يقول شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله - النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين : على قصد العبادة وقصد المعبود . وقصد المعبود هو الأصل الذي دل عليه قوله سبحانه : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } { وقول النبي صلى الله عليه وسلم فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه } . فإنه صلى الله عليه وسلم ميز بين مقصود ومقصود وهذا المقصود في الجملة لا بد منه في كل فعل اختياري . قال النبي صلى الله عليه وسلم { أصدق الأسماء حارث وهمام } فإن كل بشر بل كل حيوان لا بد له من همة وهو الإرادة ومن حرث وهو العمل إذ من لوازم الحيوان أنه يتحرك بإرادته - ثم ذلك الذي يقصده هو غايته وإن كان قد يحدث له بعد ذلك القصد قصد آخر وإنما تطمئن النفوس بوصولها إلى مقصودها . وأما قصد العبادة - فقصد العمل الخاص فإن من أراد الله والدار الآخرة بعمله : فقد يريده بصلاة وقد يريده بحج . وكذلك من قصد طاعته بامتثال ما أمره به فقد أطاعه في هذا العمل . وقد يقصد طاعته في هذا العمل - فهذا القصد الثاني مثل قصد الصلاة دون الصوم ثم صلاة الظهر دون صلاة العصر ثم الفرض دون النفل وهذه النية التي تذكر غالبا في كتب الفقه المتأخرة وكل واحدة من النيتين فرض في الجملة . أما الأولى : فبها يتميز من يعبد الله مخلصا له الدين ممن يعبد الطاغوت أو يشرك بعبادة ربه ومن يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا - وهو الدين الخالص لله الذي تشترك فيه جميع الشرائع الذي نهي الأنبياء عن التفرق فيه . كما قال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . ولهذا كان دين الأنبياء واحدا وإن كانت شرائعهم متنوعة . قال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } . وأما النية الثانية : فبها تتميز أنواع العبادات وأجناس الشرائع - فيتميز المصلي من الحاج والصائم و يتميز من يصلي الظهر ويصوم قضاء رمضان ممن يصلي العصر ويصوم شيئا من شوال ويتميز من يتصدق عن زكاة ماله ممن يتصدق من نذر عليه أو كفارة . وأصناف العبادات مما تتنوع فيه الشرائع إذ الدين لا قوام له إلا الشريعة إذ أعمال القلوب لا تتم إلا بأعمال الأبدان كما أن الروح لا قوام لها إلا بالبدن . أعني ما دامت في الدنيا . وكما أن معاني الكلام لا تتم إلا بالألفاظ وبمجموع اللفظ والمعنى يصير الكلام كلاما وإن كان المعنى لا يختلف باختلاف الأمم ، واللفظ يتنوع بتنوع الأمم ثم قد يكون لغة بعض الأمم أبلغ في إكمال المعنى من بعض ، وبعض ألفاظ اللغة أبلغ تماما للمعنى من بعض . فالدين العام يتعلق بقصد القلب ثم لا بد من عمل بدني يتم به القصد ويكمل فتنوعت الأعمال البدنية كذلك وتنوعت لما اقتضته مشيئة الله ورحمته لعباده وبحكمته في أمره وإنما وجب كل واحد من النيتين ؛ لأن الله فرض علينا أن نقيم دينه بالشريعة التي بعث بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إذ لا يقبل منا أن نعبده بشريعة غيرها . والأعمال المشروعة مؤلفة من أقوال وأعمال مخصوصة قد يعتبر لها أوقات وأمكنة مخصوصة وصفات كلما كان فرضا علينا أن نعبد الله وأن تكون العبادة على وصف معين كان فرضا علينا أن نقصده القصد الذي نكون به عابدين . والقصد الذي به نكون عابدين بنفس العمل الذي أمر به .