يُجلد، وأَمِن المرابي والغاش والمزوِّر بأنَّه لا يُعزَّر؛ فماذا تتوقَّعون أن يكون حال ذلك المجتمع؟! هل يَسودُه أمن؟! لا والله! وإذا أُقِيم حَدٌّ فعلى ضعيف، أو على مَن لا يد لديه عند فلانٍ أو فلان، تمرُّ الأشهر تِلوَ الأشهر في طول البلاد ولا نسمع ولا نرى حُدودًا تُقام، فهل يدلُّ هذا على التزام الناس كلهم بشرع الله، وأنَّ المجتمع قد خلا من الفواحش والمنكرات؟! لا نتصوَّر ذلك ونحن نرى ونسمع كلَّ يوم ما يشيب له الرضيع من الأهوال والمُزعِجات من تفسُّخ الناس وانحِلالهم وارتكابهم لأفظع الجرائم، إلاَّ مَن رحم الله. لقد لعَن الله أقوامًا كان إذا سرَق فيهم القويُّ تركوه، وإذا سرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، ولهذا لَمَّا جاء ذلك الصحابي يستَشفِع في المرأة التي سرقت لكي لا يُقِيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها الحدَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرَقتْ؛ لقطع محمدٌ يدَها)).
    عباد الله: بإقامة حدود الله - عز وجل - كانت تسير الظَّعِينة من شرق البلاد إلى غربها، لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، لكن عندما صار المسلمون يُعطِّلون إقامة حدود الله - عز وجل - ولا يأبهون بها، بل ويستبدلون بها تشريعات من عقولهم العفنة في كثيرٍ من الأحيان وفي كثيرٍ من البلاد؛ عاقبَهُم الله - سبحانه - بنزْع الأمن منهم.
    إنَّ إقامة حدود الله تُخِيف الناس وتردعهم، فيثبت بذلك أركان المجتمع، أمَّا أنْ يسرق ذاك الألوفَ المؤلَّفة ثم يترك، ويبلع الآخَر بالملايين، ولا يُعرَض أصلاً على حكم الله، والثالث يرتكب الزنا والفواحش والذين حوله يعلَمُون عنه والناس تتناقَل أخباره، ورَوائح جرمه، ومُنكَراته بلغت كلَّ مكان ولا يقام عليه حدٌّ، والرابع سِكِّيرٌ عِرْبِيدٌ، بل قد جعل من بيته مصنعًا للخمر، ثم يُتستَّر عليه ويُسكَت عنه، أسألكم بالله: من أين يُنزِل الله أمنه؟! وكيف تريدون بعد ذلك أنْ يرحمنا الله بأمنه، ويكلأنا برعايته، إذا ضيَّعنا حدوده؟!
    عباد الله: إذا أَمِنَ الناس العقوبة استَشرَى فيهم الجريمة والفوضى؛ قال الله - تعالى -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ)[البقرة: 229].
    2- البعد عن الذنوب والمعاصي:
    المعاصي والأمنُ لا يجتمِعان، فالذنوب مُزيلةٌ للنِّعم، وبها تحُلّ النِّقَم؛ قال - سبحانه -: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[الأنفال: 53]، وما نزل بلاءٌ إلاَّ بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة.
    والطاعةُ هي حِصن الله الأعظمُ الذي مَن دخَلَه كان من الآمِنين.
    قال عبدالله بن المبارك:
    رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ *** وَقَدْ يَتْبَعُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
    وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ *** وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
    وقال ابن المعتز:
    خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا *** وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى
    وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ *** ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
    لاَ تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً *** إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى
    وقال آخَر:
    تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ لَذَّتَهَا *** مِنَ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالعَارُ
    تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا *** لاَ خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّار
    ُ3 - أن نتذكر نعمة الأمن دائمًا، ونشكر الله عليها:
    ونعمةُ الأمن تُقابَل بالذِّكر والشُّكر؛ (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 239].
    وأمَر الله قريشًا بشُكر نعمةِ الأمن والرَّخَاء بالإكثار من طاعته؛ قالَ - جلَّ جلاله -: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3 - 4].
    4 - تعريف الناس بالله وتخويفهم من عقابه وبطشه:
    بالخوف منَ الله ومُراقبتِه يتحقَّق الأمن والأمان، فهابيل امتَنع من قتلِ قابيل لخوفِه من ربِّه - جل وعلا - : (َا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[المائدة: 28].
    5 - الحِرْص على تعليم المسلمين أمور دينهم:
    والعنايةُ بالعلم والتمسُّك بالكتابِ والسنَّة شريعةً وقِيَمًا وأصولاً اجتماعية - عصمةٌ من الفتن، وللتعليم الشرعيِّ أساسٌ في رسوخ الأمن والاطمئنان.
    قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلَّة قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرُّ والفساد". والعلماءُ الربانيُّون هم ورثةُ الأنبياء، وفي مُلازَمتِهم وزيارتهم وسؤالهم والاستنارةِ بآرائهم سدادٌ في الرأي، وتوفيقٌ للصواب، ودرءٌ للمفاسد.
    6 - المحافظة على عقول المسلمين من كلِّ ما يفسدها:
    وممَّا يجبُ علينا حفظه لو أردنا حفظ الأمن علينا أنْ نحفظ العقول، أنَّ نحفظ عقول المسلمين ممَّا يفسدها ويضرُّ بها، سواء كانت مفسدات ماديَّة أو مفسدات معنويَّة، يجبُ حفظ عقول الناس من كلِّ مُسكِر، ومن كل مخدِّر، وكذلك المحافظة على عقول الناس من التصوُّرات الفاسدة والأفكار المنحرفة، عقول الناس لو أصابها العَطَبُ وأصابها الخَدَر ماذا تكون النتيجة؟! النتيجة إقبال الناس على الشهوات وانتشار المعاصي، ممَّا يُقلِّل وازِعَ الخوف من الله عند الناس، فيفعل كلُّ شخص ما يريد، فيترتَّب عليه الفَوضَى وقلَّة الأمن.
    أيها المسلمون، إنَّ المحافظة على عُقول الناس من أهمِّ أسباب حفْظ الأمن؛ لأنَّ الناس لو استقامتْ عقولهم، صاروا يُفكِّرون فيما ينفَعُهم ويبتَعِدون عمَّا يضرُّهم، لو استقامتْ عُقول الناس لاستقامتْ حياتهم؛ لأنَّهم سوف يبحثون عمَّا يُرضِي الله فيفعلونه، ويتعرَّفون على ما يغضب الله فيبتعدون عنه، إذًا هناك علاقةٌ كبيرة بين المحافظة على عقول الناس وبين استقرار الأمن عندهم.
    أيها المسلمون، ماذا تتوقَّعون من مجتمعٍ أهمل عقول الناس، بل سعى إلى إفسادها وتخريبها ماديًّا ومعنويًّا؟! لم يُحكِم الرقابة والضبط عمَّا يفسد عقول الناس ماديًّا، كذلك لم يحكم الرقابة والضبط عمَّا يفسد عقول الناس معنويًّا، فإذا أتيتَ إلى إعلامه هالَكَ ما ترى فيه، سواءً كان إعلامًا مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًّا، جميع أنواع المُخالَفات الشرعيَّة من غناءٍ محرَّم، وصور عارية، وأخلاق رديئة، وكلمات فاضحة، وأفكار علمانيَّة، وحداثة حقيرة تافهة، كلُّ هذا وغيره سَيْطَرَ على عُقول الناس فأفسَدَها، ولم يدعْ لها لحظة واحدة تُفكِّر في دِينها، أو تُفكِّر في عاقبتها، أو حتى تُفكِّر فيما ينفعها في دُنياها، فصارَ أغلب الناس - إلا مَن رحم الله - يعيشُ في خواءٍ فكري وفراغ عقلي، لو جاءَه الخطر لم يعلمْ عنه، ولو سُلِبتْ خيراته ما علم عنه، بل لو استبدل حاله من أمنٍ إلى فَوضَى وجريمة، لربط هذا بالحضارة المعاصرة.
    فاتَّقوا الله أيها المسلمون، حافِظوا على هذه النعمة (نعمة العقل)، لا تُفسِدوها بتصوُّرات وأخلاق دخيلة على دِين الإسلام، حافِظوا على عقولكم من كلِّ ما يضرُّها في دِينها ودُنياها، وحافِظُوا على عقول أبنائكم ذُكورًا وإناثًا، خُصوصًا من هذا الخطر الجديد الذي داهَم علينا بُيوتنا، البثُّ المباشر، زبالة الغرب ونتنه وسمومه، يجلس أمامه الرجال والنساء، الصِّغار والكبار، على أنَّه مسلسلات أو مسرحيَّات أو نحوها، وهي في حقيقتها دعوةٌ إلى النصرانيَّة أو دعوة إلى اللا دينيَّة، إضافة إلى ما فيها من نشرِ وبثِّ الأخلاق السيِّئة والعادات الرذيلة التي يمجُّها صاحب الفطرة السليمة، كيف نريدُ من شبابنا بعد ذلك ألاَّ يسرق؟! فأين الأمن في الأوطان والغربُ قد وجَّه كلَّ قُواه علينا؟! هو يقصد التغريب، ونحن تلقَّيناه على أنَّه ترفيهٌ وتسليةٌ.
    إنَّ الأمن لا يمكن أنْ يحصل إلاَّ في ظلِّ شريعة الله حُكمًا وتحاكُمًا، مع المحافظة على العقول وفْق منهج الله، ولو فرَّطنا في تحكيم كتاب الله فبطنُ الأرض خيرٌ لنا مِن ظاهرها؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 - 3].
    7 - المحافظة على الأمن مسوؤلية الجميع:
    وإذا سعى ساعٍ للإخلال بالأمن، أو زعزعته، أو إشاعة الفَوضَى؛ فإنَّ الناس يأخُذون على يده ويتَّحدون ضده؛ لأنهم يعرفون قدر هذه النِّعمة، ولا يريدون أنْ يُسلَبُوها؛ لأنَّ مجتمعًا بلا أمن لا يهنأ بعيشه إنْ دام له عيشه. عباد الله، ألاَ وإنَّ ممَّا ينبغي أنْ يُعلَم أنَّه لا أمن بلا إيمان، فمَن حقَّق الإيمانَ ظفر بالأمن، وبقدر ما يتحقَّق من الإيمان يتحقَّق مثله من الأمن، ومَن استكمل شُعَبَ الإيمان وخصاله استكمل صور الأمن وأشكاله؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
    قال رجل يوصي أبناءه عند وفاته:
    تَأْبَى الرِّمَاحُ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرًا *** وَإِذَا افْتَرَقْنَ تَكَسَّرَتْ آحَادَا
    كُونُوا جَمِيعًا يَا بَنِيَّ إِذَا اعْتَرَى *** خَطْبٌ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا آحَادَا
    تأبَى الرِّمَاحُ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرًا *** وَإِذَا افْتَرَقْنَ تَكَسَّرْتْ أَفْرَادَا
    وقال آخَر:
    وَفِي كَثْرَةِ الأَيْدِي عَنِ الظُّلْمِ زَاجِرٌ *** إِذَا حَضَرَتْ أَيْدِي الرِّجَالِ بِمَشْهَدِ
    يقول ابن الرومي:
    وَلِي وَطَنٌ آلَيْتُ أَلاَّ أَبِيعَهُ *** وَأَلاَّ أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرُ مَالِكًا
    6 - أهمية الأمن والأمان في رَخاء الشعوب واستقرارها:
    بالأمن تصلح الحياة، وتنبَسِط الآمال، وتتيسَّر الأرزاقُ، وتزيد التِّجارات، الأمنُ تفشو معه الماشية، وتكثر الأمَّة، الأمن تتقدَّم معه التنمية، وينتشر فيه العلمُ والتَّعليم، ويعزُّ فيه الدين والعدل، ويظهَر فيه الأخيارُ على الأشرار، وتوظَّف فيه الأموال في كلِّ مشروع نافعٍ للفرد والمجتمع. والأمن تُحقَن فيه الدِّماء، وتُصَان الأموال والأعراض، وتَنام فيه العيون، وتطمئنُّ المضاجع، يتنعَّم به الكبير والصغيرُ والإنسان والحيوان، فالأمن مِن نِعَمِ الله العُظمَى وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلاَّ به، ولا يطيب العيش إلا باستِتْبابِه؛ ولذلك جعَله الله من نَعيم أهلِ الجنَّة الدائم؛ قال الله - تعالى -: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)[الحجر: 46].
    في ظلِّ الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتًا، والطعام هنيئًا، والشراب مريئًا، الأمن والأمان هما عماد كلِّ جهد تنموي، وهدف مرتقب لكلِّ المجتمعات على اختلاف مشاربها.
    بل هو مطلب الشعوب كافَّة بلا استثناء، ويشتدُّ الأمر بخاصَّة في المجتمعات المسلمة التي إذا آمَنت أمِنَتْ، وإذا أمِنَتْ نَمَتْ، فانبثق عنها أمنٌ وإيمان؛ إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضَمانات واقعية ضد ما يُعكِّر الصفو في أجواء الحياة اليوميَّة. إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كلِّ المنابر؛ لما للأمن من وقع في حسِّ الناس؛ من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم، فضلاً عن كونه هبة الله لعباده، ونعمة يُغبَط عليها كلُّ مَن وُهِبها، ولا غرو في ذلك.
    وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((مَن أصبح آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بدَنِه، عنده قوتُ يومه؛ فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بِحَذافيرها)).
    _____________
    [1] "تفسير ابن كثير" (4/511 - 512)
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •