بسم الله الرحمن الرحيم
السند القرآني بالتلقي الشفهي الممتد إلى آخر الزمان (هل يعتمد عليه في نقل قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم)

الحمد لله القدوس السلام, خالق الكون بارئ الأنام, مصرف أحوالهم عبر الدهور والأيام, علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان, ومنحه العقل ليميز به الهدى من الضلال والرشد من الغي.
والصلاة والسلام على خير خلق الله, من اختاره الله واصطفاه نبينا محمد وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن مما هو مستقر في أذهان كثير من الناس لا سيما من يعتنون بالقراءات أن السند القرآني بالتلقي الشفهي الذي يمنحه المقرئ لتلميذه عبر السلسلة الممتدة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما لا نهاية له من الزمن هو السبيل لأخذ التلاوة أخذاً صحيحاً, وما سوى ذلك فلا يعتبر أداءً سليماً يُطْمَأَنُّ إليه.
وفي هذا البحث سوف نستوضح ونستجلي حقيقة هذا الأمر بعيداً عن التقليد والتبعية والمجاملة في مسائل العلم والدين والقرآن, وسوف أوضح بعض الخفاياً والخبايا القابعات في كثير من الزوايا مما يستوجبه النصح لعامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

لأن شأن الإسناد القرآني لا يقصد به يقيناً مجرد الانتساب التشريفي فقط, ولو كان المقصد ذلك لكان الأمر ليس ذا بال, كما هو الحال في أسانيد أهل العلم في قراءة عامة الكتب, فهو في المتأخرين مجرد انتساب ليس بعد ذلك من شيء.
ولكنهم يقصدون بالإسناد القرآني الحقيقة فعلاً, وأن من منح هذه الإجازة القرآنية فهو شهادة له بأنه يقرأ القراءة الصحيحة السليمة من كل عيب, وهي التي كان يقرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقرئ بها أصحابه رضي الله عنهم.
لأنها متلقاة بالسماع قارئ عن قارئ بسند متصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

والسؤال المهم هنا:
هل الأدلة المنطقية والعقلية والواقعية تدل على هذا وتصدقه؟

هذا ما سوف نراه إن شاء الله في هذا البحث المتواضع.
وسأعرض الأمور كما هي من حيث الواقع المشاهد والمعلوم والمقروء, وأدع بعد ذلك الحكم للقارئ ليحكم بنفسه هل الإسناد بالتلقي الشفهي الممتد إلى أخر الزمان هو الذي ينبغي أن يعول عليه أم أن الاعتماد يجب أن يكون على ما في كتب السابقين القدامى, لا على هذه الأسانيد وهذه الإجازات.
وسأذكر الوقفات إجمالاً ثم أعرج عليها بالتفصيل.
أولاً: وجود الاختلاف الكبير الطبيعي في الأداء بين القراء.
ثانياً: الفروق الشاسعة جداً بين المقرئين من حيث التشديد والتيسير.
ثالثاً: تعرض القارئ للنسيان والغفلة والوهم والخطأ.
رابعاً: عدم الأهلية الكافية عند كثير ممن يقرئون ويسندون.
خامساً: أن العلماء أجازوا التلقي عن الشيوخ وليس العرض على الشيخ.
سادساً: أن كثيراً من علماء القراءات والتجويد قد طعنوا في أنواع كثيرة من أداء كثير من المسندين, فحصل بذلك التعارك الشديد بين القراء المسندين وأتباعهم في مسائل كثيرة جداً, وتخطئة بعضهم لبعض.
سابعاً: الانقطاع في كثير من الأسانيد.
ثامناً: الجهالة الإسنادية في كثير من طبقات الأسانيد, فإن مجرد معرفة الأسماء لا يكفي ولا يغني شيئاً.
تاسعاً: ظهور ما يسمى بالتحريرات الذي فتح أنواعاً لا تنتهي من الاختلافات.
عاشراً: خلاصة البحث في أسطر.
وأخيراً : ثلاثة تنبيهات مهمة.
الوقفة الأولى:
وجود الاختلاف الكبير الطبيعي في الأداء بين القراء:
وهذا أمر معلوم عقلاً وواقعاً, فإن الذين يقرئون بالإسناد في هذا الزمن ألوف مؤلفة أو أكثر من ذلك, ولو أردت أن تقارن بين اثنين منهم لرأيت الاختلافات الكبيرة, والتفاوت الواضح, فما بالك بالألوف المؤلفة!
ثم إن سلسة الإسناد ممتدة عبر أكثر من أربعة عشر قرناً منذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمننا, فإذا كان القراء متفاوتين تفاوتاً عظيماً في عصر واحد, وفي البلد واحد, بل في المسجد الواحد, فكيف يكون الاختلاف عبر تلك الأحقاب الطويلة من الزمن, إن هذا لشيء عجاب.

وإذا افترضنا أن عدد رجال السند ثلاثون قارئاً مثلاً, وأن بين كل قارئ وشيخه الذي يتلقى منه اختلاف في الأداء بنسبة واحد أو اثنين في المائة فقط فمعنى ذلك أن الاختلاف سيكبر ويتسع كلما امتد الزمان, لا سيما وأن الطالب غالباً هو الذي يقرأ والشيخ يستمع فقط وليس العكس فأنى يكون أداء الطالب كأداء الشيخ, فكيف يقال بعد ذلك: إن طريقة الأداء الصحيحة هي المتلقاة عبر القراء المسندين!

يقول الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه "اللهجات العربية": عملية النطق ليست إلا نشاطاً عضلياً يختلف أداؤه باختلاف أفراد البيئة اللغوية الواحدة, وقد برهنت التجارب الدقيقة التي قام بها علماء الأصوات اللغوية على أنه لا يكاد يوجد شخصان في بيئة واحدة ينطقان نطقاً متماثلاً تمام التماثل... وقد ظهر هذا جلياً حين سجل نطق بعض الأفراد في البيئة اللغوية الواحدة, بل إن من العلماء من يؤكدون أن المرء نفسه يختلف نطقه بعض الاختلاف في كل مرة يتكلم فيها... وذلك لأن عضلات النطق لا تؤدي عملها بنفس الصورة في كل مرة. انظر: "حروف القلقلة" لعرباوي ص (126)

قال الأستاذ الدكتور محمد جبل في كتابه "التلقي والأداء" ص (86) : لكل واحد من البشر خصائص في نطقه منها:
خصائص أعضاء الجهاز النطقي لكل إنسان.
وتفاوت القدرات على المحاكاة والتقليد بين البشر, ومن هذه القدرات ما يتعلق بتقدير طول المد, وميل الإمالة, وتسهيل الهمز, ومدى التفخيم والترقيق.
وقال ص (87) : "لا يشترط أحد أن تكون درجة الغنة أو التفخيم أو طول المد أو درجة الإمالة أو تسهيل الهمز أو نحو ذلك في نطق ناقل النص مطابقة لأصلها في نطق صاحب الكلام, هذا فوق الطاقة البشرية, بالإضافة إلى أنه لا حاجة إليه في نقل النصوص, فإن الدراسات الصوتية الحديثة تقرر أنه من المستحيل أن يعيد المرء نفسه أية كلمة نطقها هو وتتحقق في النطق الثاني كل الخصائص الصوتية الدقيقة التي كانت في النطق الأول, فما بالك بإعادة شخص كلام شخص آخر"اهـ

وهذا شيخ الصنعة الإمام ابن مجاهد رحمه الله يؤكد ذلك في كتابه "السبعة" ص (77) حيث يقول بعد أن ذكر مجموعة ممن قرأ على حمزة: "وكل هؤلاء متقاربون, لا يكادون يختلفون في أصل من أصول قراءة حمزة, غير أنهم كانوا يتفاضلون في الألفاظ ورقة الألسن, ويختلفون في الإفراط في المد والتوسط فيه, وفي شيء من الإدغام أيضاً اختلفوا, وقد بينت ذلك في كتابي هذا".
الوقفة الثانية:
الفروق الشاسعة جداً بين المقرئين من حيث التشديد والتيسير:
فهم على طرائق شتى شديدة الاختلاف, وهذا أمر معلوم مشهور مشاهد, فتجد من أولئك المقرئين من يوسم بالتساهل والسعة والتغافل, ومنهم من يوصم بالتشديد والتعنت والتضييق, وربما إلى حد الغلو والتنطع, فقد لا يعطي الطالب شهادة السند إلا بعد زمن طويل وجهد مظن مرير, وبعد المرور بمراحل شاقة عسيرة قبل الحصول من شيخه على تلك الإجازة.
ومنهم من هو على العكس من ذلك تماماً, فقد ينال السند اليوم وبعد أيام قليلة يمنح عدداً من الطلاب أسانيد.

قال الدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري في افتتاح ندوة بعنوان "إجازات قراء القرآن الكريم" ص (3): "نجد أن القراء ما بين متشدد يمكث عشرات السنين لا يجيز إلا واحداً، وبين متساهل ربما تلقى القرآن بالأمس وأجاز من الغد عشرات الناس".

وليس ما ذكره الدكتور إبراهيم بالأمر الجديد, بل هو أمر قديم.
وإليك هذين المثالين.
قال الذهبي في "معرفة القراء الكبار" (3/1199) في ترجمة محمد بن أحمد بن مسعود المعروف بابن صاحب الصلاة المتوفى سنة (625) هـ: قال الأبار: "لم آخذ عنه لتسمحه في الإقراء والإسماع سمح الله له".
قال الذهبي: "قلت: وأنا رأيت له ما يدل على تسمحه بخطه أن بعض القراء قرأ عليه في ليلة واحدة ختمة كاملة برواية نافع".

وقال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (3/340) : في ترجمة العلامة علم الدين السخاوي صاحب كتاب "جمال القراء" المتوفى سنة (643) هـ: "ورأيته بدمشق والناس يزدحمون عليه في الجامع لأجل القراءة، ولا تصح لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان، ورأيته مراراً يركب بهيمة وهو يصعد إلى جبل الصالحين وحوله اثنان وثلاثة, وكل واحد يقرأ ميعاده في موضع غير الآخر، والكل في دفعة واحدة، وهو يرد على الجميع".
قال الذهبي في "معرفة القراء الكبار" (3/1247) : معقباً على ما ذكره ابن خلكان: "قلت ما أعلم أحداً من المقرئين ترخص في إقراء اثنين فصاعداً إلا الشيخ علم الدين, وفي النفس من صحة تحمل الرواية على هذا الفعل شيء, فإن الله تعالى ما جعل لرجل من قلبين في جوفه... والقارئ منهم لا يجوز له أن يقول: قرأت على الشيخ علم الدين وهو يسمع ويعي ما تلوته, كما لا يسوغ للشيخ أن يقول لكل فرد منهم: قرأ علي فلان القرآن جميعه وأنا منصت لقراءته"اهـ
قال ابن الجزري في "غاية النهاية" (1/791) : "بل في النفس مما قاله الذهبي شيء, ألم يسمع وهو يرد على الجميع"اهـ
قلت: بل في النفس مما قاله ابن الجزري شيء, فإنه وإن رد على الجميع فما يفوته بسبب توارد القراءة من الجميع وانشغال القلب بالرد على من يخطئ منهم أكثر مما يدركه, ولكن حب الشيء يعمي ويصم.

وذكر ابن الجزري في "غاية النهاية" 1(1/531) عن الشيخ الكمال الضرير قوله: "نحن نجيز من دب ودرج عسى أن ينبل منهم شخص".

وقال المبارك بن غالب: قرأ ابن ميمون صبي كان يسمع معنا على أبي العز وما كان يحسن يقرأ, فيكتب له في الإجازة قرأ فلان وجوَّد, فقلنا له: كيف جوَّد القراءة؟ قال: جوَّد للذهبي", كما في "غاية النهاية" (2/176)

وقال محمد البكري كما في "شبكة المعلومات": قد تباينت طرق الأداء لطالبي الإسناد والإقراء حسب الشيخ المقرئ, فمنهم المتساهل الذي همه الإنجاز بالدرجة الأولى, حتى إني قد لاحظت على بعضهم من الذين أجيزوا يقعون في بعض الأغلاط التي لا تقبل حتى من صبي, وعلى النقيض من ذلك فمنهم المتشدد الذي يبقى الطالب عند سنوات طويلة, بل بعضهم يفرط في ذلك فيبقي بعض طلابه في الفاتحة ما يربو على ثلاثة الأشهر.

وقال علي الغامدي في كتابه "اللحن" ص (92) : "حدثني الشيخ الصالح المقرئ عباس المصري رحمه الله في قاهرة مصر أنه كان يقرأ على شيخ ممن يتساهل في تعليم الطلاب, ومرة زار هذا الشيخَ أحدُ أقرانه فإذا به يجتهد في تسديد الشيخ عباس! ولم يكن يفعل هذا قبل زيارة قرينه.
قال الغامدي: قلت: وأخبار هؤلاء لم تعد خافية, ومما أغراهم بذلك تهافت بعض الطلاب عليهم, رغبة في علو إسنادهم أو غير ذلك"اهـ
وقال ص (97) : "قد عرض لي مرة أحد القراء, فلحن لحناً جلياً فنبهته عليه, فأخبرني بأنه لم ينبه عليه من قبل أثناء عرضه على غير واحد من المقرئين".

ومنهم من يشترك في إقرائه أكثر من شيخ في الختمة الواحدة, فيقرأ الطالب بعض الأجزاء على شيخ, ويكمل الأجزاء الباقية على شيخ آخر, ثم يمنح إجازة من أحدهما.

وقال الدكتور عبد الرحمن الشهري كما في "شبكة المعلومات": "وجد في بعض التراجم من خَتَم القرآن بالقراءات السبع في ليلة واحدة, كما في "غاية النهاية" لابن الجزري, وهذا كله من التساهل في الإقراء.
وللتساهل في الإجازة والإقراء صور كثيرة منها: عدم الإصغاء للطالب أثناء القراءة ، فربما اشتغل الشيخ بأمر صارف عن الاستماع كقراءة في كتاب أو كلام مع طالب آخر والطالب يقرأ فيمر بأحكام لا يوقف على صوابها.
ومنها: إقراء أكثر من طالب في وقت واحد وإن أجازه بعض أهل العلم كعلم الدين السخاوي إلا أن فيه تساهلاً كبيراً، وقد رأيت مثل هذا كثيراً.
إقراء الطالب في السيارة وفي الطواف في الحرم وفي المسعى ونحو ذلك مما يكون معه الشيخ غير منصت للطالب تماماً, ولا الطالب مجتمع الهم للقراءة والتحقيق في تصحيحها.
وهناك صور أخرى كالإقراء عبر الهاتف، غير أنها متقاربة في الإخلال بواجب الإتقان وتصحيح القراءة، وأخذها كما ينبغي فيما يظهر لي"اهـ

وقال الشيخ حسن الوراقي كما في "شبكة المعلومات": أصبح الكثير يتساهلون في الإقراء، فترى الطالب يقع في أخطاء كثيرة دقيقة وغير دقيقة، ومع ذلك الشيخ يسمع ولا يرد، وبعضهم يرد في أشياء ويترك أشياء أخرى، ثم ينتهي الطالب المبتدأ من هذه الختمة ويقول: أنا معي إجازة من فضيلة الشيخ فلان، وهو عنده أخطاء كثير، وانا لا أبالغ في ذلك وهذا معلوم لدى القاصي والداني... وجاء في ترجمة إبراهيم بن محمد الأندلسي الإشبيلي أن عبد الله بن منصور المكين الأسمر دخل يوماً إلى الجامع الجيوشي بالإسكندرية فوجد شخصاً واقفاً وسط صحنه وهو ينظر إلى أبواب الجامع, فوقع في نفس المكين الأسمر أنه رجل صالح .... إلى قوله فابتدأ عليه المكين الأسمر تلك الليلة الختمة بالقراءات السبع من أولها وعند طلوع الفجر إذا به يقول (من الجنة والناس), فختم عليه الختمة بالقراءات السبع في ليلة واحدة.
قال الشيخ حسن: قلت: وقد دخلت مسجداً بمكة فرأيت أحد الإخوة يقرئ شخصين واحد عن يمينه والآخر عن يساره، وهذا يقرأ من سورة والأخر يقرأ من سورة أخرى.
وقد أخبرني أحد الإخوة أن أحد المشايخ في المسجد النبوي يقرئ أكثر من خمسة في وقت واحد، فقلت له: سبحان الله ما جعل الله لرجلين من قلبين في جوفه.اهـ

وليس هذا بالأمر الحادث, بل هو قديم جداً.
قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" ص (138) : "ومن ذلك أن المقرئ المجيد يأخذ على اثنين وثلاثة ويتحدث مع من يدخل عليه والقلب لا يطيق جمع هذه الأشياء ثم يكتب خطه بأنه قد قرأ على فلان بقراءة فلان".

وبالمقابل
ففي الشيوخ من هو معروف بالتشدد والتعنت.
قال الحسين بن علي بن محمد الحلبي كما في "غاية النهاية" (1/335) : "لم يمنعني أن أقرأ على أبي طاهر إلا أنه كان فظيعاً, وكان يجلس للإقراء وبين يديه مفاتيح فكان ربما يضرب بها رأس الطالب إذا لحن, فخفت ذلك فلم أقرأ عليه وسمعت منه كتبه".
وذكر ابن الجزري في "غاية النهاية" (2/83) في ترجمة محمد بن أحمد بن بصخان الدمشقي المتوفى سنة (743) هـ أنه كان يجلس للإقراء وهو في غاية التصميم لا يتكلم ولا يتلفت ولا يبصق ولا يتنحنح، وكذلك من عنده، ويجلس القارئ عليه وهو يشير إليه بالأصابع لا يدعه يترك غنة ولا تشديداً ولا غيره من دقائق التجويد حتى يأخذه عليه ويرده إليه، وإذا نسي أحد وجهاً من وجوه القراءة يضرب بيده على الحصير، فإن أفاق القارئ ورجع إلى نفسه أمضاه له، وإلا لا يزال يقول للقارئ: ما فرغت حتى يعييه، فإذا عي رد عليه الحرف ثم يكتبه عليه، فإذا ختم وطلب الإجازة سأله عن تلك المواضع التي نسيها أو غلط فيها في سائر الختمة، فإذا أجاب عنها بالصواب كتب له الإجازة، وإن نسي قال له: أعد الختمة، فلا أجيزك على هذا الوجه.
وهكذا كان دأبه على هذه الحال بحيث إنه لم يأذن لأحد سوى اثنين هما السيف الحريري وابن نملة فحسب لا غير في جميع عمره، مع كثرة من قرأ عليه وقصده من الآفاق.

وقال الدكتور عبد الرحمن الشهري كما في "شبكة المعلومات": "والناظر في تراجم المقرئين يلحظ الفروق بينهم في التساهل والتشدد والتوسط في إجازاتهم، من حيث طريقتهم في منحها، أو صيغة الإجازة المكتوبة.
وقد مر بي في تراجم القراء ورأيت من مشايخنا أصنافاً من هؤلاء العلماء المقرئين، فمنهم المتشدد الذي يبالغ في اشتراط منح الإجازات حتى لا يكاد يحصل الطالب على الإجازة إلا بعد مشقة شديدة، وفي زمن متطاول, وربما مكث أحدنا السنة والسنتين في رواية واحدة، لشدة الشيخ في الشرط..."اهـ

وقد ذكر الدكتور عبد الهادي حميتو في كتابه "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" (1/333) الكيفية التي يتم بها إعطاء الإجازة العلمية والقرآنية من قبل بعض علماء المغرب حيث يقول: "كان علماؤنا ضنينين متشددين فيما يتعلق بالإجازات العلمية, وهي التي لا تعطى إلا بعد طول ملازمة الشيخ والأخذ عنه والتمرس به, حتى إذا أنس الشيخ من طالبه التمكن في مادته والإحاطة بما أخذه عنه أجازه...
ولا بد من توفر الطالب على شروط, وأن يمر بمراحل قبل الحصول من شيخه على الإجازة.
فمثلا على المرشح للإجازة في القرآن الكريم أن يعرف الروايات السبع كلها, وأن يتقن القرآن إتقاناً تاماً على النحو التالي:
أن يمر على سائر آي القرأن ويحفظها كما يحفظ الفاتحة, وعليه أن يكون على خبرة تامة بجميع الفنون التي يتوقف عليها الحفظ من رسم وضبط وتلاوة.
ولا يمكن أن يتقدم لأول وهلة عند الأستاذ الكبير, بل عليه أن ينال رضى أستاذ أقل رتبة, إذ لا يصل إلى الإجازة إلا بالتدرج, حتى إذا وصل إلى الشيخ المجيز ـ ولا بد أن يكون أعلم أهل وقته في هذا الشأن وأكملهم ـ أمره بكتابة حصة من القرآن من حفظه ثم رسمها على شكل المصحف وضبطها, فإذا تم ذلك كله شرع الشيخ في توجيه أسئلة إلى الطالب الذي يكون لزاماً عليه أن يستحضر سائر النصوص في الموضوع, فإذا نال رضى الشيخ انتقل إلى أستاذ آخر يتولى سؤاله بكيفية أكثر عمقاً في مختلف وجوه الرسم والضبط وسائر الحروف, فإذا نجح في ذلك أمره بالإعراب, فما كان على الأصل أقره وإلا نبه عليه, وهكذا يمتحنه في سائر علوم القرآن الكريم, فإذا ظهر له إلمامه ورضي عنه أمر بكتابة الإجازة له, رافعاً له فيها سنده, ويشهد على نفسه في الوثيقة أنه أجازه, ويضع القاضي خط يده معلماً بثبوت الإجازة من الشيخ فلان إلى الأستاذ فلان".

أقول: لعلك تقارن أيها القارئ الفطن بين ما سبق ذكره من أنواع التساهل وبين ما ذكر بعد ذلك من الاهتمام والضبط والتدقيق والتشديد.
وبالله عليك كم ستكون مسافة الفرق بين آلاف المقرئين المتفاوتين شدة وتدقيقاً وتهاوناً وتسهيلاً.
ألم يمر علينا قبل قليل أن أحدهم يقرئ أكثر من خمسة في المسجد النبوي في وقت واحد.
والآخر محمد بن أحمد بن بصخان الذي لم يأذن لأحد سوى اثنين في جميع عمره.
ومع هذا الاختلاف الهائل الشاسع بين المناهج المتبعة في منح الإجازات ستحصل الفروق والاختلافات الكبيرة بين المسندين, وسيتسع الاختلاف ويتباعد مع الزمن, فكيف يعتمد إذاً على هذا الإسناد وهذه الإجازات في نقل القراءة الصحيحة مع هذا التفاوت المهول!

الوقفة الثالثة:
أن القارئ يتعرض للنسيان والغفلة والوهم والخطأ ولا بد:
فإنه بشر لا يمكن أن يحيد عن ذلك, ولا يخرج عن صفات البشرية التي جبل عليها من الضعف والخطأ والنسيان.
ومن المعلوم ضرورة أنه لو فسد السند في حلقة واحدة لفسد ما بعده إلى يوم القيامة.
قال ابن مجاهد في "السبعة" ص (45) : "ومن حملة القرآن من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم, لا يعرف الإعراب ولا غيره فذلك الحافظ, فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده فيضيع الإعراب لشدة تشابهه وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة, لأنه لا يعتمد على علم بالعربية ولا بصر بالمعاني يرجع إليه, وإنما اعتماده على حفظه وسماعه.
وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع وتشتبه عليه الحروف فيقرأ بلحن لا يعرفه, وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه, وعسى أن يكون عند الناس مصدقاً فيحمل ذلك عنه وقد نسيه ووهم فيه وجسر على لزومه والإصرار عليه, أو يكون قد قرأ على من نسي وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم, فذلك لا يقلد القراءة ولا يحتج بنقله"اهـ

ومن المعلوم والمتيقن أن كثيراً من المقرئين قد يغفل وقت لحن القارئ, وهو يقرأ عليه, فمع طول مدة الاستماع لا ينفك الإنسان الضعيف عن أن ينصرف تفكيره وانتباهه, أو يغفل, أو يصيبه النعاس والنوم كما يحصل كثيراً.
الوقفة الرابعة:
عدم الأهلية الكافية عند كثير ممن يقرئون ويسندون:
فكم من حاصل على الإجازة القرآنية وهو ضعيف في القراءة, وفيها من اللحون الجلية شيء كثير, فضلاً عن اللحون الخفية.
يقول الدكتور محمد بن فوزان العمر في ندوة بعنوان "إجازات قراء القرآن الكريم" ص (15) "يجب التنبيه إلى أن الإجازة القرآنية طريق لإتقان القرآن الكريم ولكنها ليست شرطاً فيه, كما أنها ليست شرطاً للتصدر للإقراء، إذ كم من حاصل على الإجازة القرآنية في قراءة أو أكثر وقراءته يشوبها قليل أو كثير من اللحون الجلية فضلاً عن اللحون الخفية.

وقال ص (17): الإجازة ليست شرطاً في الإقراء, فإن عدم حصول إجازة علمية عند الشيخ من المشايخ ليست دليلاً على هبوط مستواه العلمي، فما أكثر من ارتفعت سمعتهم العلمية وهم لم تسعفهم الظروف لأخذ إجازات علمية من مشايخهم، وهي بذلك تشبه الشهادات العلمية المختصة في الوقت الحاضر، والتي لا يعني الحصول عليها أن حاملها لا يشق له غبار في تخصصه, لأنها أحياناً تكون غير دقيقة أو لا تمثل الواقع العلمي للشخص الحاصل عليها.

وقال الأستاذ الدكتور محمد حسن حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر رحمه الله في كتابه "التلقي والأداء في القراءات القرآنية" ص (5): "في أثناء تدريسي لمادة الأصوات اللغوية لطلاب كلية القرآن الكريم بطنطا كان بعض الطلاب يتوقفون إزاء تخطئتي صوراً من أدائهم بعض الحروف والقراءات, محتجين بأنهم تلقوها بهذا الأداء عن مشايخهم الذين تلقوها بإسناد صحيح إلى أئمة القراءات العشر الأولين, فوجدت أن هذه مسألة تستحق بحثاً يكشف جوانبها.
ومع اقتناعي بأنه ليس كل تلق يمثل بالضرورة حجة علمية يلزم الاقتداء بها ولا تجوز مخالفتها, لأن بعض المتلقين قد تنقصهم الخبرة والحساسية البالغة, ولا يتفطنون لدقائق ما يتلقون, ويقلدون تقليداً خاطئاً وهم لا يشعرون أنهم أخطأوا, ثم يتمسكون بخطئهم زاعمين أنهم هكذا تلقوا".

هنا ذكر الدكتور محمد جبل كلام شيخ الصنعة ابن مجاهد رحمه الله وعلق عليه.
قال محمد جبل في "التلقي والأداء" ص (23): الصنف الثاني من الذين قال ابن مجاهد: إن التلقي عنهم ليس بحجة هو المقلد.
والأصل في معنى المقلد هو أنه الذي يحاكي غيره أو يتبعه في رأيه بلا دليل أو حجة عنده سوى أنه يتبعه في ذاك.
والإمام ابن مجاهد يقصد بالمقلد: المقرئ الذي لا علم عنده بضوابط القراءة الصحيحة وما تتطلبه من علم باللغة أو غيرها, ولكنه يقرأ حسب ما سمع من شيخه أو ما ظن أنه سمعه من شيخه, وهذا ينطبق على الجمهور الأعظم من مشايخ الكتاتيب في زماننا هذا.
قال الأستاذ محمد جبل: ويصف ابن مجاهد حال الواحد منهم فيقول:
(ا) "إنه يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم".
أي: أنه لا يميز في ما تلقاه شيئاً حقيقياً, وإنما هو يحكي, فالتمييز الحقيقي للشيء يكون بمعرفة سببه, وهذا لا علم له بسبب أي حركة, أو نطق أي حرف.
(ب) "لا يعرف الإعراب ولا غيره".
فلا يعرف سر ضبط أواخر الكلمات, ولا سر ضبط بنيتها, ولا الفرق بين هذا الضبط وذاك.
(ج) "فذلك الحافظ".
وهذا الوصف أكبر مما يستحقه المقلد, لكن ابن مجاهد يقصد الحفظ الببغائي (مجرد محاكاة صوتية), والحفظ الببغائي أو القريب من الببغائي لا يعد حفظاً حقيقياً, بدليل أنه يلتبس عليه كما سيأتي.
(د) "فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده, فيضيع الإعراب لشدة تشابهه وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة"...
(هـ) "لأنه لا يعتمد على علم بالعربية, ولا بصر بالمعاني يرجع إليه, وإنما اعتماده على حفظه وسماعه, وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع".
ويقصد أنه لو كان ذا علم بالعربية فعرف أن هذا مثلاً مرفوع لأنه فاعل فإنه إذا نسي حركته سيراجع الإعراب فيعرف أنه فاعل ولا بد أن يكون مرفوعاً, وكذلك إذا كان ذا بصر بالمعاني فإنه سيعلم أن هذه الكلمة هي التي ينبغي أن تكون صفة لتلك فترفع مثلها أو تكون بدلاً منها تُجْرَ مثلها, أو أن معناها وصيغتها تجعلها حالاً فتنصب وهكذا, فجهل المقلد بالحركة هنا أو نسيانها لا يمكن تداركه.
(و) "وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع وتشتبه عليه الحروف, فيقرأ بلحن لا يعرفه".
ابن مجاهد يعني أن هذا النوع المقلد قد ينسى حركة الكلمة, ويلتبس عليه الأمر, فيقرأ بلحن, أي: بحركة أو بنطق خطأ لم يسمعه من قبل تخلصاً من موقف الحيرة أو العجز.
(ز) "وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه".
ابن مجاهد يعني أن المقلد قد يتخلص من المأزق إذا وقع في خطأ أو عجز عن بيان سبب قراءته بأن يقول: هكذا تلقينا...
(ح) "وعسى أن يكون عند الناس مصدقاً فيحمل ذلك عنه, وقد نسيه ووهم فيه, وجسر على لزومه والإصرار عليه"...
(ط) ويحتمل أن يكون شيخ ذلك المقلد هو الذي نسي الإعراب أو الضبط والتبس الأمر عليه, فتوهم ضبطاً أو نطقاً من عند نفسه خطأً, ثم أخذ تلميذه المقلد عنه, لأنهما معاً لا يميزان وليس عندهما علم.
(ي) "فذلك لا يقلد في القراءة ولا يحتج بنقله".
هذا حكم ابن مجاهد على أولئك المقلدين, وهم أكثر المحفظين في الكتاتيب: أن أياً منهم ليس أهلاً للإمامة في مجال الإقراء, ولا يكون التلقي عنه حجة.

قال الدكتور جبل: وهذا هو ما أردنا أن نبرزه هنا: أن الإمام ابن مجاهد صرح تصريحاً واضحاً بأن محفظي القرآن الذين كل بضاعتهم تقليد من أقرؤوهم ليست قراءتهم حجة, وليس التلقي عنهم حجة ما داموا لم يدرسوا العلوم العربية: النحو والصرف, واللهجات والأصوات...
إن المقلد إذا تولى الإقراء قد يقع في أخطاء جسيمة دون أن يدري أو يعرف الصواب..."انتهى.

وقال الأستاذ محمد جبل رحمه الله ص (28): وبمناسبة الكلام عن المحفظين المقلدين هؤلاء أرجوا أن أوضح ما يلي:
أولاً: أننا لم نبرز أحوالهم في ما سبق قصداً إلى التهوين من شأنهم أو دورهم في نشر حفظ القرآن. كلا.
فإننا نعلم علم اليقين أن دورهم في تحفيظ الناشئة القرآن الكريم دور عظيم, وهم مأجورون عند الله تعالى بوعوده الكريمة سبحانه وتعالى ووعود رسوله r لحافظي القرآن ومحفظيه ومعلمي الناس الخير... الخ ما قال رحمه الله.
ثانياً: إنما الذي جر إلى الكلام عن عدم حجية محفظي الكتاتيب وأشباههم من المقلدين أن طلاب الدراسات القرآنية وعلوم التلاوة ومنها التجويد دأبوا على مقاومة المقررات العلمية الصحيحة الخاصة بالتجويد بقولهم: إنهم هكذا تلقوا, ظانين أن التحفيظ هو عين التلقي, وأن الذين حفظوهم هم أيضاً تلقوا عن من سبقهم, وهكذا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون الحفظ على أيديهم حجة, وبذا يقيمون سداً بين عقولهم وبين التصحيحات التي تقدم لهم.
لقد غفل هؤلاء الطلاب عن أمور أهمها أن أقصى ما يصل إليه الحفظ بهذا السبيل أن يكون رواية, وأن الدراية مقدمة على الرواية, وذلك لأن الرواية قد تشوبها شوائب الخلل في حواس المتلقي أو درجة استيعابه, فإن المتلقين يتفاوتون في هذا وذاك.
كما نسوا أن التلقي الشفاهي بطبيعته مشحون بالأمور الدقيقة التي قد تخفى حتى على أهل الفطنة وأهل العلم.
وأن السلسة ممتدة عبر أكثر من أربعة عشر قرناً منذ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمننا, وفي هذه الأحقاب الطويلة يمكن أن تلتبس أمور لم تكن ملتبسة, وأن تضخم أخطاء كانت خفيفة, وأن تخفى أمور كانت واضحة, وأن تجد ظروف في الزمان أو البيئات أو المجتمعات تهيئ لشيء من هذا, أو لاستحداث ما يهيئ لنشر اللحن واستحسانه.
ثالثاً: أنه من أجل ما ذكرناه فإن علماء الأمة الذين هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في حمل رسالته وتبليغها تابعوا التأليف منذ الخليل بن أحمد إلا الآن, وما ذاك إلا لأنهم أدركوا أن الأمر يحتاج إلى ضوابط نظرية صريحة تبرز الأمور الخفية الملتبسة.

وقال ص (34) : الذين يتلقون بلا دراسة ولا معرفة بجوانب ما تلقوا ودقائقه لا حجة في تلقيهم, ولا في تقليدهم أداء مشايخهم, بل ولا يؤمنون في درجة إحكامهم لهذا التقليد, فلا تقبل شهادتهم بالنسبة لأداء مشايخهم.
وقال ص (54) : قد يكون من تلقيت عنه غير حجة لأنه فاقد الدراية, وقد يكون لقّاك الصواب, ولكنك لم تحسن الأداء فسقطت حجيتك أيضاً.
وقال ص (58) : حدود مقادير المدود لا تضبط فليس التلقي فيه حجة, وكذلك درجة الإمالة, وصور تسهيل الهمز ودرجاته, وهيئات الإشمام.
وقال ص (59) : "كثير من الأمور الصوتية دقيق يخفى على كثيرين ملاحظته, ولذا فقد يكون نطق المعلم لحرف ما ليس مستوفياً شروط فصاحة ذلك الحرف بأن يكون منحرفاً عن المخرج الصحيح للحرف أو يكون النطق فاقداً لبعض صفات الحرف, ويخفى ذلك على الشيخ, فيقلده لَقِيْنُهُ في ذلك النطق الفاسد دون أن يشعر الشيخ أو لَقِيْنُه بالفساد, وقد يكون نطق المعلم سليماً ولكن لَقِيْنَه يقلد نطقه تقليداً خاطئاً ولا يشعر المعلم ولا اللقين بذلك الخطأ.
ومن هنا قلنا: إن التلقي ليس حجة في هذه الأمور التي يشيع فيها الخطأ لدقتها وخفائها على كثيرين"اهـ

وقال الأستاذ فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة" ص (195) : "ليس كل تلق يمثل بالضرورة حجة علمية يلزم الاقتداء بها ولا تجوز مخالفتها, لأن بعض المتلقين قد ينقصهم الخبرة والحساسة البالغة, ولا يتفطنون لدقائق ما يتلقون, ويقلدون تقليداً لا دليل عليه من كتب ومصنفات هذا العلم, ثم يتمسكون بتقليدهم زاعمين أنهم هكذا تلقوا".

وقال الشيخ سيد أحمد محمد دراز في كتابه "بحث وتتبع تاريخي لمسألة الإقلاب والإخفاء الشفوي": "بقي لهؤلاء الذين يتكلمون عن الإخفاء الشفوي بفتح الشفتين بأنه الأداء والتلقي, وأن القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول, نقول بأن الأداء قد حسم بما نقل عن العلماء, وقد سبق نقل كلامهم وما أثر عنهم, وأما عن التلقي فقد تلقينا بعدم فتح الشفتين, وكذلك تلقت أمم كثيرة, وليس ما تلقيتموه بأفضل, وأما عن قول الداني "القراءة سنة متبعة" فهذا كلام ليس على إطلاقه... وقد أطلت الكلام هنا لحاجة القراء إليه في الأداء ولتبين وجه الحقيقة في هذه المسألة, والتي كثر فيها القيل والقال, ولكثرة أدعياء العلم في هذا المجال". انظر: "حروف القلقلة" لعرباوي ص (194)

وقال الأستاذ فرغلي سيد عرباوي في كتابه "حروف القلقلة بين القدامى والمحدثين" ص (12) : "قد يصيب التلقي تلوث اللهجات العامية بسبب طول سلسلة الأسانيد, أو بسبب تغير المشافهة... والنص لا يتغير مهما طال عليه الأمد, أما التلقي الصوتي من الشيوخ فقد يعتريه بعض التطوير, وهذه ظاهرة من ظواهر أي لغة أنها في تطوير دائم, وهو ما يقلق الباحثين في علم صوتيات التجويد والقراءات".
وقال ص (13) : "يتداول المشتغلون بتعليم التلاوة في عصرنا رسائل من تأليف بعض العلماء المتأخرين وعدد من المعاصرين فيها جملة من الملاحظات التي قد يؤثر بعضها في طريقة الأداء, وقد يفضي بعضها إلى الإخلال بالنطق أو تحريف النطق كلياً, وللأسف هناك بعض الشيوخ المتصدرين للتعليم يتشبثون بهذا الخلل والعوج في التلاوة"

وقال الدكتور عبد الهادي حميتو في مقدمة كتابه "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" (1/18) : "وتوقفت بصفة خاصة عند عدد من القضايا الأدائية التي زاغت فيها التلاوة المغربية عند المتأخرين عن الطريق القاصد الذي رسمه الأئمة".
وقال ابن سوار المتوفى سنة (496) هـ في كتابه "المستنير" كما في كتاب "اللحن" لعلي الغامدي ص (94) : "وقد تصدر في المساجد في زماننا هذا قوم...
ومنهم من يقول: لي ثلاثون سنة أقرئ لا يعرف ألف وصل من ألف قطع, ولا حرف مد من حرف قصر".
ولما ذكر ابن الجزري في "النشر" (1/213) نفراً ممن عرفوا بجودة الأداء قال: وأما اليوم فهذا باب أغلق وطريق سد، نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من قصور الهمم ونفاق سوق الجهل في العرب والعجم.

الوقفة الخامسة:
أن العلماء أجازوا التلقي عن الشيوخ بالسماع من الشيخ وليس العرض على الشيخ:
فيقرأ الشيخ والطالب يسمع، فيقول الشيخ: أجزت الطالب أن يقرأ بما سمع مني.
ويذكر ابن الجزري الاتفاق على ذلك.
فيقول في "منجد المقرئين" ص (54) " "ولا يجوز أن يقرئ إلا بما قرأ أو سمع، فإن قرأ الحروف المختلف فيها أو سمعها فلا خلاف في جواز إقرائه القرآن العظيم بها بشرط أن يكون ذاكراً كيفية تلاوته به حال تلقيه من شيخه"اهـ
ومن المعلوم يقيناً أن هذا لا يحقق المطلوب, فإن الطالب سيختلف أداؤه عن أداء شيخه ولا بد وإن ظن أن أداءه كأداء شيخه, ويكون الحاكم على صحة الأداء من عدمه هو التلميذ نفسه, فكيف يصح الإسناد إذاً!

بل أجاز طائفة من العلماء أن يعطى الطالب الإجازة المجردة عن السماع والقراءة إذا كان أهلاً لذلك, أي: يعطى إجازة وسنداً وهو لم يقرأ ولم يسمع من الشيخ.
قال البناء في "إتحاف فضلاء البشر" (1/68) : "وأما الإجازة المجردة عن السماع والقراءة فالذي استقر عليه عمل أهل الحديث قاطبة العمل بها حتى صار إجماعاً.
وهل يلتحق بها الإجازة بالقراءات؟
قال الشهاب القسطلاني: الظاهر نعم, ولكن منعه الحافظ الهمداني وكأنه حيث لم يكن الطالب أهلاً, لأن في القراءة أموراً لا تحكمها إلا المشافهة, وإلا فما المانع منه على سبيل المتابعة إذا كان المجاز قد أحكم القرآن وصححه, كما فعل أبو العلاء نفسه يذكر سنده بالتلاوة ثم يردفه بالإجازة إما للعلو أو المتابعة.
وأبلغ من ذلك رواية الكمال الضرير شيخ القراء بالديار المصرية القراءات من "المستنير" لابن سوار عن الحافظ السلفي بالإجازة العامة, وتلقاه الناس خلفاً عن سلف"اهـ

قال السيد أحمد عبد الرحيم في كتابه "آفة علو الأسانيد" ص (34) : "من العلماء من أخذ برواية القرآن الكريم على بعض أنواع التحمل الأخرى, وذكر منها:
الإجازة مشافهة وبدون قراءة.
والإجازة مراسلة وبدون قراءة.
والإجازة دون سن الإدراك.
والإجازة في القراءات من غير المقرئ للمقرئ.
والإجازة في القراءات من المقرئ لغير المقرئ.
والإجازة في القراءات من غير المقرئ لغير المقرئ".

وكذلك قد تعطى الإجازة لمن هو دون سن التحمل, فقد يعطى الطالب إجازة وعمره ست سنوات, وثلاث سنوات, وسنتين, وهذا ثابت.
انظر: "آفة علو الأسانيد" لأحمد عبد الرحيم ص (26)
وقال أحمد عبد الرحيم: وتوجد أمثلة كثيرة على هذا النوع.

قال الدكتور عبد الهادي حميتو في كتابه "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" (1/333) : "وإلى جانب هذه الأنواع من الإجازات هنالك إجازة أخرى يمكن تسميتها بالإجازات التقديرية, وهي التي كان يتبادلها العلماء فيما بينهم تأكيداً لصلات المودة والروابط العلمية, واستئناساً بها في الرواية, وغالبها إنما يكون بما تضمنته البرامج المؤلفة أو الفهارس, وأحياناً بكل ما يصح عن المجيز أنه قرأه أو سمعه أو رواه بأي وجه من وجوه الرواية, وأكثرها تكون بالمراسلة عند تعذر اللقاء على نحو ما قدمنا من استجازة عدد من قراء تونس لأئمة الإقراء في سبتة في المائة السابعة, وككثير من الإجازات التي كان يحصل عليها العلماء من بعضهم على أيدي بعض أصحابهم وخاصة في موسم الحج أو في أثناء المقام في مصر من الأمصار التي يعبرها الحاج في الطريق".

وقال الدكتور عبد الهادي (1/470) : دعوى بعض المعاصرين في حصولهم على السند المعتبر في القراءات وإجازات الشيوخ.
وأحسب أن معظم ما يذكره المتأخرون من الإجازات بالقراءة إنما يجري مجرى المجاملة, وخاصة عندما يدخل قارئ مهم إلى البلاد فيتهافت عليه الراغبون في الإجازة دون أن يكون لدى القارئ من الوقت ما يتسع لسماع من يطلبها منه, فضلاً عن أن يعرض عليه عرضاً كاملاً بالشروط المعتبرة عند أرباب الفن.
فلقد ادعى غير واحد الإجازة من شيوخ مصر المجودين كالشيخ محمود خليل الحصري والشيخ محمد عبد الباسط عبد الصمد, ولم يكن هذان الشيخان يقيمان بالمغرب إلا زمناً محدوداً, وغالباً ما يكون في شهر رمضان.
قال: وهذا النوع من الإجازات لا يقدم ولا يؤخر ولا يكاد يعني شيئاً, وإنما يدل على مجرد اجتماع المجيز والمجاز في التاريخ الذي تتضمنه الإجازة, وهو قريب في صورته من الإجازات الشكلية التي كانت تتم بين العلماء بالمراسلة.
وهو شبيه أيضاً بطائفة من الإجازات التي نجد بعض المشايخ قد أتحفوا بها الملوك والأمراء وشهدوا لهم فيها بتمام الحذق والأهلية في العلوم والفنون, ومنها...
ولقد حفل كتاب الكتاني "فهرس الفهارس" بإجازات في القراءات وغيرها لعدد كبير ممن ذكر أنهم أجازوه ومنهم من لم يلقه, كإجازة شيخ القراء بمصر الشمس محمد بيومي الأزهري الشافعي له بالقراءات بمصر عام (1323) هـ, وإجازة الشيخ حبيب الرحمن الهندي المدني له بها أيضاً مكاتبة بذلك من المدينة المنورة عام (1322) هـ بسندهما الذي ذكره.
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما ذكره الشيخ عبد الحفيظ الفاسي من إجازة الشيخ المقرئ المعمر أبي العباس أحمد كنبور, وقد ذكر أنه أجازه ولم يجتمع به... انتهى.
قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" ص (138) : "ومن ذلك أن منهم من يتسامح بادعاء القراءة على من لم يقرأ عليه وربما كانت له إجازة منه, فقال: أخبرنا تدليساً وهو يرى أن الأمر في ذلك قريب لكونه يروي القراءات ويراها فعل خير, وينسى أن هذا كذب يلزمه إثم الكذابين".
الوقفة السادسة:
أن كثيراً من علماء القراءات والتجويد المتأخرين قد طعنوا في أنواع كثيرة من أداء كثير من المسندين, ومع هذا الطعن الواسع لا يمكن أن يتحقق الضبط عن طريق الإسناد بالتلقي الشفهي, وإليك نماذج يسيرة من أقوالهم.
قال المرعشي في "بيان جهد المقل" ص (18) : لكن لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء أكثر شيوخ الأداء، والشيخ الماهر الجامع بين الرواية والدراية المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات أعز من الكبريت الأحمر، فوجب علينا أن لا نعتمد على أداء شيوخنا كل الاعتماد، بل نتأمل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفن، ونقيس ما سمعنا من الشيوخ على ما أودع في الكتب، فما وافق فهو الحق، وما خالفه فالحق ما في الكتب".

أقول: إذا كنا نتأمل في ما أودعه العلماء في كتبهم, ونقيس ما سمعنا من الشيوخ على ما أودع في الكتب, فما وافقه فهو الحق, وما خالفه فالحق ما في الكتب فما دور الإسناد بالتلقي الشفهي إذا وما فائدته؟!

وقال الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر في كتابه "التلقي والأداء" ص (104) : وقد ترتب على عدم فهم معنى الجهر والهمس والشدة والرخاوة أن مدرسي التجويد الآن ينطقون الضاد (المصرية) شديدة, وهم يظنون ويقولون: إنها رخوة.
وينطقون الطاء والقاف مهموستين, وهم يظنون ويقولون: إنهما مجهورتان.
وينطقون الجيم رخوة, ويظنون أنها شديدة, وقد سمعت من يقرأ بالفاء مجهورة مثل ال (v), ومن يلحق بالتاء الساكنة سيناً وهكذا.
والنتيجة النهائية لهذا هي عدم معرفتهم أو استجابتهم لبيان النطق الصحيح, لأنهم يظنون أنهم على صواب.
بل إنه ترتب على عدم فهم الجهر والهمس والشدة والرخاوة خاصة أن الشيخ الفاضل محمد مكي نصر رحمه الله نقل في كتابه "نهاية القول المفيد" عن ملا علي القاري المتوفى سنة (1014) هـ كلاماً معظمه صحيح, ويوطئ لفهم هاتين المجموعتين من الصفات فهما صحيحاً, لكنه عندما انتقل إلى الكلام عن الجهر والهمس والشدة والرخاوة كلاماً علمياً بتعريف كل منهما وبيان العلاقة بينهما لم يستطع الاستفادة من كلام القاري, وبث في الكلام عن هاتين المجموعتين أخطاء يحتاج بيان مواطن الخطأ فيها وتصويبها إلى عدة صفحات.

وقال ص (148) : بعد أن ذكر أن بعض علماء القراءات والتجويد ذهبوا إلى عدم تكرير الراء قال: وقد تقعروا في هذا الغلط وأصلوه.
ثم ذكر قول بعضهم, ثم قال: وقد وافق على هذا التأويل الملتوي المغالط عدد آخر من المؤلفين في التجويد والأمر لله.
وقال ص (152) : تفسير الإطباق بأنه إلصاق وسط اللسان أو ظهره بسقف الحنك كما ذكر كثيرون غير صحيح, ثم علل لذلك.
وقال ص (153) بعد أن ذكر تعريفهم للاستعلاء: وهذا كله غلط.
وقال ص (154) : وبذلك يعلم أن قول ابن الجزري: إن الياء هي أكثر الحروف المستفلة استفالاً هو قول مبني على معنى غير دقيق.
وقال ص (92) : كتب المتأخرين جمد أكثرها على ما قاله القدماء, بل أضاف بعضهم إضافات سلبية.
ثم ذكر أمثلة كثيرة.

وقال ص (94) : إن إعراض معلمي التجويد عن الدراسة الجادة وعن الدراية هو الذي جعلهم لا يستطيعون تمييز الصواب من الخطأ فيها.
وقال ص (94) : إن النطق الصحيح للقاف والطاء غَمُضَ بل ضاع من ألسنة الكثيرين الآن.

وقال علي الغامدي في كتابه "اللحن" ص (62) : "غنة المشدد والمدغم والمخفى قد اجتهد بعضهم فقدرها بحركتين, وأصبح هذا عرفاً شائعاً عند عامة مقرئي وقراء هذا الزمان, بل أصبح من يقصر عن هذا المقدار يعد من اللاحنين, بل جعله بعضهم من الآثمين, وهذا التقدير لا أعلم له أصلاً في تقدير المتقدمين, ولعله وليد العصور المتأخرة القريبة".

وقال الدكتور عبد الرحمن الصالح كما في "شبكة المعلومات": "وقد رأيت كثيراً ممن لديهم إجازات في القراءات السبع والعشر لا يضبطون نطقه، ولا يميزون بين جهر وهمس أو شدة أو رخاوة بل يقلدون كما علموا ولا نلومهم بعد".

وقال الدكتور فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة بين القدامى والمحدثين" ص (11): "والمدقق في حال السوق التجويدية اليوم يجد أن الأداء المنطوق أصابه تلوث العاميات المعاصرة, والمكتوب أصابه الخلل بسبب التقعيد لهذه اللهجة العامية, ونلحظ تبايناً ظاهراً بين أداء بعض الأحكام وطريقة وصفها في كتب التلاوة, كما أن هناك اختلافاً بين نطق عدد من الأحرف الفصيحة التي نزل بها القرآن وبين طريقة أدائها ووصفها في الكتب المعاصرة".
وقال أيضاً: "فالمصري مثلاً يقرأ وحدات القرآن الصوتية بلهجته العامية, والشامي يغلب عليه الإمالة في بعض الحروف, وكذلك أهل الخليج غلب عليهم بعض الظواهر البدوية النبطية, وأهل المغرب العربي لهم ظواهر خاصة في الأداء, ويستطيع المستمع المدقق يحكم على القارئ من أي الديار هو بسبب لهجته العامية, فمثلاً استمع لقارئ من أفريقيا أو السودان أو من العراق ستجد تبايناً بين لهجة هؤلاء وهؤلاء, والكل يدعي أنه بلغ ذروة سنام الإتقان, ويرمي غيره بالجهل بالأداء".

وقال ص (38) : "وجدت الطعن من بعض قراء الشام للقراء المصريين, وأهل مصر يعتقدون أن القرآن نزل بمكة وقرئ بمصر, ولا يعجبهم أي قارئ غير المصري, وأهل الخليج يرمون قراء مصر بالبدع, وكل قراء دولة يسفهون قراء الدولة الأخرى".
وقال أيضاً ص (15): "ولو نظرنا إلى واقع السوق المحلية للتجويد وحال البضاعة المعروضة فيه سواء كانت مسموعة أو مكتوبة لوجدناها مصابة بتلوث المكتوب قبل المسموع, وغلب على المكتوب تقعيدات ورطنات العاميات المعاصرة, وغلب على المسموع تلوث الأداء وهيمنة العجمى العامية... السوق التجويدية اليوم تموج بكثير من اضطراب الأداء".
وقال أيضاً: "قواعد التجويد في بعض الكتب المعاصرة تشكو من الاضطراب وضعف سندها, وتصرخ من تفكك أوصالها وتفرق أهلها في الأداء وأنماطه المختلفة, أزياء التجويد اليوم على أحدث صيحة تطويرة عامية.
وقال: بالإضافة إلى ذلك نجد حال من تصدروا للتعليم من الشيوخ في دور القرآن أصابهم عور التنازع والفرقة... ووجدنا ممن هذا حالهم أن بضاعتهم المعروضة في سوق التجويد على أحدث موضة تجويدية عالمية, ويرون التمسك بهذه الموضة التجويدية ذروة سنام الإتقان.
وأصبح الأداء الصحيح محصوراً في ركن ضيق من الساحة التجويدية".

وقال ص (21) : والحذر من أخذ المخارج من بعض شيوخ العصر الذين يتذوقون الحروف بلهجتهم العامية, ويقعدون لتلاوتهم, ثم يرفعون هذا التقعيد على أنه رواية عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم, فقد نشأ جيل دخل على لسانه العجمى بسبب كثرة انتشار أمثال هؤلاء الشيوخ ومن على شاكلتهم, وهناك فريق منهم تزعم الطعن في المشايخ المسندين وفي أسانيد القراء...
وقال أيضاً ص (14): "وهي قضايا لم أتفرد بالتنبيه عليها, فقد سبقني شيوخ الشام إلى ذلك".
وقال أيضاً ص (15): "أدرك علماء التجويد القدامى أن النص لا يتغير مهما طال عليه الأمد, أما منطوق الكلام فهو في تغير دائم, لا نملك الآليات لإيقافه".

وقال ص (53) : مصنفات التجويد والقراءات القديمة تنص نصاً صريحاً بإطباق الشفتين عند التلفظ بالإخفاء الشفوي, وسموا هذا العمل إخفاء, ثم جاء أصحاب المصادر الثانوية وقالوا بتقليل الاعتماد على الشفتين, ثم تطور القول بالتقليل وأصبح فرجة في الكتب الحديثة, فمن نرجح.
وقال ص (54) : لو تقيد كل شيخ بالاكتفاء بالنقل لما سطره الأوائل لما ظهر القول بالفرجة, وتقدير زمن الغنة بحركتين, وتعريف الحركة بقبض الإصبع أو بسطه, وإمالة القلقلة ناحية جزء الحركة, وهذه الأشياء لا يوجد لها أي ذكر عند أصحاب المصادر الأصلية.

وقال ص (125) : مما اتفق عليه المهتمون بعلم القراءات والتجويد أن وصف علماء العربية ولاحقيهم من علماء التجويد الأوائل لصوت القلقلة لا ينطبق اليوم على نطق بعض القراء, وهذا الأمر قد جاء عن طريق بعض الاجتهادات المتأخرة, وهذا التغير لم يحظ باعتراف كثير من القائمين على أمر تعليم تلاوة القرآن في زماننا والمؤلفين لكتب علم التجويد, وقد أدت تلك الحالة إلى تناقض القواعد بين القدامى والمحدثين.
وقال ص (237) : إن وصف علماء العربية والتجويد الأوائل لحروف القلقلة لا ينطبق اليوم على نطق بعض القراء في عصرنا, وهذا يدل على أن تغييراً قد حصل في المشافهة بهذه الحروف, وهو تغير يشمل مخرج هذه الحروف وصفاتها, ولكن هذا التغيير لم يحظ باعتراف كثير من المخلصين الرافضين لتطوير قواعد القراءة التوقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهناك من تشبث بقبول هذا التطوير في مناهج كتب التلاوة, ولقد أدى ذلك إلى تناقض بين ما يكتب وما ينطق.
وذكر من الأخطاء في ذلك: إعمال مخرج الفتحة معها, والزيادة في حروف القلقلة, وتشديد الحرف المقلقل, وإدخال همزة في نهاية القلقلة, ومضغ القلقلة, ونطق الجيم الساكنة برخاوة خالصة, والاستمرار بضم الشفتين عند الحرف الساكن المقلقل إذا كان قبله مضموماً, وإعمال المجرى الخيشومي مع بعض أحرفها, وإخراج الهمس في نهاية النطق بحرف القلقلة.

وقال ص (217) : "منهج أئمة التجويد القدامى في ذكر مراتب القواعد مبسط يسهل تناوله واستيعابه بسرعة, ولا يحتاج لمجهود ذهني كبير لفهمه"
ثم ذكر أن تلامذة ابن الجزري هم أول من أسس لفكرة مراتب القلقلة.

وقال ص (123) : "وكم من مسألة اجتهادية دخلت أبحاث علم التجويد, فصارت فيما بعد من المتلقى بالسند".

وقال الدكتور مساعد الطيار في كتابه "مقالات في علوم القرآن" (2/411) : هذا العلم قد دخله الاجتهاد في بعض مسائله، وذلك من دقائق ما يتعلق بهذا العلم، ومما يحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير من المتخصصين في هذا العلم.
وقال (2/142) : "إنني أنصح طلاب هذا العلم أن يرتقوا به في التحقيق, بقراءة ما سطره العلماء السابقون, ومعرفة ما أحدثه المتأخرون من تعليلات وأحكام لا تجدها عند المتقدمين".
وقال (1/148) : "التجويد قد دخله اجتهادات متأخرة صار العمل عليها عند بعض المقرئين وليس فيها سند عن المتقدمين".

وقال المتولي كما في كتاب "الإمام المتولي وجهوده" للدوسري ص (272) : "اعلم أن ما ذكرنا من منع إظهار الغنة على وجه الإدغام الكبير لأبي عمرو, وهو ما عليه شيوخنا وسائر من علمناهم, والآن ظهر لنا من كلام النشر أن الأمر بخلافه".

وقال الدكتور يحيى الغوثاني في كتابه "علم التجويد" كما ذكر صاحب كتاب "حروف القلقلة بين القدامى والمحدثين" ص (139) : "لقد ذهب بعض المعاصرين مذاهب شتى في كيفية أداء القلقلة, فمنهم من يقول: تتبع حركة الحرف الذي قبلها, ومنهم من يقول: تتبع حركة الحرف الذي بعدها, ومنهم من يقول: تميل إلى الفتح مطلقاً, إلى غير ذلك من الآراء الاجتهادية, والصواب أن القلقلة اهتزاز حرف القلقلة في مخرجه ساكناً".

وقال الأستاذ محمد حسن جبل أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر في كتابه "التلقي والأداء" ص (27): "ينبغي أن يعرف هؤلاء المقرئون المقلدون أن نطقهم للطاء حسب ما ينطق أهل شمال مصر هو نطق خطأ, لأنها في هذا النطق مهموسة, والصواب أن تنطق مجهورة, لأن هذا هو ما قرره العلماء الذين عاصروا القراء والعلماء الذين يحتج بقراءتهم...
وكذلك ينبغي أن يعرف هؤلاء المقلدون أن القاف التي ننطقها نحن الآن مهموسة في حين أن العلماء الأولين منذ الخليل الذي لَقِن عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر وغيرهم نصوا على أن القاف تخرج من أقصى اللسان... ولا أنها مهموسة كما ينطق قراء مصر وتبعهم قراء العالم.
كما ينبغي أن يعرفوا أن إلحاق سين ضعيفة بالتاء هو نطق غلط ولا أصل له.
وأن نطق الجيم رخوة بحيث يمر النفس من مخرجها أن نطقها غلط.
وأن عدم تكرار الراء غلط.
وأن نطق الضاء شديدة أي بحبس النفس غلط".

وكتب أحدهم في "شبكة المعلومات" موضوعاً يتعلق بمصادر علم التجويد والقراءات والمنهجية في التعامل معها, وقال: الذي دفعني إلى بسط الكلام في هذه المسألة خطورة ما نشاهده اليوم من الخلاف في بعض المسائل التجويدية بحيث كل واحد متيقن أنه على الحق والآخر في ضلال والكل يستدل بما تلقاه عن مشايخه.
وقال أيضاً: لا شك أن التلقي يعتريه شيء من التغيير مع مر الزمان, والدليل على ذلك ما نراه اليوم من الخلاف في بعض المسائل الأدائية مع أن الأسانيد إن لم تلتقي بأحد المشايخ فإنها تلتقي حتما بابن الجزري رحمه الله تعالى.
وذكر أن من أسباب ذلك تقليد العلماء من غير تدقيق, فينفرد العالم بشيء ولأنه من العلماء المشهورين تجد أن الوجه الذي انفرد به يستفاض بين الناس ولو كان مخالفاً للنصوص صراحة، وبعد سنوات يصير ذلك الوجه من المتلقى بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: "للأسف هناك من المشايخ الجامعين للقراءات يقرؤون بما تلقوا عن مشايخهم ولو كان مشايخهم على خطأ, وإذا أتيت بالأدلة على بطلان ما يقرؤون به يختبأ وراء المشافهة ويقول "القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول" فأصبح الكل يستدل بهذا القول على صحة ما يقرئ به ولو كان ضلالاً, وهذا يجرنا إلى تعظيم النصوص أكثر من تعظيم المشافهة من المشايخ خاصة في الوقت الذي نحن فيه الآن"اهـ

قلت: وقد تشتهر مسائل خطأ ثم تنسب للإسناد وعلى سبيل المثال:
حكى أيمن سويد في مسألة الفرجة أنها بسبب قارئ من كبار قراء مصر اجتهد في هذه المسألة وقال بها ونشرها وأجبر عليها كبار القراء الذين كانوا يقرؤون عليه في ذلك الوقت ثم انتشرت بعده وعمت.
وقال الدكتور أيمن سويد: قد سألت ذلك الشيخ هل تلقى ذلك من أحد فقال: لا.

قال الدكتور أيمن سويد وفقه الله: "هذه المسألة تتبعتها أكثر من عشرين عاماً, وكنت مقتنعاً بموضوع إبقاء الفرجة, وكنت أعتقد أنها صواب عشرين عاماً من عمري, وأقرأت بها عدداً كبيراً من الإخوة, ثم تبين لي لطول التمحيص والبحث مع الشيوخ والبحث في كتب التجويد والقراءات مخطوطها ومطبوعها, وبعد بحث عشرين عاماً تبين لي وضوح الشمس أن هذه المسألة محدثة, وأنه لا سند لها"اهـ

وقال الأستاذ فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة" ص (127) : "من خلال بحثي لمعرفة من هو أول من زاد زيادات غريبة وعجيبة في التجويد وجدت الجميع ينسبها للمرعشي التركي... وللأسف يكثر الشيخ محمد مكي نصر الجريسي من أقوال المرعشي في كتابه "نهاية القول المفيد", وأضاف المرعشي جزئيات ومراتب في التجويد لا تعرف إلا من خلال مصنفه".

وقال ص (130) : بعض قراء القرآن من المصريين في عصرنا تأثر ببعض الأقوال التي اعتمدت القول بتبعيض الحركة عند التلفظ بحروف القلقلة, فانتشر الأمر عن طريقهم, وعن طريق من تتلمذ عليهم, وكان تأثير قراء القرآن المصريين كبيراً في العالم الإسلامي, ونسمع اليوم كثيراً من القراء يتابعونهم على هذا الأداء... وصوت القلقلة التي نسمعها من بعض مجيدي القرآن اليوم يختلف عن كيفية القلقلة التي وصفها ابن الجزري, وتحدث عنها علماء القراءة والتجويد السابقون في كتبهم, والنص لا يتغير مهما طال عليه الأمد, أما التلقي فقد يعتريه بعض التغير مع مرور الزمن.

وقال ص (39) : يجب على القارئ أن يعرض ما تلقاه عن شيخه على الأصول المقررة في كتب التجويد للأئمة الأوائل خشية أن يكون شيخك وهم في بعض ما يلقنك إياه, وإياك أن تأخذ كل ما يقوله شيخك بالمسلمات, فإن بعض الشيوخ يصيبهم الكبرياء في الرجوع عن بعض أقواله, وعند سؤاله عن الدليل لما يقول يستدل بأنه تلقاها هكذا, وليس كل تلق يمثل حجة علمية يجب الأخذ بها.
وقال الأستاذ محمد حسن جبل في كتابه "التلقي والأداء في القراءات القرآنية" ص (29) : "إنما الذي جر إلى الكلام عن عدم حجية محفظي الكتاتيب وأشباههم من المقلدين أن طلاب الدراسات القرآنية وعلوم التلاوة ومنها التجويد دأبوا على مقاومة المقررات العلمية الصحيحة الخاصة بالتجويد بقولهم: إنهم هكذا تلقوا, ظانين أن التحفيظ هو عين التلقي, وأن الذين حفظوهم هم أيضاً تلقوا عن من سبقهم, وهكذا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون الحفظ على أيديهم حجة, وبذا يقيمون سداً بين عقولهم وبين التصحيحات التي تقدم لهم.
لقد غفل هؤلاء الطلاب عن أمور أهمها أن أقصى ما يصل إليه الحفظ بهذا السبيل أن يكون رواية, وأن الدراية مقدمة على الرواية, وذلك لأن الرواية قد تشوبها شوائب الخلل في حواس المتلقي أو درجة استيعابه, فإن المتلقين يتفاوتون في هذا وذاك.
كما نسوا أن التلقي الشفاهي بطبيعته مشحون بالأمور الدقيقة التي قد تخفى حتى على أهل الفطنة وأهل العلم.
وأن السلسة ممتدة عبر أكثر من أربعة عشر قرناً منذ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمننا, وفي هذه الأحقاب الطويلة يمكن أن تلتبس أمور لم تكن ملتبسة, وأن تضخم أخطاء كانت خفيفة, وأن تخفى أمور كانت واضحة, وأن تجد ظروف في الزمان أو البيئات أو المجتمعات تهيئ لشيء من هذا, أو لاستحداث ما يهيئ لنشر اللحن واستحسانه.
ومن أجل ما ذكرناه فإن علماء الأمة الذين هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في حمل رسالته وتبليغها تابعوا التأليف منذ الخليل بن أحمد إلا الآن, وما ذاك إلا لأنهم أدركوا أن الأمر يحتاج إلى ضوابط نظرية صريحة تبرز الأمور الخفية الملتبسة"اهـ


ولذلك أيضاً دعا بعض العلماء إلى تعلم نصيب وافر من العربية ليعلم الخطأ من الصواب في القراءة, وأن حقيقة الحذق بالأداء لا يوصل إلى كيفيته إلا بمعرفة العربية وإتقانها.
قال أبو عمرو الداني في "التحديد" ص (172) : وهذا كله وسائر ما ذكرناه قبل لا يتمكن معرفته للقراء إلا بنصيب وافر من علم العربية، وذلك من آكد ما يلزمهم تعلمه والتفقه فيه، إذ به يفهم الظاهر الجلي، ويدرك الغامض الخفي، وبه يعلم الخطأ من الصواب, ويميز السقيم من الصحيح.

وقال الهمذاني في "التمهيد" ص (190) (): "ثم اعلم أن ما ذكرنا من الحذق بالأداء, وما لم نذكره من مذاهب القراء لا يوقف على حقيقته ولا يوصل إلى كيفيته إلا بإتقان العربية ومقاييسها, ومعرفة وجوه القراءات وروايتها".

أقول: إذا كان لا يوقف على حقيقة الحذق بالأداء ولا يوصل إلى كيفيته إلا بمعرفة العربية وإتقانها ووجوه القراءات وروايتها فما دور الإسناد بالتلقي الشفهي إذاً ؟!
وإن هذا ليؤكد أن الشك والتحريف حليف لمن اعتمد على المشافهة دون معرفة المسائل من الكتب ومراجعتها.

وقد نص أبو عمرو الداني رحمه الله على أن من يكتفي بالسماع والتقليد فهو الفهيه, وهو الفاقد للحذق والنباهة.
فقال في "التحديد" ص (68) : "وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق، فمنهم من يعلم ذلك قياساً وتمييزاً، وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمه سماعاً وتقليداً، وهو الغبي الفهيه، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعاً ورواية".
أقول: هل كلام الداني هذا يدل على المعتمد عليه الإسناد الشفهي وهو السماع والتقليد, أم العلم بالقياس والتمييز؟!

وقال مكي بن أبي طالب في "الرعاية " ص (89) : وقد وصف من تقدمنا من علماء المقرئين فقال: القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد:
فمنهم من يعلمه رواية وقياساً وتمييزاً فذلك الحاذق الفطن, ومنهم من يعرفه سماعاً وتقليداً، فذلك الوهن الضعيف, لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف والتصحيف إذ لم يبن على أصل ولا نقل عن فهم, قال: فنقل القرآن فطنة ودراية أحسن منه سماعا ورواية.
قال ابن الجزري في "منجد المقرئين" ص (52) : "ويلزمه أيضاً أن يحفظ كتاباً مشتملاً على ما يقرئ به من القراءات أصولاً وفرشاً، وإلا داخله الوهم والغلط في كثير".

أكتفي ما سبق:
وقد أكثرت من هذه النقول والاستدلالات- وفيه كثير غيره لم يذكر- لتعلم القدر الهائل من الطعن والتخطئة في طريقة القراءة اليوم عند كثير من القراء والمسندين, ولتدرك حقيقة هذه الأسانيد الشفهية الممتدة دون توقف, ولعلك الآن بدأت تستشعر خطورة الاعتماد على الأسانيد الشفهية المهترية أو التعويل عليها خاصة حينما يدعى أنه لا يمكن ضبط التلاوة إلا بالمشافهة كما هو شائع اليوم مع الأسف.

الوقفة السابعة:
الانقطاع في كثير من الأسانيد.
واقرأ ما كتبه السيد أحمد عبد الرحيم في كتبه ومنها:
كتاب "آفة علو الأسانيد".
وكتاب "فتنة الأسانيد".
وغيرهما.

ومن ذلك ما ذكره السيد أحمد عبد الرحيم في كتابه "آفة علو الأسانيد" من انقطاع طريقين من الطرق الثلاثة المؤدية إلى العبيدي.
فمن المعلوم أن أسانيد القراءات التي تنتهي إلى العبيدي جاءت من ثلاثة طرق:
طريق الحدادي.
وطريق المرزوقي.
وطريق سلمونة.
فأثبت في هذا الكتاب انقطاع طريق الحدادي, وطريق المرزوقي.

فقد ذكر السيد أحمد عبد الرحيم ص (42) طريق علي الحدادي وقال عنه: "قد عصف هذا الطريق بباقي طرق أسانيد القراءات عصفاً.
ولنا أن نتخيل أن الشيوخ الذين يتصدرون للإقراء بهذا السند يستوون بمن كان يقرئ منذ حوالي مائة وخمسين سنة".
ثم شرح ذلك, فمن أراد فيرجع إلى الكتاب.

ثم قال ص (44) ولننظر إلى ما ترتب على هذا من خلل في الأسانيد من خلال الآتي:
فمن الأساتذة المشهورين في علم القراءات بمصر العالمان الجليلان المعمر الشيخ عامر السيد عثمان, والشيخ عبد الفتاح القاضي فهما من كبار علماء القرن الرابع عشر رحمة الله عليهما, وهما في درجة تلاميذ تلاميذ تلاميذ الذين يقرؤون الآن على طريق الحدادي...

ثم ذكر مثالاً آخر في أسانيد الهند والباكستان وقال: غالب أسانيد الهند والباكستان تنتهي إلى الشيخ عبد الرحمن بشير خان المتوفى سنة (1341) هـ
ثم قال: فمن يتصدر الآن للإقراء في الهند والباكستان بينه وبين الشيخ عبد الرحمن بشير خان خمس وست درجات... الخ.

ثم قال: فهذه بعض أمثلة لقليل من كثير الأسانيد التي عصفت بها طريق الحدادي, ولو استطردنا في طرح أمثلة أخرى لرأينا العجب العجاب.

وتكلم على طريق المرزوقي ص (156) وما بعدها.
وبين انقطاعه أيضاً.

ثم ذكر ص (223) الأسانيد التي تنتهي إلى الشيخ صالح أحمد الأركاني المكي, وأنه وصل إليه بمدينة رابغ بشمال السعودية.
قال: لما بدأت القراءة عليه أخبرني أنه ليست له دراية بالقراءات, وأن كل ما يحمله من شيوخه من هذا العلم ما هو إلا رواية.
وقد ذكر لنفسه في أسانيده أربعة عشر شيخاً, ولم يقرأ إلا على واحد منهم فقط.
وكل ما قرأه أربعة عشر جزءاً في رواية حفص.
وباقي شيوخه كان تحمل عنهم على سبيل الرواية بمختلف أنواع التحمل.
قال: وكان الشيخ رحمه الله قد أجازني بكل ما تجوز له روايته على جميع طرق أسانيده, ولم أقرأ عليه سوى الفاتحة وصدر سورة البقرة.
وقد احتفظت بجميع إجازاته ولم أجز عليها لأحد, ولم أظهرها لأحد.

ثم ذكر ص (224) ما ظهر في مدينة الطائف من أسانيد للشيخ موسى سليمان إبراهيم.
وقال: فقد جاء في نهاية إجازته التي يمنحها لتلاميذه: "وحاصل ما تقدم أن الشيخ سنده ستة وعشرون رجلاً في رواية حفص".
ثم قال: والحقيقة بعيدة كل البعد عن هذا العدد, لما في هذه الإجازة من انقطاع متصل يزيد عن أربعة رجال إلى جانب ما فيها من بعض المآخذ.
ثم شرح ذلك وبينه.

وذكر السيد أحمد عبد الرحيم في غير هذا الكتاب أن أكثر الأسانيد إلى الشيخ زكريا الأنصاري منقطعة بالنظر إلى شرط صحة التلاوة, وشرح كل ذلك بالتفصيل وبالأدلة.
ومن المعلوم أن عامة الأسانيد القرآنية إنما تمر بزكريا الأنصاري.


وقال الدكتور عبد الهادي حميتو في كتابه "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" (1/428) وهو يبين حالة خاصة في جهات المغرب إلا أن هذه الحالة لا بد أن تكون قد تكررت في جهات وبلاد أخرى في بعض الأزمان الغابرة.
قال: ولقد سألت في كل جهة من جهات المغرب خلال هذه العشر من السنوات التي استغرقها مني إنجاز هذا البحث عدداً كبيراً من المذكورين بالمعرفة في هذا العلم "علم القراءات" من أهل السبع والعشر، فما وجدت أحداً يتجاوز لي في تسمية أشياخه أكثر من شيخ أو شيخين من أهل القرن الماضي, ولا وقفت على أحد كتب لأحد قرأ عليه شيئاً من القراءة أجازه به سمى له فيه من قرأ عليه, بل ولا وقع لأحد من القراء في بال أن يطالب أحداً من المشايخ بذلك, ومضى على ذلك الناس حتى تنوسي السند وضاع...
وهكذا ضاع وربما إلى الأبد هذا الرباط الشريف الذي ظل المغاربة يتصلون من خلاله بمشكاة النبوة بالأخذ والتلقين كابراً عن كابر من طرق أعلام القراءة المحررين لها الضابطين لأسانيدها وطرقها, إلا ملامح باهتة يمكن للباحث أن يترصدها بصعوبة بالغة هنا وهناك لدى بعض المسنين من القراء أو في بعض الفهارس ما زال يمكن إلى الآن وصل حلقاتها بآخر من انتهت إليه الإمامة في المدرسة المغربية الشيخ محمد بن عبد السلام, وخاصة في الجنوب المغربي عند الآخذين عن مشيخة الحوز المراكشي والآخذين عنهم, مع إهمالهم هم هذا وعجزهم التام عن وصله بأصوله التي يمكن شده إليها.

وقال (1/466) : وإنه لأمر يدعو إلى الأسف والحسرة أن تصير الحال إلى ما صارت إليه في هذا الشأن حتى أصبح أهل المغرب اليوم - وهم من أكثر الشعوب الإسلامية عناية بحفظ القرآن وإتقان رسمه وضبطه - لا يعرفون شيئاً يذكر عن الطرق والأسانيد التي يقرئون بها, ولا يميزون بين طريق شرقية ولا غربية, ولا يدري الكثر منهم شيئاً عن تاريخ القراءات ومدارسها, فضلاً عن معرفة مذاهبها ومقوماتها الفنية واختلاف النقلة فيها.
ثم قال:
دروس العلم بأهمية الإسناد بالمغرب وانقطاع الأسانيد في الجملة في الوقت الحاضر:
ولا أعلم في المغرب في وقتنا الآن من مشيخة الإقراء في المغرب من يسند شيئاً من القراءات أو الروايات باتصال القراءة من شيخه إلى إمام معتمد من أئمة المدارس المغربية, ولقد طلبت ذلك في حواضر المغرب وبواديه عموماً, وسألت حفاظ السبع والعشر الكبير والصغير فما وجدت أحداً عنده سند بالقراءة ولا إجازة من أحد من الشيوخ بل وجدت أكثر من سألتهم لا يدري شيئاً عن نظام المشيخة والإجازة, ولا يدرك لاتصال السند بالقراءة معنى.
ولدروس هذه المعالم في بلادنا لم يعد هناك أمل في وصل الأسانيد بالأئمة المعتمدين إلا من طريق غلبة الظن, وذلك لما تعارف عليه علماء هذه الصناعة من شروط معتبرة لا تكون القراءة متصلة إلا بها.
ثم ذكر الدكتور عبد الهادي قول ابن الجزري: "والأعلى أن يحدثه الشيخ بها من لفظه ـ يعني بالأسانيد ـ فأما من لم يسمع الأسانيد على شيخه فأسانيده من طريقه متقطعة"

ثم قال:
فإذا طبقنا هذا الشرط وهو السماع من الشيخ على حال الأخذ عندنا لم نجد لهذا الأمر أثراً ولا عيناً, وكل ما يمكن العثور عليه هنا وهناك أن نجد من قرأ على بعض المشايخ المشهورين الذين يعرف أن مشايخهم قرؤوا على فلان أو فلان ممن قرؤوا على فلان ممن قرؤوا على فلان ممن له صلة بالقراءة على بعض الكبار كما رأينا في مدرسة ابن عبد السلام ـ في حوز ـ مراكش وسوس مثلاً, وإلا فإن الإجازة المكتوبة الموقعة من لدن المشايخ المذيلة بأسماء الشهود لا أعرف لها اليوم في علم القراءة وجوداً, إلا بقية من ذلك في الشرق العربي وخاصة في مصر والجامعة الإسلامية بالمدينة.
قال: ونظراً لذهاب أهل الشأن ودروس معالمه منذ زمان إلا ظلالاً باهتة يتناقلها الناس، معظمها إنما هو قائم على غلبة الظن, كأن يقولوا: رحل فلان إلى القبيلة الفلانية أو المدرسة الفلانية فقرأ هناك, وربما سموا بعض المشايخ المشهورين بها لذلك العهد, فقد أصبح الذين هم على وعي بأهمية الإسناد في العلوم إذا طمحت هممهم إلى وصل قرائهم اليوم بسلف مشيخة الإقراء في جهاتهم إنما يجمجمون ولا يفصحون في محاولة لرأب بعض الصدوع فيما بينهم وبين بعض الشيوخ المعتبرين, وربما كانت بينهم وبين زمانهم مهامه فيح تحار فيها القطا, فيلجأون إلى التعمية والتقريب.

قال الدكتور عبد الهادي:
ولهذا نجد بعض المعاصرين ممن حاولوا شيئاً من ذلك إذا أسندوا قراءتهم برواية ورش عن مشايخهم المباشرين عمدوا إلى نوع من القفز منهم إلى شيوخ مشايخهم وهم لايسمونهم، ولكن يذكرون أنهم ممن أخذوا على فلان المشهور في ناحيته بالإمامة في هذا الشأن دون اعتماد على سند مكتوب أو إجازة موثقة ترفع الشك والارتياب.

قال الدكتور عبد الهادي:
وبين يدي الآن نموذج من هذا الصنيع وقفت عليه في آخر "كتاب المحجة في تجويد القرآن" وهو من آخر ما ظهر في الساحة لمؤلفه السيد محمد الإبراهيمي الفيلالي, فقد جاء في خاتمة هذا الكتاب قوله:
"انتهى بحمد الله بتاريخ 17 محرم 1408هـ ما أردت ذكره للقارئ العادي وطالب التجويد المبتدي, وفق طريق الأزرق من رواية ورش, حسبما قرأت به عرضاً وسماعاً على والدي عن أشياخه, وأذكر منهم فريد عصره وشيخ أهل زمانه محمد بن أحمد المبخوت المسيفي الغرفي الفيلالي, وكلهم بأسانيدهم الصحيحة المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم ".
"فمن مؤلفه راجي العفو من ربه في الدين والدنيا والآخرة محمد بن محمد بن عبد القادر الإبراهيمي البوذنيبي عن والده إلى أحمد الحبيب بن محمد اللمطي الفيلالي, عن أحمد بن محمد البنا الدمياطي, ومن الدمياطي إلى أبي يحيى زكريا الأنصاري, ومن الأنصاري إلى أبي الخير محمد بن محمد... المعروف بابن الجزري, ومن ابن الجزري إلى الحافظ أبي عمرو الداني, ومن الداني إلى أبي يعقوب يوسف المعروف بالأزرق, عن أبي سعيد عثمان المعروف بورش, عن نافع بن عبدالرحمن المدني, فهؤلاء بعض أعلام سندنا رحمهم الله جميعاً, ومن نافع إلى أبي بن كعب رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال الدكتور عبد الهادي:
فالذي يتأمل هذا الصنيع الذي اعتمده السيد الإبراهيمي في إسناد قراءته يخيل إليه أنه إنما اقتصر على ذكر بعض الحلقات البارزة في سلسلة سنده بقراءة نافع من رواية ورش, ولذلك سمى عدداً محدوداً من الأئمة وتنقل بنا بسرعة فائقة من والده عن ابن المبخوت ثم سكت عن سند ابن المبخوت, وعاد بنا إلى قراءته على والده إلى أحمد الحبيب بن أحمد اللمطي, ثم ساق السند من جهة أحمد البنا صاحب كتاب إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر المتوفي سنة (1117) هـ
متوقفاً عند أسماء يسيرة منه ليصل إلى أبي عمرو الداني فالأزرق فورش فنافع... الخ.
ولهذا يتساءل الباحث في هذا السند هل اقتصر فيه صاحب "المحجة" على أسماء من ذكرهم طلباً للاختصار, أم فعل ذلك إخفاء للحقيقة؟ إن الذي يترجح عندي هو الاحتمال الثاني, والحقيقة التي رام إخفاءها هي انقطاع السند فيما بين والده وبين الشيخ أبي البركات أحمد الحبيب بن محمد بن صالح اللمطي السجلماسي المتوفى سنة (1165) هـ
وكذلك بين شيخ والده محمد بن أحمد المبخوت السيفي المذكور وبين الشيخ أحمد الحبيب اللمطي.
وأحسب أن سند هؤلاء إلى الشيخ الحبيب لو كان معروف الاتصال أو كانت عند أحد منهم إجازة مكتوبة به لما فات صاحب "المحجة" أن يثبت ذلك, ولما لجأ إلى هذا القفز السريع على حلقات السند، وخاصة في أوله حيث أحالنا على مجهول أو ما لا وجود له, مكتفيا بقوله "وكلهم بأسانيدهم الصحيحة المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن هنا ترجح لدينا أن إسقاط ما أسقطه فيما بين والده وابن المبخوت وبين الشيخ الحبيب اللمطي إنما مرده إلى ما ذكرناه من إهمال المتأخرين للعناية بالأسانيد وطلب الإجازات من الشيوخ, وإغفال الشيوخ أيضاً لذلك حتى ضاعت الأصول وانقطعت حلقات الأسانيد.

وأما ما يتعلق بادعاء الرواية عن الجن.
فقال الدكتور عبد الهادي حميتو: ومن طريف ما ابتكره المتأخرون ادعاء الرواية عن الجن واغتباط بعضهم بعلو سنده في ذلك, سواء في القراءات أم في الحديث.
وقد أدرج غير واحد منهم الأسانيد من طرق شمهروش "قاضي الجن" بزعمهم وميمون العفريت وغيرهما في فهارسهم وبرامج رواياتهم عن شيوخهم, ولا أعلم الأئمة المتقدمين من أعلام هذا الشأن ذكروا شيئاً من ذلك أو عولوا عليه, في حين أننا نجد كثيراً من فهارس المتأخرين حافلة بالروايات المسندة من طرقهم.
وأقدم من علمته تنسب إليه الرواية في القراءات عن شمهروش المزعوم الشيخ سلطان بن أحمد المزاحي أحد الأعلام في أسانيد المشارقة في القراءات من أهل الحادية عشرة ممن لقيهم الرحالة المغربي أبو سالم العياشي المتوفى سنة (1090) هـ...
فالرواية من طريق الجن قد وصلت إلى المغرب من المشرق لهذا العهد, وربما قبله بيسير, وأصبح الطالب المغربي يطمح إلى ما زعموه من علو الإسناد من هذه الطرق نظراً لقلة الوسائط فيها... وهكذا تسامحوا في الرواية ورأوا أنها أهون شأناً من نقل الأخبار المتعلقة بالأحكام الشرعية التي تتعلق بالحلال والحرام, وهو أمر ولاشك في غاية الخطورة...

وهذا "فهرس الفهارس" للشيخ الكتاني يحفل بإيراد مثل هذه الروايات التي اعتمدها كثير من المشايخ في برامج رواياتهم ومشيخاتهم.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره في ترجمة العلامة التونسي أبي الحسن علي بن محمد النوري الصفاقسي صاحب كتاب "غيث النفع في القراءات السبع" المتوفى سنة (1118) هـ فإنه ذكر له ثبتاً تضمن أسانيده, وفيه أن الشيخ أخذ القراءات عن الشيخ علي الخياطي المغربي الرشيدي, عن الشيخ علي الهروي, عن الشيخ عمر الشواف, عن ميمون العفريت الجني, عن النبي صلى الله عليه وسلم...
والذي يعنينا منه هو فرح هؤلاء به واغتباطهم بما ادعوه فيه من علو, فهذا "رباعي" بين آخر من سمعه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وسائط فقط, وهذا خماسي دونه في الرتبة وهذا سداسي... الخ
ولهذا نجد عند الكتاني مثلاً فيما يعتد به مثل هذه الروايات, كأن يقول في ترجمة صفي الدين أحمد بن محمد بن العجل اليمني المتوفى سنة (1074) هـ بعد أن ساق أسانيده: "ومن عواليه روايته للقرآن الكريم عن حميد السندي, عن ابن حجرالمكي, عن محمد بن أبي الحمائل السروري, عن تابعي معمر من الجن, عن صحابي جني, عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فانظر إلى هذا السند وما فيه من مجهولي العين والحال, كيف يكون مع ذلك من عوالي ما يعتمد في نقل روايات القرآن؟
ومع هذه الهنات وأمثالها في هذه الروايات فإننا نجد كثيراً من مشايخ القراءة المتأخرين يعنون بها أكبر عناية, ويدرجونها في برامج مروياتهم, ويعتمدها الآخذون عنهم فيروون القراءة من طريقها ويغربون بها على الأقران.
فهذه أسانيد المغاربة المتأخرين من طريق الشيخ سلطان المزاحي, والشيخ البقري, والشيخ علي الشبراملسي, لا تكاد تخلو من طريق أو أكثر من الطرق المزعومة عن شمهروش القاضي وغيره.
ومن أمثلتها ما ذكره الشيخ عبد السلام بن محمد المدغري في "تكميل المنافع" في مقدمته حيث قال:
حـدثـنـا بهــذا بعـض من قــرا على الإمام البقري إذ تصدرا
بجامع الأزهـر في مصـر العتيـق وهو محمـد الموفـق الصـديق
سلسـل توزنيـت تلمسان سكن ومات في وهران وهو مؤتمن
والبقري عن سلطان مصر أخذا وشمهروش الجن شيخه وذا
روى عن النبــي سيــد الأنـــام عليـه من ربـي صلاة وسلام
فهذا السند الشمهروشي من طريق سلطان المزاحي المتوفى سنة (1075) هـ أقدم ما وقفت عليه في طرق المغاربة من جهته.
ويقابله سند مماثل من طريقه عند الإمام أبي العلاء إدريس المنجرة المتوفى سنة (1137) هـ الذي يذكر صاحب السلوة عنه أنه لا يرى من سوس الأقصى إلى طرابلس ونواحيها إلا من قرأ عليه أو على أحد تلامذته, حتى إن من لم يقرأ عليه وبطريقته لا يعد قارئاً.
فهذا الإمام على جلالة قدره في هذا العلم قد اعتمد فيما اعتمده من أسانيد في القراءات أكثر من طريق من هذا القبيل, فقد أسند في فهرسته القراءات الثلاث الزائدة على السبعة من طريق الدرة والتحبير لابن الجزري بسند فاسي ينتهي إلى أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الطاهر الفيلالي, عن أبي فارس عبد العزيز بن أحمد الوكروتي التواتي, عن الشيخ سلطان المزاحي المصري الأزهري بسنده.
ثم زاد فأسندها من طرق جنية أخرى, عن قطب الحرم المكي الشيخ إسماعيل, عن الشيخ علي الشبراملسي, عن الشيخ الحلبي صاحب السيرة, عن القاضي شمهروش, عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والشيخ الشبراملسي إمام معتبر في هذا الشأن نجده في سلاسل إسناد الأئمة المعتمدين في مصر كالشيخ محمد المتولي صاحب المؤلفات في القراءات, والشيخ علي بن محمد الضباع, والشيخ عبد الفتاح عجمي المرصفي, وسواهم.
وقد لقيه من المغاربة جماعة وأخذوا عنه, ومنهم الشيخ أبو سالم العياشي...
وهل يصح اعتماد مثل هذه الروايات في نقل القراءات!
إن حسن الظن بالأئمة الذين اعتمدوا هذه الروايات الواهية لا يكفي حتى لو تعلقت بالأخبار والوقائع العادية فكيف يكون قبولها سائغاً وله نصيب من الاعتبار والأمر متعلق هنا بكتاب الله...
وأمسى مثل هذه الروايات المدخولة ينطلي حتى على الأئمة المشهود لهم بالتمكن في الميدان كالشيخ إدريس المنجرة, وابنه أبي زيد عبد الرحمن, وتلميذه أبي عبد الله محمد بن عبد السلام, وأمثالهم ممن سلك هذه السبيل في تلقي تلك الروايات والأسانيد بالقبول" انتهى كلامه.

ثم يقول الدكتور عبد الهادي: لقد أنذرنا ابن عبد السلام نفسه في صدر برنامجه بهذا المصير البائس, وذلك في قوله: "إلا أنه لم تكن لأهل المغرب وخاصة في هذا الزمن عناية به, ميلاً منهم عن سبيله إلى الاعتناء بالرواية, حتى لا يعلم الآخذ منهم إلا معلمه دنية, وإن طولب بأعلى منه عجز عن الوصول إليه بلا مرية".
لقد كان هذا قبل مائتي عام بالتمام مرت حتى الآن على وفاة صاحب هذا الكلام, حيث شكا من ميل المغاربة عن طلب الأسانيد إلى الاعتناء بالرواية, فكيف لو اطلع على الحال اليوم بعد أن كاد أمر الرواية أيضاً يضمحل ويمسي في خبر كان. انتهى كلام الدكتور عبد الهادي.

وذكر الدكتور محمد المختار في كتابه "تاريخ القراءات" ص (556) محمد عبد السلام الفاسي, وأسانيده التي ذكرها ثم قال: والملاحظ أنه استهل هذه الأسانيد بروايته عن شمهروش الجني".

وقال ص (554) : "وتحسباً للتساؤل عن هذا النوع من الأسانيد فإن محمد بن عبد السلام أورد نقولاً كثيرة عن الصحابة من الجن, وثبوت سماعهم للقرآن الكريم, وساق حجج من اعتمد رواياتهم والردود على المعترضين عليها, وسياق بحوثه تبرهن على اقتناعه التام بصحة هذا السند".

وقال الدكتور إبراهيم الدوسري في كتابه "الإمام المتولي وجهوده" ص (105) : "لقد تبين لي أن أسانيد المتولي في القراءات متفقة إلا في أمور نتجت عن كثرة الرجال, كما تبين أن في بعضها أوهاماً وغلطات... علم هذا من تتبع الأسانيد والموازنة بين الإجازات" ثم ذكر أمثلة عديدة على ذلك.
مع أن المتولي تدور عليه أكثر أسانيد القراء.
وقال ص (111) : "مما تقدم يظهر أن بين المتولي وابن الجزري أحد عشر رجلاً.
ثم قال في الحاشية: "وفي بعض الإجازات ما يفيد أن بين المتولي وابن الجزري خمسة عشر رجلاً أو أكثر"اهـ

ومن جهة أخرى هناك انقطاع من نوع آخر:
فإن السند في حقيقته منقطع ولو كان متصلاً, لأنه لا يؤدي إلى الغرض إلا مؤقتاً, فإن اعتماد المسندين يؤول إلى كتب القراءات.
وبيان ذلك أن كثيراً من القراء الذين يحملون شهادة بالإسناد المتصل مرجعهم دائماً إلى كتب القراءات, فهم وإن قرؤوا على الشيوخ بالمشافهة وأعطوهم بموجب ذلك شهادة بالقراءة بالإسناد المتصل إلا أن اعتمادهم الكلي بعد ذلك سيظل على كتب القراءات, فإنهم سينسون كثيراً مما قرؤوا به بالمشافهة, وسيكون مرجعهم إلى كتب القراءات, كالسبعة, والتيسير, والشاطبية, والطيبة, والنشر, وغيرها, فيأخذون منها ويتلقون ويتأكدون, فبهذا ينقطع السند, ويكون المرجع والمعتمد هي الكتب المؤلفة في القراءات.
ثم إنه على افتراض أن العمدة عندهم ليس كتب القراءات وإنما ما تلقوه مشافهة من الشيوخ فهذا يدل على مقدار التفاوت العظيم بينهم فإنهم سيكونون على حال من الاختلاف الشديد في طريقة القراءة والإقراء على قدر التفاوت في الغفلة والنسيان.

الوقفة الثامنة:
الجهالة الإسنادية في كثير من طبقات الأسانيد, فإن مجرد معرفة الأسماء لا يكفي ولا يغني شيئاً.
قال ابن الجزري في "النشر" (1/193) : وإذا كان صحة السند من أركان القراءة تعين أن يعرف حال رجال القراءات كما يعرف أحوال رجال الحديث.
وقال في "منجد المقرئين" ص (57) : لا بد للمقرئ من أَنَسَة بحال الرجال والأسانيد, مؤتلفها ومختلفها, وجرحها وتعديلها, ومتقنها ومُغَفَّلِها, وهذا من أهم ما يحتاج إليه.
ثم قال: وقد وقع لكثير من المتقدمين في أسانيد كتبهم أوهام كثيرة, وغلطات عديدة, من إسقاط رجال, وتسمية آخرين بغير أسمائهم, وتصاحيف وغير ذلك".
وقال ابن الجزري رحمه الله في "غاية النهاية" (2/538) : وأكثر القراء لا علم لهم بالأسانيد.
وقال في "المنجد" ص (76) : "ولا بد من سماع الأسانيد على الشيخ, فأما من لم يسمع الأسانيد على شيخه فأسانيده من طريقه منقطعة"اهـ
قلت: وماذا يغني في المتأخرين مجرد سماع الأسانيد الطويلة أو قراءتها, مع الجهل التام بحقيقتها, واتصالها وعدالة أصحابها وضبطهم...

ويلاحظ في جميع الأسانيد والإجازات أنها خالية تماماً من ذكر الضبط والإتقان والعدالة, بل هي مجرد أسماء أخذ فلان عن فلان عن فلان وهكذا.
وفي كتب التراجم يذكر شيء من سيرته فقط بأنه حفظ القرآن وقرأ على فلان وقرأ عليه فلان, وعمل كذا وكذا وتوفي سنة كذا فحسب.
أقول: وإن علم بعض حلقات الإسناد في بعض الحقب إلا أن الجهالة تظل جاثمة في أحقاب أخرى.

يقول الدكتور إبراهيم الدوسري في كتابه "الإمام المتولي وجهوده" ص (377) : "سهل التعرف على أكثر القراء منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم حتى عصر ابن الجزري رحمه الله, ولكنا إذا تجاوزنا تلكم العصور شق علينا هذا الأمر"اهـ

ولا يمكن أن يقال: إن كل شيخ يضمن ضبط شيخه حتى النهاية, لأن هذا متعذر غاية التعذر, فإن ضمان ضبط الشيخ يلزم له أن يستمع لقراءة شيخه وشيخ شيخه حتى يقارن بينهما فيعرف ضبط شيخه, وهذا متعذر كما هو معروف, فتبين بهذا أن الإسناد فيه جهالة لضبط الشيوخ, ولسنا بحاجة إلى ذلك الإسناد المظلم, فإن كل شيء مدون في كتب القراءات ككتاب النشر لابن الجزري وما قبله من الكتب.
ولو اعتمد القارئ على حفظه فحدث ولا حرج من الأخطاء, بل إنك لا تجد شيخاً يعتمد عليه في الإقراء إلا ومتكؤه ومستنده ومرجعه وملجؤه كتب القراءات, ولا يمكن أن يعتمد على حفظه في القراءة.
فماذا عمل الإسناد إذاً !

الوقفة التاسعة:
ظهور ما يسمى بعلم التحريرات, وهو الذي فتح أنواعاً لا تنتهي من الاختلافات بين القراء وأتباعهم في الأداء.
والمقصود به علم قام على كتب ابن الجزري وأصوله ومروياته, ومقابلة تلك المرويات على أصولها من أمهات كتب القراءات الآخذة عنها تلك الطرق, والاستدراك على ابن الجزري, وبيان ما وقع فيه من مخالفة لتلك الكتب الأصول أو إجمال أو إهمال بعض الوجوه أو سهو أو نسبة وجه لكتاب وهو ليس كذلك في ذلك الكتاب أو نحو ذلك.
وقد سبق ذكر هذه المسألة في موضع آخر بالتفصيل, وقد ذكرت هناك أنه قد اعترض بعض الباحثين والقراء المتأخرين على تلك التحريرات بشدة ولم يأخذوا بها ورأوا أنها غير مشروعة ومحدثة, في حين يراها باحثون وقراء آخرون فتحاً وصواباً يجب الأخذ بها.
وهو باب فتح الاختلاف فيه ولا يمكن إغلاقه أبداً إلا بالرجوع إلى هدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وسلف هذه الأمة رضوان الله عليهم وعلى من تبعهم وسار على جادتهم.
والنتيجة المتحتمة لذلك الاختلاف هو اختلاف الأداء بين من يرى الأخذ بها والمنع منها, بل حتى الذين أخذوا بالتحريرات كانوا يختلفون فيما بينهم في تفاصيلها.
فعلى أي الأسانيد نعتمد إذاً!

ومن ناحية أخرى فإن أولئك القراء الذين قاموا بالتحريرات كالأزميري والمتولي والضباع وغيرهم كانوا يتركون ما خالف تحريراتهم تلك ولو كانوا قد تلقوه عن مشايخهم بالسند, فهذا يدل على أن الاعتماد ليس على السند بالتلقي الشفهي, إنما على النصوص المدونة في الكتب.
فإنهم عندما رجعوا إلى أصول الشاطبية لم يجدوا بعض الأوجه الذي ذكرها الشاطبي, فضعفوا تلك الأوجه من الشاطبية, واتبعوا الأصول, وتركوا ما أقرئوا بالإسناد, فهذا من الأدلة الواضحة على أن المعتبر في القراءة النصوص المأثورة, ولا اعتبار للمشافهة.

قال الأستاذ فرغلي عرباوي في كتابه "حروف القلقلة" ص (124) : "وقد استدرك الأزميري على الحافظ ابن الجزري بالرجوع إلى أصول النشر, وقد رجع المتولي في تحريراته إلى مذهب الأزميري, ولو سأل سائل لماذا رجع المتولي في تحريراته عن مذهب المنصوري والطباخ وغيرهما إلى مذهب يوسف أفندي زادة ومصطفى الأزميري؟ والسبب أنهم رجعوا إلى أصول النشر جزئية جزئية, فتمسكوا بتلك النصوص وخالفوا ما تلقوه عن مشايخهم"اهـ

بل حتى ابن الجزري رحمه الله تعالى, فإنه في كتابه النشر لا يعتمد على المشافهة بالسند فقط, بل يعتمد على الكتب التي روى منها القراءات, وكان يقرئ بمضمون تلك الكتب حرفياً ولا يتجاوزها, ككتاب التيسير, وجامع البيان, والمستنير, والتذكرة وغيرها, فذكره لهذه الكتب دليل على أنه يوثق ما تلقاه عن مشايخه بهذه الكتب, فهو يعتمد على تلك الكتب في كل ما يذكر من القراءات والروايات والطرق.
ومما يدل على أن الاعتماد إنما هو على النصوص والروايات لا على المشافهة قول ابن الجزري في "النشر" (2/288) : "واختلفوا في (مجراها) فقرأها حمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الميم, وقد غلط من حكى فتح الميم عن الدجواني عن أصحابه عن ابن ذكوان من المؤلفين, وشبهتهم في ذلك والله أعلم أنهم رأوا فيها عنه الفتح والإمالة فظنوا فتح الميم, وليس كذلك بل إنما أريد فتح الراء وإمالتها, فإنه روى عن أصحابه عن ابن ذكوان فيها الفتح والإمالة".

وقوله (2/53) بعد أن ذكر الاختلاف في مسألة في الإمالة: "وأصل الاختلاف أن إبراهيم بن اليزيدي نص على كتابه على (موسى، وعيسى) ولم يذكر (يحيى) فتمسك من تمسك بذلك وإلا فالصواب إلحاقها بأخواتها".
وقال الدكتور محمد المختار في "تاريخ القراءات" ص (24) : "تضخمت أوجه الأداء حسب قواعد الرواة وأصولهم إلى أعداد يصعب التأكد أنها رويت كلها مشافهة عن الأئمة, وأمثلتها كثيرة, إذ يكفي أن نطالع كتاب "غيث النفع" للشيخ النوري السفاقسي لنراه يسرد لنا مثلاً أن أوجه الأمداد والروم والإشمام في قوله تعالى: (فانصرنا على القوم الكافرين) يبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وتسعين وجهاً, وذكر أن لورش وحده خمسمائة وستين وجهاً"اهـ

الوقفة العاشرة:
خلاصة البحث في أسطر:
عرفنا من خلال البحث أن كثيراً من الإجازات القرآنية يكون سندها منقطعاً.
وكثير منها بسند بعض رجاله فيهم جهالة فلا يعلم ضبطهم.
وكثير منها بسند بعض رجاله ليس فيهم الأهلية الكافية.
وكثير منها بسند بعض رجاله فيهم تشديد.
وكثير منها بسند بعض رجاله فيهم تساهل.
وكثير منها بسند بعض رجاله حصل منهم السهو والغفلة والوهم والخطأ.
وكثير منها بسند بعض رجاله أخذوا الإجازة من غير قراءة أو بالتلقي من الشيخ من غير عرض أو بالمراسلة أو بغير ذلك.
وكثير منها بسند بعض رجاله يقرؤون بأداء انتقده قراء مسندون وعلماء.
وغير ذلك كثير جداً من الإجازات المتفاوتة المختلفة اختلافاً شديداً.
فضلاً عن وجود الاختلاف الكبير الطبيعي في الأداء أصلاً بين القراء.
والنتيجة التلقائية المنطقية لهذا ما هي؟
هي أنه سيوجد عندنا ألف نوع من الأداء كل نوع يقول صاحبه إنه هو الأداء الصحيح المتلقى بالسند عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأنواع الكثيرة المختلطة لا يمكن تمييز بعضها عن بعض, فلا يمكن أن تجد إجازة مكتوب في آخرها:
صدرت هذه الإجازة من متساهل.
أو بسند فيه انقطاع أو جهالة في ضبط بعض رجاله.
أو حصل أثناء القراءة خلل وسهو وغفلة أو غير ذلك.
فيكف يقال: إن الأداء القرآني الصحيح إنما يتلقى بالسند والمشافهة.
أظن أننا بحاجة أكيدة أن نحل هذا اللغز المحير قبل أن نصدق بهذا القول.

أخيراً: ثلاثة تنبيهات مهمة:
التنبيه الأول:
ينبغي أن تعلم أن الإجازة القرآنية ما كانت معروفة عن السابقين من الصحابة والتابعين والقراء العشرة والسلف وغيرهم في تلك العصور الكريمة.
وكذلك عامة أهل العلم بعدهم إلى يومنا هذا, لا تجد للإجازة القرآنية عندهم ذكر لا من قريب ولا من بعيد, إنما عرف هذا فيما بعد.
وهذا يكفي في عدم الحرص عليها أو رفع منزلتها فوق ما ينبغي أن تكون عليه والاقتداء بالسلف إنما يكون بالإقبال على القرآن الكريم بإتقان واعتبار وخشوع كما هي طريقة خير القرون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال السيوطي في "الإتقان" (1/355) : "الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدي للإقراء والإفادة, فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يجزه أحد, وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح".

التنبيه الثاني:
إنما سقت تلك الأدلة وأقاويل أولئك العلماء ليتبين أمر تلك الأسانيد على افتراض أن كل ما ينقل بالإسناد إنما هو متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم عبر ذلك الإسناد, ولكن الحقيقة ليست كذلك كما بيناه في موضوعات سابقة أتم بيان بحمد الله.
وقد ذكرت بالأدلة والحجج الكثيرة والنقولات من كلام القراء وأهل العلم أن اختلاف القراء في جميع أنواع الأداء ليس متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هو ناشئ عن اختلاف القراء في أدائهم واختيارهم وفق ما هو سائغ بلغة العرب التي أنزل بها القرآن, لتسويغ الشارع لهم القراءة بأي من ذلك.
كتحديد المدود, والإدغام, والإمالة, والترقيق, والتفخيم, والتغليظ, والوقف, والروم, والإشمام, والهمز, والتخفيف, والتسهيل, وغير ذلك كثير.
تجد توضيح ذلك في هذين البحثين:
الأول: هذا مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة)
https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=352256

الثاني: اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
https://ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=379124

التنبيه الثالث:
لا يخفى على كل من كان له صلة بمدارس الإقراء والأسانيد أن التصدع في جدرانها أصبح عميقاً ومخيفاً يهدد البنيان بالانهيار, وذلك بكثرة التدليس في الأسانيد والكذب فيها وتحول ساحات الإقراء والقرآن إلى تجارة وسلع, والانشغال بالأسانيد وعلوها والحرب في مسائلها هجوماً ودفاعاً انشغالاً كلياً عن القرآن والانتفاع به.

وقد وصف السيد أحمد عبد الرحيم في كتابه "آفة علو الأسانيد" ص (13) فتنة العلو في الأسانيد القرآنية بأنه باب شر فتحه الله على الصفوة من عباد الله
وأنه جرف الكثير من طلاب القرآن, وصرفهم عن الغاية الأسمى, وأن الكثير من طلاب القراءات قد انشغلوا بالأسانيد عاليها ونازلها, وبذلوا لهذا الغرض الجهد والمال, حتى تحول علو الأسانيد إلى ساحة تجارة واتجار

وقال في كتابه "فتنة الأسانيد" ص (34) : "تحولت إجازة القرآن الكريم إلى سلعة تجارية تدر دخلاً هائلاً على أصحابها, وكان هذا سبباً في اندفاع بعض ضعاف النفوس من المقرئين والقراء إلى الكذب في أسانيد القرآن".

وقال ص (39) : "انتشرت بين القراء والمقرئين بعض الإجازات التي وقع فيها سقط وانقطاع في السند, وطلاب القراءات يرحلون لأصحاب هذه الإجازات لما فيها من العلو في السند, فكان هذا سبباً في انتشار هذه الأسانيد الواهية في الأرض انتشار النار في الهشيم".

وقال مصطفى محمد أبو عمارة كما في مقدمة كتاب "فتنة الأسانيد" للسيد أحمد عبد الرحيم ص (11) : "ونحب أن ننبه إلى أمر اشتهر بين بعض من يعطي الإجازات, وهو أنها أصبحت وسيلة من وسائل التجارة, وأداة من أدوات الثراء, فمن يعطي أكثر يمنح إجازة, ولذا ضاع المقصد الذي من أجله وجدة الإجازة"اهـ

انتهى ما أردت بيانه وتوضيحه.
فهي إذاً أدلة كثيرة على أن الأسانيد والإجازات بالتلقي الشفاهي لا يعتمد عليها, قد يكفي بعضها لإثبات هذه المسألة, فإن كانت كل هذه الأدلة لم تفلح في توضيح هذه المسألة فأجزم أني لو أضفت إليها ألفاً من الأدلة فلن تفلح هي الأخرى, ولله الأمر من قبل ومن بعد, والله المستعان, والحمد لله رب العالمين.

أسأل الله العلي الأعظم الجواد الأكرم أن يرينا الحق حقاً ويهدينا لاتباعه, وأن يصلح أحوال القراء ويرفع شأنهم ويعظم أجورهم ويهدهم السبيل الأقوم الذي لا يمكن أن يهتدى إليه إلا بالسير على المسار نفسه الذي سار عليه الصحابة والتابعون والقراء العشرة وغيرهم في زمن السلف.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
Alrajhi.sr@gmail.com