أطفالنا بين الخوف والتخويف!
عبد المطلب السح



- حدثني صديقي الطبيب عن يوم تقديمه لامتحان في بريطانيا فقال: (كان من نصيبي طفل مريض علي أن أسأله عن مرضه وأفحصه، ومن ثم تأتي اللجنة الفاحصة لامتحاني بذلك، وقد كنت -يقول الطبيب- لطيفاً معه لأقصى الدرجات، وعندما جاء الأستاذ كان أول سؤال يسأله ليس لي بل للطفل هو: هل كنت سعيداً مع طبيبك؟
فأجابه بلا محاباة ولا خجل أو وجل: لا لا، عندها أحمرّ وجه الطبيب واخضرّ حيث حل الجواب عليه كوقع الصاعقة، وقال لي: آه! لو كان هذا الولد هنا لكنت ضربته كفاً يجعله ينسى حليب أمه) انتهت القصة.
هناك ينشأ معظم الأطفال بلا عمليات تخويف فنجد الطفل يقول رأيه بصراحة ويعامله الكبار كإنسان له كل حقوق التعبير، فينصتون له حين يتكلم ويعطونه فرصته. والأهم من ذلك لا يقومون بتخويفه وقمعه معطين إياه حقه البسيط في الشعور بالأمان بعيداً عن التخويف وكبت ما يدور بخلده.
- (عندما شعرت أن ابنها "يشاغب" في عيادتي لم يكن أهون عليها من أن تقول لي: دكتور، اضرب لهذا الولد إبرة في عينه لأنه يعذبني!! رباه.. إبرة وفي عينه! كيف سينظر لي هذا البريء إن رسخت هذه الفكرة برأسه؟ وكيف سيبوح بوجعه يوماً ما وهو يعتقد أن في العيادة من يفقأ العيون؟!، ببسمة مني وبعض الحلويات في يد الصغير الذي سكت بعدها وربما اقتنع بأنني لست من تتحدث عنه أمه وربما لا).انتهت القصة.
- حكت لحفيدها حكاية ما قبل النوم وكانت موفقة حتى لحظة وصول العفريت الذي اقشعر لذكره جسد الصغير، وجعله يلصق جسده النحيل بحضن جدته ولم يعد بعدها قادراً على الذهاب لشرب كأس من الماء حتى لا يذبحه العفريت، وزاد الطين بلة ذكر الجن الذي يهلك كل طفل يتأخر بنومه أو يصرخ كثيراً، وكانت النتيجة أن الطفل نام على حال لا يوصف، وبال على نفسه في الفراش، وأخذه نصيبه من عقاب والده في الصباح.
- شاهدت الشرطي يقف وسلاحه على جنبه فقالت لأمها: هل سيذبحنا الآن؟ ذهلت الأم وقالت لها: لا يا ابنتي، إنه ينظم السير ويعاقب المسيئين فقط، ولكن من قال لك إنه سيذبحنا؟ وردت الطفلة بأن المعلمة قالت: بأن من يعبر الشارع من دون أن ينظر إلى اليمين واليسار سيذبحه الشرطي! جميل توعية الأبناء، لا! بل هذا مطلوب، ولكن لا يجوز ذلك بالتخويف اللاواقعي، وخصوصاً أن هذا سيرسخ في ذهن الطفل وبالتالي نكسب شيئاً ونخسر أشياء مقابل ذلك.
من الحالات التي نشاهدها من وقت لآخر في العيادة أو المستشفى طفل محروق بمكواه أو بيده وخزة إبرة، أو على ظهره آثار سياط... الخ، مما قد يخجل اليراع من كتابته، وكلها حالات تحصل في كل المجتمعات بنسب مختلفة ولها تدبيرها الطبي والاجتماعي وحتى الجنائي وصارت تسمى حالات اضطهاد الطفل، ودخلت المناهج وصرنا ندرسها لأطباء المستقبل، ويجب أن نذكر أنه ليس كل تلك الحالات تمر بسلام، فبعضها وصل حد تحطيم نفسية الطفل بشكل مزمن، وبعضها وصل حد الوفاة.
لم أذكر كل تلك الأمثلة إلا لأوضح أن الخطأ الذي مر قد نقع فيه كلنا على اختلاف وظائفنا وأدوارنا الاجتماعية عن غير قصد "غالباً" أو عن قصد "نادراً"، ولكي أوضح حجم العبء الذي نحمله أبناءنا الذين ننتظر منهم النجاح والتفوق والإبداع وبناء الغد ورفع رأس الوطن والأمة ومقارعة الأعداء.
إن هذا السلوك يقتل الإبداع ويغلق مفاتيح الانتصار، فليس من حقنا إطلاق النعوت على الأشياء والكائنات إلا كما هي، فالشرطي إنسان مهذب يرعى النظام ويحفظ الأمن، والطبيب يريح الطفل من الألم، وطبيب الأسنان يزيل السن المنخورة المؤلمة، والإبرة لخياطة الثوب الجميل، والعسكري لحماية الحدود، وحتى الجني هناك جني مؤمن يعمل الخير، والحرامي شرير ستنتصر عليه وليس لسرقة الأطفال، وحتى العدو الغاصب لا يجوز أن نعلم أبناءنا الخوف منه، وإنما علينا ترسيخ حقيقة أنه جبان وغادر ومهزوم؛ لأنه ظالم ونحن أقوى من أعتى أسلحته، والليل هو نصف اليوم الذي نسهر وندرس وننام فيه وليس الظلمة المليئة بالوحوش والأفاعي والأشباح، أما بناة الأجيال -المعلم أو المعلمة- فلا يجوز بالمطلق تخويف الطفل منهم، فهم في الصف ليعطونا العلم والمعرفة والنجاح، وكذلك المدير هو الذي يسهر على راحتنا في المدرسة ويبذل كل جهد ممكن لصنع الأجيال الصالحة، وعندما نستوعب كل تلك الحقائق نكون قد امتلكنا إحدى مقومات الانتصار -إن شاء الله-