من قضاة الإسلام: محمد بن الحسن الشيباني
فؤاد عبد المنعم أحمد



يعدُّ محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني من أشهَرِ تلاميذ الإمام أبي حنيفة، وكان له أثَرٌ كبيرٌ في نشر مذهبه، وقد وُلِدَ محمد سنة اثنين وثلاثين ومائة بواسط من أبٍ كان يشتغل جنديًّا وكان ثريًّا، حريصًا على تعليم ولده، فقد انتَقَل به إلى الكوفة، وكانت الكوفة وقتَها زاخرة بكبار الفُقَهاء كأبي حنيفة، والعلماء والحفَّاظ والأدباء وقد تتلمذ محمد في الفقه على أبي حنيفة، وقد أثنى عليه الإمام في مجالسه الأُوَل عندما لمس منه أنْ يُشفِع العلم بالعمل به، وقال فيه: إنَّ هذا الصبي يُفلِح إن شاء الله، وقد كان، ثم بعد وفاة الإمام أبي حنيفة تتلمذ على أبي يوسف، وقد استظهر محمد بن الحسن القرآن الكريم وعمره أربعة عشر عامًا وقيل: إنَّه حفظه في أيَّام معدودات، ويُعلِّل ذلك بأنَّه كان يتمتَّع بعقليَّة حافظة وذكاء حادٍّ وعقل تامٍّ.
وقد خلَّف له والده مبلغًا كبيرًا أنفق جُلَّه في طلب العلم والرحلة إليه، فقد رحل إلى الأوزاعي عالم أهل الشام، وسفيان بن عيينة في مكة، وعبدالله بن المبارك في خراسان، والإمام مالك بن أنس في المدينة وسمع منه الموطأ ولازمه ثلاث سنوات، كما درس تفسير القرآن ووعى أحكامه، وحفظ الكثير من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجلَّت في مصنفاته استفادته من طريقة أهل الرأي وطريقة الأوزاعي والإمام مالك.
وقد اشتغَلَ محمد بن الحسن بالتدريس ونبغ فيه، وأقبل عليه طلبة العلم من المشرق والمغرب ينهلون من ثقافته، وتخرَّج على يده أئمَّة كبار منهم: الإمام الشافعي، والإمام أبو عبيد القاسم وأسد بن الفرات المغربي فاتح صقلية، وصاحب المدونة الأولى في تاريخ الفقه المالكي؛ لأنَّ مدونته هي أصل مدونة سحنون الشهيرة، وكان محمد بن الحسن بارًّا بتلاميذه يتعهَّدهم بالرعاية المادية والمعنوية، وخاصَّة الغرباء منهم.
يروي لنا أسد بن الفرات قال: كنت يومًا جالسًا في حلقة محمد بن الحسن، حتى صاح صائح الماء للسبيل، فقمت مُبادِرًا فشربت من الماء ثم رجعت إلى الحلقة، فقال لي محمد بن الحسن: يا مغربي، شربت ماء السبيل؟ فقلت: أصلحك الله، أنا ابن سبيل، قال: ثم انصرفت، فلمَّا كان الليل إذ بإنسانٍ يدقُّ الباب فخرجت فإذا خادم محمد بن الحسن فقال: مولاي يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ما علمت أنَّك ابن السبيل إلاَّ في يومي هذا، فخُذْ هذه النفقة فاستَعِن بها على حاجتك ثم رفع إلَيَّ صرة ثقيلة، فقلت في نفسي: هذه كلها دراهم ففرحت بها، فلمَّا دخلت منزلي فتحتها فإذا فيها ثمانون دينارًا.
وقد كُلِّفَ محمد بن الحسن بقضاء الكوفة وهو كارهٌ له غير راغبٍ فيه، وبعد وفاة أبي يوسف تولَّى قضاء القضاة، ولكنَّه كان يتحيَّن الفُرَص دائمًا للهروب منه مقبلاً على ما يرغب فيه من الاشتغال بالفقه ورواية الموطأ للإمام مالك؛ لأن روايته من الروايات العالية للصحبة والملازمة.
ومن المواقف التي تُحسَب للشيباني، والتي تدلُّ على ورَعِه وتمسُّكه بالسنَّة، وأنَّه لا يهاب أحدًا فيما يراه حقًّا: ما ذكره أحدُ معاصريه قال: كنَّا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد فقام إليه الناس كلهم إلا محمد بن الحسن، فسأله الرشيد: ما لك لم تقم مع الناس؟، قال: كرهت أنْ أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنَّك أهَّلتني للعلم فكرهت أن أخرج منه إلى طبقة الخدمة، وابن عمك - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار))، وأنَّه إنما أراد بذلك العلماء، فمَن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هيبة للعدو، ومَن قعد اتَّبع السنة التي عنكم أخذت فهو زين لكم، فقال الرشيد: صدقت يا محمد.
وقد خلَّف محمد بن الحسن آثارًا علميَّة كثيرة من أهمها: كتاب "الجامع الكبير"، ضمَّنَه أهمَّ المسائل في الفقه، وقيل: إنه لم يُؤلَّف في الإسلام مثله.
وكتاب "السير الكبير" وهو يتضمن أحكام القانون الدولي في الإسلام في السلم والحرب، فيعرض لأحكام الأسارى وإسلام المشركين، والأمان، والرُّسل الذين يَفِدُون إلى دار الإسلام من دار الحرب والحصانات التي لهم، والغنائم والصُّلح والتحكيم، والمعاهدات ونقضها، وجرائم الحرب، وقد عدَّ هارون الرشيد هذا الكتاب من مَفاخِر أيَّامه، وقد حظي بعدَّة شُروح من أهمها شرح السرخسي.
وإذ كان الغرب ينسب القانون الدولي العام إلى "هبروسيوسي" الهولندي المتوفى 1645م، ويُطلِقون عليه أبا القانون الدولي - فهو جهلٌ منهم، ووأْد الحقيقة التي يعلمها كلُّ باحث منصف من سبْق الإسلام وفُقَهائه بأحكام القانون الدولي، ومن أجْل ذلك أُسِّست في "غوتجن" بألمانيا جمعيَّة للحقوق الدوليَّة ضمَّت عُلَماء القانون الدولي، والمشتغِلين به في مختلف البلاد، يهدف إلى التعريف بالشيباني، وإظهار آرائه في هذا الباب، ونشْر مؤلفاته المتعلقة بذلك، وقد تُوفِّي محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - في سنة تسع وثمانين ومائة تاركًا من بعده علمًا ينتفع به وعملاً صالحًا دائمًا يُذكَر له.
وآخِر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين