مسائل مصطلح الحديث
محمد بن عبد اللّه القناص
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الحافظ ابن عبد الهادي قد جادت قريحته، وسال قلمه في كتابه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي"، فتناول مسائل عديدة في علوم الحديث، بسط القول فيها، وبذل جهداً كبيراً في تحريرها وتوضيحها، وقد منّ الله عليّ بقراءة الكتاب، وكان ذلك قبل بضع سنين، وكنت أسجل هذه المسائل والفوائد في طرة الكتاب، ثم رأيت أن ألم شعثها، وأضم متفرقها، وأستكمل دراستها في بحث مستقل، وذلك لسببين:
1 - أن هذه المسائل متناثرة في ثنايا الكتاب، متفرقة في تضاعيفه، مما قلل الاستفادة منها والوقوف عليها، وجمعها في بحث واحد يسهل الرجوع إليها والاستفادة منها، والاطلاع على اختيارات الحافظ ابن عبد الهادي في قضايا عديدة من قضايا علوم الحديث.
2 - أهمية القضايا التي تطرق إليها الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه"الصارم المنكي في الرد على السبكي"، فهي قضايا جوهرية يحسن إبرازها وإظهارها، لا سيما والساحة العلمية تشهد إقبالاً على هذا العلم الشريف، ورغبة في فهم قواعده وأصوله، وهذا النهضة العلمية في حاجة إلى تسديد مسيرتها وترشيد خطواتها، وآراء الحافظ ابن عبد الهادي واختياراته تسهم في تحرير العديد من مسائل هذا العلم، فهو من الأئمة الذين رسخوا في هذا الفن، وجمعوا بين الإلمام بقواعده وأصوله، والممارسة العملية التطبيقية، مما يجعل آراءه مسددة واختياراته موفقة.
وخصصت هذا البحث في مسائل مصطلح الحديث، وسوف أفرد قضايا مناهج المحدثين في بحث آخر، وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.
المقدمة: وفيها بيان أهمية الموضوع، وسبب اختياره.
التمهيد: وفيه تعريف موجز بالحافظ ابن عبد الهادي وكتابه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي".
المبحث الأول: التفرد.
المبحث الثاني: حكم المرسل والاحتجاج به.
المبحث الثالث: تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد.
المبحث الرابع: قاعدة: فلان لا يروي إلا عن ثقة غالبية.
الخاتمة: وتتضمن أهم النتائج التي توصلت إليها.
وأرجو أن أكون قد وفقت من خلال هذا البحث المتواضع في إبراز اختيارات وآراء الحافظ ابن عبد الهادي في العديد من قضايا علوم الحديث، إلى جانب استكمالها وتوضيحها، وأسأل الله أن يجعل فيما قدمت نفعاً، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون، والحمد لله أولاً وأخيراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
تمهيد: تعريف موجز بالحافظ ابن عبد الهادي، وكتابه"الصارم المنكي في الرد على السبكي":
ابن عبد الهادي: هو محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام المقدسي، الجماعيلي الأصل ثم الصالحي، الحنبلي، أبو عبد الله، شمس الدين، يقال له: "ابن عبد الهادي"نسبة إلى جده.
ولد سنة (705هـ) بصالحية دمشق في جبل قاسيون على الراجح من أقوال العلماء، ونشأ في بيت علم وأدب، فكان أبوه وعمه وأجداده وإخوته من أهل العلم والفضل، فنشأ محباً للعلم مولعاً به، وصرف إليه جل عنايته واهتمامه، وقد تلقى ابن عبد الهادي العلم عن أعلام من شيوخ عصره مما كان له الأثر الواضح في تكوين شخصيته العلمية إلى جانب ما أوتي من قوة الحفظ وحدة الذكاء والرغبة في التحصيل، حتى أصبح عالماً بارعاً، ومحدثاً ناقداً، ومن العلماء الذين أخذ عنهم وتأثر بهم:
1 - أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (654 هـ - 742 هـ)، فقد لازمه نحوا من عشر سنين، وقرأ عليه كتابه "تهذيب الكمال"، وتخرج على يديه في علم الرجال والعلل حتى صار إماماً فيه، وظل يعترف بفضل شيخه عليه، وقد أشار ابن عبد الهادي إلى ذلك بقوله: "وهو شيخي الذي انتفعت به كثيرا في هذا العلم"[1].
2 - أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، شيخ الإسلام (661 هـ - 728 هـ)، فقد لازمه ما يقرب من خمس سنين، وأحبه حباً عظيماً، وكان يتردد إليه كثيراً، وقد أشار إلى ذلك فقال: "وكنت أتردد إليه عندما كان يدرس بالحنبلية، وبمدرسته بالقصاصين، وقرأت عليه قطعة من الأربعين للرازي، وشرحها لي، وكتب لي على بعضها شيئا"[2]، وقد خصه ابن عبد الهادي بترجمة واسعة أسماها "العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية".
تلاميذه:
وتتلمذ على ابن عبد الهادي عدد من التلاميذ منهم:
إسماعيل بن محمد بن يونس المقرئ (ت 764 هـ)، علي بن أبي بكر بن أحمد بن البالسي المصري (767 هـ)، أحمد بن يوسف بن مالك الغرناطي أبو جعفر الأندلسي (ت 779) وغيرهم.
وقد وفق ابن عبد الهادي لنخبة من الأقران شاركوه في التلقي ومدارسة العلم، منهم: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (673 هـ - 748 هـ)، وشمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ابن القيم (691 هـ751 هـ)، وصلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي (694 هـ - 761 هـ)، وشمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح (ت 763 هـ)، وعماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (700 هـ - 774 هـ).
وحظي ابن عبد الهادي بمنزلة علمية مرموقة ومكانة رفيعة أهلته لتولي التدريس في أكبر المدارس الموجودة آنذاك ببلاد الشام، ومنها: المدرسة الصدرية، والمدرسة الضيائية، ويقال لها: دار الحديث المحمدية، والمدرسة العمرية، وهي من أشهر المدارس في عصره.
وقد أثنى على ابن عبد الهادي عدد كبير من العلماء الذين عاصروه، والذين ترجموا له، وشهدوا له بسعة العلم وكثرة الاطلاع، والتفنن في العلوم، والتبحر في علم الرجال والعلل.
وقال ابن كثير: "الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلم، حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ.."[3].
وقال الذهبي: "الفقيه البارع المقرئ المجود المحدث الحافظ النحوي الحاذق صاحب الفنون، وعني بفنون الحديث ومعرفة الرجال... "[4]، وقال صلاح الدين الصفدي: "لو عاش كان آية، كنت إذا لقيته سألته عن مسائل أدبية وفوائد عربية، فينحدر كالسيل، وكنت أراه يوافق المزي في أسماء الرجال، ويرد عليه ويقبل منه".
هذه مقتطفات من ثناء الأئمة على الحافظ ابن عبد الهادي، وهي تدل على علو شأنه، وعظيم مكانته، وسمو منزلته.
وخلف ابن عبد الهادي مؤلفات كثيرة تزيد على سبعين كتاباً في كثير من العلوم والفنون، وهي ما بين أجزاء حديثية صغيرة، ومجلدات كبيرة، وبعضها لم يكمله؛ لهجوم المنية عليه في سن الأربعين، ومن أشهر مؤلفاته: تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، المحرر في أحاديث الأحكام، العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، شرح كتاب العلل لابن أبي حاتم الرازي.
واتفقت الروايات على أن وفاته كانت في يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة (744هـ)، وذكر ابن كثير أنه مرض قريباً من ثلاثة أشهر، وقال: "وأخبرني والده أن آخر كلامه أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين".
وأما كتابه"الصارم المنكي في الرد على السبكي "، ويسميه بعضهم: "الكلام على أحاديث الزيارة"، فقد رد فيه ابن عبد الهادي على كتاب أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756هـ) المسمى: "شفاء السقام في زيارة خير الأنام"، أو"شن الغارة على من أنكر السفر للزيارة"، والذي رد فيه تقي الدين السبكي على شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الزيارة وشد الرحال وإعمال المطي لمجرد زيارة القبور.
وقد أبرز ابن عبد الهادي في مقدمة كتابه "الصارم المنكي" مجمل ملاحظاته وانتقاداته لكتاب تقي الدين السبكي، وهي تتلخص فيما يلي:
1 - تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة.
2 - تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة.
3 - لم يكن المؤلف متجرداً فيما كتب، بل اتبع هواه، وذهب في كثير مما قرره إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة، وخرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.
وقد أخذ ابن عبد الهادي يرد على الكتاب باباً باباً، ويتكلم على الأحاديث التي استشهد بها السبكي ويبين عللها وضعفها، حتى وصل إلى الباب الخامس وهو في تقرير كون الزيارة قربة، فأدركته المنية قبل إكماله، وبقي في كتاب السبكي أبواب أخرى لم يرد عليها ابن عبد الهادي، منها: التوسل والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وحياة الأنبياء في قبورهم، والشفاعة....
وكتاب "الصارم المنكي" يشهد للحافظ ابن عبد الهادي بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، ورسوخ القدم في علم الحديث والعلل، والقدرة على النقد، ودقة الملاحظة.
المبحث الأول: التفرد.
المراد بالتفرد: أن يروي الراوي حديثاً عن شيخه لا يعرف عنه إلا من جهته، ثم قد يكون التفرد مطلقاً بحيث لا يحصل متابعة لأحد من رجال الإسناد، إلى أن يصل الإسناد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون نسبياً، بحيث يكون للحديث طرق أخرى مشهورة، ووقع التفرد في أحد طرقه بالنسبة إلى شخص معين[5].
وقد اعتنى الأئمة النقاد بأمر التفرد والغرابة، وذلك أن تفرد الراوي - وإن كان ثقة - مظنة للوقوع في الخطأ والوهم، ووجود متابع للراوي يخفف من هذا الاحتمال.
وحرص الأئمة على النص على التفرد إذا وجدوه في الحديث، فيقولون بعد تخريجه أو عند الكلام عليه: "تفرد به فلان"، أو "أغرب به فلان" أو "لم يروه عن فلان إلا فلان" أو "حديث غريب" أو"هذا الحديث غريب من هذا الوجه" أو "لم يتابع عليه فلان" أو "لم نره إلا من حديث فلان" ونحو ذلك من الكلمات التي تدل على وجود التفرد والغرابة.
وفي أثناء رد ابن عبد الهادي على السبكي حيث احتج بحديث تفرد به أحد الرواة ممن اتهم بالكذب والوضع، تحدث ابن عبد الهادي - رحمه الله - عن التفرد وموقف الأئمة النقاد من التفرد، فقال: "ومن المعلوم عند أدنى من له علم ومعرفة بالحديث أن تفرد مثل: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة ولا ضبط ولم يوثقه إمام يعتمد عليه، بل اتهمه موسى بن هارون الحمال أحد الأئمة الحفاظ المرجوع إلى كلامهم في الجرح والتعديل الذي قال فيه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ: هو أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقته عن مالك عن نافع عن ابن عمر بمثل هذا الخبر المنكر الموضوع من أبين الأدلة وأوضح البراهين على فضيحته وكشف عورته، وضعف ما تفرد به وكذبه ورده وعدم قبوله، ونسخة مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة معروفة مضبوطة، رواها عنه أصحابه رواة الموطأ وغير رواة الموطأ، وليس هذا الحديث منها، بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه، ولو كان من حديثه لبادر إلى روايته عنه بعض أصحابه الثقات المشهورين، بل لو تفرد بروايته عنه ثقة معروف من بين سائر أصحابه لأنكره الحفاظ عليه، ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة"[6].
ويستفاد من كلام ابن عبد الهادي: أن الأئمة النقاد يستنكرون ما يتفرد به الثقة، وهذا معلوم من عملهم، فلا يحصى ما استنكره النقاد مما يتفرد به الثقات.
ويؤخذ من كلام الأئمة في التفرد أن هناك حالات يتأكد فيها إعلان الحديث بالتفرد، منها:
1 - أن يتفرد ثقة أو من في حكمه برواية الحديث عن أحد الأئمة من بين سائر أصحابه، وليس من المعروفين بالكثرة والإتقان لحديثه.
قال الإمام مسلم: "فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم"[7].
وهذا قريب مما أشار إليه ابن عبد الهادي، حيث ذكر أنه لو تفرد ثقة من بين سائر أصحاب مالك عنه لأنكره الحفاظ عليه، وقد أعل ابن عبد الهادي حديثاً رواه نعيم المجمر عن أبي هريرة –رضي الله عنه- في الجهر بالبسملة، فقال - رحمه الله -: "فهو حديث معلول، فإن ذكر البسملة فيه مما تفرد به نعيم المجمر من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثلاثمائة ما بين صاحب وتابع.. ".
وقال أبو حاتم في حديث رواه إسماعيل بن رجاء: "أين كان الثوري وشعبة من هذا الحديث"[8]، ويقوي إعلال الحديث بالتفرد إذا كان الراوي المتفرد في حكم الراوي الثقة، ولكن ليس من الثقات المشهورين بالعدالة والضبط، وإن كان يشمله وصف العدالة والضبط، وقال أبو حاتم عن حديث رواه قران بن تمام عن أيمن بن نابل... قال: "لم يرو هذا الحديث عن أيمن إلا قران، ولا أراه محفوظاً، أين كان أصحاب أيمن بن نابل عن هذا الحديث؟ ".
2 - إذا ترجح لدى الناقد وقوع الوهم والخطأ في الإسناد الذي تفرد به الثقة، ويستدل على هذا بقرائن، مثل: النكارة في المتن، وأمور أخرى تصاحب التفرد.
قال ابن رجب: "وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه؛ كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه"[9].
ويستفاد من كلام ابن رجب أن الأئمة الحفاظ قد يستنكرون بعض تفرد الأئمة الكبار، وذلك - والله أعلم - إذا وجد ما يدعو إلى الاستنكار؛ مثل نكارة المتن، ويؤخذ من كلامه أيضاً: أن قوة الراوي واشتهاره بالحفظ والضبط والإتقان يجبر ما يحصل من تفرد، ويدل على هذا قول مسلم: "وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد"[10].
يتبع