الإبداع الثقافي وثوابت الشريعة
عقيل بن محمد المقطري




* مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فإن البيان نعمة من الله - عز وجل - أنعم بها على بني الإنسان، قال - تعالى -: [الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ القُرْآَنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ البَيَانَ(4)] الرَّحمن.
وهذا البيان، قد يكون باللسان، وقد يكون بالقلم، وهي نعمة أخرى. هذا البيان منه ما يسحر الألباب ويستأسر الأفئدة، قال نبينا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: « إن من البيان لسحراً ».
والناس في هذا البيان أصناف، فمنهم: من سخره لنصرة الدين والحق والعدل والفضيلة، ومنهم من سخره لنصرة الباطل ونشر الرذيلة والتمرد على الله - عز وجل - وعلى شرعه، ومنهم من صرفه للمصالح والمطامع الشخصية.

الشرع الحنيف يشجع الأدب النافع:
ولا شك أن الشرع الحنيف، قد حث وشجع الأدب - شعره ونثره - ليكون ناصراً للدين مدافعاً عنه، كما قال - عليه الصلاة والسلام - لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -: « اهجهم وروح القدس معك »، وقال أيضاً: « اهجهم، والذي نفسي بيده إنه لأشد عليهم من وقع النبل ».
ولقد كان للكفار شعراؤهم وأدباؤهم الذين سخروا الأدب لنصرة آلهتهم الباطلة.

الإنسان مسئول عما يصدر عنه:
لقد جعل الشرع الجوارح مسئولة عما يصدر عنها من خير أو شر وأوصى الإنسان بأن يكون ملتزماً بضوابط الشرع وآدابه، قال - تعالى -: [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ق: 18.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: « وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي له بالاً، ترفعه في الجنة درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار سبعين خريفاً ».
وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: « كف عليك لسانك، فقال معاذ: أو نحن محاسبون بما نتكلم به بألسنتنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناس على مناخرهم -أو قال على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم؟! ».
ومما لا شك فيه أن الأدب إنما هو انعكاس لما يحمله المرء من الأفكار والاتجاهات، والمذاهب والمعتقدات؛ ولهذا فإن المثقفين من أدباء هذه الأمة في العقود الماضية، ضربوا أروع الأمثلة في الدفاع عن الدين ونصرته، وحفظت لنا المكتبة ما قدموه من ثقافة متأدبة بآداب الشرع.
وأبرز كثير من المثقفين معتقداتهم من خلال أشعارهم، فهذا ابن الرواندي، يقول - وكان على نهر دجلة وبيده كسرة خبز يابسة، ورأى قافلة محملة بالتجارة، فلم سأل لمن هي؟ ذكر له رجل جاهل عيي، وابن الراوندي هو ذاك الأديب الشاعر، رمى بالخبزة من يده وأنشد:
كم عالم عالم ضاقت مذاهبه *** هذا الذي صير الأحلام حائرةً
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً *** وصيّر العالم النحرير زنديقاً
وقال حين سمع أذاناً من منارة، وسمع ناقوساً يدق من كنيسة:
في اللاذقية ضجة *** هذا بناقوس يدق
كل يمجد دينه *** ما بين أحمد والمسيحْ
وذا بمئذنة يصيحْ *** يا ليت شعري ما الصحيحْ

الثقافة بين مفهومين:
لقد اصطلح المتأخرون على تسمية الأدب بالثقافة، فما هذا الاصطلاح؟:
الثقافة، من المنظور الإسلامي، تعني: (منظومة القيم الإسلامية).
وفي منظور المتغربين، تعني: (أن تعرف شيئاً عن كل شيء).
ولا شك أن هذا المفهوم الأخير -مفهوم المتغربين- خلل عظيم.
وسبب هذا المفهوم لدى الأمة، خصوصاً لدى الجيل الجديد من أبنائها، خوراً في العزيمة، وضعفاً في الإرادة، وغيب عندها جدية الجهاد في سبيل العلياء والمجد. كما كان هذا التصور الساذج وغير الإسلامي، هو الذي مهد لظاهرة النخبة في المجتمع الإسلامي المعاصر، وكان طبيعياً أن تنفصل هذه النخبة -بمرور الوقت- عن جماهير الأمة، ثم ينتهي الحال بغالبية النخب المثقفة إلى الوقوف ضد الأمة، بل ضد الجماعة المسلمة تاريخاً وتراثاً وحضارة، وربما (ديناً)؛ بفعل اغترابها، وامتلاء وعيها بشذرات المعارف والفلسفات والآداب الأجنبية، وإعراض الأمة عن ذلك كله، ورفضها التجاوب مع نزعات (النخبة) المتغربة الأمر الذي تفرع عنه معظم الصراعات والنزاعات السياسية والفكرية والأدبية التي لا يخلو منها مجتمع إسلامي معاصر.

تصحيح مصطلح الثقافة:
فمفهوم الثقافة يجب أن يصحح كمصطلح، وتبرز قيمته ورسالته؛ إذ هو المدخل الرئيس لانطلاقة جهادنا الثقافي في دفع وتنمية حركية المجتمع، وفعاليته باتجاه النهضة المرتجاه.
والجهاد الثقافي هنا ليس من نوع الكفاية، وإنما هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، فالعالم المسلم، والداعية والمفكر عليه قسطه، وله دوره الكبير والريادي في الجهاد الثقافي الإسلامي؛ وهذا لا يغني عن نصيب وواجب كل مسلم ومسلمة في الدفاع عن ثقافة الإسلام في الفكر والسلوك والآداب، ثم في نقل هذه الروح الثقافية إلى الآخرين، سواء كانوا مسلمين، غابت عنهم جوانب من ثقافة الإسلام، أو انحرفوا عنها عصياناً، أو كانوا من غير المسلمين، وبهذا يصبح الجهاد الثقافي نوعاً من أنواع الدعوة إلى الإسلام.

أسباب الانحراف الثقافي:
لقد توارثت الأمة في الوقت الحاضر واقعاً مراً عن أجيال سبقت، ظهر فيها بدع وانحرافات عن هدي النبوة ومنهاج السلف الصالح. وبعض هذا الإرث مما وفد على الأمة من انحرافات؛ نتيجة الغزو الثقافي الذي يشمل جميع مناحي الحياة، والذي تعرضت له البلاد الإسلامية على مدار ما يزيد عن قرن من الزمان من الثقافات الأوربية بمؤثراتها المختلفة (وثنية، ومسيحية، وإلحادية، وغيرها).
هذه التراكمات الثقافية التي انتحلها قطاع من أبناء هذه الأمة، وانبرى للدعوة إليها كل في مجاله، فهذا في السلوك، وذاك في الأخلاق، وآخر في السياسة، وآخر في الأدب..إلخ تأثرت بها قطاع من أبناء هذه الأمة ممن لا ثقافة عنده، أو انبهر بحضارة الغرب، أو تأثر بهذا الشاعر أو ذاك الأديب.
وكانت هذه سنة من السنن الماضية، التي جعل الشرع الوزر الأكبر على ذلك الداعي، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: « من سن سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً؛ ومن سن سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ».

اتجاهات الجهاد الثقافي المطلوب: (1)
لذا، فإن جهادنا الثقافي يتخذ منحيين: إحياء وإماتة، بناء وهدم، قبول ورد.

وذلك نظراً للدخيل الذي دخل في ثقافتنا الإسلامية، فنحيي الخير، ونميت الشر، نحيي السنة، ونميت البدعة، نبني الأخلاق الفاضلة، ونهدم الأخلاق الفاسدة، ونقبل ما وافق ديننا، ونرد ما صادم ثوابتنا.. وهكذا.
وهذا المجال واسع جداً، بحيث يمكن أن يكون المسلم مجاهداً ثقافياً، وهو لا يكتب ولا يتكلم، بل يتمثل بالمثُل الإسلامية، ويتحلى بالأخلاق الحميدة رغم غربته في أبناء قومه، لكنه بعمله الصامت يوصل رسالته إلى الجميع، بل حتى المرأة المرتدية لحجابها الشرعي في الأوساط السافرة والنداءات المتكررة، بسفور المرأة وخروجها من بيتها كاسية عارية- يعد نوعاً من الجهاد الثقافي.

التجديد الثقافي بين طرفين:
لقد ادعى أصحاب الفكر المتغرب تجديد الأدب والثقافة، لكن هذا التجديد بمفهومهم هم. فالتجديد من منظور الثقافة الإسلامية مقبول وغير مرفوض، وله أصل في الدين، إذ قال - عليه الصلاة والسلام -: « إن الله يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها ». هذا التجديد من المنظور الإسلامي عام في جميع مناحي الحياة، حتى في الأدب والثقافة، لكنه بالضوابط الإسلامية.
أما من المنظور المتغرب، فالتجديد عندهم معناه: "الحذف والإضافة، والبعد والمصادمة، والنفور والتمرد على الدين وعلى كل ما هو إسلامي، والإضافة والاستحسان، والتبعية والتقليد، والمدح والإشادة لكل ما هو وافد من الثقافات الشرقية تارة، والغربية تارة أخرى".
غير أنهم لا يجرءون على التصريح بذلك، ويعبرون بعبارات لطيفة تستساغ لدى السذج من الناس، مثل عبارة (الاستنارة) و (العقلانية).
والمجدد الثقافي عندهم، هو الذي يقدم التنازلات في جميع المجالات: (في الشريعة والعقيدة، في الأخلاق والسلوك) لصالح الثقافات الغربية الأوربية، أو الأمريكية.

نماذج من التجديد الثقافي المنحرف:
فهذا (الترابي) مثلاً، باسم التجديد يلغي حد الردة في الإسلام، ويبيح للمسلم أن يتنصر، وللمسلمة أن تتزوج باليهودي أو النصراني؛ لأن الثقافة الغربية تدعو إلى الحرية المطلقة (1).
وإليك بعضاً من نقولات أولئك الذين أعلنوا تمردهم على الدين:
يقول محمد جبر الحربي: "أرضنا البيد الغارقة، طوّف الليل أرجاءها، وكساها بعسجده الهاشمي، فدانت لعاداته معبداً" (2).
فهذا النص فيه غمز ولمز لنبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - الذي أخرج البشرية من الظلمات إلى النور.
ويقول أيضاً: "اخرجوا، فالشوارع غارقة، والملوحة في لقمة العيش، في الماء، في شفة الطفل، في نظر المرأة السلعة، الأفق متسع والنساء سواسية منذ ثبت وحتى ظهر القناع تشتري لتباع وتباع، وثانية تشترى لتباع".
ويقول آخر: "كان الله رماداً كان رماداً، كان الله عبداً يباع في سوق النخاسين".
مجرد أمثلة، ولا أريد أن أكثر منها لخبثها ونتانتها. ويمكن القارئ أن يرجع على كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام).
ومن هنا، نعلم أن الشرع لا يمانع من الإبداع الثقافي والتجديد في الثقافة، ونعلم أن كذلك أن الأدب والإبداع فيه، لا يجوز أن يصل فيه الأديب إلى درجة منافاة الثوابت الشرعية والأخلاقية، بل لا بد من مراعاة الضوابط الشرعية، إذا أردنا أن نخدم أمتنا وأدبنا وثقافتنا.
والله من وراء القصد.

________
الهوامش:
1) وانظر -إن شئت- كتابه (التجديد في أصول الفقه) وغير ذلك من كتبه.
2) انظر (الحداثة في ميزان الإسلام) صـ 69،