الحمد لله - وبعد - لما خلق الله الأرض ودحاها ووضع فيها زينتها وقدَّر فيها أقواتها أسكنها خلقه من الجن والإنس ، وحتى يتم نعمته ويقيمَ حجته والى فيهمُ النبواتِ وأنزل فيهم الشرائع وبعث إليهم الرسالات ، وجعل الهدى والنور الذي جاء به الأنبياء هو تاجُ نعمه وذروةَ سَنامِ فضله ، فلا زينةُ الدنيا ولا ممالكُ الأرض ولا خيراتُ الحياة ولا كنوزُها تَعدِل نعمةَ الهدى والنور الذي جاء به رسل الله من لَدُنْه ؛ إذ كيف تساوي هداية السماء بمتاع الأرض ؟! وكيف يقايس ما عَاقِبتُه الحسنى وجنةُ الخلد بما مآله الفناءُ والزوال ؟!
وجعل الله حملةَ ميراث الأنبياء ومعتنقي شِرْعة السماء هم خيار أهل الأرض في الأرض ؛ فهم الذين خالط وحيُ الله شغافَ قلوبهم ، واستضاءوا بنور الله في دروبهم ، وهم الذين ذلت جوارحهم وانقادت نفوسهم لشرع الله .
ولما كان دينُ الله عزيزاً وشريعته غالية ، فإنه لا يستحق حملَها إلا خيارٌ من خيار ، فكانت الابتلاءاتُ والمحن تعرض للمؤمنين والأذيةُ والفتن تحيط بالمصدقين حتى لا يبقى على الدين إلا من يستحقه وليعلم الله الذين صدقوا .. الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ -( العنكبوت .
إن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال ، بل هو حقيقة ذات تكاليفَ وأمانةٌ ذات أعباء وجهادٌ يحتاج إلى صبر ، والله – تعالى– يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ، ولكنَّ الابتلاءَ يكشف في عالم الواقع ما هو معلومٌ لله – تعالى – فيحاسب الناس على ما يقع من عملهم ؛ فهو فضل من الله وعدل وتربيةٌ للمؤمنين وصقل .
والفتن والابتلاءات أنواعٌ وصور : ... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ... ( الأنبياء35 ) ، فمنها السراء والضراء ، ومنها الفتنة بانتشار المنكرات وغلبة الأهواء ، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم وكثرة الاختلاف ، وخلط الحق والباطل ، ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يملك النصر لنفسه ولا المنعة ، ومن الفتنة أن يعيش المؤمن بدينه كالغريب بين الناس .. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " بَدَأَ الإسْلامُ غرِيبًا ، وسَيَعُودُ غرِيباً كَمَا بَدَأ ؛ فَطُوْبَى لِلْغُربَاء " .. رواه مسلم .
والحديث عن الثبات وقت المحن والصبر في البلاء والفتن حديثٌ موجه إلى عموم المؤمنين من الأخيار والصالحين والدعاة وطلبة العلم والمحتسبين حين يتسرب الوهن والإحباط إلى بعض المسلمين ، ويرون تسلط الأعداء والمرجفين ، ومن يُشعل فتيل الخلافات ويثير النزاعات ويطرحون الأفكار الغريبة المشتتة ..
وإذا كان أثرُ العلماء والمصلحين ظاهراً في تسكين الناس وتثبيتهم على الحق حين الشدائد وكثرة الفتن .. فإن ثمة مرجفين يجدون في أوقات ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها فرصاً لترويج باطلهم وتشكيك الناس في عقائدهم ؛ يسخرون من الدين ويلمزون المطوعين من المؤمنين ، ويُسهمون في إحباط الأمة وتخاذلها وتمييع مبادئها لتضييع هويتها ..
لا تحْذُوا حذَو عصـابةٍ مفتونةٍ يجـدون كل قديمٍ أمراً منكـرا
ولَوِ اسْتَطَاعُوا في المجَامِعِ أنْكَرُوا مَنْ مَـاتَ مِنْ آبَائِهِم أوْ عُمِّرَا
منْ كـلِّ مَاضٍ في القدِيمِ وهَـدْمِهِ وإِذَا تقَدَّمَ لِلْبِنَـايةِ قَصَّـرَا
: لقد قص الله علينا في كتابه ، وروى لنا رسوله في سنته من سِيَر الأمم السابقة وأتباع الديانات السالفة ، وقوة اطمئنان القلب لما جاء عن المرسلين على كثرة الصوارف وشدة بأس المخالف ما يبين معه أن إيمانهم لو وُزِنَ بالجبال لرجح بها ، فهذا يُنشَرُ بالِمنشار من رأسه إلى قدميه ما يتزحزح عن دينه ، وأولئك تُخدَّد لهم الأخاديدُ فتُسجَر بالنار ثم يقذفون فيها ..
كما ضرب لنا نبينا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – وصحابتُه الكرام أروعَ الأمثلة في الثبات على الدين ؛ مما أوصل لنا الدين كاملا والعقيدة نقية صافية حتى اعتنقها ملايين البشر وعمَّتِ السهلَ والوعر .
وفي كل زمان فتنٌ وابتلاءات ، ومع ذلك يبقى الدينُ ويبقى الخير ، وفي زماننا هذا - ويالزماننا !! زمنِ زلزلة المفاهيم وخلخلةِ الثوابت وتقلبِ الآراء وانتكاس المبادئ .. زمنِ إعادة النظر في كل شيء دينيٍّ وإِرْثٍ عقديٍّ .. زمنِ السخرية من الدين وأهله وانتقاص الشريعة وحَملتِها ، حتى كثر المتساقطون على الطريق واستحكم اليأس في بعض النفوس ؛ فصار الباعثُ على إعادة
النظر في بعض أحكام الشريعة المستقرة ليس دليلا راجحا أو مأخذاً واضحاً ، إنما الباعث ضغط الواقع أو اتباع الهوى ومسايرةُ الناس .
: المؤمن لا يهن ولا يحبط ولا يستكين ولا ييأس ولا يستوحش من الطريق لقلة السالكين ، ولا ينظر إلى الهالك كيف هلك ، بل ينظر إلى الناجي كيف نجا .
إننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى الفأل والعمل والبشارة وتحفيز الهمم ومعرفة السنن .. سنن الله في أوليائه وأعدائه ، سنن الإدالة والنصر والمد والجزر ؛ حتى يطمئن مؤمن ولا يغتر فاجر ، ولئلا يكون كثرة الباطل مدعاةً لليأس والقنوط ، وقد قال الله - تعالى - لنبيه – صلى الله عليه وسلم - : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ يوسف103 ، وقال : ... وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) ( سبأ 13 ) ، وقال – سبحانه - : وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ... ( الأنعام116 ) .
لا يجوز أن يضعف صاحب الحق أو يهين ؛ فإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا وامتداداً وانحسارا .. ضعفٌ وقوة وفرقة واجتماع وغربة وظهور وابتلاء وتمكين .. ينطق بذلك وحي السماء ويؤيده تاريخُ البشر ..
وفي الخبر المتفق عليه .. قال هرقل لأبي سفيان : " هل قاتلتموه ؟ قال : نعم ، قال : فكيف الحرب بينكم ؟ قال : سجال .. يُدال علينا مرةً ونُدَالُ عليهِ أخرى ، قال : كذلك الرسلُ تُبتَلَى ثم تكونُ لهمُ العاقِبة " .
حكمةٌ بالغة وسنةٌ ماضية : ... فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ( فاطر 43 ) ، ... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ...
أخرج الترمذي بإسناد صحيح : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " يأتي على النَّاسِ زمَانٌ الصَّابرُ فيهِم عَلى دِينِه كالقَابِضِ على الجَمْر " ، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم قال : " ويلٌ للعرَبِ منْ شرٍّ قد اقترَب ؛ فِتنًا كقِطعِ الليل المظْلمِ .. يُصبحُ الرَّجلُ مؤمِنًا ويمسي كافرا ؛ يبيعُ قومٌ دينَهُم بعَرَضٍ منَ الدُّنيا قليل ، المتمسِكُ يومئذٍ بدينِهِ كالقَابِضِ على الجمر " أو قال : " على الشَّوك " حديث صحيح رواه الإمام أحمد .
إنها ابتلاءاتٌ وإدالات ، والشدائد كاشفات لأصحاب النفوس كبيرة .. والذين لا تزيدهم إلا صبراً ويقينا وحزماً وعزما .
: إننا بحاجة إلى تجديد الإيمان في قلوبنا وفي أعمالنا ؛ سيَّما في وقت الشدائد والفتن : معاني الإيمان واليقين وحسن الظن بالله والتسليم ، والصبر ، وصدق الولاء ، والتضرع لله والدعاء ، وحسن المجاهدة وتهذيب النفوس وإصلاحها ، والعبودية لله والاستعانة به وحسن التوكل عليه ، ، ومدافعة الباطل بلا يأس .
وكل هذه المعاني حققها المؤمنون السابقون في مُثُلٍ تُقوِّي العزائم وتشحذ الهمم ، واقرأوا ما قص الله في القرآن من سيرة الرسل الكرام حتى قال الله – تعالى –: وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( هود 120 ) .
قال الماوردي – رحمه الله – :" أي نقوي به قلبك وتسكن إليه نفسك ؛ لأنهم بُلوا فصبروا ، وجاهدوا فظفروا " ..انتهى كلامه -رحمه الله - .
واقرأ في سيرة الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وكيف كان الفأل والعمل في أحلك الظروف والمواقف :
فيبشر بظهور الدين وهو طريدٌ بين مكة والطائف - كما أخرجه ابن سعد في (الطبقات) - ويعِد سُراقةَ بسواريْ كِسرى وهو مُطاردٌ في الهجرة ، وتحاصر المدينة بعشرة آلاف مقاتل وتنقض اليهود عهدها ؛ فيبشر ببشارته الثلاث عند ضربه الصخرة التي عرضت – كما في صحيح البخاري - .
ودرج الصحابة – رضي الله عنهم – وتربَّوْا على هذه المثل ، فهذا أبو بكرٍ الصديق – رضي الله عنه – يقف في أحلكِ المواقف حين ارتدتِ العربُ ووقف جيش أسامة بين خطر الروم وبلاء المرتدين ، فيثبت أبو بكرٍ وحده حتى يثبِّت الله المؤمنين ، وينفِد للروم جيش أسامةَ ، ويقاتل المرتدين في اليمامة ، ويحفظ الله الدين بمواقف المؤمنين ..
إن الثبات يحتاج إلى عزيمةٍ وجد وإيمانٍ ويقين .
ان للدعاء أثرٌ عظيم في الثبات والنصر ، والاستعاذة من الفتن واردة في الصحيحين ، وفي الحديث المتفق عليه : "وأعُوذُ بِكَ مِنْ فتنةِ المحيَا والممَات " ..
وما انتصر النبي – صلى الله عليه وسلم – في بدر حتى سقط رداؤه من على منكبه دعاءً وتضرعا .
والعلم النافع يميِّز به المسلمُ بين الحق والباطل حين تلتبس الأهواء ، والسير في ركاب جماعة المسلمين أمنٌ من الفتنة ، كما في حديث حذيفة المُخرَّج في الصحيحين .
: إن مرحلة الضعف والانحسار تدعو إلى إعادة بناء الأمة وتسهم في مراجعة حالها مع ربها ، وكلما اشتدت الفتن وتلاحقت كلما اشتدت الحاجة للعبادة حيث ينشرح صدر المؤمن ويطمئن قلبه ، ويحرسه الله من وسوسة الشياطين وإغوائهم .

والعبادة وقت الفتن هي وصية النبي – صلى الله عليه وسلم – لأمته حيث قال : " بادِرُوا بالأعمالِ الصالحةِ فتناً كقِطعِ الليلِ المظْلِم .. يصبحُ الرجلُ مؤمِناً ويُمسِي كافِرا " رواه مسلم ، وقال – صلى الله عليه وسلم - : " العبادةُ في الهَرْج كهجرة ٍإليَّ " رواه مسلم .
وجماع كل الوصايا .. وجماع كل الوصايا ما وصى الله – تعالى – به رسوله محمداً – صلى الله عليه وسلم – في آخر سورة الحجر .. حيث قال الله – سبحانه - : وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِ ينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر 87 – 99 ) .
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – بشرٌ لا يملك أن يضيق صدره وهو يسمع الشرك بالله والاستهزاء بدعوة الحق فيغار ويضيق بالشرك والانحراف ؛ لذلك يؤمر بالتسبيح والحمد والعبادة والثبات حتى يأتيه الأجل ، فيُعرِض عن الكافرين ويلوذ بجوار الرب الكريم ؛ ويؤمر بالصدع والبيان لأن الصدع بالحق والجهر به ضرورةٌ في الدين لتتنبهَ الفطرة الغافلة وتتعلمَ الأمم اللاهية : ... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ... الأنفال. -----. لفضيلة الشيخ :صالح آل طالب في المسجد الحرام